وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 1013 - تفسير الأحداث في ضوء القرآن الكريم - رسالة أخت كريمة من رام الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى
 الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

مقدمة عن القوة:

 أيها الإخوة الكرام، في خطبتين سابقتين تحدثت عن القوة، وتحدثت عن قوة الحق، وعن حق القوة، وبينت أن كلاً من حق القوة وقوة الحق لا يغني عن الآخر، فكما أن قوة الحق تحتاج إلى حق القوة كذلك حق القوة يحتاج إلى قوة الحق.
 في الخطبتين السابقتين تبين أن لله سنناً في خلقه فما لم نكن مؤمنين الإيمان الذي يحملنا على طاعة الله، وما لم نعد لأعدائنا القوة المتاحة فالطريق إلى الفوز شبه مستحيل، قال تعالى:

 

﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

 

[ سورة الروم: 47]

 أي إيمان ؟ الإيمان الذي يحمل على طاعة الله، الإيمان الذي ينتهي إلى الالتزام بمنهج الله، ثم لا بد من إعداد العدة، وقد جاءت الآية:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

[ سورة الأنفال: 60]

 وجاءت كلمة قوة نكرة، و التنكير هنا تنكير شمول، يعني كل أنواع القوى.
 إن إنجازات عشرين أو ثلاثين عاماً تنتهي بيومين، كل المنشآت والجسور، ومحطات التوليد هذه كلها تنتهي في يومين، وقد كلف إنشاءها عشرين عاماً، فما قيمة أي إنجاز من دون قوة تحمي هذا الإنجاز ؟
 أن أية إنجازات على الأرض لا قيمة لها إطلاقاً ما لم تكن هناك قوة رادعة.
 نحن أيها الإخوة الكرام إذا أضفنا إلى الإسلام ما ليس منه أصبحنا شيعاً وفرقاً وطوائف، وكان بأسنا بيننا، وإذا حذفنا منه ما علم منه بالضرورة ضعفنا، فنحن بين أن يكون بأسنا بيننا إذا أضفنا إلى الدين ما ليس منه وبين أن نكون في مؤخرة الأمم، وعندئذ لا قيمة لقوة الحق الذي معنا، قوة الحق تحتاج إلى قوة كي تدعمها.

 

البطولة في فهم الأحداث وتفسيرها:

 أيها الإخوة الكرام، أعود وأقول: إنك تركب مركبة فتألق على لوحة البيانات ضوء أحمر، أين المشكلة ؟ هل المشكلة هو التأكد من تألقه ؟ لا، هو تألق حتماً، وعينك رأته يقيناً، ولكن المشكلة أن تفهم لماذا تألق.
 ما من واحد في العالم الآن إلا ويرى ويسمع ما يجري في كل القارات الخمس بعد دقائق، أليس كذلك ؟ القضية أصبحت مقطوعاً بها، الحدث تراه بعينك رأي العين مباشرة حياً، لكن البطولة أن نفسر هذا الذي حدث، هنا المتاهات، هنا الضلالات، هنا البعد عن الحقيقة، والبطولة أن نفهم على خالق الأرض والسماوات تحليل ما يحدث، قد نحلل تحليلاً أرضياً شركياً بعيداً عن تحليل القرآن، لذلك المؤمن الصادق يحرص حرصاً لا حدود له على أن يحلل ما يرى تحليلاً في ضوء القرآن الكريم، فصاحب المركبة إن فهم تألق هذا الضوء تألقاً تزيينياً احترق المحرك وتعطلت المركبة، وتوقفت الرحلة، وضاع الهدف، والمبلغ كبير لإصلاح المحرك أما إذا فهم تألق الضوء تألقاً تحذيرياً أوقف المركبة فوراً، وأضاف الزيت سلم المحرك، وتابع الرحلة، وحقق الهدف.
 إذاً أين المشكلة ؟ هل المشكلة أن هذا الضوء تألق أو لم يتألق ؟ المشكلة لماذا تألق ؟ لذلك هناك مئات التفسيرات لما يحدث تفسيرات قريبة بعيدة، صحيحة مغلوطة، مبالغ بها، مزورة مفتعلة، فعليكم بتحليل القرآن الكريم للأحداث التي تجري.

