اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرٍنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بعض أقوال المفسرين في هذه الآيات الأربع التي افتتح الله بها سورة الفجر:
سورة اليوم هي سورة الفجر، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2 (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5)﴾
هذه الآيات التي افتتح الله سبحانه وتعالى بها سورة الفجر، اختلف المفسرون في تفسيرها، من أقوال المفسرين مثلاً:
الفجر معروف، الليالي العشر، هي الليالي العشر من ذي الحجة، وبعضهم قال: الليالي العشر من مُحرَّم، (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر) ، نوعان من الصلاة، الصلاة ذات الركعات الأربع هي الشفع، والصلاة ذات الركعات المُفردة هي الوتر، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) ، أي يسري، هذه بعض أقوال المفسرين في هذه الآيات الأربع، التي افتتح الله بها سورة الفجر.
ولكن بعض المفسرين اختاروا لهذه الآيات معانٍ، تجعلها جميعاً في موضوعٍ واحد، فمثلاً لو أنَّ أحداً قال لك: ساعةٌ وعقارب وميناء وعجلات، قد تقول: يا أخي معنى العقارب جمع عقرب، وهي حشرةٌ سامَّة، والميناء مكانٌ على البحر يستقبل السفن، والعجلات عجلات السيارة أو القطار، أمّا حينما قال لك القائل: ساعةٌ وعقارب وميناء وعجلات، إذا بحثت عن معانٍ أُخرى لهذه الكلمات، بحيث تغدو جميعاً في موضوعٍ واحد، تقول الساعة وعقاربها وميناؤها وعجلاتها، فبعض المفسرين توخيّاً لوحدة الموضوع.
الله سبحانه وتعالى يقول لك: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
ما علاقة الفجر بالليالي العشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر؟ أول آيةٍ كونية، وآخر آيةٍ كونية، وبينهما آياتٌ لا علاقة لها بالكون، فإذا قلنا وبالله المستعان، (وَالْفَجْرِ) ، هذا الفجر الذي نعرفه جميعاً، ما الذي يُظهِر عظمة الفجر؟ الليل، اركب قارباً بين مدينتين، أو بين مدينةٍ وجزيرةٍ ليلاً، تُحسُّ بالوحشة، بل والخوف، ادخل في غابةٍ ليلاً، تُحسُّ بالوحشة والخوف، يأتي الفجر فترى به كلَّ شيء، ترتاح نفسك للفجر وتستأنس به، يأتي بعد طول انتظار.
الفجر له معانٍ كثيرة، معناه الضيِّق الذي جاء في هذه الآية، أنَّ الأرض كرة، وهي تدور حول نفسها دورةً معتدلة بسرعةٍ تساوي ألفاً وستمائة كيلو متر في الساعة، هذه الدورة المعتدلة حول نفسها مع وجود الشمس، طبعاً سطح الأرض يسير باتجاه الشمس، فيتخلى عن ظلمته ويستقبل ضياء الشمس، ولولا دوران الأرض حول نفسها لما كان فجر، ولولا أنَّ شكل الأرض كرةٌ، لما كان هذا الفجر الذي يأتي بالتدريج، لو أنَّ الأرض مكعب وكانت تدور حول نفسها، تأتي الشمس فجأةً، ولا يخفى عليكم ما بإشراق الشمس المفاجئ من أضرار، وما لغياب الشمس المفاجئ من أضرار، مجيء الليل بالتدريج، ومجيء النهار بالتدريج، فكلمة (وَالْفَجْرِ) ، تعني أنَّ الأرض كرة، وكلمة (وَالْفَجْرِ) ، تعني أنَّ الأرض تدور حول نفسها، وكلمة (وَالْفَجْرِ) ، تعني الشمس، لو أنَّ الأرض تدور حول نفسها وليس هناك شمس، فما قيمة هذا الدوران؟ لا معنى للدوران من دون شمس، ولا معنى للنهار من دون الليل.
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾
﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37)﴾
الليل آية والنهار آية، أي من حكمة الله عزَّ وجل، أنَّ إشراق الشمس هذه الآية الكبيرة، ومن آياته الشمس، ما كان لك أن تعرفها لولا الليل، حينما تستقبل ضوء الشمس تعرف قيمته بعد أن غاب عنك، وحينما تستقبل دفء الشمس تعرف قيمتها بعد أن حلَّ بك البرد، البرد يُظهِر لك قيمة الشمس، والظلام يُظهِر لك قيمة الشمس، ودورة الأرض حول نفسها من معاني الفجر، وكون الأرض كرةً، هو الذي يسبب هذا الانسياب اللطيف التدريجي لضوء الشمس، فربنا عزَّ وجل حينما قال: (وَالْفَجْرِ) ، أي هذه آيةٌ كبيرة تُلفِت النظر، هل فكَّرنا فيها؟ هل جلسنا جلسةً صباحيةً بعد صلاة الفجر لنفكِّر في الفجر، ومن آياته الله سبحانه وتعالى أقسم بالفجر، قال: (وَالْفَجْرِ) ، فربنا عزَّ وجل يُلفِت نظرنا في هذه الآية إلى بعض آياته.
