- التربية الإسلامية / ٠4تربية الأولاد في الإسلام
- /
- ٠1تربية الأولاد 1994م
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإيمان حسن الخلق:
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثالث من دروس تربية الأولاد في الإسلام، في الدرس الماضي تحدَّثنا عن التربية الإيمانيَّة، وكيف أنَّ الأبَ المسلم عليه أن ينشئ أولاده تنشئة إيمانيَّة وذكرت لكم قصصاً ونصوصاً من الكتاب والسنَّة، تؤكِّد هذا التكليف للآباء، وبيَّنتُ أيضاً أن الأُبوَّة مسؤوليَّةٌ كبيرة، وهاأنذا اليوم أنتقل إلى موضوع التربيَّة الخلُقيَّة.
أيُّها الأخوة الكرام.. الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( الإيمان حسنُ الخلُق ))
لمجرَّد أن تلغيَ الأخلاق من الدين لم يبقَ من الدين شيء، فالإيمان حسن الخلق، وهناك أحاديث كثيرة جداً وصحيحة وقد أجمع عليها علماء الأحاديث، بل إنَّ أكثرها مما اتَّفق عليه الشيخان، هذه الأحاديث تؤكِّد أنَّ حسن الخلق هو أعظم ما في الإيمان، وأعظم ما في الإسلام، وأنَّه إذا ذهب ذهب كلُّ شيء.
كل أب مسلم عليه أن يغرس في نفس ابنه مجموعة قيم أخلاقية:
الحقيقة فضلاً عن أنَّ الأَب المسلم يربّي ابنه كما قلت في الدرس الماضي على الإيمان بالله والإيمان برسوله وكتبه وباليوم الآخر، وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، ويربِّي ابنه على حبِّ نبيِّه وعلى تلاوة القرآن، فضلاً عن كلِّ ذلك، هناك مجموعة قِيَم خلقيَّة لا بدَّ من أن ينتبه الأبُ إلى غرسها في نفس ابنه، لذلك أروي لكم هذه القصَّة ولعلَّها مفيدةٌ جداً:
قال سهل بن عبد الله التُستُريّ: كنت ابن ثلاث سنين أقوم بالليل، فأنظُر إلى صلاة خالي محمد بن سِوار، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك، قلت: كيف أذكره ؟ قال قل بقلبك عند تقلُّبك في فراشك ثلاث مرَّاتٍ من غير أن تحرِّك به لسانك: الله معي، الله ناظرٌ إلي، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالَي ثمَّ أعلْمته، فقال: قل في كلِّ ليلة سبعَ مرَّات. فقلت ذلك ثمَّ أعلْمته، فقال: قل ذلك في كلّ ليلة إحدى عشرة مرَّة، فقلته.. ففي الليلة الثالثة قال: وقع في قلبي حلاوة الذكر، وقع في قلبي حلاوته فلمَّا كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علَّمتك ودُم عليه إلى أن تدخل القبر فإنَّه ينفعك في الدنيا والآخرة. قال: فلم أزل على ذلك سنين فوجدّت لذلك حلاوة في سرِّي، ثمَّ قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه، ومن كان الله ناظراً إليه، ومن كان الله شاهده أيعصيه ؟! إيَّاك والمعصية.
وبهذا التوجيه السديد والترويض المستمر، والتربية الإيمانيَّة الحقَّة، أصبح سهل رحمه الله من كبار العارفين، ومن رجال الله الصالحين، بفضل خاله الَّذي أدَّبه وعلَّمه وربَّاه.
الحياة لا تصلح إلا بالإيمان:
كثيراً ما نشاهد أشخاصاً متدينين صالحين جدَّاً يقول لك أحدهم: الفضل لعمِّي، الفضل لخالي، الفضل لوالدي، الفضل لعمَّتي، الفضل لوالدتي، شيء لا يقدَّر بثمن أن يلهمك الله تربية طفل صغير، ابناً كان أو غير ابن.. فهذا أصبح من كبار العارفين بهذا التوجيه اللطيف: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي.
اكتفى منه أولَ الأمر أن يقولها وهو في الفراش، ثمَّ رفع العدد إلى أن أصبحت هذه الكلمة كلمة ثابتة في حياة هذا الغلام، فلمَّا نشأ عليها قال: من كان الله معه، ومن كان الله ناظراً إليه، ومن كان الله شاهده أيعصيه ؟! قال: لا.. قال: إيَّاك أن تعصيه.