بدهيات مسلّم بها:

 أنا أضعكم أيها الإخوة الكرام أمام أربع بديهيات هل تصدقون أو تعتقدون لثانية وحدة أن الله لا يعلم ما يجري مستحيل:

﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴾

[ سورة الأنعام: 59]

 أيهما أخطر سقوط ورقة زيتون أم سقوط صاروخ، هل نعتقد وهل يقبل مؤمن أن يعتقد أن الله لا يعلم ما يجري على وجه الأرض ؟ يعلم، وهل واحد منا يعتقد أو يصدق أن الله لا يقدر على رد عدوان المعتدين ؟ زلزال تسونامي يساوي مليون قنبلة ذرية , ورأيتم كيف أن ثلاثمئة ألف إنسان ماتوا , وخمسة ملايين إنسان شردوا , وشبه قارة أبيدت فيها المدن عن آخرها بأيام معدودة , بل بساعات , إذاً الله يعلم , وعلمه مطلق، الله يقدر , وقدرته مطلقة.
 هل منا واحد يظن أو يتوهم أن الله لا يعنيه ما يحدث في الأرض، لأن الله عز وجل يقول:

 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

 

[ سورة الزخرف: 84]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف: 26]

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾

[ سورة الزمر: 62]

﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾

[ سورة الأعراف: 54]

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123]

 أن الله يعلم , وأن الله يقدر , وأن الله إله في الأرض , كما أنه إله في السماء هل تعتقدون أن الكافر يستطيع أن يفعل شيئاً ما أراده الله، لا يمكن للإله العظيم أن يقع في ملكه ما لا يريد , أي ما لا يسمح به، هل تعتقدون أن الكافر يمكن أن يتفلت من قبضة الله ؟ لا , كن فيكون , زل فيزول.

 

كيف نفسر الأحداث ؟

 كيف نفسر الأحداث ؟ نفسر الأحداث بأنه ما لم نقدم نحن المسلمين لله عز وجل الأسباب التي نستحق بها النصر فلن ننتصر، إن كل ما يحدث ضمن خطة الله، وينبغي أن نفهم على الله، فقد آن الأوان، آن الأوان لهذه الأمة التي تتلقى الضربات تلو الضربات، لذلك كما أننا بحاجة ماسة إلى قوة الحق فنحن بحاجة ماسة إلى حق القوة.

قصة سعيد بن جبير مع الحجاج: دروس وعبر:

 لذلك أيها الإخوة الكرام، كما ذكرت في خطب سابقة: النبي عليه الصلاة والسلام أسس إيماناً عند أصحابه , فلما انتقل إلى المدينة أسس كياناً قوياً , وما لم نتبع منهج رسول الله في تأسيس الكيان الإسلامي فلن ننجح.

أولاً: تفاصيل القصة:

 أيها الإخوة الكرام، تابعي جليل تابعي، وله مكان عند الله كبير جداً، هو سعيد بن جبير، أراد الحجاج أن يكرهه على شيء ليس قانعاً به، فتوارى عن الأنظار، ثم عثر عليه في قرية من قرى المدينة، أنقل لكم ما في كتب السيرة:
لما علم الحجاج بمكان سعيد بن جبير أرسل إليه سرية من جنوده، وأمرهم أن يسوقوه مقيداً إلى الحجاج في مدينة واسط، فأطبق الجند على بيت الشيخ، وألقوا القيد في يديه على مرأى من بعض أصحابه، و هموا بالرحيل إلى الحجاج، فتلقاهم هادئ النفس، مطمئن القلب، ثم التفت إلى أصحابه، وقال: ما أراني إلا مقتولاً، وقد كنت أنا وصاحباي في ليلة في عبادة، فاستشعرنا حلاوة الدعاء، فدعونا الله ما دعونا، وتضرعنا إليه بما شاء من تضرع، ثم سألنا الله عز وجل أن يكتب لنا الشهادة، وقد رزقها صاحباي كلاهما، وبقيت أنا أنتظرها، ثم إنه ما كاد ينتهي من كلامه حتى طلعت عليه بنية صغيره له، فرأته مقيداً، والجنود يسوقونه، فتشبثت به، وجعلت تبكي، وتنشج، فنحاها عنه برفق، وقال لها: قولي لأمك يا بنية: إن موعدنا الجنة إن شاء الله تعالى، ثم مضى، فبلغ الجند بالإمام الحبر العابد الزاهد التقي النقي الورع واسطاً، وأدخلوه على الحجاج، فلما صار عنده قال: ما اسمك ؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير، قال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك، هذا هو اسمي، قال: ما تقول في محمد ؟ هكذا، قال: تعني محمد بن عبد الله رسول الله ؟ قال: نعم، قال: سيد ولد آدم، النبي المصطفى، خير من بقي من البشر، وخير من مضى، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لله، ولكتابه، ولعامة المسلمين، وخاصتهم، قال: فما تقول في أبي بكر ؟ قال: هو الصديق، خليفة رسول الله، ذهب حميداً، وعاش سعيداً، ومضى على منهج النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يغير، ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر ؟ قال: هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو خيرة الله من خلقه، ولقد مضى على منهج صاحبيه، فعاش حميداً، وقتل شهيداً، قال: فما تقول في عثمان ؟ قال: هو المجهز لجيش العسرة، الحافر لبئر رومة، المشتري لنفسه بيتاً في الجنة، هو صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ولقد زوجه النبي بوحي من السماء، وهو المقتول ظلماً، قال: فما تقول في علي ؟ قال: ابن عم رسول الله، وأول من أسلم من الفتيان، وهو زوج فاطمة البتول وأبو الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، قال: فأي خلفاء بني أمية أعجب لك ؟ قال: أرضاهم لخالقهم، قال: فأيهم أرضى للخالق ؟ قال: علم ذلك عند ربي الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: فما تقول فيّ ؟ قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بل أريد علمك أنت ؟ قال: إذاً يسوءك ولا يسرك، قال: لا بد من أن أسمع منك، قال: إني أعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تقدم على أمور تريد منها الهيبة، وهي تقحمك في الهلكة، وتدفعك إلى النار دفعاً، قال: أما والله لأقتلنك، قال: إذاً تفسد علي دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: اختر لنفسك أية قتلة شئت ؟ قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أتريد أن أعفو عنك ؟ قال: إن كان العفو فأقبله من الله وحده، أما منك فلا، فاغتاظ الحجاج، وقال:السيف والنطع يا غلام، ليقتله، فتبسم سعيد، فقال له الحجاج: وما تبسمك ؟ قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم، الله عليك، قال: اقتله يا غلام، فاستقبل القبلة، وقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، قال: حرفوه عن القبلة، فقال سعيد بن جبير: أينما تولوا فثم وجه الله، قال: كبوه على الأرض، قال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، قال: اذبحوا عدو الله، فما رأيت رجلاً أدعى منه لآيات القرآن الكريم، فرفع سعيد كفيه، وقال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي، قال: فلم يمضِ على مصرع سعيد بن جبير غير خمسة عشر يوماً حتى حم الحجاج، واشتدت عليه وطأة المرض، فكان يغفو ساعة، ويفيق أخرى، فإذا غفا غفوة استيقظ مذعوراً، وهو يصيح: هذا سعيد بن جبير أخذ بخناقي، هذا سعيد بن جبير، يقول: فيمَ قتلتني ؟ ثم يبكي، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير، ردوا عني سعيد بن جبير، فلما قضى نحبه، ووري في ترابه رآه بعضهم بالحلم، فقال له: ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج ؟ قال: قتلني الله بكل امرئ قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.

ثانيا: الاستنباطات والعبر:

 أيها الإخوة الكرام، هناك استنباطات كثيرة من هذه القصة:
 1 ـ أن العبرة بهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض، هذه لمن كان على منهج الله، ولمن كان على سنة رسول الله، لمن كان على الحق.
 2 ـ العبرة أن الإنسان بعد الموت يدفع ثمناً باهظاً أو يتلقى مكافأة ثمينة.
 3 ـ هذه القصة مؤلمة، ولكن الحياة دار ابتلاء، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لن يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
 أيها الإخوة الكرام، يقول الإنسان يوم القيامة:

﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[ سورة الفجر: 24]

 4 ـ هذه الحياة التي نحياها لا قيمة لها عند الله , وهي أحقر من أن تكون مكافأة لعبد أو عقاباً لعبد، قال تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

 

[ سورة الأنعام: 44]

 5 ـ القوى، المال , التحالفات , الإعلام , كل عناصر القوة بأيدي أعدائنا , وهم يتفننون بإذلال الشعوب , و بقهرها , يتفننون بافتعال حجج واهية من أجل الهيمنة على الشعوب , وعلى مقدرات الشعوب.
 أيها الإخوة الكرام، من أجل أسيرين تدمر بلاد بأكملها , جسورها , مطاراتها , بنيتها التحتية , كهرباءها , من أجل أسيرين فقط , هناك من يستخدم القوة بجنون ما بعده جنون.
 6 ـ أيها الإخوة الكرام، العبرة بهذا الأبد المديد الذي لا ينتهي، حيث يحكم فيه ملك عادل، والدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيه ملك عادل.

