وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 54 - سورة التوبة - تفسير الآيات 79-82، قانون الالتفاف والانفضاض.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


البشر عند الله مؤمن وكافر ومنافق :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع والخمسين من دروس سورة التوبة، ومع الآية التاسعة والسبعين وهي قوله تعالى:

﴿  الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)  ﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة، كما تعلمون لا زلنا في سياق الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وقد بينت لكم في لقاء سابق أن البشر عند الله مؤمن وكافر، وهناك صنف ثالث أراد أن يجمع بين تفلت الكفار وبين مكاسب المؤمنين، فأظهر الإيمان وأخفى الكفر والنفاق، فكان عند الله منافقاً، هؤلاء يلمزون أي يعيبون، ينتقدون بإشارة، بنظرة، بحركة، بعبارة، يلمزون أي ينتقدون، أو يسخرون.

 والحقيقة أن المؤمن متأدب جداً مع الله، ومتأدب مع خلقه، أما كلما رأيت شيئاً لا يروق لك، تلقي على إنسان لوماً، أو تُحقّره، أو تزدريه، هذه الصفات لا تليق بالمؤمن أصلاً، المؤمن ليس عيّاباً، ولا فحّاشاً، ولا بذيئاً، المؤمن يؤلّف ولا يباعد، يقرب ولا يباعد، يؤلف ولا يشمت، فصفات المؤمن صفات راقية من أين جاءته؟ من اتصاله بالله -عز وجل-.

قانون الالتفاف والانفضاض :

 ودائماً وأبداً أقول وربما كان هذا القول مناسباً لهذه الآية:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

 الباء باء السبب.

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا لنت لهم، فلما لنت لهم أحبوك، فالتفوا حولك. ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ لو كان الإنسان منقطعاً عن الله -عز وجل- يمتلئ قلبه قسوة، والقسوة تنعكس على علاقاته مع الآخرين غلظة وفظاظة، عندئذٍ ينفض الناس من حوله، لك أن تسمي هذه الآية تتحدث عن قانون الالتفاف والانفضاض، تتصل بالله يمتلئ القلب رحمة، تنعكس الرحمة ليناً، هذا اللين يدعو من حولك إلى أن يلتفوا حولك، أنت بين أحباب، بين مؤيدين، بين أنصار، بين محبين، فإذا كان القلب منقطعاً عن الله يمتلئ قسوة، وهذه القسوة تُترجَم في علاقته مع الآخرين غِلظة وفظاظة، عندئذٍ ينفض الناس من حولك، فلك أن تسمي هذه الآية بالتعبير المعاصر تشير إلى قانون إلهي شامل وقاطع هو قانون الالتفاف والانفضاض.


المنافق يباعد ولا يؤلف بينما المؤمن يؤلف ولا يباعد :


 دائماً المنافق ينتقد، يصغر، يحاول أن يحشر أنفه بشيء لا يعنيه، المنافق يصغّر ما عند الناس، المنافق يفرّق ولا يجمع، يباعد ولا يؤلّف، بينما المؤمن يؤلف ولا يباعد، يجمع ولا يفرّق، كما قال النبي:

(( ليس منا من خبب امرأة على  زوجها ))

[ سنن أبي داوود  ]

ذهبت إلى بيت أختك، البيت صغير، تنتقد هذا البيت، هذا ليس بإمكانه أن يشتري أكبر، هذا دخله محدود، اشترى هذا البيت الصغير، فلا معنى إطلاقاً أن تنتقد هذا البيت، أو ماذا أعطاك على العيد مثلاً؟ ما أعطاها شيئاً، دخله محدود، فدائماً المؤمن لا يفرق بين الأحبة، لذلك ورد في الأثر القدسي:

(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ ))

[ شعيب الأرناؤوط عن معاذ بن جبل ]

(( المتحابُّونَ في جلالِي لهمْ مَنابِرُ من نورٍ ، يَغبطُهمُ النَّبيُّونَ والشهداءُ ))

[ أخرجه مالك عن معاذ بن جبل ]

 بشكل أو بآخر المؤمن لا ينتقد، المؤمن يُحسِّن الحسد، كان عليه الصلاة والسلام يحسن الحسد، لك صديق بيته صغير، لا يوجد مانع، مأوى، الدنيا مؤقتة، أنت حينما تنقل اهتماماتك إلى الآخرة، أقول لك هذه الكلمة: لا بد من أن تنعكس مقاييسك، مقياسك صار قرآنياً:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾

[ سورة الأحزاب ]


الموت ينهي كل شيء :


 المؤمن مستقيم، بوضع فقير، بوضع غني، بيته كبير، صغير، مركزه مرموق، غير مرموق، مادام قد آمن بالله واتصل به، وتخلق بأخلاق هذا الدين، وأحسن إلى خلق الله، هو فائز والفوز عظيم لأن الدنيا محدودة.

الموت أيها الإخوة ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، الموت ينهي كل شيء، والدنيا ساعة اجعلها طاعة، لذلك ورد:

((  من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ))  

[  الترمذي عن أنس ]

 إخواننا الكرام، هناك شيء دقيق جداً، أنت إذا آثرت آخرتك على دنياك وُفِّقت فيهما معاً، أما إذا آثرت الدنيا على الآخرة فخسرت الدنيا والآخرة.

 أيها الإخوة، هؤلاء المنافقون الذين نحن بصدد الحديث عنهم في هذه السورة، سورة التوبة لهم صفات كثيرة، من هذه الصفات أنهم يلمزون، ينتقدون إما بالعبارة، أو بالإشارة، أو بحركة باليد، أو بغمز في العين، أي بطرق شتى.


من هو المتطوع؟


﴿يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من هو المتطوع؟ هو الذي أدى الفرض وزاد على الفرض تطوعاً، صلى الصلوات الخمسة، وصلى صلوات نافلة، صام رمضان، وصام الاثنين والخميس، دفع زكاة ماله، ودفع صدقة فوق زكاة ماله، الله عز وجل جعل الحد الأدنى هي الفرائض، لكن بعد الفرائض هناك نوافل، لذلك ورد:

(( وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ. ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

 للتقريب الفرائض كالضريبة التي تفرضها الدولة على المواطنين، أما حينما تتبرع ببناء ليكون جامعة، يقام لك حفل تكريمي، فهذا تطوع، والإنسان في الحقيقة يزداد قرباً من الله عز وجل بالتطوع، لذلك: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ) الفرائض يجب أن تُؤدَّى شئت أم أبيت، هي الحد الأدنى من العبادة. 


محاسبة الإنسان على المديح الكاذب :أما النوافل:


أما النوافل (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ) ما معنى كنت سمعه؟ أي أن هذا المؤمن أي شيء يستمع إليه من خلال مبادئ وقيم فلو فرضنا أنه استمع إلى إنسان باحتيال بالغ حصّل ثروة طائلة، لا تقل هنيئاً له، فإذا قلت هنيئاً له شاركته في الإثم.

(( من شهد معصية فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عن معصية فأقرها كان كمن شهدها ))

[ أخرجه أبو داود عن عُرس بن عميرة الكندي وفي سنده ضعف ]

 إنسان مثلاً ارتكب عملاً غير أسلامي، غير صحيح بأميركا، وقلت أنت في مجلسك والله شاطر، جمع ثروة طائلة وعاش في بحبوحة، هل تدري أنك شاركته في الإثم؟ قضية أن تؤيد عملاً خلاف الشرع هذه شيء خطير جداً، الذي حولك أوقعتهم في مشكلة، لذلك ورد في بعض الآثار:

((  إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق ))

[ العراقي عن أنس بن مالك وفي سنده ضعف ]

 إنسان يرتكب المعاصي جهاراً نهاراً، وزار بيتك، وأنت أثنيت عليه ثناء كبيراً أمام أولادك، ما الذي حصل؟ أوقعت أولادك في مشكلة كبيرة، يرون معاصيه وآثامه، والأب مدحه. (إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق) .

 إن لم يكن من المناسب أن تنتقده فاسكت، أنت لا تحاسب على النقد إن لم تنتقد، تُحاسَب على المديح الكاذب.


ما كل ذكي بعاقل :


 لذلك أيها الإخوة، النقطة الدقيقة أن المتطوعين هؤلاء المؤمنون، قد يكونون فقراء فصاموا صيام نفل، قد يكونون فقراء فجاهدوا مع رسول الله، قد يكونون فقراء فجمعوا أموال الزكاة حسبة لله -عز وجل- فهؤلاء الذين ابتعدوا عن الدين، وأرادوا أن يجمعوا بين تفلت الكفار وبين مكاسب المؤمنين هم المنافقون، هؤلاء همهم النقد، بل إني أسميهم أحياناً القناصين، قناص، أي خطأ رآه يبالغ به، ويعرض عضلاته أمامك حيال هذا الخطأ، فالله -عز وجل- انتقدهم في هذه الآية التي تتحدث عن المنافقين: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾ المتطوعين المؤمنين الذين أرادوا التقرب إلى الله بنوافل العبادات، صام صيام نفل، وصلى صلاة نافلة، ودفع فوق زكاة ماله مالاً، وفعل أي شيء يتقرب به إلى الله -عز وجل-، لذلك: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ) هؤلاء المتطوعين (حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ) الآن أي شيء يستمع إليه يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافقه قبله، وإن خالفه رفضه، أو ركله بقدمه، عندك منهج، أنت ممكن أن تُقرَّ إنساناً احتال وجمّع مالاً طائلاً وتعتبره ذكياً أو عاقلاً؟ لذلك قالوا: ما كل ذكي بعاقل، قد يحمل الإنسان أعلى شهادة في العالم، بالفيزياء النووية، فإن لم يعرف ربه، ولم يستقم على أمره، ولم يعمل لآخرته، فهو ليس بعاقل، نقول: هو ذكي جداً، لكن ليس بعاقل، المقولة دقيقة: ما كل ذكي بعاقل، العقل متعلق بالأشياء الكبيرة جداً، بسر مجيئك إلى الدنيا، ما عرفت ماذا بعد الموت؟ ما فكرت، ما الذي يسعدك؟ ما بحثت، فالذي لا يبحث عن سر وجوده، وعن غاية وجوده، وعما ينبغي أن يفعله في الدنيا، يكون غير عاقل وما كل ذكي بعاقل، لأن الحياة محدودة جداً.


تعريفٌ بالأبد :


 الله -عز وجل- خلقك للأبد، ما الأبد؟ والله أيها الإخوة لا أملك طريقة لنقلها لكم، أو لاتخاذها سبباً لتوضيح هذه الفكرة، إلا للتقريب: واحد أمامه ثلاثة أصفار ألف، ثلاثة أخر مليون، ثلاثة ثالثة ألف مليون، ثلاثة رابعة مليون مليون، ثلاثة خامسة ألف مليون مليون، ثلاثة سادسة مليون مليون مليون، من هنا إلى هنا الأصفار، من هنا إلى الحائط، إلى القطب الجنوبي ثم القطب الشمالي، إلى الشمس أصفاراً، تصور واحداً في الأرض وأصفاراً إلى الشمس، هذا الرقم أصفار لمسافة بين الأرض و الشمس مئة و ستة و خمسون مليون كيلو متر، وكل ميلي صفر، هذا الرقم إذا نُسب إلى اللانهاية صفر، أكبر رقم تتصوره إذا نُسب إلى اللانهاية صفر، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟ ))

[ أخرجه مسلم ]

 اذهب إلى مدينة ساحلية، على البحر المتوسط، وأمسك بإبرة واغمسها في ماء البحر، اذهب إلى مدينة على الساحل واركب قارباً وأمسك بمِخيَط (إبرة) واغمسها في ماء البحر وانظر بكم حملت من ماء البحر: (واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟)

 لذلك ورد في الأثر القدسي:

(( يا عبادي إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّما، فلا تَظَالموا، يا عبادي كُلُّكم عار إلا مَنْ كَسوْتُه، كُلُّكم جائع إلا مَنْ أطعمتُهُ، لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحدِ منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ، ذلك لأن عطائي كلام، وأخذي كلام، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]


المنافقون يصغرون المؤمنين و أعمالهم :


 إذاً أيها الإخوة، هؤلاء المُطَّوّعون الذين يقومون بالنوافل، بنوافل العبادات، يصلي صلوات نافلة، يصوم الاثنين والخميس مثلاً، يدفع زكاة ماله، وفوق زكاة ماله صدقات، فهذا المطوِّع الذي يقوم بعبادات تزيد عن الفرائض، هذا المُطوِّع يرى نقداً حاداً من المنافقين، والحديث عن المنافقين:

﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ واللمز والغمز نوع من الانتقاد، انتقاد مرة باللسان، مرة بالعين، مرة بعلائم الوجه- بحركات الوجه- مرة بإشارة، مرة بعبارة، مرة بموقف، مرة بابتسامة ساخرة، هذه هو اللمز والغمز، هؤلاء المنافقون يصغرون المؤمنين، يصغرون أعمالهم، لذلك ابتغوا الرفعة عند الله، ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ مؤمن فقير جداً، لا يملك أن يفعل أعمالاً كبيرة، فجمع أموال الزكاة خدمة لهذا الدين، هذا ينتقده المنافق ﴿يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ أي الله -عز وجل- يريد قلبك أن يكون مُحبَّاً له، فأي عمل منك يقبله منك، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، إنسان لا يملك إلا جهداً قليلاً، بذله في سبيل الله، لا يملك مالاً عريضاً.