خَلَقَ الله سبحانه وتعالى كلُ شيءٍ بقدر :
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) كلكم يعلم أن للأرض تابعاً وهو القمر، والقمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، وإذا جمعنا دوراته الاثنتي عشر، تشكل هذه الدورات سنةً قمرية، كلكم يعرفها هي رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجة وغيرها، هذه الأشهر القمرية إذا وازنّاها مع الأشهر الشمسية، الأرض تدور حول الشمس دورةً كل اثني عشر شهراً، دورة، بين السنة القمرية والسنة الشمسية فرقٌ هو (لَيَالٍ عَشْرٍ) الجو العام جو كون:
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ) أي القمر يدور حول الأرض، وينشأ من دورته سنةٌ قمرية، والأرض تدور حول الشمس وينشأ من دورانها سنةٌ شمسية، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية (لَيَالٍ عَشْرٍ) هو الفرق، كلكم يعلم أنَّ رمضان في كل عام يقترب عشرة أيام، بعض المفسرين في سورة الكهف فسَّر قوله تعالى:
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)﴾
لو حسبت الفرق بين السنوات الثلاثمئة الشمسية والقمرية، لرأيت الفرق بينهما تسع سنوات بالضبط، فهذا النظام الكوني، من جعل هذا التفاضل بين دورة القمر ودورة الأرض حول الشمس، هذا التفاضل مدروس دراسة دقيقة، أي كل شيء بقدر.
الإنسان يعرف الله سبحانه وتعالى من خلال الفكر :
بعضهم فسَّر قوله تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾
أي السمع والبصر والشمُّ والإحساس وهذه الحواس الخمس، وبُعد الأرض عن الشمس، وبُعد القمر عن الأرض، وبُعد الشمس عن بقية الكواكب، كل هذه المسافات مدروسة بدقةٍ بالغة وبحكمةٍ منقطعة النظير، لذلك ربنا عزَّ وجل متابعةً للسياق العام، لا يمنع أن نقول عشرة ذي الحجة أو عشرة من محرم، ولكن تفسير آخر يؤكِّد ارتباط هذه الآيات بعضها ببعض ويجعلها متناسقةً في موضوعٍ واحد.
(وَالْفَجْرِ) ، هذا النظام البديع الذي ينطوي على شمسٍ، وعلى أرضٍ، وعلى دورةٍ، وعلى شكلٍ كروي، وعلى أشعةٍ ذات دفءٍ وذات ضوءٍ وما إلى ذلك.
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) فكِّر أيُّها الإنسان بهذا النظام البديع الذي جعله الله على نمطين، سنةٍ قمرية وسنةٍ شمسية وجعل بين السنتين تفاضُلاً هو (لَيَالٍ عَشْرٍ) بالضبط كما وردت في هذه السورة.
(وَالشَّفْعِ) أي الزوج، الأرض والقمر شفعٌ، والشمس وحدها وتر، لأن الارتباط دقيقٌ جداً بين الشفع والوتر، والليالي العشر، والفجر، فالإنسان إن لم يجُل فكره في هذه الآيات كيف يعرفه؟ فالإنسان يعرف الأشياء بحواسّه، تعرف الحرارة بحاسّة اللمس، يقول لك: الطفل مفتِّر، عندك حاسّة، هذه معرفة مباشرة، ترى الشيء بعينك، تسمع صوته بأُذنك، تُحسُّ وجوده بيديك، فالإنسان مزوَّد بحواس يتعرَّف بها على الأشياء، ولكنّه كيف يعرف الله سبحانه وتعالى؟ لا يعرفه إلا من خلال الفكر، الله سبحانه وتعالى بثَّ كوناً معجزاً وخلق فكراً دقيقاً، فإذا أعملت هذا الفكر في هذا الكون عرفت الله عزَّ وجل، وإذا عرفت الله عرفت كل شيء، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدّتني وجدت كل شيء، وإن فِتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء.
عندما يذكر ربنا عزَّ وجل عناوين بعض الآيات الكونية، ألا تستنبطون معي أنَّه لا بُدَّ من التفكُّر بها، أنَّ هذه الموضوعات موضوعات للتفكُّر، أنَّك إذا أردت أن تعرف الله فهذه آياته.
الإنسان إذا فكَّر في مخلوقات الله عرف الله:
إذا قال لك أحد الأشخاص: هل ترغب بغرفة نوم؟ فتقول له: طبعاً، فأنا أبحث عن غرفة مُتقنة جداً، فقال لك: يوجد لديك هذان النجَّاران، عرض عليك شخصين واحداً أسمر اللون والآخر أبيض، وقال لك: انتق أحدهما، وأنت تريد أن ترى صنعتهما أولاً، فأنت تطلب الصنعة، وأن ترى غرفة نوم صنعها الأول وغرفة نوم صنعها الآخر، فتتفحَّصها وترى دقة الصنع، والانسجام في الألوان والمتانة، فأنت لديك مقاييس، فهل تعرف النجَّار من شكله؟ لا، بل من صنعته، كذلك ولله المثل الأعلى، الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لا يُدرَك بالحواس، ولكن يُدرَك عن طريق التفكير، فالإنسان إذا فكَّر في مخلوقات الله عرف الله.