على كلٍ هناك نقطة مهمة جداً.. أنّ الحياة لا تصلح إلا بالإيمان، أحياناً الإنسان يشعر أنَّ هناك قيوداً تقيِّده، أي إذا كان الإيمان قيداً، والاستقامة قيداً، أنت قيِّدت بهذا القيد لكنَّ الله عزَّ وجلَّ من أجلك قيَّد لك مليار إنسان، ما هو السِّر أنَّك إذا تعاملت مع مؤمن فأنت مرتاح لا تخاف ؟ لا تخاف أن يغشَّك، أو أن يكذب عليك، أو أن يخونك، أو أن يأخذ ما ليس له منك، هذه الطمأنينة دخلت عليك لأنك مقيَّد، ولأن الله عزَّ وجلَّ قيَّد مليار إنسان من أجلك، وحياتنا لا تستقيم إلا بهذه الطريقة، تتعامل مع الناس جميعاً، هؤلاء الذين تتعامل معهم إن كانوا مؤمنين فهم مقيَّدون مثلك، يخافون الله، لا يأخذون ما ليس لهم، يخافون أن يكذبوا، أو أن يغشّوا، أو أن يحيفوا على أحد، فكما أنت مقيَّد هم مقيَّدون من أجلك.
سعادة الإنسان في الحياة الدنيا مرتبطة بعلاقته بمن حوله:
لذلك يقول أحد الأُدباء الغربيِّين: لمَ تشكِكون في الله، ولولاه لخانتني زوجتي، ولولاه لسرقني خادمي، أحد أسباب سعادتك في الحياة الدنيا أنَّ هؤلاء الذين تعيش معهم وترتاح إليهم وتطمئن إلى علاقتك بهم الإيمان قيَّدهم، و خوْفهم من الله جعلهم يستقيمون في تعاملهم معك، فأنت قيَّدت نفسك لكنَّ الله عزَّ وجلَّ قيَّد لك كلّ المسلمين، فهم مقيَّدون من أجلك.
لا وجود للأخلاق دون اعتقادات ثلاثة:
1 ـ وجود الله:
يقول بعض الفلاسفة أيضاً: إنَّه لا وجود للأخلاق دون اعتقادات ثلاثة ـ كلمة دقيقة جداً كنت أقولها كثيراً من قبل ـ لا وجود للأخلاق دون اعتقادات ثلاثة: وجود الله.
2 ـ خلود الروح بعد الموت:
وخلود الروح بعد الموت (أي النفوس).
3 ـ الحساب بعد الموت:
والحساب بعد الموت. أي إن الله موجود، وهناك حياة أبديَّة وفيها سيحاسب الإنسان عن كلِّ ما اقترفت يداه. إذا أيقنت أن الله موجود، ويعلم، وسيحاسب، وهناك حياةٌ بعد الحياة، لا بدَّ من أن تستقيم على أمره، ولا بدَّ من أن تكون أخلاقياً.
لا وجود للأخلاق دون إيمانٍ بوجود الخالق و بأبديَّة الحياة و علم الله:
الأخلاق في بعض تعاريفها: هي عملية خوف أولاً (انضباط) بعد حين تنقلب إلى عمليَّة متعة، عندما يألف الإنسان الأخلاق لا يستطيع أن يحيد عنها. وهذا من عظمة الله عزَّ وجلَّ، الشيء في أوله صعب، لكن بعد حين يصبح جزءاً من كيانك، فدائماً الصعوبة تكون في أول الأوامر فقط، في التمرُّس بها، لكن بعد حين تغدو متعة لك، المؤمن بعد حين قضيَّة الجهاد انتهت بالنسبة له، أن يجاهد نفسه وهواها، أن يبذل جهوداً كبيرة ليغضَّ من بصره ولضبط لسانه فلا، أصبحت استقامة لسانه وجوارحه جزءاً من كيانه وهذا معنى قول الله عزَّ وجلَّ.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
أنت بالصبر تكفُّ شهوتك عمَّا حرَّم الله، لكنَّك بالصلاة ترقى إلى مستوى الشرع، عندئذٍ لو سمح لك أن تفعل ما كان منهياً عنه لا تفعل، الإنسان أحياناً يمتنع عن المعاصي خوفاً، ولكن بعد حين يمتنع عنها اشمئزازاً، وهذه علامة طيِّبة في الإنسان. فهذا الفيلسوف يقول:
لا وجود للأخلاق دون إيمانٍ بوجود الخالق، وإيمان بأبديَّة الحياة، وإيمان بعلم الله (أنه يعلم )، وبالجزاء الأبديّ.
