الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآيات الثانية والعشرين بعد المئتين وما بعدها وهي قوله تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾
سأقف عند كلمة ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ لمجرد أن تتعرَّف إلى الله عز وجل، وتريد أن تتقرَّب إليه، ما مِن شيءٍ يُقَربك إليه إلا أن تطيعه، وطاعته تحتاج إلى علمٍ بأمره ونهيه، فلا تكون الطاعةُ طاعةً إلا إذا بُنِيَت على أمرٍ ونهي، إذاً ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ المؤمن الصادق يسأل، المؤمن الصادق يُصقِلُ مرجعه الديني بالسؤال، المؤمن الصادق لا يَقِرّ له قرارٌ إلا إذا عرف الحُكمَ الشرعيَّ في كل شيء، في كسبه للمال، في إنفاقه للمال، في أفراحه، في أتراحه، في علاقاته، في لهوه البريءِ المسموحِ به، في حزنه، في سفره، في إقامته، في زواجه، في تطليقه، في كل شيء، لذلك علامةُ المؤمن يسأل: ما حُكم الشيء؟ قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
من هم أهل الذكْر؟ أهل الوحي، يوجد عندنا ثقافة أرضية مِنْ صُنِع البشر، ويوجد عندنا حقائق من عند خالق البشر، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ أنت تريد كلام الخبير أم كلام غير الخبير؟ الوحي هو كلام الخبير، وكلام الناس كلام غير الخبير، أي الإنسان أمام ملايين المقولات في شتى الموضوعات ليس لها أساس من الصحَّة، ولا أساس من الواقع، ولا أساس من منهج الله عز وجل، فأنت تريد وسط ركام المقولات أن تبحث عن أمر الله ونهيه، عن الحُكْم الشرعي، عن منطوق الوحي في هذا الموضوع، لذلك: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ إن عرفت الله تسأل ما الذي يُرضيه وما الذي يُغضبه؟ ما الذي يُقربك إليه وما الذي يُبعدك عنه؟ ما الذي تسعد به وما الذي تشقى به؟ هناك في الكون حقيقة واحدة هي الله.
الخير كل الخير في التّقرُّب إليه، والشر كل الشر في البُعد عنه، وأي شيءٍ يُقربك إلى الله عز وجل فهو حق، وأيّ شيءٍ يبعدك عن الله عز وجل فهو باطل، الذي يُقربك هو الحق، والذي يُبعدك هو الباطل.
لذلك كنت مرة في جلسة وطَرَحْتُ أسئلة فلم يجب أحد، فقلت لهم: هل لكم من سؤال؟ فقلت: هذا السكوت له تفسيران: إما أنه سكوت القانع، أو سكوت عدم المبالي، إذا كنت قانعاً تسكت، وإن كان هذا الموضوع لا يعنيك تسكت، فالإنسان المؤمن حينما يؤمن، وحينما يُعَظِّم الله عز وجل، وحينما يرجو رحمته، وحينما يخشى عذابه يتحرَّى أمره ونهيه، أنا أنطلق من كلمة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ لتكون سِمَةَ المؤمن، ليكون السؤالُ: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مفتاح العلم السؤال، من استشار الرجال استعار عقولهم، أنت بالسؤال المُؤَدَّب يمكن أن تأخذ خبرة خمسين عاماً في أي موضوع، اسأل، لا تستحي أن تسأل، إنسانان لا يتعلَّمان المتكبِّر والمستحيي، المستحيي لا يتعلم، والمتكبر لا يتعلم، والله عز وجل يأمرك أن تسأل أهل الذكر، وضرب لك مثلاً نبياً كريماً من أولي العزم التقى بسيدنا الخضر قال له:
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)﴾
هل تسمح لي أن أصاحبك كي أتعلم من علمك؟