 

 الإمام الحسن البصري أدى أمانة التبيين، بلغ الحجاج ما قاله الإمام الحسن البصري فثارت ثورته، وغضب أشد الغضب، وقال لمن حوله: يا جبناء، والله لأروينكم من دمه، وأمر بقتله، وجاء السياف، ومد النطع، وجيء بالحسن البصري، فلما دخل رأى الوضع كما هو واضح، فحرك شفتيه، ولم يفهم أحد ماذا قال، فإذا بالحجاج يقف له، ويقول له: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء، وما زال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره، ليس معنى هذا أن مقام الحسن البصري أعلى من مقام سعيد بن جبير، لكن لكل واحد حكمة، ومازال يدنيه حتى أجلسه على سريره، واستفتاه في موضوع، وعطره، وضيفه، وشيعه، الذي صعق هو الحاجب، فتبعه، وقال: يا إمام، لقد جيء بك لغير ما فعل بك، فماذا قلت لربك ؟ قال: قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
 وأنتم أيها الإخوة الكرام، في جوف الليل ادعوا الله أن يحفظ بلادنا، أن يحفظ أراضينا، أن يحفظ المسلمين جميعاً من كيد هؤلاء المجرمين، لا نملك الآن إلا الدعاء، لا نملك إلا التضرع في جوف الليل،

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له ؟ حتى ينفجر الفجر ))

[ أحمد]

تداعيات القصة:

 أيها الإخوة الكرام، ما الذي حصل ؟ الآن أطلب منكم أن تهيئوا أنفسكم لهذه الحقائق , قد تقبلونها , وقد لا تقبلونها , إن أصبت فمن توفيق الله , وإن لم أصب فهذا من خطئي:
 الحقيقة أن علية القوم جاءوا إلى الحسن البصري، وقالوا: جئنا نسألك عن الحجاج , فقال الحسن البصري: أولا تعلمون رأيي في الحجاج ؟ قالوا: نعلم , ولهذا جئنا نسألك، فقال: إن ظلم القوي هو نقمة الله علينا , فمن هو القوي ؟

من هو القوي ؟

 أيها الإخوة الكرام، أي إنسان تراه قوياً هو قوي , لأن الله سمح له أن يكون قوياً وإلا ينهيه بثانية واحدة، القوي ليس معنى ذلك أنه على حق , قد يكون أظلم ظلام الأرض قد يكون أشد المجرمين جرماً , لكن لأنه قوي سمح الله له أن يبقى قوياً إلى حين , قال تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾

[ سورة يونس: 24]

 ظن أهلها أنهم قادرون عليها , الأسلحة منوعة , والأسلحة فتاكة , والأسلحة مداها بعيد جداً , دقة إصابتها مذهلة , يعني لا يصدق، الإنجاز العسكري في العالم الغربي شيء لا يصدق , قنبلة تقتل البشر , وتبقي الحجر، قنبلة تلغي الاتصالات، قنبلة تلغي الطاقات، قنبلة حارقة , وخارقة تخترق مترا من الإسمنت المسلح , وتنفجر في الملجأ قنبلة تهتدي بأشعة الليزر، قنبلة انشطارية , قنبلة عنقودية , قنبلة ذكية، أقمار صناعية إعلام , كل الشيء بيدهم، نحن كنا نائمين , نمنا مئتي عام , الآن ندفع الثمن باهظاً إنجازات بلد تلغى كلها في يومين فقط , ما قيمة الإنجازات ؟ ما قيمة أنك على حق ؟ ما قيمة أن معك وحي السماء ؟
 أيها الإخوة الكرام، قال الحسن البصري: " إن ظلم القوي هو نقمة الله علينا ".
 سئل مرة تيمور لنك: من أنت ؟ قال: أنا غضب الرب.