رأى علماء النفس أن هناك أربعة نماذج للأشخاص هي:
1 ـ النموذج العصبي:
أيُّها الأخوة... أحياناً يتلفَّظ الإنسان بكلمات لها معنى دقيق، يقول لك: فلان لو لم يكن مؤمناً مع هذا الذكاء وتلك الحيوية لكان مجرماً، لكنَّ الإيمان سما به فِعلاً، بعض الأشخاص عندهم مزاج عصبي، والبعض مزاجهم شهواني، وأشخاص عندهم مزاج شيطاني، والبعض عندهم تلبُّد، هذا بعض آراء علماء النفس بوجود أربعة نماذج: نموذج عصبي، وآخر شهواني، ونموذج شيطاني، والنموذج الرابع خامل مسالم، فالإنسان دون إيمان يمكن أن يكون من النموذج العصبي وهذا يميل للسيطرة والاستعلاء والقهر، الإيمان يقيده، ويسمو به، مع وجود هذا النموذج أو هذا الميل الجارف للسيطرة والتنكيل بالآخرين والاعتداد بالقوَّة، ونشوة الظفر.. هذا نموذج وهو دون الإيمان مخيف، وكلُّكم يرى بأمِّ عينه ماذا يجري في العالم، فمن علامات قيام الساعة أنَّه موتٌ كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لمَ يُقتل، ولا يدري المقتول فيمَ قُتل. لم يرتكب جريمة، يقولون لك: مئات القتلى ومئات الجرحى، الجثث في الطرقات بعضها فوق بعض، فلماذا القتل ؟! هذا نموذج فيه عصاب وبالطبع دون إيمان.
2 ـ النموذج الشهواني:
وهناك نموذج شهواني ينغمس في الشهوات المحرَّمة إلى قمَّة رأسه، أي يصبح زيراً للنساء، وأشد انحرافاً من الزنى (خمور على نساء على مخدرات على) والعياذ بالله.
3 ـ النموذج الشيطاني:
وهناك نموذج آخر شيطاني، أي إذا أوقع الأذى بالناس يشعر بالنشوة، إيقاع الأذى، التفريق بين الأحبَّة، إثارة المشكلات، إفساد العلاقات،لا يوجد مكاسب من ورائها، هذا نموذج شيطاني.
4 ـ النموذج البليد:
وهناك نموذج بليد وجوده كغيبته لا يقدم ولا يؤخِّر، لا يحرِّك ساكناً، لا أحد يعرفه إذا وجد ولا إذا غاب، هذا نموذج.
المؤمن الحقيقي هو كل إنسان يؤْثِرُك على نفسه و يهتم بك:
هذه النماذج الأربعة دون إيمان مخيفة الأول ميِّت كحيّ، والثاني مجرم، والثالث ينغمس في وحول الشهوات إلى قمَّة رأسه، والرابع مؤذٍ، أمَّا الإيمان ـ فيا الله ـ يصبح الإنسان كتلة من الخير، كتلة عطاء، المؤمن إن صاحبته تنتفع به، إن ماشيته تنتفع به، وإن أصغيت إليه أو عاملته تنتفع به، إن جاورته تنتفع به، سيدنا أبو حنيفة له جار مغنٍ، وقد أوقع به أشدَّ الأذى وكان يغني طوال الليل ولا ينام ويقول:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ليوم كريهةٍ وطعان خلس وسَداد ثَغرٍ.
وقع هذا المغني في قبضة الشرطة، فذهب سيدنا أبو حنيفة النعمان بذاته إلى المحتسِب ليشفع له، لأنَّه جار وله حقّ عليه فلمَّا عاد معه إلى البيت (وقد أكبر المُحتسب وهو مدير للشرطة مجيء أبي حنيفة ودخوله عليه فأطلق سراح كلّ من اعتقل إكراماً له ) وفي الطريق قال له: يا فتى هل أضعناك ؟! تقول طوال الليالي أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا.. هل أضعناك يا فتى؟
هذا هو المؤمن، بعيداً عن التعريفات الدقيقة للمؤمن، المؤمن إنسان محبوب كيفما تعاملتَ معه، تعامل تجاري، تعامل سكني، جوار، تعامل في السفر، أصغيت له، حدَّثته.. إن حدَّثته يصغ ِلك، يهتمّ بك، إن أصغيت له تنتفع بعلمه، إن ماشيته تربح لأنه يؤْثِرُك على نفسه دائماً هذا هو الإيمان.
