- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
فضل العشر من ذي الحجة :
أيها الأخوة الكرام . . . نحن مُقْبِلون على عشرة أيام ، هي من أفضل أيام العمر ، إنها الأيام العشرة مِن ذي الحجة ، والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، وحثَّ فيها على العمل الصالح ، وعلى بعض العبادات ، بل إن الله تعالى في بعض التفاسير أقسم بها :
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
وهذا القسم وحده يكفي أن تكون هذه الأيام مِن أفضل أيام الدنيا في حياة المسلم ، إذ أن العظيم لا يُقْسِمُ إلا بعظيم . .
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
هذا يستدعي مِن المسلم أن يجتهد في هذه الأيام العَشْر ، وأن يكثر من الأعمال الصالحة ، وأن يحسن استقبالها واغتنامها ، هذا محور هذا الدرس إن شاء الله تعالى ، وهو أنسب موضوعٍ لهذه الأيام العشر ، التي نحن مقبلون عليها .
العلماء قالوا : بأي شيءٍ تستقبل هذه الأيام العشر ؟ تستقبل أولاً بالتوبة الصادقة ، والمؤمن كثير التوبة مع كل مَوْسم ، في كل مناسبة ، في مَطْلَع أي عبادة ، في قرب مجيء أي موسم يبدأ بالتوبة الصادقة ، لقوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾
وفي آيةٍ أخرى :
﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾
وكما تعلمون التوبة علمٌ وحالٌ وعمل ، فكلما ازداد علمك ازدادت معرفتك بالذنوب ، كلما ازدادت معرفتك بالذنوب اشتدَّت حالات الألم لما بدر مِن ذنب ، العلم بالذنب والندم عليه يستدعيان الإقلاع عنه فوراً ، والعزيمة على ألا تقع به مستقبلاً ، وأن تُصَحِّح ما بدر منك في الماضي ، إقلاعٌ ، وعزيمةٌ ، وإصلاح ، وندمٌ ، وعلم .
كيفية استقبال هذه الأيام المباركة :
سيأتي بعد قليل بعض الأحاديث الشريفة التي نوَّه بها النبي صلى الله عليه و سلم بفضل هذه الأيام العشر ، لابدَّ من أن يستقبل المسلم هذه الأيام بعزمٍ جادٍ على اغتنامها ؛ في إتقان عباداتها ، وفي الإكثار من العمل الصالح ، وفي أداء ما أقرَّه العلماء استنباطاً من السُنَّة الشريفة ، طبعاً الآية الكريمة :
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
الشيء الثاني : البُعد عن المعاصي ، فقد يقول قائل : هذا الشيء ثابت في حياة المؤمن ؟ نقول : نعم . ولكن الذي هو مقصِّر في معصية ينبغي أن يبتعد عنها ، الذي تجول في خاطره ينبغي أن تُنْزَعَ منه ، الذي تركها ينبغي أن يثبت على تركها . دائماً عندنا قاعدة : إذا جاء الأمر للمجتهد أن اجتهد ، أي اثبت على اجتهادك . إذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام، أو إذا أُمر النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾
هل معنى ذلك أنه ليس متقياً لله ؟ لا ، هو متقٍ لله ، فإذا الأمر للمتقي أن اتقِ، أي استمر واثبت على تقواك .
أيها الأخوة . . . العلماء قالوا : كما أن الطاعات أسباب القُرب من الله تعالى ، كذلك المعاصي أسباب البُعد عن الله تعالى ، فبالنهاية ؛ طاعةٌ تقرب ، ومعصيةٌ تبعد ، عملٌ تقبل به وعملٌ تعرض به ، عملٌ يوصلك بالله ، وعملٌ يقطعك عن الله ، وفي النهاية المؤمن الصادق يتحرَّى كل عملٍ يوصله بالله ، ويبتعد عن كل عملٍ يقطعه عن الله ، الإنسان قد يحرم رحمة الله عزَّ وجل بسبب ذنبٍ ارتكبه ، فكل من أراد لقاء الله فعليه بالطاعة والعمل الصالح ، والآية الكريمة :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
إذاً نستقبل هذه الأيام العشر بالتوبة .