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)﴾
آيات، حيثما التفتَّ وجدت آيةً، في حياتك اليومية ملايين الآيات، إذا دخلت إلى بيتك تجد آلاف الآيات، ابنك آية، كأس الماء الذي تشربه آية، هذا الطعام الذي تأكله آية، هذه الفاكهة التي تتفكَّه بها آية، هذا الدفء الذي تنعم به آية، هذا الفراش الذي تنام عليه من صوف، مَن خلق الصوف؟ آية، هذا القطن الذي حُشيت به وسادتك، آية، وهذا الإسمنت وهذا الحديد الذي أُقيم به بناؤك آية.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)﴾
الأدوات في المطبخ آية، غاز الاشتعال الذي تستخدمه آية، بنتك آية، طباعها آية، طباع ولدك آية، زوجتك آية.
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
الليل والنهار آيتان من آيات الله الدالة على عظمته :
لماذا تستهلك هذه الآيات استهلاكاً رخيصاً؟! إن استهلكت هذه الآيات استهلاكاً لم تعرف قيمتها ولم تعرف قيمة الذي خلقها لك، ولكنَّك إذا تفكَّرت بها وعبرت منها إلى الله عزَّ وجل رأيت الله من خلالها، عندئذٍ تكون قد أفلحت ونجحت في حياتك.
ربنا عزَّ وجل ليس من باب الصدفة وليس من نافلة القول، أن يبدأ معظم هذه السوَر في الأجزاء الأخيرة من كتاب الله التي نزلت بمكة المكرَّمة، حيث بدأ النبي الكريم ينشر دعوة الإسلام، ليس غريباً أن تكون هذه السوَر طافحةً بآيات الله.
الفجر وحده آية، لاحظ حتى الحيوانات حينما تشرق الشمس تستيقظ، وحينما تغيب الشمس تعود إلى أوكارها، إلى مأواها، هذا الإشراق تدريجي، ومجيء الليل تدريجي، وهذه آيةٌ كبرى من آيات الله.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2 )وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) الليل يسير، الليل يسير من خلال دورة الأرض حول نفسها، انظر كيف أنَّ ربنا عزَّ وجل، جمع هذه الآيات بآيةٍ في أول الآيات، وآيةٍ في آخرها، الأولى هي الفجر، والثانية والليل إذا يسر، أي يطلع الفجر من هنا، ويأتي الليل من هناك.
الآيات القرآنية الكونية أكثر من أن تحصى :
في ساعةٍ من ساعات النهار ولتكن ساعة الفجر، انظر إلى شرق الأرض ترى ضياءً، انظر إلى غربها ترى ظُلمةً، جاء النهار من هنا، وذهب الليل من هنا، مساءً تُعكس الآية، ترى الغرب مُضيئاً والشرق مُظلِماً، أقبَل الليل، الليل والنهار آيتان من آيات الله، والشمس والقمر آيتان من آيات الله، وشكل الأرض آيةٌ من آيات الله، وهذا الجو الذي ننعم به آيةٌ من آيات الله، فأين تذهبون؟! ما الذي يشغلكم عن التفكُّر بآيات الله؟
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)﴾
﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)﴾
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
فالآيات القرآنية الكونية أكثر من أن تحصى.
تسمية العقل حِجراً لأنَّه يحجز صاحبه عن الأغلاط والانحراف:
بعد ذلك يقول الله عزَّ وجل: (هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) الحِجر قال بعض المفسرين: هو العقل، لِمَ سُمّيَ العقل حِجراً؟ لأنّه يحجر صاحبه عن الأغلاط، فضع قطعةً من اللحم أمام هرّةً وهي جائعة فماذا تفعل؟ تثِب عليها وتأكلها، العلماء قالوا في عالم الحيوان إثارة واستجابة فقط، أمّا في عالم الإنسان إثارةٌ ومحاكمةٌ واستجابة، قد تكون جائعاً واللحم في المطعم معروضٌ أمامك ولا تأكله لأنَّه ليس لك، وقد تكون جائعاً والطعام في بيت صديقك، لم يدعُك إلى الطعام فلا تأكل، فهناك شيءٌ يمنعك، ما الذي يمنعك عن أن تأخذ مالاً ليس لك؟ هو الحِجر أي العقل، ما الذي يمنعك عن أن تنظر إلى امرأةٍ لا تحلُّ لك؟ هو الحِجر العقل، ما الذي يمنعك عن أن تقبل مبلغاً غير مشروع؟ هو الحِجر العقل، ما الذي يمنعك عن أن تستقلَّ بزوجتك وتنسى أُمَّك؟ هو الحِجر العقل، فعندما سمّى ربنا عزَّ وجل كلمة العقل حِجراً، لأنَّه يحجز صاحبه عن الأغلاط، وعن الطغيان، وعن الفساد، وعن الانحراف، وعن التردّي في المعاصي، ولذلك، (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) سمّاه الله حِجراً، وسمَّاه الله لُبّاً.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)﴾
وسمّاه الله عقلاً، قال: يا رسول الله أأعقلها أم أتوكَّل على الله؟ قال: اعقِل وتوكَّل.
(( قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ أَعقِلْها وأتوكلُ أو أُطْلِقُها وأتوكَّلُ قال اعقِلْها وتوكَّلْ ))
(( تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتا إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذَّرَّة في جنب أُحُدٍ، وما قسم الله لخلقه حظاً هو أفضل من العقل واليقين ))
[ كنز العمال عن الحكيم عن طاووس ]
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له ))
الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل فجعل له فكراً يستطيع أن يرى به الأخطار قبل أن تقع:
مثال قد خطر في بالي: الحيوان لا يخاف إلا إذا رأى الخطر بعينه، هذا مستوى متدنٍّ من الحياة النفسية، لا يتّقي الخطر إلا إذا رآه بعينه، ولكن الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل فجعل له فكراً يستطيع أن يرى به الأخطار قبل أن تقع، وهذا تكريم الله عزَّ وجل، فإذا عطَّل الإنسان فكره ولم يُعمله في الكون، وواجه الأخطار عند الموت، فإذا هو من أهل الجحيم، نقول له: أين عقلك؟ أين فكرك؟! العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، ولذلك فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)﴾
أكاد أُخفيها، حتى يظهر الإنسان وعقله، فإذا واجه الإنسان انهداماً في الطريق فجأةً، إمّا ينجو أو لا ينجو، إذا كانت هناك إشارات ولافتات وشاخصات على الطريق تدل على وجود تحويلة مثلاً، أو هناك منحدر خطر، أو منعطف خطر، هذه الإشارات إن لم تستخدمها، وإن لم تعبأ بها، وإن لم تنظر إليها، لا يُسمّى الإنسان عاقلاً، ولا يُسمّى مُفكِّراً (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) .
الخطر خطر الآخرة، لا يُرى الآن بالعين، فالناس الآن يستوون في هذه الحياة، المؤمن وغير المؤمن، المؤمن ساكن في بيت يأكل ويشرب وله عمل، وهذا المُرابي يسكن في بيت ويأكل ويشرب وله عمل، والذي لا يبالي بطاعة الله يعيش كما يعيش المؤمن، والذي يعتدي على حقوق الآخرين يعيش كما يعيش المؤمن، الخطر لا يُرى بالعين ولكن الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل، عليه أن يرى الأخطار قبل وقوعها، وأن يرى أن لهذا الكون إلهاً، ويستحيل على الله عزَّ وجل أن يدع الناس هكذا هملاً.
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
الحياة من دون آخرة لا يستقيم معناها ولا تكمُل:
تجد جامعة فيها أبنية فخمة شاهقة، وحدائق غنَّاء، ومدرّجات تتسع للأُلوف، ومخابر فيها أدقّ الأجهزة، وفيها إدارة حازمة، وفيها سجلاّت وأرشيف دقيق، ومكتبة غنيّة بالمجلدات والمؤلَّفات وأمّهات الكتب، وملاعب ومساكن للطلاّب، وهذه الجامعة ينقصها شيءٌ واحد هو الامتحان، ولولا الامتحان لكان إنشاء الجامعة عبثاً، أمّا الامتحان فهو الذي يُقيِّم الطلاّب، وهو الذي يكشف الذي بذل جهداً والذي لم يبذل جهداً، فالامتحان هو الذي يكشف مؤهَّلات الطلاّب، لذلك الحياة الدنيا بلا آخرة لا معنى لها، وليس الكمال في الجامعة أن ينجح جميع الطلاّب، لا، الكمال في الجامعة أن تأتي النتائج متوافقةً مع المقدِّمات، فيجب أن لا ينجح الطالب الكسول، والذي بذل جهداً يجب أن ينجح، والنجاح درجات، فهناك امتياز، وجيّد جداً، وجيّد، وكذلك مقبول، فالروعة في النظام الجامعي لا أن ينجح جميع الطلاّب، لا، الروعة أن تأتي نتائج الجامعة متوافقةً مع جهد الطلاّب، فمادام هناك حساب دقيق، ومادام هناك ميزان دقيق، ومادام هناك تقييم دقيق فهذا شيءٌ جميل.
الأرض فيها قوي وفيها ضعيف، فيها غني وفيها فقير، فيها صحيح وفيها مريض، فيها إنسان أُتيح له كلُّ شيء وإنسان لم يُتح له شيء، إذا كانت الحياة الدنيا هي كل شيء نقول: الخلق فيه نقص، ما ذنب هذا الذي حُرِم من نعمةٍ مُعيَّنة، ما ذنب هذا الذي حُرم نعمة الأولاد، لمَ حُرم هذا وأُعطي هذا؟ لمَ كان هذا قوياً وهذا ضعيفاً، لمَ كان هذا غنياً وكان هذا فقيراً؟ الحياة من دون آخرة لا يستقيم معناها ولا تكمُل، يأتي يوم الدين يحاسب الغني على ماله، من أين اكتسبه وفيما أنفقه، يحاسب الفقير أصبرت لوجه الله؟ هل دعاك فقرك إلى كسب مالٍ حرام أم تعفّفت؟ يحاسب القوي ماذا صنعت من أجل هؤلاء الضعاف الذين كانوا تحت رعايتك؟، يحاسب الضعيف هل أعنت الناس على حاجاتهم؟ فكل إنسان عندئذٍ يحاسب، فحينما تأتي النتائج في الآخرة متوافقةً مع المقدمات في الدنيا، فهذه هي العدالة، ولذلك لا يمكن أن يستقيم معنى الحياة إلا بالإيمان باليوم الآخر.
عندما يُعرض على الإنسان مبلغ كبير جداً من أجل أن يخون ضميره، إن كان طبيباً مثلاً، أو كان محامياً ويقول إني أخاف الله ربَّ العالمين، معاذ الله أن أفعل هذا، فإذا بقي هذا المُتعفِّف فقيراً وانتهت الحياة وليس بعد الحياة حياة، ألا يُعدُّ هذا أحمقاً؟ لكن إذا كان هناك يومٌ آخر، وكان هذا التعفُّف غالي الثمن وقبض، هذا الذي قال: إني أخاف الله ربّ العالمين، قبض سعادةً أبديةً لا تنتهي، نقول: هذه هي العدالة، هذا الذي قال: إني أخاف الله ربّ العالمين، هذا المُتعفِّف عن المال الحرام، هذا الذي أبى أن يخون ضميره، أبى أن يعمل خلاف قناعته، نقول له:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
معظم الآيات قرن الله فيها الإيمان بالله واليوم الآخر:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾
لو تبَّعتم كتاب الله من دفته إلى دفته، من البقرة إلى الإخلاص، لوجدتم أن معظم الآيات قرن الله فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الإيمان بالله فقط لا يكفي.
لهذا الكون خالق، فلمَ الفقر؟ ولمَ الضعف؟ لمَ هناك أزمات طاحنة والله غني؟
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)﴾
﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)﴾
لمَ شحُّ الأمطار؟ لمَ شحُّ الإنتاج الزراعي؟ لمَ هذه الآفات التي تصيب الزرع لمَ؟ أمّا هذه معالجات، هذه حياةٌ مؤقتة، حياة جدٍ واجتهاد، حياة كسبٍ، حياة اختيارٍ، والآخرة هي دار القرار، ولذلك الإمام الشبلي رضي الله عنه قال: <<قرأت أربعمئة ألف حديـث، ثم استقر على حديثٍ واحد، رأى فيه عِلم الأولين والآخرين، اعمل للدنيا بقـدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر مقامك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واتق النار بقدر صبرك عليها>> ، يعني الموت أمامنا، لا يوجد يوم إلا فيه جنازة أو جنازتان أو ثلاث، يعني هذا الذي مات أنا لن أكون مثله، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا.
انظر إلى هذه النعوات في الطريق، البطولة أن تأتي هذه الساعة وأنت أبيض الوجه، وأنت طاهر القلب، ليس في قلبك غِلٌ لأحد، وليس في مالك كسبٌ من حرام، وليس في سلوكك معصيةٌ لله عزَّ وجل، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) .
لا يعصي الله إلا إنسانٌ عطَّل فكره وهذا ملخص الملخص:
عندما يفكر الإنسان في الموت كل يوم خمس دقائق، فأنت عوِّد نفسك على ذلك، هذا التفكير ليس من باب التشاؤم، العوام يظنونه تشاؤماً، لا، فالمؤمن يرى الموت بين عينيه كلَّ يوم، فإذا كان الموت بين عيني الإنسان انضبط سلوكه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي هذه الآيات الكونية ألا تكفي أصحاب العقول، يا أصحاب العقول أين العقول؟ عقلُّ الإنسان أن يحجزه عن معاصي الله، لا يعصي الله إلا أحمق، لا يعصي الله إلا غبي، لا يعصي الله إلا إنسانٌ عطَّل فكره، فلذلك: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) .
إذا لم يُبالِ الإنسان في هذه الآيات، فما قيمته؟ قال لي رجُل التقى مع شخصٍ أجنبي، حدَّثه عن الله قال له: أنا مؤمن بوجوده، قال له: بالآخرة؟ قال له: لا أؤمن بها، بعد ذلك قطع عليه المناقشة، قال له: هذه الموضوعات كلها لا تعنينا، ولا تهمنا، ولا تُمتِعنا، يعنينا شيءٌ واحد، بيتٌ كبير، وسيارةٌ كبيرة، ودخلٌ وفير، هذا ملخص الملخص.
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
لمّا يُعرِض الإنسان عن الله عزَّ وجل، لا يُفكِّر بآيات الله، ولا يعبأ بها، ولا تعنيه، ويجعلها وراء ظهره، الآن حدِّث الناس بالدنيا تجد آذاناً صاغية، حدثهم عن أسعار العملات، وحدثهم عن موضوعات التجارة، وعن موضوعات البيوت، عن أحدث جهاز للتسخين في البيت، وعن التدفئة المركزية، وكل شيء له علاقة بالرفاهية، ومتع الحياة تجد آذاناً صاغية، أمّا حدثهم عن الدار الآخرة فيتثاءبون، يعتذرون، لذلك:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
إذا لم يفكر الإنسان بهذه الآيات وقال: هذه لا تعنيني، يعنيني الطعام والشراب، والدخل الوفير والزواج، والبيت المريح، وتجارةٌ رائجة، ومشروعٌ ناجح، ومزرعةٌ جميلة، نقول له:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
فرعون، والمقصود بكلمة فرعون في هذه الآية فرعون موسى، وفرعون ذي الأوتاد، هذه الأهرامات قال معظم المفسرين: الأهرامات، تأمّل صنعها، شيءٌ يكاد يفوق حد التصوّر، ارتفاعٌ شاهق، أحجارٌ كبيرة، حتى أن بعضهم قال لي: إنَّ في الأهرام شقّاً، توجد دراسة هندسية رائعة جداً، بحيث لا تدخل الشمس منه إلا في يومٍ واحدٍ من أيام السنة، هو يوم وفاة مَن دُفن في هذا الهرم، فهل يمكن أن تعمل شقاً ضيقاً جداً بحيث لا يسمح للشمس إلا أن تدخل فيه في العام مرةً واحدة، فهذا أرقى أنواع الهندسة، حتى الآن الفراعنة حينما حنطوا الموتى، لا يعلم سرَّ تحنيطهم أحد، في الأهرامات قمح زُرع فنبت، وكان قد خُزِّن أكثر من سبعة آلاف عام، وفي الأهرام قبور وفيها أجسادٌ محنَّطة، قبل سنتين أو أكثر قرأت في الأخبار أن فرعون موسى نُقل إلى باريس ليتلقى العلاج، أليس هو مُحنَّطاً؟ أصابه بعض التعفن فنقل إلى باريس وتمت معالجة جسده المُحنَّط، وأعيد إلى مصر، ما هذا العِلم؟ إنسان قبل آلاف السنين هو هو.
فربنا عزَّ وجل قال: (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) قال: هذه عاد الأولى اسمها إرم، قبيلةٌ كانت جبارةً تعيش بين حضرموت والرَبع الخالي، وكانت خيامها على أعمدة، وكانت مسيطرة على المنطقة كلها.
الله عزَّ وجلَّ وصف قوة عاد وبطشها وجبروتها وهيمنتها بهذه الكلمات الموجزة:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) هؤلاء حينما لم يفكروا في هذه الآيات، ولم يعبؤوا باليوم الآخر، والتفتوا إلى شهواتهم وانغمسوا مع ملذاتهم، أصابهم العمى، فطغوا وفسدوا، عندئذٍ استحقوا الهلاك، فجاءت آية الله عزَّ وجل قاطعةً (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) الله عزَّ وجل وصف قوتها وبطشها وجبروتها وهيمنتها بهذه الكلمات الموجزة، (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) .
ففي كل عصر يوجد دولة في العالم متفوقة جداً، يقول لك: هذه معها أسلحة ذرية، ومعها قنابل إذا ضربتها على المدن مات الناس فقط، الآن أحدث قنبلة إذا أُلقيت على مدينة مات جميع سكانها وتبقى البيوت كما هي، والأجهزة كما هي، وكل ألوان الرفاه في المدينة، بيوتها وقصورها ومزارعها ومصانعها وأماكنها العامة وحدائقها، كما هي لا يموت إلا الإنسان، هذا أحدث ما اخترعه العقل البشري التدميري، هذه الدولة عندها أسلحة كيميائية إذا وضعت في ساحات القتال أصيب الناس بالهوس وبعض الأمراض الوبيلة النفسية، وعندها أسلحة جرثومية وحارقة وخارقة ونفسية، يعني هذا وصف ربنا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)
كل فريق قوي في الدول العظمى يظن أن بيده نهاية العالم كما كانت عاد:
ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾
الآن كل فريق قوي يظن أنَّ بيده نهاية العالم، (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) أمرنا لا أمرهم، الأرض كروية، لأن هذا التدمير الشامل سيكون على أُناسٍ ليلاً وعلى أُناسٍ نهاراً، (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)
الآية التالية لها خاص ولها عام:
ربنا عزَّ وجل قال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) هذه الآية بالطبع لها خاص ولها عام، فخاصّها ينصبُّ على عاد، وعامُّها ينصبُّ على أيّة جهةٍ قويةٍ في الأرض تزعم أنّها أقوى قوةٍ في الأرض، وأنَّ لا أحد يقف في وجهها.