الإنسان من دون إيمان يميل إلى السيطرة و الاستعلاء و القهر:
لذلك دون إيمان هناك نماذج موجودة في المجتمع وهذا شيء معروف، وكل عصر وكل مكان وكل زمان وكل حيّ يوجد شخص غارق في الزنى إلى قمَّة رأسه، وبالخمور وبالمخدرات، وبالانحراف الجنسي، وهناك شخص هدفه الأوَّل السيطرة والاستعلاء والقهر وإخضاع الناس له هذه شهوته، وشخص آخر هدفه الإيقاع بين الناس أي إيقاع الشقاق والعداوة بين الناس، ينقل كلاماً من جهة لجهة، دائماً يتشفَّى بإفساد ذات البين، وشخص بليد لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
الدين خلق و عطاء و تسامح و ذوق:
أمَّا عندما تدخل إلى عالم الإيمان فهذه النماذج غير موجودة، هناك نموذج موحَّد، إنسان عقله نامٍ وإدراكه عميق وشعوره دقيق ونفسه عامرة بالإيمان، وسلوكه منضبط بالإسلام، أساس حياته العطاء، والدعوةُ إلى الله عزَّ وجلَّ، بنى حياته على العمل الصالح.. هذا الإيمان.
إخواننا الكرام... لمجرَّد أن تُلغي الأخلاق من الدين ألغيتَ الدين كلُّه، الدين كلُّه خلق، الدين كلُّه فهم وذوق وعطاء وتسامح، هذا الذي تسمعونه من خلافات دينيَّة في العالم وقتل.. هذا ليس من الدين في شيء.
أعظم عطاء يعطيه الإنسان لابنه هو الأدب الحسن:
الآن إلى بعض النصوص التي تؤكِّد التربية الخلُقيَّة، الدرس الماضي كنَّا بالتربية الإيمانيَّة الآن بالتربيَّة الخلقيَّة:
(( مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ))
العوام يقولون: المُرَبَّى غالي.. الطفل المربى عنده حياء، كلماته كلُّها مضبوطة، الإنسان لو مشى في أحد الأزقَّة وسمع كلام الأطفال غير المهذبين.. والله يتكلمون بكلامٍ الحائطُ يخجَل منه، الحجر يخجل وليس الأشخاص، إذا مرت بالطريق امرأة مثلاً أو معها بناتها، أو شاب مهذَّب يسمعون كلاماً الإنسان يستحي أن يتذكَّره، لذلك أعظم عطاء تعطيه لابنك الأدب الحسن، الطفل الأديب لا يقدَّر بثمن، ولكنَّه محصِّلة جهود جبَّارة بذلها أبوه في تربيَّته، محصلة ملاحظة ومتابعة ومحاسبة مستمرَّة، محصِّلة اهتمام وعناية.
(( مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ))
نحل بمعنى أعطى، إذاً أعظم عطاء تعطيه إلى ابنك أن تؤدبه الأدب الحسن، لماذا ارتقى النبيُّ إلى سدرة المنتهى ؟ ولماذا كان قمَّة البشر ؟، قالت له: ما هذا الأدب !! قال: أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي.
موقف سيدنا يوسف من إخوته موقف يَنِمُ عن خلق حسن:
كلكم تعرفون ذلك عن سيدنا يوسف عندما دخل السجن وأُلقي في الجبَّ أيهما أخطر ؟ الجب طبعاً، فالسجن فيه طعام، أمَّا الجُبُّ فيه موت، فلمَّا خرج من السجن وأصبح عزيز مصر واستقبل إخوته الذين تآمروا عليه وألقوه في غيابة الجب وذكر فضلَ الله عليه ماذا قال ؟ قال:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
لماذا لم يذكر الجب، قيل: لئلا يذكِّر إخوته بجريمتهم، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، لم يذكر الجبُّ أبداً، والأغربُ من ذلك لم يعزُ الخطيئة إليهم. قال
﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾
أي إننا لم نفعل شيئاً ولكنَّ الشيطان دخل بيننا، والأمر ليس كذلك.. فهم ائتمروا عليه
﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾
ما هذا الأدب !! النبيِّ الكريم مرة قال له (وأعتقد أبو سفيان القائل) يا ابن أخي ما أعقلك، ما أكرمك، ما أحكمك، ما أوصلك.
التربية لابدَّ لها من طول نَفَس لأن المعلم أفضل من المعنف:
ما هذا الكرم وما هذا الأدب وما هذا الوفاء وما هذا البر !!.. قال له: ما أعقلك وما أرحمك وما أحكمك وما أوصلك.
مازلنا مع كلام رسول الله والنبيُّ عليه الصلاة والسلام لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى.
ولا تنسَوا قول سيدنا سعد بن أبي وقَّاص: " ثلاثةٌ أنا فيهنَّ رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، واحدة منها: ما سمعتُ حديثاً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا علمت أنَّه حقٌ من الله تعالى.
(( أَكْرِمُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ ))
كل كلمة حاسبْه عليها ووجهْه إليها.. هكذا خطأ، هذه حرام، وهذه يتكلَّم الناس عليك. التربية لابدَّ لها من طول نَفَس، فالرجل الذي نفسه قصير مشكلته كبيرة لأنه يربِّي بالضرب، قال عليه الصلاة والسلام:
(( علِّموا ولا تُعنِّفوا فإنَّ المعلِّمُ خيرٌ من المعنِفَ ))
النتائج الإيجابيَّة الطيِّبة التي يجنيها المعلِّم أروَع بكثير من التي يجنيها المعنِّف، هذا الذي يستخدم الضرب في كلِّ أمر من أمور التربية، هذا ليسَ معلِّماً بل معنِّفاً، والمعنِّف لا يحبُّه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يكون الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه.
من حق الولد على والده أن يحسن أدبه و يحسن اختيار اسمه:
حديث ثالث.. وأخرج عبدُّ الرزَّاق وسعيد بن منصور وغيرهما من حديث عليٍّ رضيَ الله عنه: " علِّموا أولادَكم وأهليكم الخيّرَ وأدِّبوهم "، الخيّرَ هو: الإيمان والطاعة لله، ففي هذا الحديث إشارة إلى التربية الإيمانيَّة والتربية الخلُقيَّة في آنٍ واحد.
(( من حقِّ الولَدِ على الوالدِ أن يُحسِنَ أدبه وأن يُحسِنَ اسمَه ))
ما أسماك أبوك ؟ قال له: زعيتر. ما هذا الاسم ؟! توجد أسماء لطيفةٌ جداً، أسماء دينيَّة وأسماء أخلاقيَّة، مثل: كامل، سعيد، حسام اسم فيه شجاعة، فعلى الأب أن يعتني بأسماء أولاده لأنَّ هذا الاسم سيكون متداولاً.. أعرف صديقاً لي اسمه: عدوان، وآخر اسمه: حرب.
(( كُلُّ غُلامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُمَاطُ عَنْهُ الأذَى وَيُسَمَّى ))
(( الغلامُ يُعَقُّ (أي تذبح له العقيقة) في اليوم السابع، ويُسمَّى، ويُماط عنه الأذى، فإذا بلغ ستَّ سنين أُدِّب، وإذا بلغ تسعَ سنين عُزل عن فِراشه، فإذا بلغ ثلاثَ عشَرَة سنة ضُرِبَ على الصلاة والصوم، فإذا بلَغَ ستَّ عشرة زوَّجه أبوه، ثمَّ أَخذَ بيده وقال: قد أَدَّبتُكَ وعلَّمتُك وأنكحتُك أعوذ بالله من فتنتِكَ في الدنيا وعذابك في الآخرة ))
هذا توجيه النبيِّ في السنة السادسة يؤدَّب أي إن الطفل إذا دخلَ التعليم الابتدائي يحاسب على كل كلمة، وعلى كل هفوة، وعلى كل نظرة، يحاسب على شيء ليس مِلكه في حوزته، يحاسب عن كلِّ انحراف.
أعظم الأعمال الصالحة تسهيل الزواج و تيسير البيوت و الحاجات الأساسية:
الزوج الآن يتكلَّف مليونين من الليرات على الأقل، وأتمنى من إخواننا الذين أعطاهم الله عزَّ وجلَّ شيئاً من الدنيا أن يزوِّجوا أبناءهم وبناتهم، وقد أِلف إخواننا أن الابن يزوجوه، أمّا الابنة لا تتزوَّج حتى يأتي لها خاطب يخطبها، وأنت إن كنت ميسور الحال إن أمَّنتَ لها بيتاً يأتِ لها ألف خاطب، فانتقِ منهم المتديِّن، فلماذا العناية فقط بالأولاد الذكور ؟! هيِّئ لابنتك أيضاً بيتاً فلَكَ أجرٌ كبير، الآن الوضع صعب للغاية، فإن هيَّأت بيتاً متواضعاً ولا أقول لك بيتاً فخماً، ولو قلت: أريد شاباً مؤمناً سيأتي لك مئة.. فالبيت مشكلة وحجر عثرة أمام الزواج، والله تعالى قال:
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
﴿ أنكحوا الأيامى منكم﴾
هذا أمر، ولا أتصور الآن عملاً في زمن الفساد والفتن والانحراف، في زمن كل شيء فيه يدعو إلى الشهوة، الطرقات وكل شيء وفهمكم كفاية.. يدعو ويثير الفتنة، فلا أعظم من تزويج الشباب المؤمنين من الفتيات المؤمنات في هذا الزمان، لذلك تسهيل الزواج، تيسير البيوت والحاجات الأساسيَّة، فكل هذا من الأعمال الصالحة فقد قال الله عزَّ وجلّ:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح:
أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح، هذه أفضل شفاعة، فإن كان الأب قد يسّرَ الله تعالى له أموره، فليهيِّئ بيتاً ولو صغيراً لابنته، ولو كان البيت في ظاهر دمشق أو ريفها، فستجد شاباً دخْلُه أربعة آلاف أو خمسة آلاف، ومع هذا البيت تسير الأمور، فإن سكن في بيت وكان له مأوى وتأمَّن طعامه فالله يتولَّى الباقي، وهذه تسمَّى إقلاعاً.. لعلَّ الله يغنيه ولو بعد حين ويغيِّر البيت ويأتي إلى دمشق.. ولعله بعد حين يحقِق للابنة ما تتمنى من المباحات، ولكن عليك أنت أولاً أن تجعله يقنع، بغرفةٍ أو غرفتين خارج دمشق، مع أثاث متواضع، وشاب مؤمن مستقيم.. إن لم نفعل تكن فتنةٌ وفسادٌ في الأرض.