بعض الأحكام الشرعية في موضوع الحيض:
أيها الإخوة؛ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ الموضوعات التي يُمكن أن تسأل عنها كثيرةٌ جداً، بعضها شديد الخصوصية وبعضها كبيرٌ جداً، هناك موضوعات على مستوى دولي، في العلاقات الدولية؛ السِّلم والحرب، وما إلى ذلك، وهناك موضوعات في منتهى الخصوصية، من حيث القيمة كل هذه الموضوعات لها قيمة، لأن مخالفتها تَحْجب عن الله عز وجل، فالآن موضوع دقيق جداً،﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جُعِلَت المرأة مكاناً للحرث أي مكاناً لاستنبات الوَلَد، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
قال بعض علماء التفسير: المودة والرحمة التي بين الزوجين هي الوَلَد، وقد جعل الله للمرأة مِبيضاً، فيه عدَدٌ محدود من البويضات، ودققوا في كلمة عدد محدود، لو لم يكن عدد البويضات محدوداً لكان هناك حملٌ في التسعين، وحملٌ في المئة، وهذا شيءٌ لا يمكن أن نتصوَّره، فلحكمة بالغةٍ بالغة كان بإمكان الرجل أن ينجب وهو في التسعين، بينما في مِبْيَضِ المرأة عددٌ محدودٌ من البويضات،

فإذا جاءها حوينٌ لقَّحها كان الوَلَد، وإن لم يأتها الحوين الرحم في وقت خروج البويضة من المبيض إلى الرحم يستعد استعداداً عجيباً لاستقبال البويضة المُلقحة، يستعد بغشاء من الدم الكثيف في الرحم،

فإذا جاءت البويضة ولم تكن ملقحةً خاب أمله، وانقشعت هذه الطبقة في الرحم فكان الحيض، فالحيض من لوازم النساء، أي حينما لا تُلَقح البويضة التي تخرج كل شهرٍ من مبيض المرأة يكون الحيض، فإذا كان هناك حملٌ ليس هناك حيض.
إذاً لابد من خروج دمٍ من جهاز المرأة التناسلي، هذا الدم هو دم الحيض، ويبدو من خلال الأحكام الشرعية أن هذا الدم حينما يخرج يصيب المرأة بالضعف والوهن، لذلك أكثر النساء في أيام الحيض يُعَانين من وهنٍ وضعفٍ في الجسم، لذلك كان الشرع حكيماً حين أعفى المرأة من الصلاة والصيام في أيام الحيض، أعفى المرأة من الصلاة دون أن تقضيها، وأعفاها من الصوم على أن تقضيه، وهذه بعض الأحكام الشرعية في موضوع الحيض.
المسلم يطبق أحكام دينه فهو طاهرٌ من الداخل والخارج:
بقيت قضيةٌ ثانية مهمة جداً في اللقاء الزوجي، اللقاء الزوجي في أثناء الحيض مُؤذٍ جداً، ذلك أن هذه الكمية من الدماء، والدم كما تعلمون البيئة الصالحة إلى درجة غير محدودة لاستنبات الجراثيم،

لو أننا أردنا أن نستنبت جرثوماً نضعه في دم، فالدم طاهر ما دام يجري في الجسم، أما إذا سُفِح وإذا خرج من الجسم فهو بيئةٌ صالحة لنمو الجراثيم بكثرةٍ كثيرة، لذلك هذا الجهاز التناسلي في أيام الحيض بؤرةٌ مليئة بالجراثيم، فإذا تمّ اللقاء الزوجي في هذا الوقت وفي ذاك المكان هناك أذى للرجل وأذى للمرأة، فقد يكون الرحم في حالة هياج شديد، وفي حالة تبدُّلٍ، وقد يُصاب الرجل ببعض الإنتانات، فالله عز وجل وهو الخبير، وهو الخالق، وهو الحكيم:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
قال: ﴿هُوَ أَذىً﴾ للرجل والمرأة، لطرفي اللقاء، ﴿ قُلْ هُوَ أَذىً﴾ ، ﴿أَذىً﴾ مُنَكَّرة تنكير شمول، وتنكير تعميم، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ لكم، ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ .
إخواننا الكرام؛ حدَّثني أحد الأطباء أن هناك ثلاثمئة مليون مريض في العالم بأمراض القذارة، لكن العالم الإسلامي معافى مِن هذه الأمراض، لسببٍ بسيطٍ جداً هو أن دينه دين نظافة، فنحن نتوضأ في اليوم خمس مرات،

ونحن بعد قضاء الحاجة نتطهر تطهراً عالي المستوى، وفق أحكام ديننا، ونحن لا نقرب نساءنا في المحيض، ونحن نختتن، فالختان صحة، وعدم قُرب المرأة في المحيض صحة، والتنظيف الشديد عقب الخروج صحة، فثلاثمئة مليون إنسان في العالم يُعَانون من أمراض القذارة، وهذا إحصاء منظمة الصحة العالمية، بينما العالم الإسلامي يُعَدُّ نظيفاً من هذه الأمراض لسببٍ بسيطٍ جداً هو أن المسلم يُطبق أحكام دينه، فهو طاهرٌ من الداخل والخارج، ومن أعلى ومن أسفل.
أمراضٌ كثيرة نحن في منجاةٍ منها بحكم ديننا وشريعتنا وطاعتنا لربنا:
﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ إلا أن اليهود تطرَّفوا، فإذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها، ولا يقتربون منها، ويعزلونها عن حياتهم وكأنها شيءٌ قذر، هذا تطرف، لكن الإسلام دينٌ وسطيّ، بين أهل الغرب الذين يفعلون كل ما يريدون في أثناء الحيض، وكأنها ليست حائضاً وبين اليهود الذين نبذوها، وأبعدوها، ولم يؤاكلوها، ولم يعاشروها، والإسلام وسطٌ بين هؤلاء وبين هؤلاء، المسلم يعيش مع زوجته، ويأكل من طبخها، ويعاملها أطيب معاملة، ولكن لا يقربها في مدَّة الحيض، أما المحيض فتعني دم الحيض، وتعني أيام الحيض، وتعني مكان الحيض.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ هذا كلام خالق الكون، أمراضٌ كثيرة أيها الإخوة يُعاني منها العالم الغربي، أي سرطان عُنُق الرحم قليلٌ جداً في العالم الإسلامي،

إلى درجة أنه منعدم، أحد أسبابه أن يقرب الإنسان امرأته في أيام الحيض، مرض انقلاب الرحم، هذا مرضٌ لا تعاني منه المرأة المسلمة، لأن علاج هذا المرض حركاتٌ كحركات الصلاة،

أمراضٌ كثيرة نحن في منجاةٍ منها بحكم ديننا وشريعتنا وطاعتنا لربنا،
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ قال: الرجل له ما فوق السرة كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث:
(( عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي مِنْ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلَاهَا. ))
فالمرأة وهي حائض تنام مع زوجها، وشأنه بأعلاها، ويؤاكلها، ويعاشرها دون أن يقترب من مكان الحيض.
الدماء ثلاث؛ دم الحيض ودم النفاس ودم الاستحاضة:
﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ طبعاً الفقهاء على اختلافٍ فيما بينهم حول أقل مدة الحيض، وحول أكثر مدة الحيض، لكنهم بين أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثر مدة الحيض خمسة عشر يوماً.
يقول العلماء: هناك دماء ثلاث، هناك دم الحيض، وهو داكن، وهناك دم النفاس، وهناك دم الاستحاضة، فدم الحيض هو الذي يخرج من المرأة في أيام الحيض، وقد يتفلَّت عرقٌ في رحمها فيخرج منه دمٌ فاتح، قال: هذه استحاضة، تتوضأ لكل صلاة، ودم النفاس معروف، الدم الذي يخرج من المرأة عقب الولادة، أقصاه أربعون يوماً على مذهب، وستون يوماً على مذهب، ولا حد لأقله، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ يطهرن أي حتى ينقطع الدم.
الجماع لا يكون إلا في صمام واحد:
﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ إذا تطهرن أي اغتسلن، يطهُرن: ينقطع الدم ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فأتوهن كنايةٌ لطيفة عن الجماع، ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه﴾ أي في صمام واحد في القُبُل، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ حينما نهاهم سيدنا لوط عن مقاربة الفحشاء الشاذة، قالوا: إنهم أناسٌ يتطهرون، فقال بعض العلماء: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الذين يفعلون ما أراد الله جلّ جلاله، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ الذين لا يفعلون فعل قوم لوط في زوجاتهم.
نهى الإسلام نهياً قطعياً عن الصمّام الآخر:
أيها الإخوة الكرام؛ لابدّ من حديثٍ دقيقٍ حول بعض معاني هذه الآيات، أي هناك مَن يتَّهم الإمام مالك -رحمه الله تعالى-في أنه أجاز الصمام الآخر، وقد أَنْكَرَ ذلك هو نفسه في حياته أشدَّ الإنكار.
﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)﴾
ما معنى كلمة ﴿حَرْثٌ﴾ الحرث: مكان الزراعة، ومكان النبات، وهل في المرأة إلا مكانٌ واحد يخرج منه الولد؟ إذاً من كلمة: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ مع وجود أحاديث كثيرة جداً تنهى نهياً قطعياً عن الصمّام الآخر ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ، ﴿أنَّى﴾ تفيد المكان والزمان والكيفية، أي بأية كيفيةٍ، وبأي مكانٍ، وبأي زمانٍ، شريطة أن يكون في مكان الحرث، وانتهى الأمر، هذا كلام دقيق وواضح، ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ .
الآية التالية تعني أن نجعل من الزواج وسيلة للعمل الصالح:
لكن الشيء الذي أتمنى على الله عز وجل أن يوفقني لشرحه مُطَوّلاً، هذه أحكام فقهية يجدها الإنسان في كتب الفقه ولا يحتاج إلى تفاصيل أكثر إلا عند الضرورة، ولكن في قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي هذا الذي يبتغي من الزواج المتعة الحسية، ولم يعبأ بإنجاب ولدٍ صالح يدعو له من بعده، أو بإنجاب ولدٍ صالحٍ يكون ذُخراً له، أو بإنجاب ولدٍ صالحٍ يكون استمراراً لعمله الصالح، قال تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي لا يكن همك من الزواج همّاً حسياً، لا يكن همك من الزواج همّاً استمتاعياً، المؤمن يقوم إلى زوجته وفي نيَته أن يرزقه الله ولداً صالحاً يدعو له من بعده، فهذه الآية لها معانٍ كثيرة، قدِّموا لأنفسكم الخير من هذا الزواج، الإنسان حينما يتزوج يجب أن يبحث عن المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرَّته، والتي إذا غاب عنها حفظته، والتي إذا أمرها أطاعته، فهذه المرأة الصالحة سوف تكون أمّ أولادك، والولد الصالح أعظم كسب الرجل على الإطلاق، فإذا قدَّم لهذا الولد المُسْتَقْبَلِيّ أماً صالحةً ترعاه فقد قدَّم الخير لنفسه، قال تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ وفي بعض التفاسير أن التقديم للنفس في هذه الآية معناه أن الإنسان إذا أراد أن يلتقي مع امرأته ينبغي أن يدعوَ: اللهم جنبني الشيطان وجنِّب ذريتي الشيطان، هذا الطفل، هذا المولود جاء مع دعاء شريف، ومع نفسٍ طاهرةٍ مُقبلة، فالله جلّ جلاله يُجَنِّب هذا الولد الشيطان.
أنا أكاد أوقن يقيناً قطعياً أنه ما من لقاءٍ سبقه دعاء كهذا الدعاء إلا كان الولد صالحاً، أما الإنسانُ أحياناً يأتيه ولد يُنسيه كل شيء مِن شدة انحرافه وعقوقه، لعله جاء في غفلة عن هذا الدعاء، ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ هذا الدعاء، هذه واحدة، ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي اجعلوا من الزواج وسيلة للعمل الصالح، الله عز وجل له طرق كثيرة، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، من هذه الطرُق أن تُنجِب ولداً صالحاً ينفع الناس من بعدك.
أيها الإخوة الكرام؛ ليس هناك بيت لا يوجَد فيه أولاد، لكن لو عَلِم الأب أنه إذا اعتنى بهذا الابن عناية فائقة، وربّاه تربية صالحة، اعتنى بعقله وجسمه وإيمانه وخُلُقه، ونشَّأه على طاعة الله، وعلى محبة رسول الله، ومحبة آل بيت رسول الله، وتلاوة القرآن، هذا الطفل الذي جاء عن طريق الزواج هو أثمن ثمرةٍ في الزواج، أكثر الناس يتزوّجون للمتعة، يقول لك: هناك دافع جنسي، هناك رغبة جنسية، هذه الرغبة مُحققة وأنت في أعلى مستويات القرب مع الله عز وجل، ولكن البطولة أن تنوي من هذا الزواج العمل الطيب، لذلك هناك آيةٌ متعلقة بالجهاد يمكن أن نستفيد منها في الزواج.
﴿ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)﴾
أي شاب سعى إلى الزواج لابدّ من مشقةٍ بالغةٍ في العثورِ على بيتٍ، وتأثيثِ البيت، وتأمين نفقات الزواج، ونفقات العرس، ونفقات الحلي، وفرش البيت بالأثاث، وقد يكون الدخل محدوداً، وأزمة سكن مستحكمة، والمكاسب قليلة، والمطالب كثيرة، والحياة صعبة ومعقدة، فهو يتألَّم، لكن ألَمَ المؤمن يُرَافقه أنه يرجو من الله في زواجه ما لا يرجوه غيرُ المؤمن، زواج غير المؤمن متعةٌ فقط، بينما زواج المؤمن متعة ورسالة، يوجد رسالة، أي البيت المؤمن المسلم متميز، بيت مبدأ، بيت رسالة، بيت منهج، بيت تربية، فالابن المربّى في بيتٍ إسلامي ابن متفوِّق، كأن الله عز وجل يقول: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي قدِّم عملاً صالحاً من خلال هذا الزواج، قدِّم عملاً طيباً من خلال هذا الزواج، ابحث عن زوجة صالحة تُعينك على تربية أولادك، ابحث من خلال لقائك الزوجي عن هدفٍ نبيل تسمو به في الآخرة.
وقال بعضهم: إن الرجل والمرأة لا ينبغي أن يقعا على بعضهما كما يقع البعير بلا مقدمات، هذا فَهمٌ إشاري لهذه الآية، لابد من مقدمات تليق بالإنسان، أما بلا مقدمات صار عمله كعمل البهائم، إذاً هناك معنى مستنبط من قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنت إنسان لابد من كلمة طيبة، لابد من مؤانسة، لابدّ من ابتسامة، فهذا التقديم يليق بالإنسان في اللقاء الزوجي، أو أن هذا اللقاء الزوجي ينبغي أن يكون مناسبة لعملٍ صالح مستمر بعد موت الإنسان، وهو إنجاب ولدٍ صالح يدعو إلى الله من بعده.
العبرة أن يقف الإنسان عند حدود الأمر والنهي:
أيها الإخوة؛ قضية هذا السؤال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أي الإنسان حينما يُطَبق أمر الله عز وجل، ولو لم يقف على دقائق حكمته يقطف كلّ ثماره، ذلك أن الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، وكنت أضرب على هذا مثلاً دقيقاً: إنسان لا يقرأ ولا يكتب، عنده جهاز تكييف، يكفي أن يضغط على مفتاح التشغيل حتى يأتيه الهواء البارد، هو انتفع بهذا الجهاز دون أن يعلم دقائقه، ويأتي آخر يحمل دكتوراه في التكييف ويضغط على مفتاح التشغيل فيأتيه الهواء البارد، الإنسان الثاني انتفع بهذا المكيِّف مع العلم بدقائق عمله، والأول انتفع بالهواء البارد مع الجهل بدقائق عمله، فكان السلف الصالح لمجرد أنهم عرفوا أن هذا حرام انتهى الأمر، فلما كفوا عنه سعدوا في دنياهم وأخراهم، لو جاء إنسان مُفَلسف وفهم دقائق الأمر التشريعي ولم يعمل به، يدفع ثمنه باهظاً، فالعبرة أن يقف الإنسان عند حدود الأمر والنهي.
ذكرت اليوم في موضوع لطيف أنه ما من مشكلة على وجه الأرض حصراً إلا وراءها مخالفة لمنهج الله، وذكرت أيضاً أن من قواعد اكتشاف الجريمة، واكتشاف أسبابها، أن ضُبّاط الأمن الجنائي إذا رأوا جريمة يقولون: ابحثوا عن المرأة، وراء كل جريمة امرأة، هذه القاعدة مع التعديل، في أيّة مشكلة يعاني منها المجتمع اليوم أنا أقول: ابحث عن المعصية، لأن المعصية وراء كل مشكلةٍ يُعاني منها الإنسان اليوم، وكأن هذا الإنسان مصممٌ على أن يعيش عمراً مديداً صحيحاً جسماً ونفساً وقلباً ومعافى، أما الأمراض التي تأتيه من كل حدبٍ وصوب، والمشكلات التي يعاني منها في كل شؤون حياته، كلها بسبب خروجه عن منهج الله.
أساس كل مشكلة خروج الإنسان عن منهج الله عز وجل:
إذاً يمكن أن تكون هناك قاعدة: ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا وراءها معصية، وما من معصيةٍ إلا بسبب جهلٍ، فالجهل هو أعدى أعداء الإنسان، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، وهذا الشرع أمامكم، حاول أن تُحلِّل أيَّةَ مشكلةٍ، زوجية، تجارية، اقتصادية، اجتماعية، نفسية، علمية، حاول أن تُحَلّل أيَّ مشكلة يعاني منها الإنسان تجد هذه المشكلة لها سبب واحد هو خروج الإنسان عن منهج الله عز وجل، وهذا القرآن الذي بين أيدينا منهج عظيم، وصراطٌ مستقيم، وحبل الله المتين.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ ماذا نفهم من هذه الآيات؟ نحن فهمنا الدين عباداتٍ شعائرية وكفى، فهمناه صوماً وصياماً وحجاً وزكاة، ولكن فيما يبدو أن الدين بنوده كثيرة جداً، منهج شمولي، منهج تفصيلي، ففي أدق علاقتك بزوجتك الشرع له حكم، فلذلك حينما يطلب الإنسانُ العلمَ ماذا يفعل؟ يصون نفسه، يا بني العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يسمو على الإنفاق، يا بُنيّ مات خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
أنت حينما تأتي إلى مجلس علمٍ تتعلم أحكام الشريعة الغرّاء، أنت بهذا تُوظِّف الوقت لصالحك، أيّ خطأٍ يقع في الشأن الخاص له مضاعفات خطيرة.
الإنسانُ تقريباً أعْقدُ آلةٍ في الكون، ولهذه الآلة صانعٌ حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فإذا كان هذا القرآن بآياته التشريعية، وكانت سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام بتفصيلاتها البيانية، كانت تعليمات الصانع في التشغيل والصيانة فالإنسان انطلاقاً من حبِّه المفرِط لذاته كان عليه أن يتِّبع تعليمات الصانع فيسعد ويرقى.
أيها الإخوة؛ تفاصيل الحديث عن هذا الموضوع يمكن أن نتابعها في أي كتاب فقه، لأن الإنسان يحتاجها عند الزواج.
ثم يقول الله عز وجل: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اتقوا معصية الله، اتقوا سخطه، اتقوا عقابه، اتقوا ناره، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هناك رادع، وهناك مشجِّع، المشجِّع هي الجنة، والرادع هو النار، ولنعلم علم اليقين أن الله بكل شيءٍ عليم.
الأيمان التي يحلفها البائع ليروِّج سلعته هي أيمان تمحق البركة:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)﴾
أي حينما يَحلِف الإنسانُ يميناً في ساعة غضب، ويُقسِم ألا يزور أخته أو شقيقته، ثم يجد الخير كله في زيارتها، وفي التواصل معها، وفي العناية بها، وفي إرشادها، وفي نُصْحها، هو بهذه اليمين منع الخير عن نفسه، فالله عز وجل يقول لنا: إن كان هذه اليمين الذي أقسمت به سيكون مانعاً لك عن فعل الخير ينبغي ألا يكون هذه اليمين سبباً لامتناعك عن الخير، لابأس عليك، كَفِّر عن يمينك واصنع الخير، هذه حقيقة، لأن القصد أنك في هذه الحياة الدنيا مخلوقٌ للعمل الصالح، فإذا أقسمت في ساعة غضب ألا تعمل صالحاً، وألا تُقرِض إنساناً، وألا تزور أخاً، وألا تساعد صديقاً، ثم وجدت أنك بهذه اليمين حُرِمت من الخير كله، ماذا نفعل؟ نقول لك: افعل الخير وكَفِّر عن يمينك، لا تتخذ من هذه اليمين وسيلةً للكف عن الخير، ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ينبغي للإنسانِ بشكلٍ أو بآخرَ ألا يحلف، لقوله تعالى:
﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)﴾
وكان بعض الأئمة الكرام وهو الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى كان يدفع ديناراً ذهبياً عن كل يمين أقسم بها صادقاً، يُعاقب بهذا الدينار نفسه، طبعاً فكيف إذا كان غير صادق؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ. ))
الآن أكثر البائعين يحلف كل كلمتين يميناً؛ بربه، بدينه، بالكعبة، بالقرآن، برأس مالها، وبأقل من رأس مالها، هذه الأيمان التي يحلفها البائع ليُروِّج سلعته هي أيمان تمحق البركة، لعلها تُنفق السلعة، لكنها تمحق البركة، فلذلك على الإنسان في الأصل أن يحفظ لسانه عن حلف اليمين، ودائماً حينما يحلف الإنسانُ كأنه يتَّهم نفسه بالكذب سلفاً، عوِّد نفسك أن تقول كلاماً بلا أيمان، فهذا السامع يجب أن يحترم كلامك من دون يمين، فإن كان لا يُصَدقك إلا باليمين فيجب ألا تحدثه.
لا ينبغي للإنسان أن يحلف بغير الله فإذا حلف فليحلف بالله مع حفظ أيْمانه:
غريب؛ صفةٌ شائعة بين المسلمين مع كل كلمة يمين، وأيمان مُنوّعة، وبعض الأيمان مُحرّم أن تحلفها، مثلاً تقول: بأولادي!!
(( يقول النبي ﷺ: من كان حالفًا؛ فليحلف بالله ، أو ليصمت. ))
[ أحمد عن عمر رضي الله عنه ]
بالله العظيم، لا ينبغي أن تحلف بغير الله أولاً، فإذا حلفت فاحلف بالله، وينبغي أن تحفظ أيْمانك من أن تكون في موضوعاتٍ يومية مبتذلة، أما حينما تحلف -لا سمح الله ولا قدر-يميناً غموساً لتقتطع به حقّ امرئ مسلم فقد خرجت من الإسلام، وهذه اليمين الغموس لا كفَّارة له لأنه يُخرجك من الدين، وتحتاج بعد اليمين الغموس إلى تجديد إسلامك، وإلى توبة نصوح، وإلى أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأنَ محمداً رسول الله، لأنك بهذه اليمين الغموس خرجت من الإسلام، هذا الذي يحلف يميناً أمام القاضي ليقتطع به مبلغاً أو مالاً من حقّ أخيه المسلم، إنه بهذا يخرج من دينه، هذه اليمين الغموس موضوع آخر، أما هنا فلو حلفت يميناً في ساعة غضب، مضمون اليمين ألا تنصح إنساناً، أو ألا تعاون إنساناً، أو ألا تزور أخاً، أو ألا تعالج مريضاً، أو ألا تُقرض مسكيناً، لو حلفت مثل هذه اليمين ثم وجدت أن الخير في الحِنْث به، ينبغي أن تكفِّر عنه وأن تفعل الخير، هذا المعنى الأول، ﴿وَلَا تَجْعَلُواْ اللهَ﴾ أي بينكم وبين الخير، أنت مخلوقٌ للخير، مخلوق للعمل الصالح، لا تجعل هذه اليمين بينك وبين الخير.
من صفات المؤمن الأساسية الإصلاح بين الناس:
﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ أن تفعلوا الخير، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ وأن تقفوا عند حدود الله، ﴿وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ من صفات المؤمن الأساسية أيها الإخوة أنه يصلح بين الناس لقول الله عز وجل:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ. ))
فالإصلاح بين الناس دَيْدَنُ المؤمن، وطاعته لله دَيْدَنُهُ أيضاً، ودَيْدَنُهُ أيضاً العمل الصالح، العمل الصالح والطاعة والإصلاح بين الناس، لذلك قال تعالى:
﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)﴾
من صفات المؤمن أنه يُقَرِّب، ويوفِّق، ولا يفرِّق، ولا يُباعد، ولا ينفِّر.
اليمين المنعقدة يُحاسب عليها الإنسان حساباً شديداً:
إذا حلفت يميناً في ساعة غضب، منعت به خيراً عن نفسك، يقول الله لك: لا تجعل هذه اليمين مانعاً لك من فعل الخير، كَفِّر عنه، وافعل الخير.
ثم يقول الله عز وجل: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ اللغو أناس كثيرون: تفضَّلْ كُلْ، واللهِ لا أقدر، قال: والله، تفضل كُل، والله لا أشتهي، وهو في أشدّ حالات الجوع يكون، مسألة أن يقول: إِي والله، لا والله، هذه اليمين اللغو، هذه اليمين نرجو الله أن يعفو عنّا به، ولكن الأولى ألا نحلفه إطلاقاً.
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ حينما يحلف الإنسان يميناً مُنْعَقِداً، وينوي وراءه شيئاً، هذه اليمين محاسبٌ عليه أشدّ المحاسبة، وكان لهذه اليمين تبعات كثيرة.
الإنسان مخلوقٌ للعمل الصالح فيجب أن يفعله في كل الأحوال:
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ هذا القلب ينظر اللهُ إليه، هو منظر الرَّب، ورد في بعض الآثار القدسية: أن عبدي حَسَّنت منظر الخلق سنين، أفلا حسنت منظري ساعة؟ قلبك ينظر الله إليك.
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ﴾ أنت مخلوقٌ للعمل الصالح، ينبغي أن تفعله في كل الأحوال، ولو حلفت يميناً منعقدةً ألا تفعل خيراً، كفِّر عنه وافعل الخير، افعل الخير واتَّقِ أن تعصي الله، وأصلح بين الناس:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
أما هذه الأيمان التي نُلقيها في أثناء الحديث اليومي، قال: هذه نرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا بها، ولكن يُؤَاخذنا بالنيَّات المنعقدة في القلوب، والتي قد لا ترضي الله عز وجل، لذلك الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ، ﴿يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ إذا تبتَ له فهو غفور، وإن لم تتب فهو حليم، يُعطيك فرصةً تلو فرصةً، حتى إذا آن الأوان شُدَّ الحبلُ فكنتَ في قبضةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
الملف مدقق