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) معنى جابوا: أي حفروا في الجبال بيوتاً كالجيوب، فليس معنى جابوا أحضروا، لا بل من الجيب، يوجد قصر بالبتراء في الجبل، قاعة الملك حجمها وقد رأيتها بعيني ثلاثون متراً عمقها، وثلاثون متراً ارتفاعها، وثلاثون متراً عرضها، محصورة في الجبل، مكعب كامل ضخم، وعلى مدخل هذا القصر الأعمدة والتيجان والزخارف، ولم يوضع في هذا البناء حجرٌ واحد، نحتٌ من الصخر، هذا شيء فوق طاقة الإنسان، (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) فإذا دخلت إلى البتراء وتعمَّقت فيها رأيت بيوتهم ومساكنهم ونواديهم، وأماكنهم العامة ومدَّرجاتهم.
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) الأوتاد أي الأهرامات.
العلاقة بين الطغيان وبين تجاوز الحق :
لكن ربنا عزَّ وجل لمَ سمّى عاداً عاداً؟ وثموداً ثموداً؟ ولم يُسمِّ أهل مصر بل قال: وفرعون، استنبط بعض المفسرين أن هؤلاء جميعاً ذابوا في فرعون ولم يبقَ لأحدٍ شخصيةٌ في حضوره، كقوله تعالى:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾
لذلك فالله لم يعطهم اسماً، بل كنّى عنهم بفرعون، أمّا ثمود وعاد فلها وضعٌ آخر.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يوجد علاقة بين الطغيان وبين تجاوز الحق، فأحياناً الإنسان يطغى على زوجته، لها حدود وله حدود، حينما يطغى على حقوقها يُفسِدُها ويفسُد معها، يُفسِدُها قهراً ويفسُد معها ظلماً.
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) إذا طغيت على حق من يشتري من عندك فرفعت عليه السعر، أو أعطيته بضاعةً سيّئة، فهذا طغيان، الطغيان كلمة واسعة جداً تُلخَّص بكلمةٍ واحدة: تجاوز الحد، إلى هنا حدُّك، تجاوزته، ينبغي أن تعطي هذا الإنسان حقّه، أحجمت عن إعطائه حقَّه طغيت عليه.
فالطغيان في هذه الآية يعني بالضبط تجاوز الحد وهذه كلمة واسعة جداً، فقد تؤخذ على مستوى أُسري، تجاوز الحد في معاملة الابن طغيان، وفي معاملة الأجير طغيان، وفي معاملة الجار طغيان، وفي معاملة الشاري طغيان، وفي أيّة معاملة، أنت مدير دائرة وعندك موظَّفون قد تتجاوز الحد في معاملاتهم فهذا طغيان، وكل طغيان فساد، علاقةٌ فاسدة، يعني علاقةٌ سيّئة.
العلاقة بين الطغيان وبين الفساد :
الطغيان يسبب الفساد، فساد ذات البين، فساد الطاغي، فساد الظالم، فالفساد أيضاً كلمة عامة
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
فإذا الإنسان انتقد بيتاً وقال لصاحبه: هذا بيتٌ صغير، كيف تسكنه؟ فأنت كرَّهته به بهذا القول، فحزن وتبرَّم وضاقت نفسه، وأفسدت علاقته مع بيته، إذا ذكرت له امرأةً تفوق زوجته، أفسدت علاقته مع زوجته، إذا رغّبته في الدنيا أفسدت علاقته بربه، إذا حملته على معصية أفسدت علاقته بآخرته، فالعلاقات كلّها قد تفسُد، قد تُفسِد علاقة الإنسان بعقله فيُعطِّله ولا يستخدمه، أو يسخِّره لشهواته، وقد تفسُد علاقة الإنسان بربه لا يطيعه، يحتال على الناس، يظلمهم، يعتدي عليهم، يطغى عليهم، وقد تفسُد علاقات المجتمع، فتبنى على النفاق وعلى الدجل وعلى الكذب، لذلك هناك علاقةٌ بين الطغيان وبين الفساد (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) .
هذه عاد وثمود وفرعون عندئذٍ: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) كلمة صب معناها الغزارة، فأحياناً تفتح الصنبور ينزل منه خيط من الماء، أما إذا صببت على هذا الشيء دلواً من الماء تقول: صب، أي الصب بمعنى الغزارة، والسوط بمعنى اللذع، أي عذابٌ مؤلمٌ غزير، عذابٌ مؤلمٌ وغزير في وقتٍ واحد، وهذا يستفاد من معنى: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
كل حركة وسكنة يفعلها الإنسان تحت المراقبة الإلهية:
أي إنَّ كل حركاتك وسكناتك، وخواطرك، ونواياك، وطموحاتك، وما تنوي أن تفعله وما تفعله، وما تكنُّه وما تسرّه وما تعلنه، مرصودٌ من الله عزَّ وجل، يعني مراقب مراقبةً دقيقة، أنت تحت المراقبة الإلهية.