vاسأل المعنيين بشأن الأخلاق الآن، حالات السفاح أصبحت لا تحصى، إن لم يكن نكاحٌ فالبديلُ هو السفاح.. إذا لم توجد بيوت فيها أزواج تصبح البيوت فيها دعارة، هذه مسؤوليَّة المجتمع المسلم.. قد حضرت عقد قران فتأثرت لموقفٍ مفاده أنَّ الَّذي دعانا رجل مليء ولم يقدِّم هديَّةً أبداً، فليس هذا معقولاً، وقد فوجئنا في العقد أنَّ ثمن الهدايا التي يجب أن يقدِّمها تبلغ سبعمئة ألف، وقد وضعها في تصرُّف جهةٍ موثوقةٍ كي تزوِّج الشباب، كفانا هدايا قد مللنا منها وزوِّج بثمنها شاباً أو شابّين، هذا شيء جميل، يجب أن نفعله.
أفضلَ عمل الآن هو أن تسهم في تزويج شابٍ لشابةٍ:
أخ آخر كذلك أعجبني موقفه، أقام عقد قِران فذكر لي أخ من إخواننا وقال لي: والله في اليوم الثاني كامل النفقات دُفِعَ مثلها لتزويج الشباب، ولدينا مثال عامي ( كبَّرها بتكبر، صغَّرها بتصغر )، فإن كبَّرها يدفع ثلاثة ملايين، وإن صغَّرها لا يحتاج إلا لمئتي ألف فقط، يمكنك أن تدَبِّر بيتاً بمئة وخمسين ألفاً خارج العاصمة، والأثاث متواضع، والنبيّ عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحقُّ كيف كان بيته ؟ لو وصفته لكم لا تصدّقون، وهو سيِّدُ الخلق وحبيب الحقُّ.. غرفةٌ صغيرةٌ، فوصف بيت النبيُّ لا يصدَّقُ فهو القائل: ما لي والدنيا. الأصل أن تكون مؤمناً.
أُلخِّص كلامي بأنَّ أفضلَ عمل الآن هو أن تسهم في تزويج شابٍ لشابةٍ، شابٍ مؤمنٍ لشابَّةٍ مؤمنةٍ، هذا عمل عظيم، لأنَّه لا يوجد أب عنده بنات في بيته إلا ويكون قلقاً، ولا تقرُّ عينهُ إلا بتزويجهنَّ، ولا أب عنده شابٌ في رَيعان الشباب وهو يغلي ولا يملك بيتاً ولا عملاً إلا ويكون قلقاً.
أعظم عمل على الإطلاق تيسير الأعمال للناس لأن البطالة مرتبطة بالجريمة:
لذلك أعظم عمل أن تيسِّرَ للناسِ الأعمال، فمن كان عنده عمل متواضع يديره ويعمل تحت يديه عشرة شباب، فهذا يشغِّل الناس، فلماذا حرَّم الله تعالى الرِّبا حرمةً شديدة ؟
لأنَّك لو فتحت محلاً صغيراً تجد ألف شخص يخدمك، لو استعرضنا حاجة محل تجاري صغير تجد حاجته لأشياء كثيرة مثلاً: الفواتير تحتاج لمطبعة، وهي تحتاج لعمَّال، وحبر، وآلات، ونقل هذه الحاجات للمحلات تحتاج لشاحنة، وعلى الشاحنة يعمل سائق، وتحتاج إلى أكياس، فيوجد إنسان أمَّن لك أكياساً، وتحتاج كذلك إلى بطاقات، وإلى محاسب، وإلى صانع وإلى موظَّف، وتحتاج كذلك إلى مستودع.