هناك سؤال : ما برنامج العبادات الذي ينبغي أن يكون مُطَبَّقاً على مدار العام ؟ لابدَّ مِن صلاة الفجر في وقتها ، ولابدَّ من تلاوة بعض القرآن ، ولابدَّ من التفكُّر في خَلق السموات والأرض ، ولابدَّ من الدعاء ، ذكرٌ ودعاء وتفكرٌ وتلاوةٌ وصلاة ، حصة يومية إما صباحاً أو مساءً ، إما قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، من آناء الليل أو في أطراف النهار ، لابدَّ من جلسةٍ تتصل من خلالها بالله عزَّ وجل ، فهذه ينبغي أن تكون في الأيام العشر واضحةٌ جداً ، فالطاعات أسباب القرب ، والمعاصي أسباب البُعد .
فضل الأيام العشر كما ورد في القرآن الكريم :
الآن ، فضل هذه الأيام العشر كما ورد في القرآن الكريم ، الآية التي تشير إلى ذلك هي قوله تعالى :
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
والليالي العشر في رأي بعض المفسرين هي الأيام العشر الأولى مِن ذي الحجة وهذا ما عليه جمهور المفسرين ، والسلف الصالح ، والخلَف الصالح .
وهناك آية ثانية ، أيضاً أشار العلماء إلى أنها تعني الأيام العشر ، قال تعالى :
﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾
أيضاً جمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي الأيام العشر الأولى مِن ذي الحجة ، هذه آيةٌ ثانية .
والنبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ شريفٍ يقول :
(( أفضل أيام الدنيا أيام العشر- أي عشر من ذي الحجة - قيل : ولا مثلهن في سبيل الله ؟ ))
لو أن هذه الأيام العشر يا رسول الله كانت في الجهاد ، في القتال ، في بذل الغالي والرخيص ، في بذل النفس والنفيس . فقال عليه الصلاة والسلام :
((ولا مثلهن في سبيل الله ؟ ))
دققوا : النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى . .
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
وكلام النبي عليه الصلاة والسلام وحيٌ غير متلو ، وهو يقول :
(( أفضل أيام الدنيا أيام العشر - أي عشر من ذي الحجة - قيل : ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عفَّر وجهه بالتراب ))
أي استشهد ، وبذل روحه ونفسه في سبيل الله ، معنى ذلك الحُجَّاج في بؤرة النفحات الإلهية ، في المِحْرَق ، أما غير الحجاج فيحومون حول هذه البؤرة ، الحجّاج الصادقون في يوم عرفة و يوم عرفة هو أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ؛ يوم المغفرة ، يوم العتْق من النار ، يوم قبول الله لعباده ، يوم إكرامهم ، يوم أن يعودوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم ، ما رئي في هذا اليوم الشيطان في حالةٍ يائسة كهذا اليوم ، لأن الله غفر لأهل الموقف ، وقبلهم ، وعفا عنهم ، ورضي عنهم ، ومَن وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له ، فلا حجَّ له ، هؤلاء في البؤرة ، في المِحْرَق ، أما غير الحُجَّاج فيجب أن يحوموا حول هذه البؤرة وحول هذا المحرق ، فكل إنسان لم يتح له أن يحج إلى بيت الله الحرام ، عليه أن يجعل مِن هذه الأيام العشر مُناسبةً للقرب من الله عزَّ وجل ، هناك عباداتٌ استثنائية ، وبإنفاقٍ استثنائي ، وبعلم وتعليمٍ استثنائي ، وبعملٍ صالحٍ استثنائي . مما يشير إلى فضل هذه الأيام العشر أن فيها يوم عرفة ، يوم الحجِّ الأكبر ، يوم مغفرة الذنوب ، يوم العتق مِن النار ، ولو لم يكن في العشر من ذي الحجة إلا يوم عرفة لكافاها ذلك فضلاً ، من هذه الأيام يوم عرفة .
واللهِ أيها الأخوة ، لا يصح أن تقول مِن أعماق أعماق أعماق قلبك لإنسان : هنيئاً لك إلا إذا اصطلح مع الله ، إذا اشترى بيتاً ودعاك لزيارته ، ورأيت بيتاً رائعاً ، واسعاً ، جميلاً ، مُطِلاً ، فخماً ، مفخَّماً تقول له : هنيئاً لك على هذا البيت ، لكن هل يدوم له هذا البيت؟ لابدَّ من أن يخرج منه مرةً بشكلٍ أفقي ، كل واحدٍ منا لابدَّ من أن يخرج من بيته يوماً بشكلٍ أفقي ، لابدَّ من أن يخرج دون أن يعود .
كل واحد منا ما دام في عمره بقية يخرج من البيت الساعة العاشرة أين فلان ؟ تأخر ، لم يخبرنا ، يقلق أهله عليه ، إلا الذي توفاه الله عزَّ وجل ، فإذا خرج مِن البيت ودفن ، لا أحد يسأل في السهرة عنه أنه تأخر ، انتهى الأمر ، لن يرجع ، ذهب ولن يعود .
فلو لم يكن في هذه الأيام العشر إلا يوم عرفة لكفاها فخراً ، والإنسان لا يمكن أن يقول لإنسانٍ آخر : هنيئاً لك إلا في حالةٍ واحدة إذا اصطلح مع الله ، أما في شراء بيت ، في نجاح تجارة ، في نيل شهادة ، في تسنُّم منصب ، هذه كلها زائلة ، أما في معرفة الله وطاعته والعمل الصالح فهذه باقية .
اجتماع أمهات العبادات في هذه الأيام :
قيل : إن هذه الأيام فيها أيضاً يوم النحر ، وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ))
نحن بحياتنا رموز كثيرة ، العَلَم رمز ، العلم قماش أحمر وأسود وأخضر وأبيض مثلاً ، لو إنسان احتقر العلم يعاقب أشد العقاب ، يقول لك : هذا قماش . لا ، هذا ليس قماشاً هذا رمز للوطن ، فبحياة كل مجتمع مقدَّسات ، كذلك الإنسان في يوم النحر ، هو الحقيقة ينحر الأضحية ، لكنه ينحر شهواته المُحَرَّمة ، ينحر كل رغبةٍ في معصية ، مِن رموز يوم النحر أنك في هذا اليوم اصطلحت مع الله ، وفي هذا اليوم نحرت كل شهواتك التي لا ترضي الله عزَّ وجل، فيوم النحر أيضاً من أيام عشر ذي الحجة .
وقال بعض العلماء ، وهو الحافظ بن حجر في - فتح الباري في شرح صحيح البخاري - : إن سبب امتياز هذه الأيام أن فيها اجتماع أمهات العبادات ؛ فيها الصلاة ، والصيام ، والصدقة ، والحج ، ولا يتأتّى ذلك في غير هذه الأيام .
الأيام العشر من ذي الحجة مِن أفضل ايام الدنيا بالنسبة إلى المسلم :
أيها الأخوة . . . أنتم مُقْدِمون على عشرة أيام ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عباسٍ رضي الله عنهما ، قال : قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام . قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ))
أي بذل حياته في سبيل الله . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له الأعمال ، فقال :
(( ما مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام . قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ـ هذا كلام النبي ـ إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ))
أي يقتل في سبيل الله .
إذاً في القرآن آيات ثلاثة ، وفي السنة عدة أحاديث ، وفي أقوال العلماء في شرح الأحاديث ، يتضح أن هذه الأيام مِن أفضل ايام الدنيا بالنسبة إلى المسلم .
الأعمال المستحبة في هذه الأيام :
1 ـ أداء مناسك الحج و العمرة :
ما هي الأعمال المستحبة في هذه الأيام ؟ بالمناسبة في الأيام العادية ؛ يوم الجمعة له خصوصية ، فيه ساعة استجابة ، أيام رمضان لها خصوصية ، أيام الحج لها خصوصية ، وقت السَحَر له خصوصية ، كأن الله عزَّ وجل أراد أن تكون هذه الأيام مناسبات خاصة :
(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ))
وقت السحر له روحانية خاصة .
((لو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ))
وقت السحر له خصوصية ، ويوم الجمعة له خصوصية ، فيه ساعة استجابة ، العشر من ذي الحجة لها خصوصية ، أيام رمضان لها خصوصية ، هذه خصوصيات الزمان ، أما خصوصيات المكان فالمسجد له خصوصية ، بيت الله الحرام له خصوصية .
قال العلماء : يُفَضذَل أن يكثر المسلم من أوجه الخير ، وأنواع الطاعة ، هكذا كان السلف الصالح يفعل في هذه المواسم ، فقال بعض العلماء : كان السلف الصالح يعظِّمون ثلاث عشرات ؛ العشر الأخير من رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجة ، والعشر الأول من محرَّم . أعظم الأعمال في هذه الأيام العشر أداء مناسك الحج والعمرة . .
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾
خالق الكون يدعوك لزيارته ، والعظيم إذا دعاك بماذا يكرمك ؟ إذا كان البيت بيت الله العادي . . من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ، ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر . فكيف إذا زرته في بيته الحرام ؟ أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ؟ إذاً أفضل الأعمال أداء مناسك الحج والعمرة .
قواعد الحج :
لكن بالمناسبة ، الحج له قواعد ، الحج على المستطيع ، الشيء الذي يُحَيِّرني والله أيها الأخوة أن أناساً كثيرين يريد أن يقترض ليحجَّ بيت الله الحرام ، أتعلِّمون الله بدينكم ؟ فإذا الله عزَّ وجل ما فرضه إلا على المستطيع أيعقل أن تقترض مالاً مِن أجل أن تحج ؟ اليوم قال لي أخ : فلان عليه مئة ألف ليرة ، وصاحب هذا الدين في أمسّ الحاجة إليه ، وهو يريد أن يقترض ليحج هذا العام ، واللهِ شيء عجيب ، عليه مئة ألف ، وصاحب هذا الدين في أمسِّ الحاجة إليه ، ويريد أن يقترض هذا العام ليحج بيت الله الحرام ؟ قلت : والله أعلم ، هذا حج السمعة والرياء لا حج العبادة ، لأنك إذا أردت أن تعبده ينبغي أن تعبده وفق منهجه ، درء المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع ، أن تعطي صاحب الدين دينه مقدمٌ عن أن تقول : هذه الحجة الخامسة عشرة . وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))
(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
إذا السلطان لم يسمح لك ، كل أمة لها سلطان ، هناك تنظيمات ، السلطان ما سمح لك فنرشيه ، يجب أن نذهب بالرشوة ، أيعقل أن تبدأ أعظم عبادةٍ بمعصية ؟ أيعقل هذا ؟ أيعقل أن تبدأ هذه العبادة بتصريحٍ كاذب ؟ هكذا .
الحج المبرور هو الحج الموافق لهدي النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد حدثني أخ فقال لي : هناك طريقة في الحج رائعة جداً . فقلت : تفضل ما هي ؟ فقال لي : نصلي العصر في جدة . في أي يوم ؟ قال : يوم عرفة نصلي العصر في جدة ، قلت له : أكمل ، قال : الطريق إلى مكة فارغ ، والله شيء جميل ، ندخل بيت الله الحرام ونطوف مع عشرة أشخاص فقط ، لا يوجد أحد ، ربع ساعة ، حول الكعبة تماماً ، والسعي نصف ساعة ، وعلى عرفات ، نصل إلى عرفات آخر سيارة ، والطريق سالك فارغ ، الآن نستقر بها عشر دقائق إلى أن تغيب الشمس ، الطريق كذلك سالك ، قلت له : أكمل لأرى ، قال لي : نصل فنرمي الجمرة الكبرى ونطوف طواف الإفاضة تقريباً الساعة الثامنة أو التاسعة مساءً ، فلا أحد هناك ، ونوكِّل برمي الجمار بالأيام الباقية - الثاني والثالث والرابع - قلت له : هذا وضعه مثل إنسان دُعي إلى وليمة ثمينة جداً ، وفي الوليمة دفتر حضور ، إذا وضع " ميم ، أي موجود " ثم رجع ولم يأكل شيئاً وضع " ميم " أنه موجود ولكنه لم يأكل ، لذلك أفضل أعمال هذه الأيام العشر أداء مناسك الحج والعمرة .
الحج المبرور . .
(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
هو الحج الذي لم يخالطه إثمٌ مِن رياءٍ ، أو سمعةٍ ، أو رفثٍ ، أو فسوقٍ ، بل رافقته الأعمال الصالحة .
2 ـ الصيام :
من هذه الأعمال الصالحة في هذه الأيام الصيام ، فإذا كان جسم الإنسان يتحمل ، عمله مريح ، متقاعد ، والصيام لا يتعبه ، إذا صام هذه الأيام أفضل ، ولكن بشرط ألا ينكر الصائم على غير الصائم ، وألا يأخذ عليه مأخذاً ، الصحابة كانوا في أعلى درجة مِن الأدب ، الآن إذا إنسان صام يوم نفل يطبِّل الدنيا بسببه ، فيقول : ألستم صائمين ؟ ! مثلاً صام يوم عاشوراء لا يبقي واحداً إلا ويقول له : ألم تصم ؟ اليوم هذا يوم فضيل . فإذا كنت صائماً فاسكت ولا تحرج الناس .
على كل الصحابة الكرام في أعلى درجة من الأدب ، ففي بعض الغزوات بعضهم صام وبعضهم أفطر ، بعضهم أخذ بالعزيمة ، وبعضهم أخذ بالرُخصة ، فلا الذي صام أنكر على المفطر ، ولا الذي أفطر أنكر على الصائم ، وهذا هو الأدب . فقد نجد إنساناً جسمه يتحمل الصوم ، متقاعد ، لا يوجد عنده شيء ، والنهار قصير ، صام هذه الأيام العشر ، و هناك إنسان عنده عمل شاق إذا صام تعطَّل عمله ، لم يتمكن أن يكمل إنجازاته فصام يوم عرفة فقط ، أنا بشكل مُلَطَّف : الذي عنده إمكان أن يصوم هذه الأيام كلها الأَوْلى أن يصومها ، والذي لا يوجد عنده إمكان فلا يصم ، بشرط ألا يأخذ الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لحكمةٍ رائعةٍ رائعة في بعض الغزوات أناسٌ صاموا وأناسٌ أفطروا ، اشتدَّ الحر ، فالمفطرون ذبحوا الذبائح ، وطبخوا الطعام ، ونصبوا الخيام ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ))
المفطرون ، فإذا إنسان فرضاً عنده بيوم برنامج عمل كثيف جداً ، ممكن أن ينجز خمسين إنجازاً ، وكلها أعمال صالحة ، فإذا كان الفطر أقوى له ينبغي أن يفطر ، أما إذا في مشقة بالغة جداً ، النبي أمسك كأس ماءٍ وأفطر أمام كل أصحابه ، فالذي لم يفطر هذا يعدُّ عند النبي الكريم عاصياً . فمرة رفع كأس ماءٍ وأفطر ، وبلغه أن بعضاً لم يفطر ، فقال :
((أولئك العصاة ))
هذه مزاودة على النبي .
((أولئك العصاة ))
لست أشد ورعاً منه ، ولست أحرص على صلتي بالله منه ، إذاً العمل المفضَّل في هذه الأيام من دون مشقة ، ومن دون أن تنبس ببنت شفه ، صم واسكت ، قال لي أخ كريم عافاه الله : أنه علَّم أولاده أي أكلة كل واشكر ، زيتون كل واشكر ، أي أكلة مهما كانت خشنة كل واشكر ، مرة طبخنا طبخة لم يحبها الأولاد ، تململوا قليلاً ، فقال لهم : كل واسكت .
تريد أن تصوم فصم واسكت ، تعمل مزاودات تحرج الناس ، تعلق تعليقات ، تستفهم. لقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :
(( كل عمل ابن أدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ))
العمل الأول إذاً : أداء مناسك الحج والعمرة لمن أكرمهم الله بالحج والعمرة .
العمل الثاني هو الصيام لمن قدر عليه ، أما صيام عرفة لغير الحجَّاج فهو سنة مؤكدة ، يوم ليس فيه مشكلة أبداً . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده))
الإمام النووي استحب أن تصام هذه الأيام استحباباً شديداً .
3 ـ الصلاة :
العمل الثالث في هذه الأيام : الصلاة ، وهي من أَجَلِّ الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً ، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه :
(( ما يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ))
4 ـ التكبير و التهليل و التحميد و الذكر :
قيل : ويستحب أيضاً التكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والذكر في هذه الأيام .
وذكرت لكم في مناسبةٍ سابقة أن الذكر واسع جداً ، فهذا الدرس ذكر ، هذا المجلس ذكر ، يتوهم الناس معنى مجلس ذكر أن فيه حضرة ، لا ، لا ، إذا حدثت الناس عن الله عزّ وجل ، عرفتهم بأسمائه ، بصفاته ، بكمال الأنبياء ، بشرح القرآن ، بشرح السُنَّة ، بمواقف الصحابة الكرام هذا من الذكر ، هذا ذكر دَعَوِي ، وهناك ذكر تَعْرِيفي ، و ذكر فقهي ، و ذكر تَعَبُّدي ، كل نشاطٍ يقرِّبك من الله فهو ذكر ، في هذه الأيام يستحب أن يكثر الإنسان من ذكر الله .
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ))
مع الأسف الشديد إذا الإنسان غضب من إنسان يقول له : لا إله إلا الله ، متى يوحِّد ؟ عند الغضب فقط ، وإذا صارت مشادة لدرجة خطيرة يقول له : صلِّ على النبي ، فالصلاة على النبي والتوحيد بمناسبات شاذَّة ، أما الأصل فأن تكثر من التوحيد ، ومن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ، والإمام البخاري يروي :
((أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى الأسواق في الأيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما ، ويكبُّر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً ))
وكان ابن عمر يكبِّر بمنى في تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه ، وفي مجلسه ، وفي مَمْشاه في تلك الأيام جميعاً . إذاً يستحب أن نكثر من التكبير ، والتهليل ، والذكر ، في هذه الأيام .
لكن بصراحةٍ مؤلمة هناك كلمات عند المسلمين فُرِّغَت من مضمونها ليس لها معنىً فالذي يطيع مخلوقاً ويعصي خالقاً ما قال الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة ، والذي يغشُّ المسلمين ، وكبَّر في هذه الأيام ، ما كبر ولا مرة ولو رددها ألف مرة ، لأنه رأى أن هذا الربح الوفير مِن هذا الغش أكبر عنده من طاعة الله ، والذي يطيع زوجته ويعصي ربه ما قالها ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة ، فكلمة الله أكبر كلمة الإسلام الأولى ، ومع ذلك تردد كثيراً دون أن نفقه إلى مضمونها ، أي أكبر من كل كبير ، أكبر من كل مغنم دنيوي ، بالحرب الله أكبر ، أي أكبر من كل عدو ، الإنسان مع ضعف إيمانه يكبر عدوه عليه ، فيقول : عنده صواريخ ، عنده سلاح نووي ، عنده أقمار صناعية ، عنده طائرات شبح ، نحن ضعاف ، فهذا ما رأى أن الله أكبر منه ، رآه كبيراً ولم يكن إيمانه قوياً ، فرأى هذه الجهة قويةً ونسي الله عزَّ وجل .
5 ـ الصدقة :
يستحب في هذه الأيام العشر الصدقة ، وهي من جُمْلَة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
و :
(( ما نقص مال من صدقة ))
6 ـ القيام بالأعمال الصالحة :
نذكر قوائم من الأعمال الصالحة ؛ قراءة القرآن ، تعلّم القرآن ، تعليم القرآن ، برُّ الوالدين ، الاستغفار ، صلة الأرحام والاقارب ، إفشاء السلام ، إطعام الطعام ، الإصلاح بين الناس ، الأمر بالمعروف ، النهي عن المنكر ، حفظ اللسان ، حفظ الفرج ، الإحسان إلى الجيران ، إكرام الضيف ، الإنفاق في سبيل الله ، أن تميط الأذى عن الطريق ، النفقة على الزوجة والعيال ، كفالة الأيتام ، زيارة المرضى ، قضاء حوائج المسلمين ، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، عدم إيذاء المسلمين ، الرفق بالرعيّة ، صلة أصدقاء الوالدين ، الدعاء للإخوة بظهر الغيب ، أداء الأمانات ، الوفاء بالعهد ، البرُّ بالخالة والخال ، إغاثة الملهوف، غضّ البصر ، إسباغ الوضوء ، الدعاء بين الأذان والإقامة ، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، الذهاب إلى المساجد ، المحافظة على صلاة الجماعة ، المحافظة على السُنَنِ الراتبة ، الحرص على صلاة العيد ، ذِكْر الله عقب الصلوات ، الحرص على الكَسْب الحلال ، إدخال السرور على المسلمين .
الآن من أين يوجعك ؟ تجد شخصاً همه إيذاء الناس ، يتلذذ بإيذاء الناس ، بإخافتهم ، أما المسلم فعمله الأول إدخال السرور على المسلمين ، الشفقة بالضعفاء والمساكين ، اصطناع المعروف ، الدلالة على الخير ، سلامة الصدر ، ترك الشحناء ، تعليم الأولاد والبنات، التعاون على البر والتقوى ، هذه قوائم من الأعمال الصالحة في هذه الأيام .
أيها الأخوة الكرام . . . هذه الأيام العشر من أفضل أيام الدنيا ، فإذا كان حُجَّاج البيت الحرام الآن حول الكعبة يطوفون ، وعند النبي يزورون ، فنحن أقل شيء علينا أن نكثر من الصيام ، والصلاة ، والصدقة ، والعمل الصالح في هذه الأيام العشر ، فلعل الله سبحانه وتعالى يتجلّى علينا بنفحةٍ من عنده .