إذا الإنسان ظنَّ أنّه تحت المراقبة البشرية لا ينام الليل، فكيف إذا كنت تحت الرقابة الإلهية، الذي يعلم السر وأخفى؟ قل ما شئت يعرف بواطنك، ويعرف نواياك، ويعرف خلفيّات القول، وطموحاتك من هذه الدعوة، ومن هذا اللقاء، والذهاب، والنزهة، والسفر، ويعلم كلّ شيءٍ عنك وأنت تحت رقابته، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
لذلك إذا كانت الزوجة عرفت هذه الآية لا تظلم زوجها، وإذا عرف الزوج هذه الآية لا يظلم زوجته، وإذا عرف صاحب العمل أن هذا العامل مضطّرٌ كيّ يعمل عندك فإذا عرفت الضرورة التي تحمله على العمل عندك واستغلّيت هذه الضرورة وخفَّضت الأجر ورفعت أوقات الدوام إن ربك لبالمرصاد، وإذا شعرت أن هذا الشاري بحاجة إلى هذه الحاجة فهي حاجة ماسّة، فرفعت السعر وأخفيت العيب وبعتها بسعرٍ مرتفع، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، والله هذه الآية فقط تكفي.
والله الذي لا إله إلا هو لو تذوّقنا معنى هذه الآية وحدها تكفي، ولانتظمت علاقتنا ببعضنا، لانتظمت علاقة العمل، وعلاقات الوظيفة والبيت والجيران، وأيّة علاقةٍ في الحياة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، الله يرى مَن الظالم، كثيراً ما أقول للزوجين (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، إن كنت تظلمها وتعتدي على حقّها (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، وإن كانت تهمل حقك وتعتدي على حقك (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
﴿ وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
الإنسان يجب أن ترتعد فرائصه من هذه الآية، والذي لا يخاف أحمقٌ.
أعلى الناس عند الله منزلةً أخوفهم من الله عزَّ وجل:
أعلى الناس عند الله منزلةً أخوفهم من الله عزَّ وجل، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
إذا كنت في جلسة وشعرت بوجود آلة للتسجيل فستنضبط أكثر، فتتوسل إلى صديقك أن يمحو ما سجل عليها من كلامك فلا يمحوها لك، ولو من باب المُزاح، بوجود المسجلة تجد نفسك منضبطاً، وإذا كانت هناك صورة وصوت فالانضباط يكون أكثر، وإذا كان تحت الرقابة الإلهية المستمرّة، في خلوتك وجلوتك في بيتك، ولذلك:
(( حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَتْنَا سَعِيدَةُ ابْنَةُ حُكَامَةَ قَالَتْ : حَدَّثَتْنِي أُمِّي حُكَامَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِيهَا ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَشْيَةُ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ وَالْوَرَعُ سَيِّدُ الْعَمَلِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَعٌ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِذَا خَلَا لَمْ يَعْبَأِ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ ))
[ أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء- مالك بن دينار ]
هل تُصلّي في البيت صلاةً متقنةً فيها خشوع، كما لو تُصلّي إماماً في المسجد؟ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، هل تخفي عيوباً في البيت وتظهر للناس الفضائل؟ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، لذلك عندما يتحقق الإنسان من هذه الآية ينضبط، ويصبح سرّه كجهره، فلا تجد عنده ازدواجية، فله موقف واحد، باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، ونواياه كما يقول، لذلك:
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
الإيمان عفيفٌ عن المحارم، عفيفٌ عن المطامع، فهذا الذي يُستفاد من هذه الآية، فإذا الإنسان فكّر في:
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2 (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) وتعرَّف إلى الله من خلالها، واستقام على أمره وعمل صالحاً سعد إلى أبد الآبدين، وإذا أعرض عن هذه الآيات ولم يعبأ بها، واتّبع شهواته وأهواءه، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) .
يوجد ارتباط دقيق جداً، إذا الإنسان قرأ القرآن من دون تفكُّر، من دون تدبُّر، يجد مقطعاً ليس له علاقةً بالآخر، (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2 (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5)أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) رأساً انتقل من الآيات الكونية إلى قصّة، هذه القصة تعني أنَّ هذا الإنسان إذا لم يفكّر في هذه الآيات، ولم يعبأ بها ولم يستقم على أمر الله ولم يعمل صالحاً، هذا مصيره كمصير عادٍ وثمود وفرعون تماماً، وهذا المصير المحقق، فإذا فكَّرت في هذه الآيات تنجو من هذا المصير الأسود.
الملف مدقق