الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً بمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق والبشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُرِّ الميامين أُمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان مخير فيما كُلِّف به:
أيها الإخوة الكرام؛ في قوله تعالى:
﴿ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (3)﴾

هذه مجموعة أقسام:
﴿وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ* وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ﴾ جواب القسم:
﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4)﴾
الإنسان مخير:
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾
لمجرد أن تتوهم أن الإنسان مُجبَرٌ على أعماله ولا خيار له في أعماله أُلغِي الدين، أُلغِي التكليف، أُلغِيت الأمانة، أُلغِي الأمر، أُلغِي النهي، الإنسان مُخيَّر فيما كُلِّف، ليس مُخيَّراً في أمه وأبيه، ولا في بلدته وعصره، لكنه مُخيَّرٌ فيما كُلِّف، ولولا أنه مُخيَّر لا معنى للحساب، ولا معنى للعذاب، ولا معنى للجنة، ولا معنى للنار؛ لذلك: ﴿إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ .
﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (148)﴾
آيات الله -عزَّ وجلَّ- الكونية:
لكن الله -سبحانه وتعالى- وضع بين أيدينا أنواعاً ثلاثة من الآيات،

وضع بين أيدينا آياتٍ كونية، هذا الكون بكل ما فيه؛ بأرضه، بسماواته، بمجراته، بمذنباته، بكازاراته، والأرض بما فيها من أنواع النبات، من أنواع الحيوان، من أنواع الأسماك، من أنواع الأطيار:
﴿ وَفِى ٱلْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)﴾
ما من شيء في الأرض إلا ويدلك على الله، بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما نظر إلى الهلال قال:
(( اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علَيْنَا بِالأَمْنِ والإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ والإِسْلامِ، رَبِّي ورَبُّكَ اللَّه، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ ))
[ رواه الترمذي عن طلحة بن عبيد الله ]
فأيُّ شيء في الكون بين يديك له وظيفتان؛ له وظيفة نفعية، وله وظيفة إرشادية، العالم الغربي حقق الوظيفة النفعية في أعلى مستوى، لكن المسلم ينبغي أن يحقق الوظيفة الإرشادية والوظيفة النفعية، لذلك –دقق- أنت إذا قرأت آية فيها أمر هذه الآية تقتضي أن تأتمر، وإذا قرأت آية في القرآن فيها نهي تقتضي أن تنتهي عمّا نهاك الله،

وإذا قرأت آية فيها قصة عن أمة سابقة تقتضي أن تتّعظ، وإذا قرأت آية فيها حكم شرعي هذا الحكم يقتضي أن تطبقه، أي ما من آية في كتاب الله إلا وينبغي أن يكون لك موقف منها؛ هذا معنى التدبر، أما إذا وجدت في القرآن ألفاً وثلاثمائة آية تتحدث عن الكون، ما موقفك منها؟ أيُعقل أن تكون هناك آيات ليس لك منها موقف؟! إذا وجدت في القرآن ألفاً وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون:
﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا(1) وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا(2) وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3) وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰهَا(4) وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5) وَٱلْأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا(6)﴾
هذه الآيات الكونية في القرآن ما هي؟ هي في الحقيقة رؤوس موضوعات للتفكر.
التفكر عبادة من أرقى العبادات:
التفكر عبادة من أرقى العبادات، إنها عبادة معرفة الله:
﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَآيَٰتٍۢ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ (190) ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (191)﴾
هذه الآية أصلٌ في التفكر، أنت بالتفكر تزداد معرفة بالله، والإنسان إذا ازدادت معرفته بالله كان أشد انضباطاً، وأشد استقامة، إذا عرفت الله –دقق- ثم عرفت أمره تفانيت في طاعته، أما إذا عرفت أمره ولم تعرفه تفنّنت في التفلت من أمره، هذا واقع مؤلم جداً، الأمر بين أيدينا.
(( الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فمَن تَرَكَ ما شُبِّهَ عليه مِنَ الإثْمِ، كانَ لِما اسْتَبانَ أتْرَكَ، ومَنِ اجْتَرَأَ علَى ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثْمِ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما اسْتَبانَ، والمَعاصِي حِمَى اللَّهِ مَن يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَهُ ))
[ صحيح البخاري عن النعمان بن بشير ]
لكن ضعف معرفتنا بالله يجعلنا نبحث عن حيلٍ شرعية لتلافي التكليف، فإذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفنَّنت في التفلت من الأمر، وهذا مرض من أمراض المسلمين.
لذلك أنا أدعوكم إلى معرفة الله وسيدنا علي –كرّم الله وجهه- يقول: "أصل الدين معرفة الله" ، كيف نعرفه؟ من آيات ثلاث: من آيات كونية؛ خلقه، ومن آيات تكوينية؛ أفعالهُ، ومن آيات قرآنية؛ كلامه، هذه الطرق السالكة إلى الله؛ آياته الكونية تفكر، آيات تكوينية نظر، آيات قرآنية تدبر، أنت بين آيات كونية عليك أن تتفكر بها، وبين آيات تكوينية عليك أن تنظر بها:
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
آيات تكوينية: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَآيَٰتٍۢ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ*ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ آيات الكون موقفك منها التفكر، وآيات التكوين؛ أفعاله موقفك منها النظر، وآيات القرآن؛ كلامه موقفك منها التدبر، تفكر، نظر، تدبر، إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، فلذلك الآية الكريمة: ﴿وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ* وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ .
التقسيمات الأرضية لبني البشر كلها باطلة عند الله -عزَّ وجلَّ-:
الآن التقسيمات الأرضية لبني البشر لا تُعد ولا تُحصى؛ الشعب السكسوني، الشعب السامي، الشعب المتخلف، المتقدم، الشعب الصناعي، التجاري، أي تقسيمات لا تُعد ولا تُحصى، هذه التقسيمات كلها باطلة عند الله، هناك قسمان من بني البشر وردا في هذه السورة:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6)﴾
هذا أول صنف، ﴿وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ الحسنى هي الجنة، صدق أنه مخلوق للجنة، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الذي صدّق بالحسنى أول نتيجة لهذا التصديق ينضبط، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ﴾ اتقى أن يعصيه، وبنى حياته على العطاء، لذلك قرأت كتاباً في سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤلف الكتاب قدّم له بهذه المقدمة، خاطب النبي الكريم فقال: "يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدّست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زكّيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيّأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مُهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك" ، الزمرة الأولى: صدق بالحسنى، صدق أنه مخلوق للجنة، الجنة كم سنة؟
أكبر خسارة يخسرها الإنسان أن يخسر الآخرة:
إخوتنا الكرام؛ بعض الإخوة الكرام ممن درس الرياضيات يعرف هذه الحقيقة، عندي رقم واحد وأصفار ثلاثة ألف، أصفار ثلاثة أخرى مليون، أصفار ثلاثة ثالثة ألف مليون، أصفار ثلاثة رابعة مليون مليون، أصفار لآخر المسجد، كم هذا الرقم؟ وأصفار إلى البحر، أصفار إلى القطب، أصفار إلى الشمس، تصور الواحد في الأرض والأصفار إلى قرص الشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متراً، وكل مليمتر صفر، كم هذا الرقم؟ هذا الرقم إذا نُسِب إلى اللانهاية كان صفراً، أكبر رقم تتصوره، واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، هذا الرقم إذا نُسب إلى اللانهاية فهو صفر، فالدنيا بأموالها، بمباهجها، بقصورها، ببساتينها، بمناصبها، بنسائها، عند الله صفر؛ لذلك أكبر خسارة يخسرها الإنسان أن يخسر الآخرة:
﴿ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ ۗ قُلْ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ (15)﴾
إذاً: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ صدّق أنه مخلوق للجنة، من لوازم هذا التصديق أنه يقف عند الأمر والنهي، اتّقى أن يعصي الله، بنى حياته على العطاء، لذلك هناك إنسان ممن قرأت له أجرى موازنة بين زمرتين من البشر يقعون على رأس الهرم البشري؛ زمرة الأنبياء وزمرة الأقوياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، وشتان بين أن تملك رقبة الإنسان، وبين أن تملك قلبه، الأنبياء أعطَوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يُعطوا، الأنبياء عاشوا للناس، والأقوياء عاش الناس لهم، وجميع الناس -ولا أستثني واحداً- تبَعٌ لقوي أو لنبي، فالبطولة أن تكون من أتباع النبي.
البشر عند الله عزَّ وجلَّ- نموذجان لا ثالث لهما:
1 ـ نموذج عرف الله فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسلم وسعد في الدنيا والآخرة:
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ* وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ ، أول زمرة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ صدق أنه مخلوق للجنة، انضبط، اتقى أن يعصي الله، وقف عند الأمر والنهي، وبنى حياته على العطاء، مع الأسف الشديد الإنسان أحياناً يُقيَّم بما أخذ، بما عنده من ثروات، من بيوت، من أملاك منقولة وغير منقولة، لكن التقييم الحقيقي تقييم رب السماوات والأرض بما أعطيت لا بما أخذت ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ ، صدق أنه مخلوق للجنة، بنى حياته على العطاء، اتقى أن يعصي الله، الرد الإلهي، هذا كلام لكل واحد منا، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
الرد الإلهي:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ (7)﴾
زواجه مُيسَّر، عمله مُيسَّر، صحته طيبة، علاقته بأهله طيبة، بأولاده طيبة، فيمن حوله طيبة، سعيد، متفائل، الله -عزَّ وجلَّ- يكرمه، الرد الإلهي: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ﴾ مطلقة، بأي شأن أموره ميسرة، ألا تحب أن تكون من هؤلاء؟ إن الله -سبحانه وتعالى- في عليائه يتولاك بالحفظ، يتولاك بالرعاية، يتولاك بالتوفيق، يدافع عنك ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ* فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ﴾ هذا الصنف الأول.
2 ـ نموذج غفل عن الله وتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة: الصنف الثاني:
﴿ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9)﴾
كذّب بالجنة، وآمن بالدنيا، هذه الدنيا ولا شيء غير الدنيا، لما كذّب بالجنة استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، الآية واضحة جداً، البشر على اختلاف أعراقهم، وأنسابهم، وأجناسهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، وانتماءاتهم، تكلم ما شئت، هؤلاء البشر هم عند الله نوعان فقط: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ* وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَى﴾، النوع الثاني ﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ *وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ ، الرد الإلهي للصنف الثاني:
﴿ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾
زواجه غير ناجح، بعمله غير ناجح، عنده ضيق، قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾
سأل سائل ما بال الأقوياء والأغنياء؟ فقال المجيب - أعتقد الحسن البصري-: "ضِيق القلب" ، لا يوجد سعادة، والله -أيها الإخوة- قد تدخل إلى بيت مئة متر بسيط جداً، هذا البيت يشع سعادة، قد تجد بيتاً فخماً جداً لا يوجد فيه سرور إطلاقاً، هذه السكينة أحد أكبر مزايا المؤمن، أحد أكبر عطاءات الله للمؤمن، هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، هذه السكينة سعِد بها أهل الكهف في الكهف وهم مطاردون، سعِدَ بها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- في النار، سعِدَ بها النبي الكريم في غار ثور، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)﴾
لذلك أندم الناس مَن عاش فقيراً ليموت غنياً، أندم الناس رجل دخل أولاده بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، التوريث حلال فهذا المال الحرام هو شقيَ به.
أيها الإخوة؛ مرة ثانية هذه الموضوعات مصيرية، تعني سلامتك وسعادتك في الدنيا والآخرة:
﴿ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ(2) وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ(4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ(5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ(6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ(7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ(9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ(10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْأٓخِرَةَ وَٱلْأُولَىٰ(13) فَأَنذَرْتُكُمۡ نَارًا تَلَظَّىٰ(14) لَا يَصْلَىٰهَآ إِلَّا ٱلْأَشْقَى15)) ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ(16)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآيات الكونية في القرآن الكريم رؤوس موضوعات للتفكر:
أيها الإخوة الكرام؛ ذكرت لكم في الخطبة الأولى أنّ في القرآن الكريم آياتٍ كونيةً تزيد على ألف وثلاثمائة آية، أضع بين أيديكم آية واحدة هي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِۦ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلْفَٰسِقِينَ (26)﴾

البعوضة مِن أهون المخلوقات على الإنسان، أي إذا قتل إنسان بعوضة هل يُحس أنه مجرم، قاتل مثلاً؟ بعوضة! هذه البعوضة ذكرها الله في القرآن الكريم، حينما صُنِع المجهر الإلكتروني، المجهر القديم التقليدي يكبر ثماني مرات، أما هذا المجهر فيكبّر خمسمئة ألف مرة، وُضِعت البعوضة تحت هذا المجهر، فإذا في رأسها مئة عين، وزنها واحد على ألف من الغرام، في فمها ثمانية وأربعون سناً، في صدرها قلوب ثلاثة؛ قلب مركزي، وقلب لكل جناح، ولكل قلب أُذَينان، وبُطينان، ودسامان، وللبعوضة جهاز لا تملكه الطائرات، تملك جهاز رادار، سماه العلماء جهاز استقبال حراري، هي ترى الأشياء لا بأحجامها، ولا بأشكالها، ولا بألوانها، بل ترى الأشياء بالحرارة، هذه البعوضة معها جهاز تحليل دم، تغرس خرطومها في يد الطفل، وتأخذ عيْنة من دمه فتفحصها؛ لأن ما كل دم يناسبها، وقد ينام أخوان على سرير واحد يستيقظ الأول وقد مُلِئ بلسع البعوض، والثاني لم يُصَب بشيء، معها جهاز تحليل دم تحلل، فإذا كان هذا الدم يناسبها الآن تمتص من دمه، معها جهاز تحليل، وجهاز تخدير، ولم يكن معها هذا الجهاز لقتلها الإنسان، لكنه متى يضرب يده؟ بعد أن تنتهي وتطير، وينتهي مفعول التخدير يتوهّمها على يده فيضربها، وهي في سقف الغرفة تضحك عليه، معها جهاز تحليل، ومعها جهاز تخدير، ودم الإنسان سَمِج لا يسري في خرطومها، معها جهاز تمييع، معها جهاز رادار، جهاز تحليل، جهاز تمييع، جهاز تخدير، الآن في أرجلها مخالب، إن أرادت أن تقف على سطح خشِن تستخدم مخالبها، وهناك محاجم على الضغط، فإن وقفت على بلور، أو على سطح أملس تستخدم محاجمها، فإذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ هذه الآيات الكونية في القرآن الكريم رؤوس موضوعات للتفكر.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، اللهم وفِّق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى.
الملف مدقق