محل صغير يشغِّل ألف شخص وهو لا يشعر، وأخطر شيء في المجتمع البطالة، البطالة هذه التي يئنَّ منها المجتمع الغربيّ يقولون لك: سبعة ملايين عامل بلا عمل، ثمانية ملايين، والإنسان إذا فرغ من العمل التفت إلى الانحطاط أو الجريمة، فدائماً مؤشِّرات الجريمة في المجتمع تترافق مع البطالة، الجريمة العدوانيَّة والشهوانيَّة، هذه الجرائم تتأثَّر بالبطالة، أحياناً تجد شاباً أمَّن عملاً ثمَّ تزوَّج فانتهت أموره ومشاكله وأصبح عنصُراً نافعاً، وإنساناً في خدمة الآخرين، لم يعد عبئاً على الآخرين، أصبح يحمِلُ همومَ الآخرين.
أخطر نقاط في تربيّة الأولاد الخلُقيَّة أربع صفات:
إخواننا الكرام... أخطر نقاط في تربيّة الأولاد الخلُقيَّة أربع صفات: ظاهرة الكذب، وظاهرة السرِقة، وظاهرة السباب والشتائم، وظاهرة الميوعة والانحلال. فهذه هي الأمراض الأربعة الفتَّاكة بالشباب وبالصِغار.
1 ـ ظاهرة الكذب:
نبدأ أولاً بظاهرة الكذب وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
(( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا أؤتمن خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))
يعنينا من هذا الحديث: إذا حدَّثَ كذَب.. لي قريب ربَّى ابنه على الصدق بجهود جبَّارة، ويسكن في بلد غير بلد والدته، فلما جاء ليزور والدته ومعه أولاده، فالجَدة قالت للصغير: اسكت مساء سنخرج معاً، فسكت.. وفي المساء انتظر وقد لبس ثيابه فلم يجد أي تحرُّك من الجدَّة فقال لها: أنتِ كاذبة.
الكذَّاب لا ينظُر الله إليه ولا يكلِّمه وله عذابٌ أليم:
والله أنا أرى أنَّ من أخطر المضاعفات الناشئة في نفس الطفل إذا وعدْته وأخلفت، إذا وعدْته فلابدَّ من أن تنجز وعدك، لأنَّك إذا أخلفت وعدك علَّمته الكذب عمليّاً.. درس عمليّ في الكذب لا يُنسى قد لقّنته له، بالطبع لن يقول لك كذَّاب بل سيسكت، عرفك أنّك كاذب، فلا يهم الكلام ولكنّ المهم الحقيقة.
(( ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ))
الكذَّاب لا ينظُر الله إليه ولا يكلِّمه وله عذابٌ أليم.
(( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا.))
أي إنّ هذا الإنسان إن رأينا حالة صحيفته نجد مكتوباً فيها: كذّاب، له صحيفة ( إضبارة) عند الله عزَّ وجلَّ مكتوب فيها كذّاب.
الصدقُ أمانة والكذب خيانة:
أيُّها الأخوة الكرام... الكذب خيانة، يقولُ عليه الصلاة والسلام:
(( كَبُرت خيانةً أن تُحدِّث أخاك بحديث هو لك به مصدِّق وأنت له به كاذب ))
الكاذب يشعر أَنَّهُ يخون، قال لك: انصحني. وعندك قطعة قماش فاسدة لونها سيئ فقلت له: هذه أحسن شيء. والمشتري صدَّقك، هو لك مصدَّق لأنه طلب منك أن تنصحه وأنت له به كاذب، فقد خُنتَه.. فالنبيّ سمَّى الكذب خيانة وقال: الصدقُ أمانة والكذب خيانة.
الآن عليه الصلاة والسلام من وسائله في تربيَّة الأطفال على الصدق:
(( قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ ))
لذلك رضيَ الله عن علماء الحديث هذا الذي جاءَ من المدينة المنوَّرة إلى البصّرة ليتلقَّى حديثاً عن أحد الرواة، هذا الرّاوي كذَب على فرسه لا على طفلٍ صغير، فقد رفع ثوبه موهماً فرسه أنَّ به شعيراً كي تُقبِلَ عليه، فتقدَّم فإذا بالثوب لا شعير فيه، فرجع من توِّهِ.. ليس ما بين ساحة المرجة وحيّ المهاجرين، جاء من المدينة المنورة إلى البصرة ليتلقى حديثاً عن أحد الرواة، لم يكن الطيران موجوداً، فلمَّا رآه يكذب على فرسه اتهمه بالكذب ولم يسأله شيئاً، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام لمّا رأى هذه المرأة تقول لغلامها الصغير: تعال أُعطكَ. قال: ماذا أردّتِ أن تعطيه ؟ قالت: أُعطيه تمراً. فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنَّك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليكِ كذبة.
الإنسان الصادق لا يقدر بثمن:
قصةٌ بعضكم يعرفها.. أنَّ العالم الربَّاني الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يروي قصَّةً طريفةً عن الصِّدق قال: بنيتُ أمري من حينُ ما نشأتُّ على الصدق، وذلك أَنّي خرجت من مكَّةَ إلى بغداد أطلُبُ العلمُ، أعطتني أُمّي أَربعين ديناراً أستعينُ بها على النفقة، وعاهدتني على الصدق، فلمّا وصلنا إلى أرضِ همدان خرجَ علينا جماعةٌ من اللصوص (قطّاع الطريق)، فأَخذوا القافِلة فمرَّ واحدٌ منهم وقال لي: ما معك ؟ قلتُ: أربعون ديناراً. فظنَّ أني أَهزأُ بهِ فترَكني، فرآني رجُلٌ آخر قال: ما معك ؟ فقُلت له أَربعونَ ديناراً. فأَخذني إلى كبيرهم (كبير اللصوص) فصاحَ.. فسألني فأَخبرته. قالَ: يا غلام ما حملَكَ على الصدق ؟ قُلتُ عاهدْتُ أُمّي على الصدق فأَخافُ أن أخون عهدها، فأخذت الخشيَةَ رئيس اللصوص، فصاح ومزَّق ثيابه وقال: أنت تخافُ أن تخونَ عهدَ أُمِّك وأنا لا أَخافَ أن أَخونَ عهد الله، ثمَّ أمَر بردِّ ما أخذوه من القافلةِ كلِّها وقال: أنا تائبٌ لله على يدِكَ يا غُلام. هذا الغلام أصبح الشيخَ العارفَ بالله الجليل عبد القادر الجيلاني، فقالَ من مع كبير اللصوص: أنتَ كبيرُنا في قطعِ الطريق وأنتَ اليوم كبيرُنا في التَوْبَة، فتابوا جميعاً على يدي رئيسهم قاطع الطريق.
الصدق مع الناس ينقُلُك إلى الصدق مع نفسك ثم مع الله:
أحياناً بموقف أخلاقي لا يعلم إلا الله ما نتائجه، عصابة من اللصوص وقطّاع طريق تسلُب أموال المسافرين، تعجَبُ من طفل صادق الحديث، أمّا الآن فقد اختلف الوضع، فتابوا جميعاً ببركة الصدق، مما ينفع في هذه المناسبة أنَّه إذا لاحظ الأب أنَّ ابنه يكذب يجب أن يتابع الأمر ولا يتساهل، أحياناً الأب يحسن الظَّن ويتساهل، فقد حضر للبيت وهو متعب وسمع ابنه يروي قصَّةً كاذبة ويتركه، لكن حينما يحمل الأب ابنه على الصدق ويتعب بالتحقيق والتدقيق والنصيحة والمتابعة لعلَّه بعد حين يقطِفُ ثماراً يانعة.
الإنسان الصادق لا يقدَّر بثمن، فشيء عظيم أن تكون صادقاً، فالصدق مع الناس ينقُلُك إلى الصدق مع نفسك، ثمَّ تنتقِلُ إلى الصدقُ مع الله، يوجد صدق مع الله، وأحياناً يكون الإنسان صادقاً مع نفسه فلا يحاول أن يوهم نفسه أوهاماً غير صحيحة، يبدأُ صدقُه مع الناس، ثمَّ مع نفسه، ثمَّ مع الله.
الإنسان يشقى بشقاء أولاده ويسعدُ بانضباطهم:
إن شاء الله في درس قادم نتابع ظاهرة السرقة، وظاهرة الميوعة والسباب والشتائم، هذه مما يعانيه المجتمع المسلم، فيكفي أن تمشي في طريق وتسمع السباب المنحطَّ، والشتائم، والميوعة، والخلاعة، والتشبُّه بالفتيات، وإن وجد طريق فيه من الجنسين اسمع ماذا يقول طرفٌ لطرفٍ آخر.. هؤلاء أولاد مسلمون كلُّهم، فبلادنا إسلاميَّة والحمد لله، هذه تربية ؟ لذلك المؤمن يتميَّز بتربية أولاده، انتبه، حاسب، دقِّق، اجلس معهم وإلا كما قلت لكم دائماً: الإنسان يشقى بشقاء أولاده ويسعدُ بانضباطهم، فالمتزوِّج الذي رُزق بأولاد يبدأُ من الآن، ومن لم يتزوَّج فليصممُ على أنه إذا أنجبَ أولاداً فسوف يربيهم هكذا، والله سبحانه وتعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.