 

من مَظاهر غضب الله ؟

 

 الإنسان إذا غضب يرفع صوته , يكسر ما بيديه , يغلق الباب بعنف , يشتم أحياناً , هذه مظاهر غضب الإنسان، فما هي مظاهر غضب الرحمن ؟
 يرسل تيمور لنك , يرسل كياناً عنصرياً مجنوناً طائشاً , ينتقم أشد الانتقام .
 أنا أريد أن أقدم لكم تحليلاً إسلامياً لما يجري، الكلمة الدقيقة: يقول الإمام الحسن البصري: " إن نقم الله لا تدفع بالسيوف وحدها " , وإنما تدفع بالتوبة والإنابة أولاً , ثم بإعداد القوة المتاحة ثانياً , كما فعل صلاح الدين، كيف رد العالم الغربي بأكمله ؟
 أولاً: سلك منهج الله، ربى الجيل تربية صحيحة، أزال كل المنكرات، وبعدئذ لما واجه سبعاً وعشرين جيشاً انتصر عليهم , وفتح القدس , وأعلى لواء الحق، هذه التجربة يجب أن نجعلها منهجاً لنا.
 يقول الإمام الحسن البصري: " إن نقم الله لا تدفع بالسيوف وحدها "، لابد من سيوف , لكن لا يكفي السيف وحده , وإنما تدفع بالتوبة والإنابة أولاً , ثم بإعداد القوة المتاحة ثانياً , كما فعل صلاح الدين , وإذا عولجت بالسيوف فقط من دون إنابة إلى الله وصلح معه , الآن دققوا ,  وإذا عولجت بالسيوف فقط من دون إنابة إلى الله وصلح معه , أي من دون توبة كانت الفتنة أقطع من السيوف.
 وإذا عولجت نقمة الله بالسيوف وحدها من دون توبة وإنابة كانت الفتنة أقطع من السيوف.

مشكلة المسلمين اليوم:

 أيها الإخوة الكرام، لا بد من أن نتعظ، ولا بد من أن نعود إلى الله، مشكلة المسلمين اليوم خمس كلمات: يريدون إفقارنا، ونهب ثرواتنا وتركيعنا، يريدون إضلالنا بطرح قرآن جديد، الفرقان، هذا الفرقان فيه آية: يا محمد، أأنت أضللت عبادي ؟ قال: يا رب، ضللت فأضللتهم، يريدون تبديل قرآننا، يريدون إلغاء التوجيه الديني في مدارسنا، يريدون إفسادنا عن طريق هذه الصحون التي تجعل كل بيت من بيوت المسلمين ملهى ليليا، يريدون إذلالنا، ثم يريدون إبادتنا، هذا الذي يحصل لا أحد يستنكره، بل الذي يقال العكس، من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، هذه أكبر قوة في العالم تؤيد هذا العمل الإجرامي.
 لذلك أيها الإخوة الكرام، مشكلتنا: نكون أو لا نكون، مشكلتنا كبيرة جداً، فإما أن نصحو من غفلتنا، وإما والله أمامنا أيام سوداء، نسأل الله أن يحفظنا، وأن يحفظ بلادنا، وأن يحفظ أمتنا من كل سوء.

 أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

 الخطبة الثانية
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رسالة من رام الله:

 أيها الإخوة الكرام، جاءتني رسالة عبر البريد الإلكتروني , وجدت من المناسب أن أقرأ لكم بعض الفقرات: تقول المرسلة أخت كريمة من رام الله: تحية لك من كل الشعب الفلسطيني الصابر على ما يقاسيه من ظلم وقسوة وإجرام، الأب الكريم , ذكرت اسمي في البداية , أشكر الله عز وجل أن يسر لي الظروف والأسباب كي أستمع إلى ما تقول , والله ما زادني تعرفي بالبرنامج الذي يذاع في إذاعة القرآن الكريم في فلسطين , برنامج أسماء الله الحسنى إلا تعلقاً بالله عز وجل , وحباً له , وثقة به , ويقيناً بعدله الذي كان ينقصني , أحمد الله عز وجل , وأشكره والحمد لله رب العالمين.
 يا شيخنا , لا تتخيل كم منّ الله علي بالصبر والإيمان , والتوكل بعدما سمعت , وفهمت , وطبقت بإذن الله تعالى بعض أسماء الله الحسنى التي استطعت أن أجعلها بفضل الله علينا في نفسي بإذن الله، لقد جعلت عدوي الشيطان الذي أحاربه دائماً بإذن الله تعالى , فأنا مازلت أستمع لدروسك , وخطب الجمعة التي تلقيها , وأستفيد كثيراً منها.
 إن الخطب تنقل على الإنترنت فوراً أيها الإخوة الكرام، يسمعها في القارات الخمس , وأحاول وأجاهد نفسي في التخلق بالكمال الإلهي الذي يريده مني.
 شيخنا العزيز , أود أن أقص لك قصتي: أنا ابنة الأسير حسن علي سلمة , والدي اعتقل عام 1982 م , وقد بلغت من العمر عشرين يوماً , ولا يزال معتقلاً، لم نعش مع والدي سوى عشرين يوماً من أعمارنا , وأمي الصابرة بقيت عندنا تربينا , وترعانا , وتسهر على راحتنا , هي إنسانة صابرة , مؤمنة , متوكلة على الله , أدعو الله أن يمدها بالصحة والعافية وطول العمر , وأن يبارك لنا تعالى في عمرها إن شاء الله، والدي الذي في الأسر صابر , هو إنسان قوي بإذن الله عز وجل صابر , متوكل على الله , محتسب في كل ما يعانيه من آلام.
 شيخنا العزيز , لقد عانت والدتي الحبيبة الكثير من تجارب الحياة القاسية التي أكسبتنا مناعة قوية , وعلمتنا أموراً لم نكن لنتعلمها لولا مرورنا بهذا الضيق الشديد بفضل الله علينا، إننا جعلنا من هذه التجارب القاسية التي مررنا بها , فنحن نجاهد في هذه الحياة لكي نحافظ على أنفسنا من الوقوع في الرذائل , ونجاهد في الحفاظ على ديننا وإيماننا وتنمية أخلاقنا بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية والحمد لله، ومن كثرة ما مرّ علينا في حياتنا من شدة وبؤس نحس بأن هذا ابتلاء من الله عز وجل.
 شخنا العزيز , والدتي الصابرة التي تركت متاع الدنيا الزائل , وصبرت , وبقيت عندنا تربينا أريد منك أن تبعث لها بكلمات تثبتها , وتصبرها , وتقويها هي كذلك , لكن الإنسان يضعف أحياناً , ولكنها دائماً تستعيد قواها بفضل الله عز وجل، فهي كان بإمكانها أن تتركنا , وأن تذهب , وتتزوج , لكنها حرمت نفسها من حقها , وبقيت تربينا , وتنتظر والدي الحبيب إلى أن يخرج من سجنه، والدي محكوم بالمؤبد , أي مدى الحياة , لأنه يدافع عن كلمة لا إله إلا الله , ويحارب هذا العدو الذي اغتصب فلسطين، أرجو أن تدعو لنا يا شيخنا العزيز , وأتمنى أن ترد علينا , وأن نبقى على تواصل بإذن الله , فهناك الكثير الكثير من الأمور أود أن أحدثك بها إن شاء الله.

الجواب عن الرسالة:

 أنا أجيبها الآن ورد في الأدب المفرد للبخاري: أن أول من يمسك بحلق الجنة أنا , رسول الله , فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي , قلت: من هذه يا جبريل ؟ قال: هي امرأة مات زوجها , أو أسر , المؤدى واحد , فلم تتزوج , وآثرت تربية أولادها، إنها امرأة مات زوجها , وترك لها أولاداً , فأبت الزواج من أجلهن، أبشري أيتها الأم الصابرة التي سوف تنازعين رسول الله دخول الجنة , لا ملك إلا هذا.

نصيحة غالية:

 أيها الإخوة الكرام، لكم أن تأكلوا , وتشربوا , ولكن والله لا يجوز لواحد منكم أن ينفق مالاً بلا جدوى , لأن هناك من لا يأكل في فلسطين , هناك من لا يملك سكنا , من لا يملك سقفا، علامة إيمانكم التعاطف مع إخوتكم الذين يعذبون كل يوم.
أيها الإخوة الكرام، نحن في محنة شديد , ولعل هذا الحزن خلاق، لعل هذه الشدة وراءها شدة إلى الله، لعل هذه المحنة وراءها منحة من الله، أسأل الله لكم ولنا ولجميع المسلمين ولهذا البلد الطيب أن يحفظه من كل سوء , وأن يرد عنه كيد الكائدين , وعدوان المعتدين , وإجرام المجرمين، الله عز وجل بيده كل شيء , ما علينا إلا أن نتوب إليه , وأن نصطلح معه , وأن ندعوه ليلاً ونهاراً , فلعل الله سبحانه وتعالى يرفع عنا هذه الغمامة.

الدعاء

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور