الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المعرفة الحسية والمعرفة العقلية:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع عشر من سورة البقرة، ومع الآية الثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء هناك معرفة حسية عن طريق الحواس، الأشياء المادية تعرفها عن طريق الحواس، وهناك معرفةٌ عقلية تحتاج إلى آثارٍ مادية يستنبط العقل منها حقائق هذه الأشياء، هذه معرفةٌ عقلية، فالشيء إذا ظهرت عينه، وظهرت آثاره سبيل معرفته الحواسُّ الخمس، واليقين الحسي، أما إذا غابت عينه، ذاته، وبقيت آثاره فسبيل معرفته العقل، أما إذا كان الشيء مغيَّباً عنا أصلاً، ولا آثار له، لا الحواسُّ يمكن أن تعرفه؛ ليس له آثار، ولا العقل يمكن أن يعرفه، ليس له آثار، هذا التمييز دقيق، الأشياء التي تجسَّدت لها جُرْم، لها وزن، لها شكل، لها لون، لها رائحة، لها مَلْمَس، لها حَيِّز، لها طول، لها عرض، لها ارتفاع، هذه أشياء حسية، سبيل معرفتها الحواسُّ الخمس، أما جدار وراءه يوجد دخان، والعقل يقول: لا دخان بلا نار، فالعقل رأى آثار النار وهو الدخان فحكم على وجود النار من آثار النار فقال: لا دخان بلا نار، وراء هذا الجدار نار، الكهرباء لا تُرى بالعين لكن تألُّق المصابيح، تكبير الصوت، حركة المراوح تبيِّن أن هناك قوة كهربائية موجودة، فهذه المعرفة معرفة عقلية، والمعرفة العقلية لابدَّ من أن تعتمد على حِسِّيات، على آثار حِسِّية، إذا لم يكن هناك آثار حسية لا توجد معرفة عقلية، العقل يعتمد على الأثر ويحكم منه على المؤثِّر، يرى النظام فيكتشف المنظِّم، يرى التسيير فيعرف المُسَيِّر، يرى الحكمة فيعرف الحكيم، يرى آثار العلم فيعرف العليم، يرى آثار القُدرة فيعرف القدير، هذا العقل.
المعرفة الإخبارية هي النوع الثالث من أنواع المعارف:
أما تخيَّل شيئاً غابت عنا ذاته وغابت عنا آثاره، لا يستطيع العقل أن يعرفه إطلاقاً، نقول: هذه الأشياء التي غابت عنا ذاتاً وآثاراً لا سبيل إلى معرفتها إلا بالخبر الصادق، الآن ما الموضوعات التي يمكن أن تكون من المرتبة الثالثة؟ الماضي السحيق، قصة خلق الإنسان، قصة خلق العالم، المستقبل البعيد، ماذا بعد الموت، الجنة، النار، الحوض، الصراط، خبر صادق، المستقبل، الماضي السحيق خبر صادق، كائنات ليس لها آثار؛ الجن خبر صادق، الملائكة خبر صادق، هذا المنهج الإسلامي، المعرفة حسية أو عقلية أو إخبارية، هذه القصة قصة خلق الإنسان من النوع الثالث، لا تستطيع الحواس أن تعرفها، ولا يستطيع العقل أن يُثبتها، الحواس معطلة والعقل معطَّل، ليس عندنا إلا الخبر الصادق، وقيمة هذا الخبر من قيمة قائله، فالصادق خبره صادق.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
دقق في هذه الآية:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
هناك معنى مخالف يستنبط من الآية من يكشفه؟ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ معنى ذلك أن هذه القصة وردت بالباطل.
الموضوع الإخباري سبيل معرفته الخبر الصادق:
هؤلاء الذين يقولون: الإنسان أصله قِرْد، هم يقصّون نبأ الإنسان الأول بالباطل لماذا؟ لشيءٍ بديهي لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)﴾
أي إذا جلس إنسان، عمره ثمانون سنة في مجلس مع مجموعة من التُجَّار وقال: أنا أخذت محلاً من زمن بعيد بسوق الحميدية وكلَّفني خمسة آلاف ليرة، قال له ابنه الذي كان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة: يا أبي هذا الكلام غلط، فنظر إليه، القصة من أربعين سنة، قال له: هل كنت في ذلك الوقت؟ هل كان لك وجود في ذلك الوقت؟ عندما أخذت المحل بخمسة آلاف هل كنت موجوداً؟ ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ من منا شهد خلق آدم؟ هذا موضوع إخباري، لا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الصادق فقط، وإذا كان الخبر من عند الله عزَّ وجل، من عند خالق السماوات والأرض، تأتي وتَرْكلُ بقدمك مليون قصة وتؤمن بما قاله الله عزَّ وجل، هناك نظريات لا تُعَدُّ ولا تحصى عن بداية العالم، وعن أصل الإنسان، بعضهم يقول: كان مخلوقاً وحيد الخلية، ثم تعقَّدت حياته إلى أن صار إنساناً سوياً، بعضهم يقول: أصله قرد، وارتفع القرد درجة فدرجة فصار إنساناً، العبرة أن هذا الموضوع إخباري، سبيل معرفته الخبر الصادق: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ .
قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً:
إذاً دقق: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ إذاً هناك من يَقُصُّ عليك نبأهم بالباطل، هناك من يقدِّم لك رواية عن بداية العالم بالباطل، تكهُّنات ما أنزل الله بها من سلطان، لا يوجد دليل، تكهُّن، تخيُّل، توهُّم، لكن لا يوجد دليل، الدليل حسي، الشيء غائبٌ عن حواسنا، الدليل العقلي ليس له آثار، ليس له ذات نكشفها بحواسنا، وليس له آثار نكشفها بعقولنا، إذاً قصة بداية العالم، قصة خلق الإنسان لا نأخُذها إلا من الواحد الديان، وأية روايةٍ، وأي عرضٍ، وأي تحليلٍ، وأي تصورٍ لخلق الإنسان إن خالف القرآن اركله بالأقدام، وانتهى الأمر، هذه النقطة الأولى.
الآن لماذا يقص الله علينا القَصَص؟ الإنسان من عادته أن يقرأ القصة ليمضي الوقت بها، ليستمتع بها، يقول لك: لأقتل الوقت بها، إذا كان مسافراً، جالساً بمفرده في فندق يأخذ معه قصة ليقرأها، كل قصص بني آدم لعلها من هذا القبيل، إلا أن قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾
القصة لها دور تربوي خطير، يقول الله عزَّ وجل في آية ثانية:
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾
معنى ذلك أن الله عزَّ وجل حينما يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم قصةً ليُثَبِّتَ فؤاده، لكن من هو أولى بالتثبيت النبي أم نحن؟ نحن أولى، يكون التثبيت على قدر الإيمان، أعلى إيمان إيمان النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك: ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ نحن من باب أولى، معنى ذلك أن القصة لها هدف تربوي كبير.
قصة سيدنا يونس قصة وقعت والله تعالى جعلها قانوناً حينما عَقَّب عليها:
إذا قرأ الإنسان قوله تعالى عن سيدنا يونس:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)﴾
بربكم هل هناك واحد بالمليار وجد نفسه في بطن الحوت، وفي أعماق البحر، وفي الليل الأليل كم نسبة الأمل في النجاة؟ صفر، إنسان وجد نفسه في بطن حوت في الليل في أعماق البحر، سيدنا يونس نادى لا يوجد حاجة لهاتف خلوي:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
هو: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ قصة وقعت، أما حينما عَقَّب الله عليها جعلها قانوناً، قال: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أنت أيها المؤمن في أي زمان، في أي مكان، في أي ظرف صعب، مهما بدا لك الظرف حرجاً، مستحيلاً، ضيِّقاً، لا تخف، الله عزَّ وجل يتدخل وينقذك، مهما كان المرض عضالاً، مهما كان الفقر مدقعاً، مهما كان العدو شرساً.
القصص في القرآن هادفة لتثبيت المؤمنين ولإحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن:
أيها الإخوة الكرام؛ هناك في القرآن الكريم تطمينات من قبل الله لكن الناس لا ينتبهون إليها.
﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)﴾
أي كيدهم يُضعِفُهُ الله عزَّ وجل إن كنتم أنتم مؤمنين، إن كنتم مؤمنين فالله سبحانه وتعالى موهن كيد الكافرين.
الشيء الثاني: هذه القصص، قصة تبيِّن لك أهل الكهف مثلاً، هؤلاء الفتية الذي فَرّوا بدينهم إلى الكهف، هذا نموذج متكرر، ذو القرنين الذي مَكَّنَهُ الله في الأرض فأقام العدل، هذا نموذج متكرر يجب أن يُحتذى، السيدة مريم حينما أُشيع عنها أنها زانية لكن الله برَّأها هذه قصة، سيدنا نوح حينما دعا قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، هذا النفَس الطويل في الدعوة، كل نبي يمثِّل نموذجاً بشرياً، سيدنا إبراهيم عانى من أبيه، والسيدة آسيا عانت من زوجها، وسيدنا لوط عانى من زوجته، وسيدنا نوح عانى من ابنه، وسيدنا يوسف دخل السجن ظُلماً، فكل نبي له قصة، وكل قصة يحتاجها كل مسلم، إذاً هذه القصص في القرآن الكريم هادفة، هادفة لتثبيت النبي، وتثبيت المؤمنين، وهادفة إلى إحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى﴾ .
رؤية لقصة سيدنا موسى من عدة زوايا:
أضع بين أيديكم قصة سيدنا موسى هذه القصة وردت في القرآن الكريم سبع عشرة مرة، هذه القصة من بعض عُروضها:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾
أمران: ﴿أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ ، ونهيان: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ وبشارتان: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يتوهم الإنسان أن القصة مكررة، في آية ثانية: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ اليم مأمور من قِبَل الله عزَّ وجل أن يأخذه إلى الساحل، وعدو الله، وعدو موسى مجبور على أن يلتقط هذا الغلام: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ وألقى الله عزَّ وجل على سيدنا موسى محبّته: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ رأته امرأة فرعون أحبَّته حباً كثيراً:
﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)﴾
الآية الثانية ليست تكراراً، لكنها إغناء لتفصيلات لم ترد في الآية الأولى، الآية الثالثة:
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾
النتيجة: آية أعطت البدايات، آية أعطت التفصيلات، آية أعطت النتائج، لا يوجد تكرار، لكن من عدة زوايا، أي ممكن أن تأتي إلى دمشق من طريق درعا، جبل قاسيون له منظر أخذنا له صورة، يمكن أن تأتي دمشق من طريق بيروت جبل قاسيون له منظر أخذنا صورة، يمكن أن تأتي إلى دمشق من طريق حلب جبل قاسيون له منظر التقطنا صورة، لو جمعنا هذه الصور الثلاثة من الزوايا الثلاثة لظهر معنا مجسَّم لقاسيون، هذه الزوايا إذا تعاونت وتكاملت تعطي شكلاً كاملاً مجسماً بأبعاده الثلاث.
أيها الإخوة؛ الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ الملائكة مخلوقاتٌ كُلِّفوا أن يكونوا رسلاً بين الله وخلقه، هناك فعل باللغة اسمه لأَكَ أي أرسل، لأك يألكُ، أرسل يرسل، ومنه المَلَك، فالملائكة مخلوقات ليست مكلَّفة لكنها اختارت القرب من الله عزَّ وجل، يسبِّحون الله لا يفترون، هؤلاء لهم مهمَّات كثيرة في أول مهمَّاتهم أنهم رسلٌ بين الله وخلقه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هنا، أي الله عزَّ وجل خلق الخلق، خلق الخلق في عالم الذر، وعالم الذر قبل عالم الصوَر، لم يكن هناك صور للمخلوقات، مجرَّد مخلوق، هذا المخلوق صار جبلاً، هذا المخلوق صار زهرةً، هذا المخلوق صار حصاناً، هذا المخلوق صار أَفعى، هذا المخلوق صار إنساناً، خلق الخلق في عالم الذر، وعرض عليهم الأمانة:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
الأمانة أن يَمْلِكوا أنفسهم ويزَكُّوها، فإن زكوها استحقوا نعيماً أبدياً لا حدود له.
قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول:
﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ أي عرضنا على إنسان أن يقود قطاراً براتب محدود جداً، عرضنا عليه أن يقود سيارة كبيرة لنقل الركاب براتب أعلى، لأن القطار ليس عنده أخطار، لا يوجد عنده حوادث، هناك سكةٌ يمشي عليها، وعرضنا على إنسان أن يكون طياراً، يحتاج إلى علم عالٍ جداً، ويحتاج إلى خبرة عالية جداً، وإلى صفات نفسية عالية جداً، وليس له راتب، معه شيك مفتوح مثلاً، هناك وظيفة محدودة المسؤولية سهلة العمل لكن دخلها محدود، هناك وظيفة أعلى، هناك وظيفة أعلى، فربنا عزَّ وجل عرض عرضاً مغرياً جداً، عرض على المخلوقات أن يحملوا أمانة أنفسهم فيزَكّوها، طبعاً معنى يزكوها أي هناك نوازع، هناك شهوات، هناك أهواء، هناك حرية اختيار، هناك عقل، هناك فطرة، هناك كَوْن، هناك منهج، هناك رُسُل، القضية معقدة.
قال أب لولده: تعال إلى المحل واعمل بطعامك وبمصروفك، عرض على ابن آخر: أتحب أن تحمل أعلى شهادة في العالم؟ أعطيك نصف أملاكي كلها، هناك بالطبع سفر، وهناك لغة، وهناك أخطار، وهناك جامعات صعبة جداً، وهناك جهد ثلاثين سنة، أما إذا قبل هذا العرض، ونجح فيه فله مكانة عليّة في المجتمع، هذه الأمثلة تقرِّب معنى الآية: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
الإنسان حينما قَبِل حمل الأمانة سخَّرَ الله له الكون كله ومنحه قوةً إدراكية وهي العقل:
هذا الإنسان الذي قَبِل حمل الأمانة، لأنه قَبِل حملها:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
هذا قرآن، اطّلعت على موسوعة علمية مترجمة تحوي العدد التقريبي للمجرات في العالم اليوم مئة ألف مليون مجرة، مجرتنا درب التبابنة مجرة متوسِّطة فيها مئة ألف مليون كوكب ونجم، طول هذه المجرة المتوسطة المتواضعة مئة ألف سنة ضوئية، درب التبابنة، ما يقطع الضوء في الثانية؟ عشرة مليون مليون كيلو متر، عرضها خمسة وعشرون ألف سنة ضوئية، إذا مثَّلناها على شكل عضلة، مغزل، وجئت بقلم ناشف وضعت نقطة على هذا المغزل، هذه المجموعة الشمسية، طول المجموعة الشمسية ستّ عشرة ساعة، طول المجرة مئة ألف سنة ضوئية، المسافة بين الشمس والأرض ثماني دقائق، وبين الأرض والقمر ثانية واحدة، حتى تعرف، أرض قمر ثانية، أرض شمس ثماني دقائق، المجموعة الشمسية كلها ستّ عشرة ساعة، طول مجرتنا مئة ألف سنة ضوئية، مجرة معتدلة صغيرة وهناك مئة ألف مليون مجرة، بنص هذه الآية: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾ لأنك أيها الإنسان قَبِلْتَ حمل الأمانة سخَّرَ الله لك الكون كله، هذه واحدة، حينما قَبِل الإنسان حمل الأمانة كرَّمه الله عز وجل، سخَّر له الكون، منحه قوةً إدراكية هي العقل تعدّ أعقد شيءٍ في الكون الدماغ البشري.
العقل خُلِق لتعرف الله به لكن البعض أساء استخدامه:
مرة قرأت كلمة لو أردنا أن نصنع حاسوباً أو كمبيوتراً يؤدّي وظائف العقل البشري لاحتجنا إلى أضخم شارع في نيويورك، وكل الأبنية على طرفي الشارع ناطحات سحاب، تحوي جميع هذه الأبنية مكثِّفات من الداخل ومن الخارج، حتى يؤدِّي هذا الشارع الضخم بكل أبنيته الشاهقة مهام العقل البشري، أعقد آلة في الكون، وهذا العقل البشري خُلِقَ لك لتعرف الله به فاستخدمه الناس لجني المال الحرام، للسرقة، لارتكاب الجرائم، للسيطرة على العالم، لإيقاع الفتن بين الشعوب، لجمع الثروات بالباطل، الكفار أذكياء جداً، يضعون الخطط المدهشة من أجل استعباد الشعوب، من أجل نهب ثرواتهم، يقومون بتمثيليات مذهلة، كل شيء يفعلونه تمثيلاً من أجل جرّ الثروات إليهم، بالعقل البشري، مع أن العقل خُلِق لتعرف الله به.
ممكن آلة تصوير ملونة تزوِّر فيها العملة ويكون المصير بالسجن، ولك أن تستخدمها استخداماً إيجابياً فتصبح غنياً جداً من خلالها، الآلة واحدة، إن استخدمتها لغير ما صُنِعت له للتزوير المصير في السجن، وإن استخدمتها في تصميم الأغلفة، والتقاويم، والبطاقات تصبح إنساناً تعيش من ورائها حياة كريمة جداً، والآلة واحدة.
المعاني المتعددة لكلمة (خليفة):
أيها الإخوة؛ جعل الله عزَّ وجل هذا الإنسان المخلوق الأول، جعله خليفةً له، معانٍ كثيرة جداً.
1 ـ المعنى الأول لكلمة (خليفة) أي يأتي بعضهم وراء بعض ليتعظوا:
أول معنى من معاني خليفة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أي سيدنا آدم حينما كان في الجنة لم يخرج منها بسبب أنه أكل التفاحة، لا، سيدنا آدم مخلوق في الأصل للأرض، والدليل هذه الآية، لكن الله جعل هذا الدرس البليغ له ولذريته من بعده، أي ليس التصميم أنه مخلوق للجنة، فلما أخطأ نُقِل للأرض، لا، الإنسان في الأصل مخلوق للأرض.
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ولكن الله شاءت حكمته أن يعطي سيدنا آدم درساً بليغاً في عداوة الشيطان، أما مصير الإنسان فهو إلى الأرض، هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية، أي جعله خليفة أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، جيلاً بعد جيل، كما قال الله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)﴾
وقال:
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)﴾
وقال:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
كل هذه الآيات تعني الخليفة أن الله عزَّ وجل شاءت حكمته أن يأتي الناس إلى الدنيا تِباعاً، وأن يغادروها تباعاً ليتَّعظ بعضهم ببعض، هذا معنى من معاني: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ .
2 ـ المعنى الثاني لكلمة (خليفة) أي لكرامة الإنسان عند الله أعطاه بعض صفاته:
المعنى الثاني: أن الله لكرامة الإنسان عنده أعطاه بعض صفاته، الله عزَّ وجل فرد، وجعل الإنسان فرداً، ليس في الأرض كلها إنسان يشبهُك، أنت فرد نسيج وحدك، بلازما الدم تنفرد بها، رائحة الجلد تنفرد بها، قزحية العين تنفرد بها، الزمرة النسيجية تنفرد بها، نبرة الصوت تنفرد بها، بصمة اليد تنفرد بها، لكرامتك عنده جعلك فرداً لا مثيل لك، ولا مشابه لك، هكذا شاءت حكمة الله، لكرامتك عنده سمح لك أن تُشَرِّع، أعطاك نصوصاً ظنية الدلالة، ولك أن تجتهد، لكرامتك عنده سمح لك أن تُبْدِع عن طريق المورِّثات والتهجين، فالإنسان الآن يبدع في النباتات، وفي الحيوانات، وفي الزراعة، لكرامتك عنده سمح لك أن تحكم، جعلك خليفةً في الأرض لتقيم العدل، وتردع الظالم، وتكافئ المحسن، مَكَّنَك في الأرض، هناك شخص قوي بيده مصير الأشخاص الآخرين، هذا خليفة الله في الأرض.
﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ﴾
الأنبياء والأولياء والعُلماء والدعاة هؤلاء خلفاء الله في أرضه ليقيموا أمر الدين، والملوك والأقوياء خلفاء الله في أرضه ليقيموا أمر الدنيا، الله عزَّ وجل أعطى الإنسان قوة، الشيء الواقع يقول لك: الإنسان لديه قدرة أن يحرك جيشاً، يعلن حرباً، سمح الله للإنسان أن يكون قوياً، فكلمة جعله خليفته في الأرض، المعنى الأول: يأتي بعضهم وراء بعض، والمعنى الثاني: لكرامة الإنسان عند الله أعطاه بعض صفاته.
3 ـ المعنى الثالث لكلمة (خليفة) أي أن الإنسان مُمَكَّن أمره نافذ ومعه سلطة:
أنت معلِّم، أنت خليفة الله في صَفَّك، مدير مدرسة، خليفة الله في هذه المدرسة، أنت مدير تربية، خليفة الله في هذه المحافظة، وزير تربية في القطر، كل إنسان ممكَّن؛ هذا بالتربية، هذا بالصحة، هذا بالاقتصاد، هذا بالأوقاف، فالإنسان مُمَكَّن معه صلاحية، أمره نافذ، معه سلطة، هذا معنى ثالث.
المعنى الأول: الخليفة أي نأتي إلى الدنيا تباعاً ونغادرها تباعاً.
المعنى الثاني: لكرامتك عند الله منحك شيئاً من صفاته، أنت فرد، فرد في أشياء كثيرة، صُنِعت أقفال الآن لا تُفتح إلا على قزحية العين لأنه لا يوجد إنسان في الأرض يشبهك في قزحية العين، هذا القفل لن يُفتَح إلا من قِبَل صاحبه، رائحة الجلد، نبرة الصوت، بلازما الدم، الزمرة النسيجية، بصمة اليد، أبداً، جعلك فرداً، جعلك مُشَرِّعاً، جعلك مبدعاً، جعلك مريداً، أعطاك حرِّية الاختيار، جعلك حاكماً تقيم العدل، تقمع الظلم.
الإنسان شيء كبير جداً يمكن أن يقوم بأعمال لا تفعلها الجبال:
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ من الممكن أن يجعل الله على يدك هداية مليون شخص، الإنسان كبير جداً يمكن أن يقوم بأعمال لا تفعلها الجبال، ويمكن أن يقوم بجرائم لا تفعلها أشرس الوحوش في الأرض؛ الذي ألقى قنبلة على هيروشيما أباد ثلاثمئة ألف إنسان في ثلاث ثوان، توجد الآن حروب؛ حروب كيماوية، حروب غازية، حروب جرثومية، أعطاه إمكانات مذهلة، الإنسان معه إمكانات بشكل غير معقول.
قمَّة الكمال البشري النبوّة وحضيض السقوط البشري الإجرام:
يقول لك: الإنسان أصله قرد، ماذا فعل القرود؟ اخترعوا طيارة؟ كله طعام وشراب، وقهوة وشاي، ومقاعد مريحة على ارتفاع أربعين ألف قدم، هل نقلوا الصورة والصوت؟ ما هو موضوع الفاكس؟ مثلاً موضوع الأجهزة، الإنترنت، شيء لا يُصدق، هذا كلَّه من إنجاز الإنسان، جعله خليفته في الأرض، المشكلة أن هذه الإمكانات الضخمة التي أعطاها الله للإنسان استخدمها في الشر، هذه الأجهزة المعقَّدة جداً المذهلة جعلها لإفساد الأخلاق، ماذا في المحطَّات الفضائية؟ إفساد، ماذا في هذه الأجهزة المعقَّدة جداً لنقل الصورة؟ إفساد، إفساد عقائد، وإفساد أخلاق، وإفساد بيئة، فالإنسان لأنه مخيَّر كل شيء فيه حيادي، قمَّة الكمال البشري النبوّة، وحضيض السقوط البشري الإجرام، هناك أشخاص يتلذَّذون بشقاء الآخرين، ممكن شعب متقدم عند الناس مزدهر، عصر العلم، يقيم رفاه على أنقاض شعوب، ماذا يفعل أعداء الإنسانية؟ يخلقون مشكلات في العالم ويبيعون أسلحة، ويعيشون على أنقاض الشعوب، هذا الذي يحدث، بؤر متوترة في العالم؛ في آسيا بؤرة، في الصين بؤرة، في السودان بؤرة، في إفريقيا بؤرة، بؤر متوترة تحتاج إلى أسلحة، يبيعون أسلحة بعقود إذعان، بأسعار خيالية، ويعيشون على أنقاضنا جميعاً، بعقولهم الذكية الشيطانية استُخدِموا العقل لغير ما صُنِع له، أما العقل فيجعلك أكبر مؤمن، يجعلك أكبر مصلح، يجعلك أكبر إنسان بالعقل البشري، استُخدم لغير ما صُنع له، فلذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ خليفة يخلفني، أي إنسان رحيم والله رحيم، إنسان عليم، إنسان عادل، إنسان لطيف، إنسان قوي.
أسماء الله عزَّ وجل كلّها حسنى وصفاته فُضلى:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾
إنسان عَفو، اذهبوا فأنتم الطلقاء، كأن الله عزَّ وجل أراد أن نتخلَّق بكماليات الله عزَّ وجل ؛ بالرحمة، بالشفقة، بالإنصاف، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا النَّبِيَّ؟ فَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». ))
الأنبياء عدل، رحمة، عفو، حلم، اذهبوا فأنتم الطلقاء، لمن هذا الوادي؟ هو لك.
أسماء الله عزَّ وجل كلَّها حسنى وصفاته فُضلى، خليفته في الأرض اقتبس منه الرحمة، العدل، ولقوة، الحرص، الإنصاف، هذا كلَّه مُقتبس من الله، هذا معنى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ قالت الملائكة: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
خلق الله الجن قبل الإنس وعليه قاست الملائكة أن الإنسان سيفسُد ويسفك الدماء:
طبعاً هذا السؤال يُسأل عنه مرَّات عديدة، كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سيفسُد وسيسفك الدماء؟ تجيب الآية عن ذلك:
﴿ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)﴾
أي من قبل الإنسان، ﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ فعالم الجن ارتكبوا الموبقات، وسفكوا الدماء، وفسدوا في الأرض، فالملائكة قاسوا على الجن، لأن الله عزَّ وجل أعطى الأمانة للإنس والجن معاً:
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)﴾
وقال:
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)﴾
وقال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
الكمال في خلق الإنسان أن تأتي الآخرة متوافقة مع الدنيا فقط:
بآيات كثيرة جداً صنْف البشر وصنف الجن هما اللذان قَبِلا حَملَ الأمانة، وهما مُكلَّفان، وكل جنس له طبيعة خاصَّة، البشر من طين والجن من نار، فلذلك قالت الملائكة يا رب: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي إذا أنشأنا جامعة ضخمة جداً، وهناك عدد من الطلاب وليكن ربع الجامعة لم يدرسوا، ولم يتعلموا، وأهملوا واجباتهم هل نلغي الجامعة؟ لكن يوجد طلاب في المقابل نالوا شهادات عُليا، وقدَّموا لأمتهم خدمات كبيرة جداً، فلو فرضنا أنه يوجد قسم فاسد هل نلغي الجامعة؟ لا نلغيها: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ سيكون هناك أنبياء كبار، وأولياء، ومؤمنون، ومجاهدون، ومجتمعات راقية جداً: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الكمال في الجامعة أن ينجح جميع الطلاب كلَّهم بتفوق؟ لا، الكمال في الجامعة أن تأتي النتائج وَفْق المقدِّمات، عندما ينجح المجتهد ويرسب الكسول هذا كمال في الجامعة، الكمال في خلق الإنسان أن تأتي الآخرة متوافقة مع الدنيا فقط.
آيات من الذكر الحكيم تبين أن الله لا يتدخَّل لأن الإنسان مخير:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
الله لا يتدخَّل لأن الإنسان مخير:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
وقال:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
ليس الكمال أن يكون الناس كلهم مؤمنين بل الكمال أن يُعطى كل ذي حقّ حقه:
الإنسان مخير، فلذلك الكمال لا أن يكون الناس كلهم مؤمنين، لا، الكمال أن يُعطى كل ذي حقّ حقه، الكمال:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)﴾
هذا الكمال، افعل ما تشاء، قال الله عزَّ وجل: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ افعل ما تشاء، كل شيء له ثمن: ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض تحت قدميه، وقطّعت أسباب السماء بين يديه، فالكمال أن تأتي النتائج مطابقةً للمقدِّمات فقط، قال الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾
(( عن سهل بن سعد أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عن الناس. ))
[ رواه الطبراني رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ]
الإنسان وحده هو المسؤول ولن يحاسَب أحد عن أحد:
تصبح الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أنا سأخلق مخلوقات، أعطيها حرية الاختيار، أعطيها عقلاً، أسخِّر لها الكون تسخير تعريفٍ وتكريم، أعطيها شهوات، أعطيها منهجاً: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ أنت مسؤول، هذا الدرس مصيري يحدد مصير الإنسان، افعل ما تشاء، الله عزَّ وجل ينبِّهك، يُسمِعُك الحق، يُضيِّق عليك لكن في النهاية أنت مخير، وعملك بسبب اختيارك، وأنت وحدك مسؤول، ولن يُحاسب إنسان عن إنسان:
﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)﴾
وقال:
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾
هذه الآية تبين أنك أنت المخلوق الأول، والمكرَّم، والمكلَّف، وأنت خليفة الله في الأرض، خليفته على مستوى أب، خليفته على مستوى معلِّم، خليفته على مستوى طبيب، خليفته على مستوى مهندس، خليفته على مستوى مدير دائرة ، أنت خليفته في الأرض.
العبرة أن تأتي النتائج وفْقَ المقدمات فقط:
جاء في بعض التفاسير: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف ما لا تعلمون على المفاسد التي ذكرتموها، سأجعل فيهم الأنبياء، أُرسِل فيهم الرسل، فيهم الصدّيقون، والشهداء، والصالحون، والعبَّاد، والزهَّاد، والأولياء، والأبرار، والمقرَّبون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبَّون له تبارك وتعالى، والمتبعّون لرسله.
وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون.
إذاً: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يوجد عباد مؤمنون، صادقون، مخلصون، محبِّون، ورعون، مقبلون، محسنون، متفوِّقون، العبرة أن تأتي النتائج وَفْقَ المقدمات فقط:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾
الملف مدقق