المذيع :
من الدعاة الوسطيين المعتدلين الذين يدعون إلى الله عزَّ وجلَّ بهذه السماحة والبساطة ، ويحببون الناس في الإسلام ، وقد جمع الله عزَّ وجلَّ له من المعارف الكثير ، إلى جوار المعارف العلمية والفقهية والشرعية حباه الله عزَّ وجلَّ بما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، فإذا به يمزج بين هذه القضايا جميعاً ، ويقدم الإسلام في صورته الرائعة الناصعة .
نحن في شهر رمضان كما تعلمون وهو شهر الخيرات والبركات ، صحيح مضى أغلبه لكن ما بقي أهم مما مضى ، نحن أمام العشر الأواخر وما فيها من الخيرات والبركات لذلك أنا وأنتم جميعاً مدعوون لنصف ساعة متواصلة لنرتقي ونسمو مع أستاذنا الحبيب بكلماته ونصائحه ومحاضرته ، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجري الخير على لسانه دائماً ، وأن ينفع به حيثما حلّ وحيثما ارتحل ، أنا شخصياً سعيدٌ جداً ، ومسجد الهدى بهذا اللقاء ، وشرفٌ لنا أن نحظى بوقته الثمين في شهر رمضان الكريم ، أستاذنا الدكتور أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم ، الميكروفون والكاميرا والمسجد والمتابعون بين يديك تفضل .
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل بيته الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
لا بد من مقدمةٍ تلقي ضوءاً على موضوع هذا اللقاء الطيب .
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله ، والمخلوق المكرم والمفضل والمحاسب مسؤوليةً والمعاقب جزاءً :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
فلما قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول :
إن اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ في الْمَلائِكَةِ عَقْلاً بِلا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ في الْبَهائِم شَهْوَةً بِلا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ في بَني آدَمَ كِلَيْهِما ، فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِن الْمَلائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْبَهائِمِ .
[ الإمام علي رضي الله عنه ]
رُكّبَ الْمَلك من عَقْلٍ بِلا شَهْوَة ، وَرُكّبَ الحيوان من شَهْوَةٍ بِلا عَقْل ، وَرُكّبَ الإنسانُ من كِلَيْهِما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ، فهو المخلوق الأول عند الله رتبةً ، والمكرم تفضلاً ، والمحاسب مسؤوليةً ، والمعاقب جزاءً .
عظمة الدين أن تقدر الله حقّ قدره :
الآن : علاقة ليلة القدر بقوله تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) ﴾
الحقيقة عظمة هذا الإسلام أن تعرف الله حقّ قدره ، هو الخالق والمربي والمسير ، صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا ، أصل الجمال والكمال والنوال :
فـلو شاهدت عيناك من حسننـــــا الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابــنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبــــــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــا
ولــو لاح مـِــن أنـوارنــا لك لائــحٌ تـركــت جـمـيــع الـكـائـنـات لأجـلـنـــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعــــــى سهولته قلنا له قــــــــــــد جهلتنــــــــــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتـلـه وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنـــا
[ قصيدة أطع أمرنا لسيدي أبي المواهب الشاذلي رحمه الله ورضي عنه ]
إذاً الله هو صاحب الجمال والكمال والنوال ، أسماؤه حسنى ، صفاته عُلا ، إلهٌ عظيمٌ ، وربٌّ كريمٌ ، وخالقٌ بديعٌ ، هذه الذات الكاملة سُمِحَ لنا أن نتصل بها ، أن نشتق من كمالها ، من رحمتها ، من علمها ، من لطفها :
(( إنَّ محاسنَ الأخلاقِ مخزونةٌ عندَ اللهِ فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا منحهُ خُلُقًا حسنًا . ))
لا يمكن أن يكون المؤمن كاذباً ولا محتالاً ، أي مكارم الأخلاقِ مخزونةٌ عندَ اللهِ تعالى فإذا أحبَّ اللهُ عبدًا منحهُ خُلُقًا حسنًا .
الإيمان ينقل الإنسان من الضياع إلى الوجود ومن النقص إلى الكمال :
ابن القيم يقول : الإيمان هو القرب من الله عزَّ وجلَّ ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الإيمان ، فالإيمان ينقل الإنسان من الضياع إلى الوجود ، من النقص إلى الكمال ، من القسوة إلى الرحمة ، من الغلظة إلى الألفة ، الإيمان يظهر في حياة الإنسان ، في حياته التفصيلية ، في بيعه وشرائه واختيار حرفته ، واختيار زوجته ، وتربية أولاده ، وخروج بناته ، وعلاقته بالأقوياء والضعفاء ، والفقراء والأغنياء ، وعلاقته بالمال ، وعلاقته بأمور الحياة ، فهو منهج تفصيلي يبدأ من أخص خصوصيات الإنسان بالعلاقات الزوجية ، وينتهي بالعلاقات الدولية ، أنت معك تعليمات الصانع ؛ أنت اقتنيت سيارة غالية جداً ، تألق ضوءٌ أحمرٌ في السيارة في لوحة البيانات إن فهمته خطأً تألقاً تزيينياً احترق المحرك ، والكلفة مئة ألف ، أما إن فهمته ضوءاً تحذيرياً فأوقفت المركبة وأضفت الزيت سلم المحرك ، فأنت حينما تقتبس من الخالق تعليمات التشغيل أنت في سلام ، وفي كمال ، وفي استمرار ، أي الدين كله خير يعطيك رؤية بعيدة ، يعطيك حكمة ، يعطيك رحمة ، يعطيك كمالاً ، فلذلك هذا الدين دينٌ عظيمٌ ، دين خالق السماوات والأرض :
فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ : "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : ابْنَ آدَمَ ، خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ ، وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلَا تَتْعَبْ ، فَاطْلُبْنِي تَجِدْنِي فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتك فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
العبادات تعاملية وشعائرية :
لكن مع الأسف الشديد ، الشديد ، الشديد ، يوجد عندنا عبادات تعاملية ، وعبادات شعائرية ، الشعائرية : الصلاة ، والصوم - ونحن في الصوم - والحج ، والزكاة ، والنطق بالشهادة :
(( عَنْ ثَوْبَانَ ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أمتي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ . قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا . ))
[ رواه البيهقي وابن ماجه ]
أناسٌ يصلون كما نصلي ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا نأْخُذُ ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ، الصلاة انتهت ، ما دام هناك حرمة التيار انقطع مع الله عزَّ وجلَّ .
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ . ))
انتهى الصيام .
(( إِذَا حَجَّ رَجُلٌ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ ، وحجُّكَ مردودٌ عليكَ . ))
(( من حج بمالٍ حرامٍ وضع رجله في الركاب وقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ ، وحجُّكَ مردودٌ عليكَ . ))
الزكاة :
﴿ قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)﴾
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةَ " ))
[ رواه أبو داود والترمذي ]
كيف يقول النبي في الصحاح : (لَنْ تُغْلَبَ أمتي من اثْنَي عَشَرَ أَلْف مِنْ قِلَّةَ) ونحن ملياران من المسلمين ونحتل موقعاً استراتيجياً هو الأول في العالم ملتقى القارات الثلاثة ونملك ثلاثة ممرات مائية هي أصل التجارة الدولية ؟ الحديث عن إيجابيات بلادنا وديننا لا تنتهي ومع ذلك ومع الأسف الشديد ليس أمرنا بيدنا ، وللطرف الآخر علينا ألف سبيلٍ وسبيلٍ، وأنا من اجتهادي المتواضع أفضّل الحقيقة المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، بالحقيقة المرة نتحرك إلى التصحيح ، بالحقيقة الكاذبة نقف ونجلس في مكاننا ، فالحقيقة المرة مفيدة جداً في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ ، أننا نحن أمة الله كرمها الله :
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ﴾
فإن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر بل أمرنا بالمنكر ونهينا عن المعروف بل والعياذ بالله أصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، نحن في أخطر حالة وهي تبدل القيم ، قيمة الإنسان اليوم في ماله وإمكانياته ، لكن لا قيمة لأخلاقه :
الإيمان هو الخُلُق ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الإيمان
النبي الكريم آتاه الله مئات الخصائص التي انفرد بها ، ومع كل ذلك حينما أراد الله أن يمدحه مدحه بأخلاقه ، أخلاقه بطولته :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
للإنسان شخصية فذة لها جانب علمي وجمالي وأخلاقي :
الحقيقة أن الإنسان إذا عرف الله ، واصطبغ بطاعته ، واصطبغ بأنواره ، وبتوفيقه ، شخصية فذة لها جانب علمي ، ما اتَّخذَ اللهُ وليَّاً جاهِلاً ولوِ اتَّخذَهُ لَعَلَّمَهُ ، لها جانب جمالي ، المؤمن سعيد ، هناك سعادة وهناك لذة ، اللذة حسية مادية لها أسباب ثلاث ، الإنسان دائماً ينقصه أحد الأسباب ، يحتاج إلى وقت وإلى صحة وإلى مال ، في البداية يوجد وقت ويوجد صحة ولا يوجد مال ، بالوسط يوجد مال ويوجد صحة ولا يوجد وقت ، بالنهاية يوجد مال ويوجد وقت ولا يوجد صحة ، أما السعادة لمجرد أن تنعقد لك مع الله صلة ولا تقول : ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني هناك مشكلة كبيرة في الإيمان ، أنت مع أصل الجمال والكمال والنوال ، مع الذات الكاملة ، مع صاحب الأسماء الحسنى .
من اتصل بالله اشتق منه الكمال :
أنت حينما تنعقد لك مع الله صلة تشتق منه الكمال ، مثلاً الله عزَّ وجلَّ قال :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
(فَبِمَا) يا محمد ، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) أي يا محمد أنت بسبب اتصالك بنا اشتققت الرحمة منا ، انعكست هذه الرحمة ليناً ، وانعكس هذا الدين محبةً (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) وأنت أنت بالذات ولو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوةً ، افتراضاً طبعاً ، ولاصطبغ القلب قسوةً (لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هذه الآية يحتاجها أي أب ، وأية أم ، والمعلم ، والأستاذ ، والمدرس ، وأي وظيفة ، وأي وظيفة قيادية في الأرض ، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي المؤمن شخصية فذة له جانب علمي ، ما اتَّخذَ اللهُ وليَّاً جاهِلاً ولوِ اتَّخذَهُ لَعَلَّمَهُ ، شخصية أخلاقية ، ابن القيم يقول : الإيمان هو الخلق ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الإيمان ، والمؤمن شخصية جمالية :
فَلَوْ شَاهَدَتْ عَيْنَاكَ مَنْ حُسْننَا الَّذِي رأوه لَـمَّـا وَلَّـيْـتَ عَـنَـا لـغَـيْـــرُنَا
وَلَـوْ سَمِعَـتْ أُذُنَاكَ حُسْنَ خِطَابِنَـــا لخَلَعتَ ثِيَاب الْعُجْبِ عَنكَ وَجِئْتِنَا
أبيات كثيرة جداً ، لكن ليلة القدر سُمِح لك أن تنعقد لك صلة مع الله ، مع أصل الجمال والكمال والنوال ، مع الذات الكاملة ، مع صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا ، يجب أن تقول : أنا أسعد إنسان في الأرض ، هذه ثمار الدين ، ثمار جمالية ، ثمار علمية ، ثمار اجتماعية ، ثمار تواصلية مع الآخرين ، ليلة القدر عرفت قدر الله خالق الأكوان ، رب الأرض والسماوات ، الإله العظيم صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا :
(( لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إليّ ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمقبلين؟ ))
ذاتٌ كاملةٌ ، أصل الجمال والكمال والنوال ، سمح لك أن تتصل به ، من أنت؟! إنسان مع إنسان بمنصب رفيع لا يتاح له بسنة أن يلتقي به ، يقول لك : اتصل بي يا عبدي أنا أستمع إليك ، سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه ، ألا تكفي هذه الكلمة ؟ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه ، خالق الأكوان ، رب الأرض والسماوات ، الذات الكاملة ، هناك مليارات المجرات ، درب التبابنة مجرة متواضعة ، المجموعة الشمسية بأكملها نقطة في هذه المجرة ، شيء عظيم جداً .
التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله :
لذلك يوجد عندنا آيات كونية وآيات تكوينية وآيات قرآنية ، الكونية خلقه ، والموقف الكامل التفكر :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ﴾
أخي الكريم ؛ الأرض تسير حول الشمس دورة كل عام بمسار بيضوي إهليلجي ، هذا المسار له قطران قطرٌ أطول وقطرٌ أصغر ، الأرض الآن بالقطر الأطول تتجه نحو القطر الأصغر ، لمَّا اتجهت نحو القطر الأصغر بحسب قانون الجاذبية لا بد من أن تنجذب إلى الشمس ، وإذا انجذبت إلى الشمس تنتهي الحياة في وقت قصير ، تحترق ، ما الذي يحدث ؟ قال : ترفع الأرض سرعتها لينشأ من رفع السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة فتبقى على مسارها :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾
تابعت سيرها إلى القطر الأطول ، المسافة زادت ، الجاذبية ضعفت ، لا بد من أن تتفلت من جاذبية الشمس ، وإن تفلتت الحرارة 260 درجة تحت الصفر ، تنتهي الحياة كلياً إذا انجذبت أو تفلتت ، الآن تخفض الأرض سرعتها لينشأ من خفض هذه السرعة قوةٌ نابذةٌ أقل تكافئ القوة الجاذبة الأقل تبقى على مسارها (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا) ، يوجد عندنا من هذه الآية ألف وثلاثمئة آية في القرآن ، آية الأمر تقتضي أن نأتمر ، آية النهي تقتضي أن ننتهي ، القصة أن نتعظ ، ماذا نفعل بألف وثلاثمئة آية ؟ جاء الجواب : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) الشاهد (وَيَتَفَكَّرُونَ) فعل مضارع يفيد الاستمرار (فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ، يوجد ألف وثلاثمئة آية هي عناوين لموضوعات التفكر ، والتفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله وأوسع باب ندخل منه على الله ، لأنه يضعنا وجهاً لوجهٍ أمام عظمة الله.
الدين نقلة نوعية تؤكد للإنسان إنسانيته :
هؤلاء أهل النار سمح لهم أن يتحدثوا والله ونقل لنا بعض كلامهم ، أي ما عرفوا الله العظيم :
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ﴾
ضع تحت كلمة (الْعَظِيمِ) عشرة خطوط ، إن عرفت الله كما ينبغي لا يمكن أن تعصيه ، للتقريب : مواطن راكب سيارته ، الإشارة حمراء ، لماذا يقف ؟ يعلم واضع قانون السير وزير الداخلية جعل هذه الإشارة لتنظيم السير ومن يخالفها في بعض البلاد تسحب منه إجازة السوق - القيادة - سنة بكاملها ، لأنه يعلم أن واضع القانون علمه يطوله وقدرته تطوله لا يمكن أن تعصيه :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ﴾
علمه يطولك وقدرته تطولك ، كيف تعصيه ؟ بماذا أمرك ؟ أي ممكن أن تأكل ألف نوع من الفواكه عدا الخمر ، عدا لحم الخنزير ، المنهيات ثلاثة بالألف ، كل شيء مباح لك ، المرأة : تتزوج ، المال : تعمل ، أن تكون في مرتبة عالية : تتفوق ، كل طموحاتك في الحياة وحققت الدين مئة بالمئة ، أما الدين فهو صلح مع الله ، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، فلذلك الصلح مع الله نقلة نوعية مذهلة ، يجب أن تقول : ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني ، إذا كنت مع الله كان الله معك ، هو الإله العظيم ، القوي ، الرحيم ، فلذلك الدين نقلة نوعية تؤكد للإنسان إنسانيته :
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾
أوصاف من شرد عن الله عزَّ وجلَّ :
أما دقق الآن؛ من عزف عن الدين (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) وصف القرآن ، لكن نبضه ثمانون ، وضغطه 8/12 عند الله ميت لأنه لم يعرف الله ، ولم يعرف سر وجوده ، ولا غاية وجوده ، هو ميت .
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4) ﴾
خشبة .
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) ﴾
قرآن كريم ، خمسة أوصاف لمن شرد عن الله عزَّ وجلَّ ، فقضية الإيمان ليست قضية تحصيلية قضية وجودية .
آيات الله في الكون تدل على وجوده ووحدانيته وكماله :
هناك أشياء العقل لا يصدقها ، أبسط آية كأس الماء الذي نشربه ، جميع الأجسام بالأرض المادية والسائلة والصلبة والغازية على الحرارة تتوسع وتتمدد ، وعلى البرودة تنكمش ، أبداً هذا قانون سار على كل أنواع المواد في الأرض ؛ الصلبة والغازية والسائلة إلا الماء فيه استثناء مذهل ، لولا هذا الاستثناء لما كان هذا اللقاء ، ولا كان هناك أردن ، ولا ألمانيا ، ولا العالم ، هذا الماء كأي عنصر آخر تُبرده ينكمش ، تسخنه يتمدد ، إلا بحالة نادرة جداً الحرارة 20 ، 15 ، 10 ، 5 ، +4 ، يزداد حجم الماء تقل كثافته يطفو ، لولا هذا الاستثناء لا يوجد حياة بالأرض ، وكلما تجمدت طبقة تزداد كثافتها تغوص بعد حين تتجمد البحار كلها ، ينعدم المطر ، يموت النبات ، يموت الحيوان ، يموت الإنسان ، أوروبا بأكملها ، أمريكا بأكملها ، آسيا بأكملها ، بلادنا ، لولا هذا الاستثناء ليس هناك حياة ، يد من ؟ علم من ؟ قدرة من ؟ حكمة من ؟ والله يوجد مليار آية كونية تدل بشكل صارخ على وجود الله ووحدانيته وكماله ، (ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي؛ فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتك فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) .
من ذاق طعم القرب من الله كان أسعد إنسان في الأرض :
إذا كان هناك شخص قوي وأعطاك أمراً تخاف ، خالق الأكوان يوجد بالقرآن أوامر ونواه الأولى أن تطيع الله عزَّ وجلَّ :
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾
طفل أخذ من خاله خمسين ديناراً ، ومن خاله الثاني أخذ خمسين ، ومن عمه أخذ خمسين ، ومن عمه الثاني أخذ خمسين ، قال لك : معي مبلغ عظيم ، هذا طفل يوجد معه مئتا دينار ، الآن لو فرضنا مسؤولاً كبيراً بدولة عظمى قال : أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً تقدر أنت هذا المبلغ بمئتي مليار دولار ، العظيم قالها طفل يملك مئتي دينار ، قالها مسؤول كبير مئتي مليار ، فإذا قال الله عزَّ وجلَّ :
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) ﴾
(ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي؛ فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتك فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، لو ذاق الإنسان طعم القرب من الله لكان أسعد إنسان في الأرض .
سيدنا رسول الله بالغار كان أسعد إنسان ، وكان احتمال موته كبيراً ، الله عزَّ وجلَّ أعطى السكينة لسيدنا يونس وهو في بطن الحوت ، أعطاها لإبراهيم وهو في النار ، أعطاها للنبي وهو في الغار ، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ فلا بد من طلب العلم .
طلب العلم واجب على كل مسلم :
الجماد وزن ، حجم ، طول ، عرض ، ارتفاع ، النبات ينمو والحيوان يتحرك ، أما الإنسان له من الجماد وزن ، حجم ، طول ، عرض ، ارتفاع ، وله من النبات النمو ، وله من بقية المخلوقات الحركة ، إلا أن الله خصه بقوةٍ إدراكيةٍ ، القوة الإدراكية تميز بها تلبيتها بطلب العلم فلا بد من طلب العلم .
إذا أرَدَت الدنيا فعليكَ بالعِلم ، وإذا أرَدت الآخرة فعليكَ بالعِلم ، وإذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم ، والعِلمُ لا يُعطيك بَعضَهُ إلا إذا أعطيتَه كُلّك ، فإذا أعطَيتَه بَعضَكَ لم يُعطِكَ شيئاً ، ويَظلُّ المرء عالِماً ما طَلَبَ العِلم ، فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهِل ، طالبُ العِلم يُؤثِرُ الآخرة على الدنيا فيربَحهُما معاً ، بينما الجاهل يُؤثِر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
التوحيد فحوى دعوة الأنبياء جميعاً :
الآن ممكن آية واحدة أقل من سطر تلخص فحوى مضمون دعوة الأنبياء جميعاً ، والرسُل الذين ذكروا أو الذين لم يذكروا ، قال :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ) هذه (مِن) تفيد استغراق أفراد النوع ، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، العلماء قالوا : التوحيد نهاية العلم والعبادة نهاية العمل ، طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفةٌ يقينيةٌ ، تفضي إلى سعادة أبدية .
أدعو الله لإخوتي الكرام جميعاً المستمعين والمشاهدين أن يحفظ لهم إيمانهم ، وأهلهم ، ومن يلوذ بهم ، وصحتهم ، واستقرار بلادهم ، وهذه نعمةٌ لا تعرف إلا إذا فقدت ، وأن ينالوا مرادهم .
المذيع :
بارك الله فيكم أستاذنا الحبيب وجزاك الله خيراً على هذه الكلمات الطيبة ، وكم نتمنى أن نسترسل لكن كما ذكرت فضيلتك نطرح أسئلة سريعة جداً ، الآن باعتبار نحن نعيش في الغرب يا أستاذنا الحبيب لا نتحدث الآن عن الغربيين بل عن بعض المسلمين الذين ولدوا في هذه البلاد الجيل الثاني والثالث مازالوا ينظرون إلى الصوم على أنه هذا التعذيب والجوع والعطش والحرمان ، والإقناع معهم بالدليل الشرعي قد لا يكون مقبولاً ، وفضيلتك صاحب بحر كبير جداً في الإقناع العقلي كيف نقنعهم عقلياً ؟
التعريف بالآمر هو الهدف الأول لإقناع الناس بالدين :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر كحال الناس اليوم في أوروبا ولم تعرف الآمر تفانيت في معصية الآمر ، من جهة ؛ لماذا بقي النبي عشر سنوات في مكة ؟ كل الآيات المكية تعريف بالآمر وبالدار الآخرة فقط ، هذه المرحلة ألغيت من حياتنا ، رأساً الصيام ، الصوم ، الحج ، الزكاة ، البيع ، الشراء ، لم يعرف من هو الآمر ، إذا عرفت من هو الآمر تفانيت في طاعته ، إن لم تعرف من هو الآمر تفننت في التفلت ، فالمرحلة المكية ألغيت من حياتنا ، وهناك ألف وثلاثمئة آية بالقرآن تتحدث عن الكون والإنسان ، هذه الآيات أصل في العقيدة ، هذه عناوين موضوعات التفكر (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) حتى تضع بجانب اسمك حرف (د) ونقطة تدرس ثلاثاً وعشرين سنة ، وحتى تستحق الجنة إلى أبد الآبدين ليس عندك وقت لأن تسمع درساً ؟! تحضر خطبة جمعة ؟! تقرأ القرآن ؟! تقرأ التفسير ؟! تحضر سهرة يوجد فيها عالم رباني ؟! فإذا الإنسان استغنى عن الله استغنى الله عنه ، والقضية محسومة ، وهناك موت ، الموت يلغي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، يلغي كل شيء ، بيت ، زوجة ، بنات صبايا ، شباب ، سهرات ، لقاءات ، ولائم ، عزائم ، سهر ، سفر ، سياحة ، إلى قبر .
عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
إذا لم يدخل الموت بحسابنا اليومي أو الساعي لن نرضى بالموت .
كنت مرةً في أمريكا قال لي شخص : ماذا شاهدت هناك ؟! بجلسة عامة في الشام ، ماذا أقول له ؟ أنا جلست شهراً ونصف الشهر هناك ، قلت له : يعيشون لحظتهم فقط ، وهمهم الرفاه فقط ، ولكن يوجد تقدم في السن ، ضعف بالبنية ، موت ، قبر ، برزخ ، جنة ، ليسوا هنا إطلاقاً ، يعيشون لحظتهم ، وهمهم الرفاه ، وهذا المبدأ يسري في العالم كله الآن ، الآخرة ليست داخلة إطلاقاً بحساباتنا ، أي مؤتمر يعقد الآخرة لا تذكر إطلاقاً ، تنمية ، غنى ، استقلال ، ممكن ، كلها أهداف أرضية ولا يوجد أي هدف علوي ، هذا اجتهادنا .
المذيع :
نعم أستاذنا لو استطعنا أن نربط بين الصيام وقضايا الأمة ماذا نقول للاهتمام والانشغال بقضايا الأمة ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
سيدي والله هناك رأي لعله يكون غير مقبول : لا أصوم من أجل البحث عن إيجابيات الصيام ، أنا أصوم لأنه عبادة من عند الخالق ، مجند بخدمة إلزامية رآه اللواء قال له : ازحف ، لا يتردد ثانية لأنه رأى قوته ، إذا رأيت قوة الله ، وعظمة الله ، ورحمة الله ، ومودة الله ، تستجيب استجابة مذهلة ، لا يوجد استجابة لا يوجد معرفة بالله ، عشر سنوات في مكة من أجل أن نعرف الله ، الملخص : إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في معصية الآمر .
المذيع :
رمضان يا أستاذنا هو صيام ، وقرآن ، وذكر ، وتلاوة ، ومسجد ، وتراويح ، ما الحصاد الذي يمكن أن ينبغي الخروج به من شهر رمضان ؟ آخر الحصاد ، أو مُجمل الحصاد ؟
الدين من دون اتصال بالله ممل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
انظر يا سيدي أنا يوجد لي عينان ، وكل شخص من الإخوة الكرام له عينان ، هذه العين ما قيمتها بالظلام الدامس ؟ لو جاء شخص كفيف البصر كلياً مع شخص عيونه 6/6 أعلى درجة من الدقة ولكن لا يوجد ضوء ، هذا مثل مادي :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) ﴾
العقل من دون نور إلهي يلحد ، يصبح مادياً ، الذين يقهرون الشعوب أليسوا بشراً؟ لم يشاهدوا الله أبداً ، لم يشاهدوا البصير ، فالله عزَّ وجلَّ كما أن الضياء الكهربائي أو الشمسي سبب أساسي للعين أن ترى ، النور الإلهي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) ، إذا لم يكن هناك اتصال مع الله حقيقي وسبقه استقامة تامة وعمل صالح لا يوجد خط ساخن مع الله ، فالدين يصبح تقاليد وأعباء ، دائماً الدين من دون الاتصال بالله ممل ، والناس ينصرفون عنه .
المذيع :
جزاكم الله خيراً ، وبارك الله فيكم أستاذنا الحبيب ، سعدنا جداً واستفدنا جداً ، وكانت محطة من المحطات الروحانية في شهر رمضان ، لو استطعنا أن نختم بالنصائح الذهبية للأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، آخر نصائح ذهبية من حضرتك للمسلمين ؟
نصائح ذهبية للدكتور النابلسي :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أول نصيحة وآخر نصيحة : إذا أرَدَت الدنيا فعليكَ بالعِلم ، وإذا أرَدت الآخرة فعليكَ بالعِلم ، وإذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم ، والعِلمُ لا يُعطيك بَعضَهُ إلا إذا أعطيتَه كُلّك ، فإذا أعطَيتَه بَعضَكَ لم يُعطِكَ شيئاً ، ويَظلُّ المرء عالِماً ما طَلَبَ العِلم ، فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهِل ، طالبُ العِلم يُؤثِرُ الآخرة على الدنيا فيربَحهُما معاً :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) ﴾
جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، جنة الدنيا جنة القرب والآخرة جنة الخلد ، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فلا بد من طلب العلم ، لا بد من إرادة تحملك على تطبيق ما تعلمت ، إذا لم يكن بالإمكان أن تستقيم فأنت لست إنساناً من الأساس ، مثال : من أجل صحته قال له الطبيب : اترك اللحم ، يتركه نهائياً ، يجب أن تمشي ، بع سيارتك ، يبيعها ، يملك بيتاً مساحته حوالي أربعمئة وخمسين متراً ولكنه في الطابق السابع قال له : اشترِ بيتاً أرضياً من أجل قلبك ، مباشرة يشتري بيتاً أرضياً ، طبيب عادي تنفذ تعليماته من دون مناقشة وخالق الأكوان أعطاك قرآناً كريماً فيه أوامر ، نواه ، مواعظ ، قصص ، فنحن القرآن إذا لم نقرأه بعدنا عن الدين كُلياً :
(( فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه . ))
المذيع :
جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم .
باسمي شخصياً وباسم مسجد الهدى إماماً وإدارةً ورواداً والمسلمين في ألمانيا نشكر لفضيلتكم هذا اللقاء الرائع النافع الماتع جداً ، وكل عام وأنتم بخير ، ونتمنى لكم السلامة والصحة أينما كنتم ، وأن ينفع الله عزَّ وجلَّ بكم الإسلام والمسلمين في كل مكان ، شكراً جزيلاً.
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا أولاً أطرب من كلمة ألمانيا من إخواننا المصريين لطيفة جداً ، واللغة المصرية جميلة جداً .
المذيع :
نحن سعدنا بك مرة في طارق بن زياد في فرانكفورت ، والآن سعدنا بك في مسجد الهدى ، وقريباً نراك مباشر هنا إن شاء الله .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
انظر سيدي المحبة والسعادة والشوق والاحترام لا يمكن أن تكون من طرف واحد لأن الآية تقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ﴾
المذيع :
أحبك الله ، ورزقنا وإياك محبته ، وجمعنا في الجنة يوم القيامة ، آمين ، شكراً جزيلاً وتحياتي وسلامي لفضيلتكم .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
شكراً لك على هذا اللقاء الطيب .
الملف مدقق