الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كلَّما صغر الشيء احتاج إلى صنعةٍ بارعة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة البقرة، ومع الآية السادسة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ تعارف الناس على أن البعوضة لا قيمة لها، حشرةٌ حقيرة، يضربها الإنسان ويقتلها ولا شيء عليه، وهناك بعض الأحاديث الشريفة يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
فيما يبدو أن هذه الحشرة هيَّنةٌ على الناس، لكن الشيء الذي يَلفِت النظر هو أن الشيء كلما صَغُر كلما احتاج إلى صنعةٍ بارعة، فقد تجد مذياعاً كبيراً، أما إن رأيته صغيراً هكذا، أما إن رأيت ساعةً فيها مِذياع تنتبه، تشعر أن هناك صنعة.
هناك أحياناً آلات تصوير تُثَبَّت في قدَّاحة، تستخدم لأغراضٍ خاصَّة؛ آلة تصوير، وأحياناً آلة تصوير متحركة، أحياناً قطعة كحبة العدس تُلتَقط بها الأصوات وتُسَجَّل، فكلَّما صغر الشيء احتاج إلى صنعةٍ بارعة.
توصل أحد العلماء إلى جهاز يقيس عشرة مرفوعة إلى قوة خمسة عشر من أجزاء الثانية، أي رقم واحد أمامه خمسة عشر صفراً، ستة وستة اثنا عشر وثلاثة خمسة عشر، أي ألف مليون ملْيون جزء من الثانية، هذه الثانية ضربة واحدة، هل بإمكان إنسان أن يَصل إلى تجزيء ثانية إلى ألف مليون ملْيون جزء؟ أُعطي هذا الإنسان في جامعة في أمريكا الجائزة الأولى، يمكن أن يقاس الآن بهذا الجهاز زمن تفكك الذرة، وهناك تطبيقات كثيرة جداً، كلَّما دَقّ الأمر كلّما ظهر من خلاله عظمة الصانع، طبعاً الفيل كبير، والحوت الأزرق كبير، يبلغ وزنه مئة وخمسين طناً، يحوي خمسين طناً لحماً، وخمسين طناً دهناً، ويستخرج من الحوت ما يقدر بتسعين برميلاً زيت سمك، وجبة غذائِهِ أربعة أطنان، وإرضاع صغيره ثلاثمئة كيلو في كل رضعة، شيءٌ ضخم،
أما حينما ترى نملة؛ فيها دماغ، فيها ذاكرة، فيها جهاز هَضم، فيها جهاز إفراز، فيها جهاز مَعرفة، فيها جهاز شمّ، ويوجد لها نشاطات مخيفة، حينما ترى نحلة صغيرة، حينما ترى بعوضة،
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً﴾ .
البعوضة أيها الإخوة لها ثلاثة قلوب، قلبٌ مركزي وقلبٌ لكل جناح،
هذا القلب يُمِدُّ الجناح بطاقةٍ تجعله يرِفُّ أربعة آلاف رفةٍ في الثانية، هذه البعوضة عندها جهاز رادار، ففي ظُلمة الليل ينام طفلان على سريرهما تتجه البعوضة إلى الطفل مباشرةً دون أن تتجه إلى وسادة أو إلى ركن في الغرفة، فعندها جهاز رادار يكشف لها الكائن الحي فإذا وصلت إليه حلَّلت دمه، هناك دمٌ لا يُناسبها، قد ينام أخوان على سرير واحد، يستيقظ أحدهما، وقد أُصيب بمئات لدغات البعوض، والثاني سليم، إذاً عندها جهاز تحليل دم، تأخذ الدم الذي يناسبها، وتدع الذي لا يناسبها، والبعوضة من أجل أن تأخذ هذا الدم لابدّ من أن تميَّعه لأن الكرية الحمراء أوسع بلزوجتها من خرطوم البعوضة،
فلابد من أن تميع الدم حتى يجري في خرطومها، فإذا لدغت البعوضة هذا الطفل استيقظ وقتلها لابدّ من أن تخدره، متى يشعر الإنسان بلدغ البعوضة؟ بعد أن تطير، يضربها من دون فائدة لأنها تكون قد طارت، فهذه البعوضة الصغيرة فيها جهاز رادار، وجهاز تحليل، وجهاز تمييع، وجهاز تخدير، ولها جناحان يرفَّان أربعة آلاف رفَّة في الثانية،
ولها ثلاثة قلوب؛ قلبٌ مركَّزي، وقلبٌ لكل جناح، وبإمكان البعوضة أن تقف على سطحٍ أملس عن طريق محاجم كالمِشْجَب الذي يثبت على البلور بتفريغ الهواء، يوجد مشاجب معه محجم تضغطه يتفرغ الهواء فيثبت، ولها مخالب.
طيران الطائر واتجاهه نحو هدفه عُزِيَ إلى الله مباشرةً:
أجرى بعض علماء الطيران موازنة بين أعظم طائرة صنعها الإنسان وبين البعوضة في المناورة، فكانت البعوضة والذبابة عندها قدرات أعلى من أي طائرة صنعت، أنت هل تلاحظ الذبابة تكون تطير بسرعة عالية تأخذ زاوية قائمة فجأةً،
وقد ترجع فجأةً، وقد تصعد إلى عَلٍ فجأةً، وبإمكان الذبابة أن تَحُطَّ على السقف، تضع أرجلها على السقف فتثبُت، فعندها قدرة على المناورة تفوق أعظم طائرة صنعها الإنسان.
أنا قرأت ذات مرة في موسوعة علميَّة عن الطيران، موسوعة مترجمة من دار علوم مُحترمة جداً في أمريكا، كُتِبَ على أول صفحة في هذه الموسوعة: إنَّ أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترتقي إلى مستوى الطائر، يطير الطائر أحياناً مسافة تقدر بست وثمانين ساعة بلا توقُّف، يقطع الطائر من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها تقريباً سبعة عشر ألف كيلو متر، يُهاجر صيفاً وشتاءً، يهتدي الطائر إلى هدفه بشكلٍ غير معروف حتى الآن، وضِعَت عشرات النظريات لتفسير اتجاه الطائر نحو هدفه؛ تفسير الجاذبية بَطُل لم يقف على قدمين، تفسير الشمس، تفسير التضاريس، لذلك قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)﴾
عُزِيَ طيران الطائر واتجاهه نحو هدفه إلى الله مباشرةً، لا توجد نظرية صمدت، أي يؤخذ الطائر قبل أن يرى النور من لندن أو من بريطانيا ويُرْسَل إلى الصين، والرحلات كلّها شمال جنوب، جنوب شمال، فهذا الطائر الذي لم ير النور يطير من الصين إلى بريطانيا، الطائر الذي غادر عُشَّه مثلاً في دمشق وانتقل إلى جنوب إفريقيا فرضاً، لو تغيَّرت الزاوية في طريق العودة درجة واحدة لجاء في بغداد، درجة نحو اليسار لجاء في القاهرة، يصل إلى دمشق وإلى حي الصالحية، وإلى بيتٍ في أحد أحياء حي الصالحية إلى عشه، ما هذه القدرة؟ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ .
البعوضة هينةٌ على الناس ولكن فيها من الأجهزة ومن دقَّة الصُنع ما لا يُوصَف:
أيها الإخوة؛ الآن فيروس الإيدز يتحدى العالَم كلّه، لم يستطع الإنسان بكبريائه، بجبروته، بتقدُّمه العلمي، بإنفاقه المذهل على البحوث العلمية أن يصل إلى مصل مضاد للإيدز، مع أن هذا الفيروس أضعف فيروس على الإطلاق،
يموت إذا خرج من الإنسان على بعد عشرة سنتيمتر، لكنه إذا دخل إلى الجسم يدخلـه بثيابٍ مموَّهة، يدخله بشكل الكرية البيضاء فلا أحد يُعاكسها، فإذا تمكَّن التهم كل الكريات البيضاء، قد يُبذل ألف مليون دولار لتطوير أبحاث للوصول إلى مصل مضاد لهذا الفيروس، بإمكانه أن يُغَيِّر شكله فتذهب كل هذه الأموال أدراج الرياح، وله سُلالات، وقد شاءت حكمة الله أن يكون هذا المرض عقاباً لا ابتلاءً، بقدر ما هو مميت بقدر ما تكون الوقاية منه سهلة، يكفي أن تستقيم انتهى الأمر، انتهى المرض.
هذه الآية أيها الإخوة؛ البعوضة على صغرها وضآلة شأنها وهوانها على الناس، لو قتل الإنسان خطأً هرَّةً في الطريق بسيَّارته يضطرب، يتألَّم، لعلِّي أخطأت، لعلِّي تساهلت، لعلِّي لم أكن منتبهاً، يا ترى هل الله سيُحاسبني؟ هل أدفع مبلغاً من المال صدقة؟ أما إذا قتل الإنسان بعوضة فهو لا يشعر بشيء أبداً، وكأنه لم يفعل شيئاً أبداً لهوانها على الناس، ومع أن هذه البعوضة هينةٌ على الناس فإن فيها من الأجهزة، وفيها من دقَّة الصُنع والإبداع ما لا يُوصَف، فتذكرنا هذه البعوضة بقوله تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)﴾
التفاوت هنا في الصنعة، هناك شركة تصنع مُعِدَّات منزلية، والشركة نفسها تصنع معدات صناعية، المُعدات المنزلية استعمالها قليل جداً، لذلك معدنها رخيص وأجهزتها بسيطة، أما المُعدات الصناعية فهي غالية جداً لأنها مصمَّمة أن تعمل ليلاً نهاراً.
صنعة الله متقنة لا تفاوت فيها:
المعمل يصنع مادَّة مُعتنى بها كثيراً، ومادَّة مُعتنى بها قليلاً، أما لو دققت في صنعة الله عزّ وجل فإنك لا تجد صنعةً متقنةً وصنعةً أقلّ إتقاناً: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ التفاوت في الحجم قائم، هناك بعوضة، وهناك فيل، هنا التفاوت في إتقان الصنعة، ليس هناك من تفاوتٍ إطلاقاً في إتقان الصنعة.
فيا أيها الإخوة الكرام؛ المؤمن كل شيءٍ يدلُّه على الله، يوجد موضوع دقيق جداً، إنَّك إن أردت أن تعرف الله كل شيءٍ يدلُّك عليه، وإن لم ترد أن تعرفه لو التقيت مع سيد الأنبياء رأيته رأي العين، وجلست إليه، وحادثته، لو رأيت منجزات العلم كلَّها الآن، لو ذهبت إلى أكبر مرصد في العالَم، يوجد بعض الشموس يبلغ طول ألسنة اللهب مئة وخمسين ألف سنة ضوئية،
اللهب، يوجد شموس تزيد عن حجم شمسنا اثنين فاصلة اثنين بليون (2.2بليون) مرَّة عن حجم شمسِنا، سبحان الله هذا الإله العظيم يُعصى؟
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾
ذكرت له كيف أن نجم قلب العقرب يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، ومجرتنا درب التبّانة صغيرة جداً جِداً.
صنع الله متقن في أكبر شيءٍ صنعه وفي أصغر شيءٍ صنعه:
أيها الإخوة الكرام؛ صنعة الله متقنة في أكبر شيءٍ صنعه، وفي أصغر شيءٍ صنعه، بل إنَّ قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)﴾
هذه تشمل الذرَّة والمجرَّة، هناك كهارب في الذرة تسبح حول النواة، وفي المجرَّات هناك كُتَل كبيرة جداً تسبح حول مركزها بسرعة قريبة من سرعة الضوء،
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ قال العلماء:
﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي فما أصغر منها، فوقها في الصغَر، البعوضة تراها بالعين، لكن هناك كائنات الجراثيم لا تراها، والفيروسات أصغر، الحشرات تراها، أما الجراثيم فلا تراها، الجرثومة أصل الشيء، المرض أصله الجراثيم إنك لا تراها ولكنك ترى فعلها، الفيروس أصغر من الجرثوم،
الآن بعد اختراع المجاهر الإلكترونية، المجهر يكبر أحياناً مئتي مرَّة، وهناك مجهر يكبّر أربعين ألف مرَّة، حينما يُكَبَّر الجلد غابة فيها تلال ووديان، وسهول وهضاب، وأشجار هي الشعر، إذا كبَّرنا نقطة من الجلد، إذا كبَّرنا نقطة من غِشاء المعدة، من جدار المعدة، إذا كبَّرنا نقطة من الدماغ، الشيء الذي تراه شيءٌ لا يُصدق أبداً، الآن يوجد صور لهذا المِجهر الإلكتروني، تجد الخلية، الخلية بناء قائم بذاته،
عالَم قائم بذاته، والخلية لا تُرى بالعين، لذلك كلَّما صَغُر الشيء احتاج إلى صنعةٍ عاليةٍ جداً، لهذا قال الله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾
فالذي لا تبصره أضعاف الذي تبصره، أنت إذا أمسكت بكأس ماء ماذا تبصر؟ تبصر ماء صافياً، ماء عذباً، فراتاً، نقياً، شفَّافاً، لو صوَّرت هذا الماء تحت المجهر لرأيت فيه من الكائنات الحيَّة ما لا يُحصى، هذا الذي لا نُبصره.
فيا أيها الإخوة؛ أراد الله سبحانه وتعالى من هذا المثل أن يلفت نظرنا إلى أن هذه الحشرات التي لا شأن لها عندكم، هي مخلوقاتٌ عظيمةٌ جداً، فليس هناك من حرجٍ أن يضربها الله مثلاً، لكن أريد أن أُثَبِّت هذه الحقيقة، سأتصور إنساناً ذكياً جداً، يحمل أعلى شهادة في الأرض، يعمل في الكيمياء، يعمل في الطبيعيات، يعمل في الفَلك، يرى بالمراصد الشيء الذي لا يُعقل، أحياناً يرى الإنسان في ليلة مظلمة كالغبار في السماء، هذا الغبار هو المجرَّة، ملايين الملايين من الكواكب على شكل غبار تُرى، فليس كل شيء لا تراه غير موجود، أي عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، أنت ماذا ترى؟ ترى الشمس تشرق هي ثابتة، أنت الذي تدور، الشمس تدور حول نقطة، الله قال: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ كم تستطيع الشمس أن تُتِمَّ دورتها؟ تحتاج الشمس لمئتي مليون سنة من أجل أن تدور الشمس دورة حول كوكبٍ ما تحتاج إلى مئتي مليون سنة، الحقيقة نحن في كونٍ لا ينتهي.
ذكرت قبل قليل ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية ما هذا الرقم؟ مجرَّة تبعد عنّاً ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، هذه عظمة الله، ولو وصلت إلى هذه البعوضة وأقل من البعوضة أي إلى الجرثوم، وأقل من الجرثوم إلى الفيروس لوجدت العجب العُجاب.
كل ما في الكون يدل الإنسان على الحقيقة:
على كل كلَّما تناهت الأشياء في الصغر تحتاج إلى صانعٍ متقن، فيها صنعةٌ دقيقة، والأشياء الصغيرة غالية جداً، توجد أجهزة تسجيل صغيرة، أجهزة راديو صغيرة أسعارها مرتفعة جداً، حتى أنت قد تجد كمبيوتراً كبيراً، شاشة كبيرة، ولوحة مفاتيح كبيرة، وجسماً للكمبيوتر، أحياناً تجد كمبيوتراً يوضع كله في محفظة، وأحياناً بحجم كفِّ اليد، كلَّما صغر الجهاز رأيت صنعةً متقنة فيه، هذا هو مغزى هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ ، ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي فما أصغر منها، هكذا قال العلماء.
قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هنا إذا أراد الإنسان معرفةً الحقيقة دلَّه عليها كل شيء، وإذا أعرض عن الحقيقة لو جلس بأعظم مرصد في أمريكا، ولو دخل إلى أدق مخبر في العلوم الطبيعية؛ رأى الخليّة، رأى النسُج الحيوية، رأى تفاعل المواد، لو أُتيحت كل المعلومات بين يديه لا يؤمن، وأدق مثل لذلك: آلة تصوير بسيطة جداً، رخيصة جداً، إذا أراد صاحبها أن يستخدمها وضع فيها الفيلم، هذا الفيلم لقط المناظر التي أمامها، والذي يرفض الحقيقة معه آلة ثمنها مليون ليرة لكن لا يوجد فيها فيلم، إنسان مثقف ثقافة عالية جداً، لكنه لم يرد الحقيقة، بين يديه معلومات مذهلة، بين يديه آيات يقشعر منها الجلد ومع ذلك لا يستفيد منها شيئاً، فالعبرة أنك أنت إذا أردتها وصلت إليها، وإن لم تردها!
خلق الله الإنسان مخيراً ولأنه مخير فإن كل شيءٍ في الكون مصممٌ ليكون حيادياً:
بعوضة؛ يسمع هذه الكلمة إنسان فاسق يقول: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ هذا قرآن هذا!!؟ هكذا قال الكفَّار، الإله العظيم يذكر بعوضةً؟ يذكر ذبابةً؟ يذكر العنكبوت، هل من المعقول إله عظيم يذكر هذا في كلامه؟ ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ قال: كل شيء في الكون حيادي: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ آية واحدة يرفضها إنسان ويهتدي بها إنسان، آيةٌ واحدة يذوب إنسان خشوعاً لله من خلالها وإنسان يستهزئ بها، معنى ذلك أنه لأنك مخير كل شيءٍ في الكون مصممٌ أن يكون حيادياً، يُستخدم سُلماً ترقى به، أو دركاتٍ تهوي بها.
تناقض الحق مع الباطل والعبث:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ما هو الحق؟ الحق خلاف الباطل، ما هو الباطل؟ الباطل زهوق، زائل، والباطل عابث.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)﴾
وقال:
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)﴾
فربنا عزّ وجل نفى أن يكون خلق السماوات والأرض باطلاً، الباطل الشيء الزائل، ونفى أن يكون خلق السماوات والأرض عبثاً، فالعبث الشيء غير الهادف، ولكن الله جلَّ جلاله خلقهما بالحق، فالحق يتناقض مع الباطل ويتناقض مع العبث، فالحق لا عبَث فيه ولا بطلان، الشيء الثابت الهادف، إذا قلنا: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أي لابس الحق خلق السماوات والأرض، أحياناً ننشئ جناحاً بمعرض لمدة أسبوعين نصنعه من القماش، أما حينما ننشئ جامعة فإننا ننشئها من حجر، هذه الجامعة أُنشئت لتبقى، أما هذا الجناح في المعرض أنشئ ليُهدم بعد أسبوعين، فكلمة بالحق أي الله عزّ وجل خلق الكون ليبقى، قال:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)﴾
النفس تذوق الموت ولا تموت، تذوقه، وفرقٌ كبير بين أن تذوق النفس الموت وبين أن تموت، النفس تَخْلُدُ إما في جنةٍ يدوم نعيمها أو في نارٍ لا ينفد عذابها.
النمل والنحل من آيات الله الدالة على عظمته:
صارت القضية: هل تريد الحقيقة؟ كل شيءٍ يدلَّك على الله حتى البعوضة، حتى الذبابة، حتى النملة، النمل شيء لا يُصدق، النمل يزرع،
والنمل يربِّي المواشي،
يُنشئ صوامع الحبوب، يقيم الجسور، يَشُقُّ الطُرُقات، النمل يُعَلِّم، عنده قِطاع تعليم، النمل يُخزِّن، النمل يعالج المرضى، يوجد عند النمل مكتب دفن الموتى، تُسحب النملة الميتة وتُدفَن، يوجد عند النمل جيش يحرس الملكة، ويرُدُّ العدوان،
هناك نمل رُحَّل يتنقل من مكانٍ إلى مكان، هناك نمل يعيش في بيوت ثابتة، هناك نمل يعيش على العمل، نمل يعيش على الغزو، هناك شيء في النمل لا يُصدق، النملة عندها جهاز ضخ وجهاز مص، فإذا لقيت نملةً جائعة وضعت فمها في فمِها وضخت لها من خلاصة غذائها،
يوجد عند الإنسان مص فقط، لا يوجد عنده ضخ، أما النمل فعنده جهاز مص وجهاز ضخ، والله هناك شيءٌ عن النمل يكاد لا يُصدَّق، إذا رأت النملة أنها في خطر ترسل إشارة كيماوية إلى من حولها، إذا كان موتها محقَّقَاً تُرسل إشارة تحذير؛ ابتعدوا عن المجزرة، وإذا كانت نجاتها محققة ترسل إشارة استغاثة؛ تعالوا إليّ أنقذوني، والله عزّ وجل أثبت لها الكلام، وأثبت لها المعرفة:
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)﴾
والنملة اجتماعية، إذا وضعت النملة في بيت فيه طعام وشراب بشكل كامل تموت بعد عشرين يوماً، تموت وحشةً، وهناك نظام دقيق جداً للنمل، قال تعالى:
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)﴾
والنحل ترقص رقصة تُحدد مكان الأزهار والمسافة والجهة، وهناك رقصة ثانية للكثافة، الجهة والمسافة والكثافة برقصة.
من يتخذ قراراً بالإيمان فكل ما في الكون يدله على الله:
أيها الإخوة؛ يوجد بهذه الآية موضوع خطير جداً، يقول الله عزّ وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ مثل واحد، آية كونية، حشرة، حيوان، نبات، هذه الآية يؤمن أُناس بالله من خلالها وأناس غيرهم يستهزئون بها، فبين أن تؤمن وبين أن تستهزئ مسافة كبيرة جداً، جداً كبيرة، فما السر في ذلك؟ لماذا قرأ فلان عن البعوضة فبكى خشوعاً لله وسمع إنسان هذه الآية فاستهزأ؟ ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ أحياناً تتكلَّم بكلام أمام جمع يؤيدك إنسان ويعترض إنسان عليك، إنسان يقبل، إنسان يرفض، ما سرُّ ذلك؟ الجواب هنا، قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ما معنى آمنوا؟ أي اتّخذ قراراً بالإيمان، أراد الحقيقة، إن أردت الحقيقة فكل شيءٍ دلَّك على الله.
من لم يرد الحقيقة فإنه يستهزئ بها:
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي أعرضوا عن طلب الحقيقة، لا يريد الحقيقة، يريد الشهوة: ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ اجلس مع إنسان طالباً للحقيقة وحدّثه عن المجرَّات فإنه يبكي، بينما يقول لك إنسان آخر: كم ثمن الدولار اليوم؟ هذا الموضوع كلَّه ليس له علاقة به، ما يهمه هو سعر العملات، البيوت، السيارات، التجارة، الربح، الشهوات، المقاصف، فكل إنسان له طلب، فالذي أراد الحقيقة كل شيء يدلُّه على الله، والذي لم يردها يستهزئ بها: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ .
قبولك للحق أو رفضك له متعلق باستقامتك:
الحقيقة الشيء الواحد: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ فالتغيُّر من الشيء أم من الإنسان؟ ليس من الشيء، الشيء واحد؛ بعوضة، إنسان ازدادت معرفته بالله من خلالها وإنسان استهزأ بها، والبعوضة هي هِي، معنى هذا أن التبدُّل ليس من البعوضة، مِنَ الذي ينظر إليها: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ حينما يَفْسُق الإنسان لا يحب الحقيقة، حينما يَفسُق يرُدُّ الحق، حينما يَفسُق يستهزئ بالآيات، حينما يفسُق يشمئزُّ إذا ذُكِر الله وحده، حينما يفسُق تأخذه العزة بالإثم، صار عندنا معنى خطير جداً، قبولك للحق أو رفضك له متعلق باستقامتك، لأن غير المستقيم يدافع عن انحرافه، غير المستقيم اختلّ توازنه، كيف يستعيده؟ يقول: هؤلاء الديِّنون على خطأ عظيم، حتى يتوازن، دائماً وأبداً يطعن المُنحرف بالمستقيم حتى يرتاح، لا يرتاح إلا إذا طعن بالمستقيم، الكافر يطعن بالمؤمن حتى يتوازن، فلذلك الشيء واحد، آية واحدة؛ الشمس، القمر، الليل، النهار، الفيل، الحوت، البعوضة، النملة، الذبابة، العَنكبوت، هل تُصَدِّق أن العنكبوت تنسُج خيطاً لو سُحِب الفولاذ بقطر هذا الخَيط لكان خيط العنكبوت أمتن من الفولاذ؟ لو تمكنا أن نسحب خيطاً من الفولاذ بقطر خيط العنكبوت لكان خيط العنكبوت أمتن من الفولاذ، وأضعف بيتٍ بيوت العنكبوت، الضعف اجتماعي لوجود خلاف عميق جداً بين الزوجين، فبيت العنكبوت ضعيف لأن فيه انهياراً داخلياً، أما خيط العنكبوت فهو متين جداً.
الذي يريد ألا يسمع هو أشدّ الناس صمَماً:
أيها الإخوة؛ آيةٌ واحدة يطير المؤمن إلى الله بها، يذوب خشوعاً بها، إنسان آخر يستهزئ، التفسير: إن أردت الحقيقة كل شيءٍ يدلَّك عليها، وإن رفضتها لو رأيت الآيات كلّها وجهاً لوجه فإنك لن تستفيد، أليس هناك أناس عاشوا مع النبي؟ هل هناك في البشرية كلِّها إنسانٌ أعظم من النبي؛ من خلقه، فصاحته، علمه، أدبه، أخلاقه، نورانيته، ومع ذلك هناك من عاداه، وهناك من كرهه، وهناك من قاتله، فصار هناك معركة أزليه أبدية بين الحق والباطل، اذكر للكافر آية كونية يقول لك: الآن لا تُضيع وقتك، شيء واضح تماماً إذا كنت متحمِّساً لآية كونية، متحمِّساً لقضية دينية، متحمِّساً لعمل إسلامي كبير لا يلقى عند الكافر إلا السخرية والاستهزاء، ويلقى عند المؤمن التعظيم والإكبار والعمل واحد، فصار التحوُّل ليس من الشيء، من الإنسان، إن أردت الحقيقة عرفتها، أعانك عليها كل شيء، إن رفضتها ما من حقيقةٍ يمكن أن تقنعك عندئذِ.
يقول أحد الحكماء: "لم أجد أشد صمماً من الذي يريد ألا يسمع" ، الذي يريد ألا يسمع أشد الناس صمَماً، فالكافر رفض الحقيقة، إذا عرضت عليه آية كونية، مجرَّة، بحر، تيَّار الخليج، البرزخ بين البحرين يزداد سخريةً واستهزاءً: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ .
عند المؤمن المستقيم استعداد لقبول الحق وعند الفاسق استعداد لقبول الباطل:
أما الشيء الخطير، والله أيها الإخوة مفتاح الآية بهذه الكلمة: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ انظر، إن فَسَق الإنسان ردَّ الحق، وإن آمن قَبِل الحق، وجرِّب، اجلس مع إنسان أخلاقي مستقيم، حدثه تجد أنه قبِل هذا الكلام، وأثنى عليك، وانهمرت دموعه، كلِّم إنساناً فاسقاً، شارب خمر، زانياً، يردُّ عليك رداً قاسياً، يسخر من هذا الكلام، معنى ذلك المؤمن المستقيم عنده استعداد لقبول الحق، وعند الفاسق استعداد لقبول الباطل، فلو عرضت عليه الحق رفَضَه، هذا الذي أقوله لكم تؤَكِّده الآية الكريمة:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
تؤكده الآية الثانية:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
تؤكده الآية الثالثة:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾
أين التتمة؟ انتهت الآية، أي ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾ أرأيت إلى دناءته؟ أرأيت إلى نقض عهده؟ أرأيت إلى حبِّه لذاته؟ إلى عجرفته؟ إلى كِبره؟ سلوكه يكفي، فلذلك الفاسق يرُدُّ الحق والمؤمن يقبله، الفاسق تتأبى نفسه أن يقبل الحقيقة.
من المهم أن تكون ذا هيئة حسنة دون أن تكون راداً للحق ولا مضطهداً للناس:
لذلك كان لأحد الصحابة مظهر حسن، فخاف على نفسه أن يكون مخطئاً، فقال لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
(( عبد الله بن مسعود: لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كبرٍ ولا يدخلُ النَّارَ يعني من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ قالَ فقالَ لَه رجلٌ: إنَّهُ يعجبني أن يَكونَ ثوبي حسنًا ونعلي حسنةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ يحبُّ الجمالَ ولَكنَّ الكبرَ من بطرَ الحقَّ وغمصَ النَّاسَ. ))
الكِبر أن ترد الحق، أن تكون أكبر من أن تُصَلِّي، أكبر من أن تصوم، أن تكون أكبر من أن تكون عبداً لله، أن تستنكِف عن عبادة الله وتستكبر، هذا هو الكِبر، وأن تحتقر الناس، أما إنسان تعجبه الهيئة الحسنة، يعجبه الثوب الأنيق، هذا مطلوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن بشر التغلبي: إنَّكم قادمونَ على إخوانِكُم، فأصلِحوا رحالَكُم، وأصلِحوا لباسَكُم، حتَّى تَكونوا كأنَّكم شامةٌ في النَّاسِ، فإنَّ اللَّهَ لا يحبُّ الفُحشَ، ولا التَّفحُّشَ ))
[ ابن مفلح : الآداب الشرعية: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
مطلوب أن تكون ذا هيئةٍ حسنة في مظهرك، لكن ليس مطلوباً أن تكون راداً للحق ولا مضطهداً للناس.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته، وأنا أرى أن في القرآن الكريم ألفاً وثلاثمئة آية كونية، ولا يليق بالله عزّ وجل أن يقول كلاماً لا معنى له، لماذا ذكر هذه الآيات؟ تكاد تكون هذه الآيات سُدُسَ القرآن، كأن الله أرادنا أن نعرفه من خلال خلقه، فهذه البعوضة التي لا تُعجبك فيها هذه الأجهزة، وهذه الأعضاء، وهذه الخصائص، وهذه النملة التي لا تراها، النملة فيها دماغ، فيها قلب، فيها جهاز هضم،
كل شيء في هذه النملة على صِغَرِها، وكلَّما صغر الشيء كان وراءه صنعةٌ أدق.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)﴾
الملف مدقق