حجم العمل بحجم نيته :


على كلٍّ العبرة لا أن يكون حجم المال كبيراً، أن يكون حجم الإيمان كبيراً، هؤلاء المؤمنون الفقراء الذين لا يملكون مالاً كثيراً ليدفعوه، لكنهم جمعوا أموال الصدقات خدمة لهذا الدين، ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ لذلك قال النبي الكريم:

(( سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ  ))

[  صحيح النسائي عن أبي هريرة  ]

درهم تنفقه في إخلاص يسبق مئة ألف درهم أُنفِق في رياء، فالعمل لا يُقيَّم بحجمه يقيّم بالنوايا التي وراءه، من هنا قال النبي الكريم في الحديث الصحيح المتواتر:

(( إِنما الأعمال بالنيات ))

[  البخاري عن عمر بن الخطاب ]

 أي حجم العمل بحجم نيته، لذلك الذي أتمنى أن يكون واضحاً للإخوة المشاهدين أن الأعمال لا تُقبَل بل لا تقطف ثمارها إلا إذا كانت خالصة وعلى صواب، على صواب وفق السنة.

 يقول لك مثلاً: إن حفلة غنائية كبيرة جداً، يُرصَد ريعها للأيتام، نحن نريد عملاً خالصاً وصواباً، صواباً وفق السنة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله، فالعمل الذي يقبله الله -عز وجل- هو العمل الذي ينطلق من منهج رسول الله، وينطوي على نية خالصة، فالإنسان الفقير الذي لا يجد إلا جهده هذا مقبول، ﴿لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ غير المؤمن المنافق، عيّاب، قنّاص، كثير النقد، يبحث عن نقاط الضعف في الطرف الآخر، يبرز هذه النقاط، يسخر منه، يصغّره، هذا كله يتناقض مع أخلاق المؤمنين. 


من فسق خرج من حدود الله عز وجل :


 لذلك يقول الله -عز وجل- يخاطب النبي -عليه الصلاة والسلام-:

﴿  اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 هذه الآية تذكرني بآية أخرى: 

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 إذاً هم يصلون، أما هم عند الله فكفار، هذا الذي جعل العلماء يقولون: هناك كفر دون كفر، أنت آمنت بالله خالقاً، ولكن لم تقتنع بهذا الدين، ما أديت زكاة مالك، فعدم أداء زكاة المال نوع من الكفر بالزكاة، لم تصلِّ، عدم أدائك للصلوات نوع من الكفر بالصلاة، فقالوا: هناك كفر دون كفر ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ الآية التي تشابهها:

﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هؤلاء المنافقون يصلون مع رسول الله، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ هم فكفروا لأنهم فسقوا، فسقت التمرة أخرجتها من قشرتها، فكأن القشرة حد، القشرة وعاء، القشرة حدود، فالذي فسق خرج من حدود الله -عز وجل-.


بطولة الإنسان أن يترك هامش أمان بينه و بين المعصية :


 بالمناسبة إخواننا الكرام، أنا أحب أن أبين لكم أنت أحياناً يجب أن تدع هامش أمان بينك وبين المعصية، هذا يؤكده قوله تعالى:

﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 لا تقترب منها، اجعل بينك وبينها هامش أمان، أوضح مثل: تيار كهربائي عشرة آلاف فولت، هذا يجب أن تبتعد عنه ثمانية أمتار، لأن هذا التيار حوله مسافة تجذب من دخل فيها ويحترق، فلا بد من حاجز أمان، هامش أمان بينك وبين المعصية، مثلاً: الاختلاط قد يكون سبيلاً إلى الفاحشة، الاختلاط، إطلاق البصر سبيل آخر، صحبة الأراذل سبيل ثالث، فالفاحشة التي نهى الله عنها هذه الفاحشة لها أسباب، فإذا دخلت إلى أسبابها ربما قادتك هذه الأسباب إلى الفاحشة، لذلك من هو الشريف؟ الذي يهرب من أسباب الخطيئة لا من الخطيئة نفسها، وقد تكون الخطيئة بوضع معين، قد تقع فيها دون أن تتملك البعد عنها، فالبطولة أن تدع هامش أمان بينك وبينها، هذا أنا أفسره بنهر عميق جداً، والذي يمشي على شاطئه لا يتقن السباحة، هذا النهر له شاطئان، شاطئ مائل زلِق، وشاطئ مستوٍ جاف، فإذا مشى على الشاطئ المستوي الجاف فهو في أمان من أن يسقط، أما إذا مشى على الشاطئ المائل الزَّلِق فاحتمال كبير أن يسقط الإنسان في الماء ويموت.

 لذلك أبقِ بينك وبين المعاصي هامش أمان، هذا معنى:

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) ﴾  

[ سورة الإسراء ]

 فالاختلاط، وإطلاق البصر، ومتابعة الأفلام الإباحية، هذا كله أحياناً ينقل إلى الزنا، فالمؤمن الصادق يدع مسافة بينه وبين المعصية حتى لا يقع فيها.


المنافق يريد من الدين المكاسب والأشياء الممتعة :


 الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يا محمد ﴿أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ لن تفيد التأبيد ﴿فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هذا كفر دون كفر، أي كفر بالله، ما طبق منهجه كأنه ما رأى أن هذا المنهج صالح له، ﴿كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ لكن أحياناً المنافق هناك أشياء بالدين يحبها، يحب احتفالاً، يحب رحلة مع المؤمنين، الأشياء الممتعة له يحبها ويريد من الدين المكاسب، يريد من الدين الأشياء الممتعة، فهناك منافقون كثر الأشياء التي تريح يقبل عليها، ذلك:

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(80)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 يجلسون مع النبي في المسجد، ولهم مكانة وشأن، يكون غنياً هذا يحب الإسلام الفلكلوري، إسلام فيه احتفالات، فيه رحلات، فيه وجاهات، فيه إلقاء كلمات، فيه تعظيم، فيه مدح له، لكن لا يحب إسلام الجهاد، الإسلام الذي فيه بذل، فيه تضحية، فيه غض بصر، فيه ضبط نفس، هذا لا يحبه، يحب إسلاماً فلكلورياً، إسلام مهرجانات، إسلام احتفالات، إسلام كلمات رائعة، إسلام مديح، إسلام طرب أحياناً، هذا الإسلام لا يقدم ولا يؤخر.


البعيد عن الدين هو من ينتقي من الدين ما يعجبه :


 لذلك: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ هم قعدوا في مجلسه لكنهم خلافه، بمعنى هو في الجهاد هم في المدينة، في البستان، مع الماء الوفير، هو في الجهاد يقاتل أعداء الدين وهم في بيوتهم مع نسائهم، فلذلك الإنسان يجب أن يأخذ الدين كله، لا أن ينتقي منه، هذا الذي ينتقي من الدين ما يعجبه ليس مؤمناً بالتعبير الصحيح.

﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ هم فعلوا شيئاً خلاف ما فعل، هو في تبوك، في الجهاد، هم في المدينة قدموا أعذارهم ليتخلفوا عن الجهاد، هم يريدون الراحة، المتعة، الطعام، الشراب، الظل الظليل، الماء الوفير، لا يحبون بذل الجهد الكبير، فلذلك هذا الذي ينتقي من الدين ما يعجبه هذا إنسان بعيد عن أن يكون حقيقة متديناً.

﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هناك أشياء كثيرة في الدين مريحة، وممتعة، يقول: حضرنا احتفالاً، والله ألقيت كلمات رائعة، دُعينا إلى طعام، والله كان هناك تجلياً، لكن أنت في البذل الحقيقي لا تبذل شيئاً تأخذ الميزات، تأخذ النواحي الإيجابية، تأخذ النواحي المريحة لك.

﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ مرة رجل قدم مبلغاً لجامع، بشرط أن يُكتَب على قطعة رخام كبيرة أن هذه المئذنة كانت عن طريق المحسن الكبير الفلان الفلاني، يريد هذه العبارة أن تكون على المئذنة، أما أن يتعامل مع الله تعامل إخلاص فليس هذا داخلاً في حساباته.

﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ هذه الدنيا تنتهي، تنتهي إلى الموت، والموت في قبر، مهما كنت متمتعاً في الدنيا المتعة تنتهي، لذلك العبارة الدقيقة في أكثر النعوات: سيشيع إلى مثواه الأخير، مهما اعتنيت في البيت الذي أنت فيه هناك مثوى أخير هذا القبر، هذا القبر قد يكون روضة من رياض الجنة، إذا كان العمل طيباً، وقد يكون حفرة من حفر النيران: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾


العبرة في خواتيم الأعمال :


 الآن دققوا:

﴿  فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(81)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 أي قد تضحك أولاً قليلاً، وتبكي بعد هذا الضحك كثيراً، وقد تبكي قليلاً، وبعدها تضحك كثيراً، فالعبرة في النهايات، العبرة في خواتيم الأعمال، للتقريب: معظم الأشخاص في سن الشباب متشابهون، جسمه صحيح، وقوي، يأكل ما يشاء، حركته سريعة، يصعد الدرج بسرعة، هذا النشاط الذي يتوافر في الشباب شيء قاسم مشترك بينهم جميعاً، لكن هذا الذي أمضى حياته في طاعة الله، له خريف عمر رائع جداً.

كان بالشام عالم كبير، هذا العالم بدأ بالتعليم في الثامنة عشرة من عمره، ومات بالثامنة والتسعين، تقريباً درّس ثمانين عاماً، وله مدرسة عريقة جداً، وكل كبار أهل البلد خرّيجو  هذه المدرسة، هذا وصل للثامنة والتسعين، وكان منتصب القامة، حادّ البصر، مُرهف السمع، أسنانه في فمه، وذاكرته قوية، من حوله يعجبون لهذه الصحة، وهذا القِوام، وهذه الذاكرة، وهذه الحواس المرهفة، يقال له: يا سيدي ما هذه الصحة التي أكرمك الله بها؟ قال: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر من عاش تقياً عاش قوياً.

 إذاً البطولة أن يكون الضحك آخراً، من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، هناك بداية محرقة لكن بعدها نهاية مشرقة، فالبطولة أن تطيع الله في بدايات الحياة حتى إذا وصلت إلى خريف الحياة كنت في نهاية مشرقة. 


حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :


 الذي أتمناه للإخوة المشاهدين أن تبحث عن الحقيقة في الوقت المناسب، وأن تلتزم بها وعندئذٍ لك عند الله مستقبل كبير، والدليل الآية الكريمة:

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 فأجمل شيء بحياة المؤمن أن الله يطمئنه، يطمئنه للمستقبل، ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي أنت لك عمل حجمك عند الله بحجم عملك، الآن عملك من أين يأتي؟ من معرفتك بالله، من إيمانك به، من إيمانك بالدار الآخرة، أنت حينما تؤمن بالدار الآخرة تنعكس مقاييسك انعكاساً كبيراً.

 مرة سيدنا عمر أمسك تفاحة قال: أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت.

 النبي الكريم مرة ذبح شاة ووزع لحمها، فالسيدة عائشة قالت له: يا رسول الله، لم يبقَ إلا كفتها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها إلا كتفها، الذي أُنفِق هو الذي بقي، بل بقيت كلها إلا كتفها.


خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط :


 إخواننا الكرام العبرة أن هذه الحياة الدنيا هي معبر للآخرة، فمن عرف حقيقة الحياة الدنيا كما ورد: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء.

 لا تستقيم لإنسان، قد تمنح المال لا تمنح الأولاد، قد تمنح الأولاد لكن لا يوجد مال، قد يكون لك أولاد ومال لكن لا يوجد صحة، هناك صحة لكن لا يوجد راحة بال.

إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

 أيها الإخوة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع جميعاً بهذه الحقائق التي وردت في هذه السورة، هذه الحقائق لصالح المؤمن فإذا عرف الحقيقة في الوقت المناسب ينتفع بها، أما فرعون نفسه عرف الحقيقة لكن بعد فوات الأوان حينما أدركه الغرق قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) ﴾

[  سورة يونس  ]

 فقيل له:

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ﴾

[  سورة يونس ]

 فخيارك مع الإيمان خيار وقت، إما أن تؤمن في الوقت المناسب أو أنه لا بد من أن تؤمن ولكن بعد فوات الأوان.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور