الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحج من العبادات الكبرى في الإسلام:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السادسة والتسعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)﴾
أيها الإخوة المؤمنون؛ بعد الحديث عن الصيام جاء الحديث عن الحج، وهذا يؤكِّد أن في القرآن الكريم تناسُقاً بين الآيات، بل إنّ كل سورةٍ تُعدُّ وحدةً معنويةً فيما بين آياتها، فبعد الحديث عن آيات الصيام، ومن لوازم الصيام الدعاء:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
جاء الحديث عن آيات الحج، أولاً: يُستنبط أن الحج من العبادات الكبرى في الإسلام، لذلك إذا بدأتها ينبغي أن تُتمها، مما يدل على أن هذه العبادة كُبرى في الإسلام أنك إذا بدأتها واجب عليك أن تُتمها لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وحينما ذكر الله الحجَّ وذكر العمرة، علماء اللغة يقولون: العطف يقتضي شيئين، يقتضى المشاركة والمغايرة، فإن لم يتحقق الشرطان معاً فالعطف ليس له معنى، أنت حينما تقول: جاء سعيدٌ وأحمد، اشتركا في المجيء، وسعيد غير أحمد، أما إذا قلت: جاء سعيد وسعيد، سعيد الثاني نفس الأول، فليس لهذا العطف معنى.
يجب أن يؤدّى الحج فريضة وأن تؤدى العمرة واجباً:
إذاً الحج شيء والعمرة شيءٍ آخر، كلاهما يُؤدّى في بيت الله الحرام، لكن الحج في وقتٍ مخصوص، وفي مكانٍ مخصوص، وفيه وقوفٌ بعرفة، بينما العمرة تؤدَّى في أي يومٍ من أيام العام، وليس فيها وقوف بعرفات، إذاً ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ أما في قوله تعالى:
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾
الحج في هذه الآية فرضٌ على كل مسلم مستطيع، والاستطاعة: القدرة البدنية والمالية معاً.
إذاً أصبح الحج فرضاً عَيْنِيَّاً على المستطيع، والعمرة واجبٌ على كل مسلم، فرقٌ بين العمرة والحج، العمرة زيارة، الحج يُؤدَّى في وقت واحد، وفي مكانٍ واحد، وفيه وقوفٌ بعرفة، وسمَّاه الله: يوم الحج الأكبر، إذاً العمرة حج أصغر، حينما وصف الله الوقوف بعرفة بيوم الحج الأكبر، إذاً هناك حج أصغر إنها العمرة، على كل يجب أن تؤدّي الحج كفريضة، ويجب أن تؤدي العمرة كواجب، وإذا بدأت بالحج، وإذا بدأت بالعمرة يجب أن تُتمهما، لعظم هاتين العبادتين.
بالمناسبة العمرة والحج عبادة شعائرية، وأن هناك عبادات تعاملية، وهناك عبادات شعائرية، الفرق بينهما أنك تقطف ثمار العبادات التعاملية في الدنيا فثمارها محسوسة، ملموسة، لذلك المنهج الإلهي لو طبقه كافر قطف ثماره في الدنيا، وحينما تذهب إلى بلادٍ بعيدة ترى شيئاً يلفت النظر؛ هناك من يَصدُق، والأكثرون يصدقون، أعمال مُتقنة، نظام دقيق، الإنسان تُحترم حريته ووقته، هذا منهج إسلامي، أي مجتمعٍ طبّق المنهج الإسلامي قطف ثماره ولو كان كافراً به، أي مجتمعٍ طبّق المنهج الإسلامي التعامُلِيّ قطف ثماره في الدنيا ولو كان كافراً به، أي بمُرسله.
لا تصح العبادة الشعائرية إلا إذا صحت العبادة التعاملية:
إذاً هناك منهج تعاملي، وهناك منهج شعائري، المنهج التعاملي أن تكون صادقاً، وأميناً، ومنصفاً، ووقافاً عند كتاب الله، ألا تؤذي جارك، ألا تغتاب مؤمناً، ألا تقع في فاحشةٍ، هذا منهج تعاملي، إن صَحَّ المنهج التعاملي صحّ المنهج التعَبُّدِيّ الشعائري، يجب أن نفقه هذه الحقيقة، لا معنى إطلاقاً لمنهج شعائري دون منهج تعبدي، أي إنسان يأكل الحرام، يكذب على الناس، يسخرهم لمصلحته، يغشّهم في بضاعتهم، لا يقيم قيمة لوعده، ولا لعهده، هذا إنسان خرق المنهج التعامُلي، هذا لو وقف ليصلي الطرق ليست سالكة أمامه، الخط ليس حاراً، خطّ منقطع بينه وبين الله، إذاً لا تصح العبادة الشعائرية إلا إذا صحت العبادة التعاملية، فلذلك الحج عبادة شعائرية، يقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ أيْ القَصْدُ طلب مرضاة الله، القصد الإخلاص لله، فإن لم يكن هناك إخلاص فهذه العبادة لا معنى لها إطلاقاً، إذا صدق أحدهم لينتزع إعجاب الناس، وليحقق مصالحه بالصدق، كما يفعل الأجانب؛ صدقهم، وأمانتهم، وإتقانهم، واحترامهم للآخرين، هذه مصلحة، مصلحتهم في أن يفعلوا هذا.
إذاً هذه عبادة تعاملية تقطف ثمارها في الدنيا ولو كنت كافراً بمن أرسلها، أما العبادة الشعائرية ليس لها أي مصلحة في الدنيا، الذهاب للحج إنفاق أموال، وتحمُّل مشاق، ومكابدة الحر والقَرّ، ومكابدة الازدحام، وتضييع الوقت، والحرمان من الأهل، والبيت، والعمل، والأقارب، فإن لم يكن الإنسان الذي يحج بيت الله الحرام مستقيماً على أمر الله، إن لم يكن دخله حلالاً، إن لم يكن تائباً ما معنى هذا الحج؟ لا معنى له، لذلك: من حجّ بمالٍ حرام، ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، يناديه منادٍ ويقول له: لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردودٌ عليك.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ من لوازم قَبول الحج أن يكون بمالٍ حلال، وتسعة أعشار الاستقامة في كسب المال، فمن كان ماله حلالاً كان حَجُّه مقبولاً، لا يُقبَل حجّ الحاج قبل أن يؤدي ما عليه من حقوقٍ للناس، قبل أن يستسمح من الناس، قبل أن يعطيهم حقوقَهم، قبل أن يؤدي ما عليه من ديون، قبل أن يؤدي ما عليه من واجبات.
إذاً هذا الفصل الدقيق بين العبادة التعاملية والشعائرية، العبادة التعاملية إن لم تصح لا تصح معها العبادة الشعائرية، فالحج يحتاج إلى استقامة، وإلى توبة، وإلى أداء حقوق حتى يصبح الحج مقبولاً عند الله عز وجل.
الحج عبادة مالية وبدنية وشعائرية:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ قد يقول قائل: الحج شحنة العمر، بينما الصيام شحنة العام، بينما خطبة الجمعة شحنة الأسبوع، بينما الصلوات الخمس؛ كل صلاةٍ شحنةٌ إلى صلاة، أنت بحاجة إلى غذاء لجسمك، وأنت بحاجة ماسة إلى غذاء لقلبك، أغذية القلب هي العبادات، فبالصلاة تُشحَن، وبصلاة الجمعة تُشحَن، وبصيام رمضان تُشحن، وبالحج تُشحن، لكن الحج أكبر عبادة يؤدَّى في العمر مرةً واحدة، وما دام يؤدَّى في العمر مرةً واحدة إذاً ينبغي أن يكون في المستوى المطلوب.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ هذا الحج يحتاج إلى تفرُّغ، أنت تصلي في بلدك، تصوم في بلدك، في بيتك، حيث غرفتك، وحيث مكان إقامتك، وحيث زوجتك وأولادك، وحيث عملك، أما الحج هذه العبادة الشعائرية ينفرد بخصيصة لها؛ لابد من التفرُّغ، لابد من أن تدع بيتك، وأن تدع زوجتك، وأولادك، وبناتك، ومكتبك، وتجارتك، وبلدتك، وأن تذهب إلى مكان بعيد متجشماً مشاق السفر، ونفقات هذا السفر، الحج عبادة مالية بدنية شعائرية، مالية يحتاج إلى نفقة، بدنية يحتاج إلى صحة قوية، وأنا أتمنّى على كل إنسان أن يحج في أقرب وقت ممكن لأنه بحاجةٍ ماسةٍ إلى جُهد، الطواف والسعي والوقوف بعرفات ومزدلفة ومنى، إذاً هذا الحج عبادة بدنية مالية شعائرية يحتاج إلى تفرغ، وأنت حينما تُفرِّغ نفسك لله هناك شيء مع الحج اسمه "التفريغ"، أنت فرّغت نفسك لله؛ تركت بلدك، وأهلك، ومالك، ومكتبك، تركت الثياب، لابد من أن تخلع هذه الثياب، والناس يتفاوتون في ثيابهم، والثياب تدلُّ على غنى الإنسان، قد يلبس الإنسان ثياباً غاليةً جداً، هذا الذي يمكن أن يكون موضع فخرك يجب أن تنزعه أبداً، ترتدي ثوبين، رداءين، رداء وإزاراً أبيضين، بلا شيء مخيط ولا محيط، وبلا نعل ساتر للكعبين، لابد من خُفٍ لا يستر لا ظاهر القدم ولا الكعبين، ولابد من إزارٍ ورداء، وهذه هي الثياب، إذاً هناك تقشف حتى في الثياب، ممنوع تتعطر، ممنوع تحلق، ممنوع تُقلم أظافرك، إذاً يريد الله عز وجل أن يذكِّرنا بالرحلة الأخيرة، إن صحّ التعبير الحج رحلةٌ قبل الأخيرة، كيف يقوم الناس جميعاً لرب العالمين.
وحدة المسلمين تبدو واضحة جداً في مناسك الحج:
هناك ترى الناس في عرفات؛ الناس أغنياؤهم وفقراؤهم، أقوياؤهم وضعفاؤهم، وقفوا على صعيدٍ واحد بثيابٍ موحدة، بتضرعٍ واحدٍ إلى الله عز وجل، أي وحدة الإنسان مع أخيه الإنسان تبدو صارخة في الحج، لو جاء مَلكٌ ليحج بيت الله الحرام لابد من أن يخلع ثياب المُلْك، ولابد من أن يقوم بمناسك الحج مع دَهْمَاء الناس، لا يوجد أماكن خاصة لأصحاب الألقاب، لا يوجد طواف خاص للملوك، لا يوجد سعي خاص لأصحاب الشأن، وحدة المسلمين تبدو واضحة جداً في مناسك الحج.
إذاً الحج عبادةٌ ماليةٌ شعائرية بدنية، تحتاج إلى تفرُّغ، وإلى ترك البلد، والأوطان، والأهل، والخُلّان، ثم تحتاج إلى أداء مناسك، وكل مَنْسَك له حكمةٌ بالغةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها، يقول الله عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ طبعاً كل أمرٍ يقتضي الوجوب، لكن هناك آية أخرى صار الوجوب فرضاً: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ﴾ ، ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ قال: من لم يحج البيت وهو مستطيع، أو من أنكر حج البيت، أو من استغنى عن أن يحج لله في بيته الحرام فقد وقع في نوعٍ من الكفر، ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ .
الإحصار نوعان قدَري وبشري:
قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ ما دام الأمر ﴿وَأَتِمُّوا﴾ ، ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ قال: الإحصار نوعان، إحصار قدري، وإحصار بشري، أحياناً لا سمح الله ولا قدر يقع ابن أحد الناس من شرفةٍ فيقع ميتاً، هذا قدر، أما إذا ساق الإنسان مركبته بشكلٍ أرعن ودهس طفلاً فهذَا مُقَدَّر، القدر من الله مباشرةً، والشيء المُقَدَّر قد يأتي على يد إنسان، أنت في القدر ليس لك غريم؛ هو فِعل الله مباشرةً، وأما بالمقدر فأمامك غريم، أمامك إنسان يمكن أن تقاضيه، لذلك قال تعالى:
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾
وقال أيضاً:
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾
تقديم هدي إلى الله عز وجل إذا مُنِعت أن تتم مناسك الحج:
إذا جاءك القضاء على يد إنسان، أي جاءك المُقَدَّر على يد إنسان، فأنت حينما تصبر على قضاء الله، وتصبر على غريمك الذي جعل الله هذه المصيبة على يديه فإن هذا من عزم الأمور، فقد يمنع الحُجاج مانعٌ إلهي؛ زلزال، أو فيضان، أو أمر قاهر، أو طاعون، أو مرض شديد، هذا مُقَدَّر، أمر إلهي، ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ من قِبَلِ القدر، أو ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ من قِبَل البشر، أي أُناسٌ منعوكم من الحج كما مُنِع النبي عليه الصلاة والسلام من أن يؤدّي العمرة في وقت الحُديبية، فعندنا إحصار قدر، وعندنا إحصار بشر، أي مُنِعتَ أن تُتم مناسك الحج، يقول الله عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ إذا مُنِعْتَ إما من قبل القَدر أو من قبل البشر أن تؤدي مناسك الحج قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ الهَدْي: الدابة التي تذبحها، وتُطعمها الفقراء، وتُهديها إلى الله عز وجل، هديةٌ إلى الله، أما إذا أُحصرت بفعل القَدر أو البشر فعليك أن تُقدِّم هدياً إلى الله عز وجل، وتفك إحرامك، وتعود إلى بيتك.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ أي أن مال الهدي مُيَسَّر لك، أو مُيسَر لك شراؤه، قد تجد المال ولا تجد المُثَمَّن، وقد تجد المُثمن ولا تجد الثمن، فالتيسير هنا أن تجد الثمن والمُثمن؛ أحياناً إنسان معه مال بحاجة إلى دواء، الدواء غير موجود، الثمن موجود أما المثمن فغير موجود، أحياناً يكون الإنسان فقيراً الدواء موجود، ولكن لا يملك ثمنه، معنى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ﴾ أي ما تيسَّر لكم من الهَدْيّ امتلاكاً لثمنه أو توفراً لعينه، ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ .
طبعاً كلكم يعلم أن من مناسك التحلُّل الحلق، قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ أيْ يجب أن تتأكد أن هذا الهَدْي وصل إلى بطونٍ جائعة، ما الذي كان يحصل قبل سنوات عديدة؟ عندنا مليونَا حاج تقريباً قريب من خمسمئة ألف دابَّة تُذبح في منى، وتُلقى في العراء في حرّ لا يحتمل، حدَّثني صديقٌ لي، قال لي: تبقى روائح اللحم المتفسِّخ في منى لشهر طويلة، هل يُعقل أن يكون هذا منهج الله؟! أن نذبح هذه الأنعام، ونُلقيها في العراء، ليصبح الجو فاسداً بتفسُّخها، هل هذا هو الدين؟ الآن والحمد لله هذه الذبائح تُذبح، توضع في البرَّادات، وتُنقل هديةً إلى فقراء المسلمين، وهذا أمر معقول، الآن هنا: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ أي هذه الشاة، العبادات هادفة، هذه تذبحها كي يأكلها الفقراء، أما أن تذبحها وأن تلقيها في الطريق ليس هذا نُسْكَاً، ولا منهجاً إلهياً هو إتلافٌ للمال.
﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أيْ هذا الذي لا يستطيع لابد من أن يحلق رأسه وهو محرم، ماذا عليه أن يفعل؟ يجب أن يصوم، أو أن يتصدق ويُطعم ستة مساكين، أو أن يذبح هدياً، والتسلسل تصاعدي؛ تصوم وحدك، أما بالصدقة فتطعم ستة أشخاص، أما بالهدي فتطعم عشرات الأشخاص.
الفرق بين الحج المفرد والحج القارن والحج المتمتع:
أيها الإخوة؛ معنى ذلك صار لقول الله عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ إن حال بينك وبين إتمامها قدرٌ أو بشر لابد من أن تسوق الهدي، وأن تُبَلِّغَهُ إلى أهله، أن يصل إلى بطونٍ جائعة، وهذا هو الشرع، وهذا هو الدين، أنت تتقرب إلى الله بإطعام الجائعين لا بإفساد الجو.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ طبعاً اختلف العلماء في أيهما أفضل أن تحُجّ مفرداً وأن تأتي بعمرةٍ في سفرةٍ أخرى، أن تجعل لكل منسكٍ لكل من الحج والعمرة سفراً خاصاً، أم أن تجمع العمرة إلى الحج؟ طبعاً هناك كما تعلمون بالفقه عندنا حج مفرد، وحج قارن، وحج متمتع.
المفرد لا هدي عليه، أما المتمتع فعليه هدي، والقارن عليه هدي، من هو القارن؟ هو الذي يُحرم بعمرة ويبقى محرماً إلى الحج فيتابع حجه، أيْ يجمع بين العمرة والحج بإحرامٍ واحد ونُسُكٍ واحد، هذا يحتاج إلى جهد كبير، قد تأتي قبل عشرة أيام، يجب أن تبقى محرماً عشرة أيام.
أما المُتَمَتع فهو الذي يُحرم بعمرة فيؤديها ويتحلل، ويبقى متحللاً إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعدها يُحرم بحجٍ ويتابع حجه، ماذا فعل؟ اعتمر، وتحلل، وحجّ، هذا متمتع، هذا عليه هدي أيضاً، لكن العلماء قالوا: هدي المتمتع هدي جَبر، أما هدي القارن فهدي شكر، لأن الله أمدَّه بقوة، جعل بدنه صحيحاً، وتمكّن أن يعتمر ويحج بشكل مستمر.
فهناك حجٌ مفرد، أن تحج فقط، وهناك حجٌ قارن أن تجمع بين العمرة والحج معاً، وهناك حج مُتمتع؛ أن تُحرم بعمرة، وأن تتحلل منها، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة تُحرم بحج، على المتمتع هديٌ وعلى القارن هديٌ، لكن هدي القارن هدي شكرٍ، بينما هدي المتمتع هَدْيُ جبرٍ لنقصٍ حصل في حجِّه، ولك أن تحجّ مفرداً من دون عمرة لا هدي عليك، وهناك من يحج مفرداً، وبعد أن ينتهي من الحج، في خامس أيام العيد يأتي بعمرة، هذه منفصلة عن الحج، هذه هي الخيارات التي أمامنا في موضوع الحج والعمرة.
الإنسان المكي الذي يعيش ضمن حرم مكة هذا لا عمرة عليه:
﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ إنسان تمتع أي أحرم بعمرةٍ وأداها وتحلل منها، وبقي إلى اليوم الثامن من ذي الحجة متحللاً، في اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بحج، هذا متمتع، عليه هدي، لكنه فقير، قال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ في الإسلام هناك بدائل دائماً، والإسلام لكل الناس، تشريع لكل الناس، إنسان حاج فقير لا يوجد معه ثمن هدي، نقول له: صُمْ ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةٍ إذا رجعت، ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هذا اسمه الإنسان الآفاقي، الذي بلده خارج المواقيت، أما إذا كان من ضمن البيت الحرام، أي من ضمن حرم مكة، نحن عندنا المواقيت خارطة، وهناك خريطة للحرم، وعندنا بيت الله الحرام، المسجد الحرام شيء، وحوله منطقة هي الحَرم، أي عندك التنعيم بالجنوب، الجعرانة في اتجاه آخر، هناك منطقة تحيط بالحرم، هذه منطقة الحرم، وهي في حكم الحرم، وعندنا مواقيت للحج، وعندنا خارج مواقيت، من كان سكنه ضمن الحرم لا عمرة عليه، لماذا؟ لأنه في الأعم الأغلب يطوف دائماً، بيت الله الحرام تحيته الطواف، أنت إن دخلت إلى مسجد تؤدي ركعتين تحية المسجد، أما إن دخلت إلى بيت الله الحرام تحية هذا المسجد الطواف، فإذاً الإنسان المكي الذي يعيش ضمن حرم مكة هذا لا عمرة عليه، الحكم هذا عنده مُعَطَّل.
الفرق الكبير بين حج الفريضة وحج النّفل:
﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ممكن أن نلخص هذه الآية الدقيقة أن الحج عبادةٌ كبرى في الإسلام، وهي فريضة، فرضٌ عينيّ على المستطيع بدنياً ومالياً، معنى فرض عيني أي لابد من أن يؤدَّى.
لذلك أنا أقول: يقول لك: أخي أنا أريد أن أزوج ابني؟ ممنوع أن تحج حج نفل وابنك بحاجة إلى زواج، أما الحج الفريضة فلا يُقدَّم عليه شيء، فرقٌ كبير بين حج الفريضة وحج النفل، هناك من يحج عشرات المرَّات وأهله في أمسِّ الحاجة إلى المال، وبإمكان ولي أمر المسلمين أن يمنع نافلةً أدت إلى ترك واجب.
والحج والعمرة ما دام هناك عطف فهما يشتركان ويختلفان، يشتركان في أنهما يؤديان في بيت الله الحرام، ويختلفان في أن الحج له وقت مخصوص، ومكان مخصوص، وأفعال مخصوصة، بينما العمرة تؤدى في أي وقت بأفعالٍ مخصوصة، وليس فيها وقوف في عرفة.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ إذا تيسر لك ثمنه أو المُثمّن: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ أيْ يجب أن يصل الهدي إلى بطون الجياع.
أيّ حديث يثير الشهوة ممنوع في الحج:
قال تعالى:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾
شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ﴾ الحديث عن النساء ممنوع في الحج، مقدِّمات الجماع ممنوعة، أي حديث يثير الشهوة هذا ضمن الرفث.
ما يجب أن تكون عليه أخلاق الحاج:
﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ ولا معصية أيضاً، ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ حتى المجادلة والمشاحنة هذه ممنوعة في الحج، إنك أَتَيْتَ إلى بيت الله الحرام من مكانٍ بعيد لا من أجل أن تحرق أعصابك بالمُشاحنات والجَدَل.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أيْ يجب أن تفعل الخير في الحج، أنت في أرقى أنواع العبادات، فهذا الحاج الذي يضرِب إخوانه من أجل أن يُقَبِّل الحجر، وهذا الذي لا يعمل هناك عملاً صالحاً، لا يفقه حقيقة الحج، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ وأنت بالحج أنت بأرقى عبادة، يجب أن تؤدي أرقى معاملة، أن تكون في أعلى درجات الصبر، والتسامح، والعطاء، والإكرام، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ .
على الحاج أن يملك نفقة الحج لأنها عبادة مالية على المستطيع:
لا يجوز لإنسان أن يذهب إلى الحج متكففاً عطاء الناس، لابد من أن تكون مستطيعاً، بل إن بعض الأحكام الشرعية حول ما إذا كان الإنسان لا يملك أجرةً نومٍ في مكة والمدينة، ليس مستطيعاً، أما يذهب إلى بيت الله الحرام وينام في الطرقات، وزوجته إلى جانبه وقد تتكشف في الليل ليس هذا هو الحج، إنْ لم تملك أُجرة سكنٍ في مكة والمدينة لا تُعدّ مستطيعاً، الحج عبادة مالية فرضها الله على المستطيع، فأنت لست مستطيعاً لا تقترض من أجل أن تحج، ليس عليك حج، لا تتسول وأنت في الحج، لا تكن عبئاً على أحدٍ في الحج، إما أن تملك مالاً كافياً كي تذهب وتعود، وأن تقيم في بيت في مكة والمدينة، وإلا فلا حجّ عليك.
﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ بالحج، لكن: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ إنسان يحجّ على باب الله، هذا ليس فقيهاً، لا يوجد معه مال، عينه على ما يأكل الناس، يحشر نفسه معهم، يكون عبئاً عليهم، ليس هذا هو الحج، ينبغي أن تحج وأنت عزيز، ينبغي أن تحج ومعك نفقة هذا الحج، لأنه عبادة مالية على المستطيع فقط.
من ذهب إلى الحج وبعد الحج قام بعمل تجاري فهذا لا يمنع الحج:
قال تعالى:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)﴾
أيْ إذا الإنسان فرضاً أثناء الحج كان له عمل ليس له علاقة بالحج، هذا لا يلغي الحج، شخص ذهب إلى الحج بعد الحج قام بعمل تجاري، هذا لا يمنع الحج، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ المشعر الحرام: مكانٌ ينبغي أن نذكر الله فيه.
﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ معنى ذلك أن الإنسان حقق هدفاً كبيراً جداً من الحج.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)﴾
طبعاً كان شُرَفاء مكة قبل الإسلام لهم مكان إفاضة خاص، أما في الحَج من خلال هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ .
اصطفى الله مكاناً وزماناً وشخصاً ليكونوا قدوة لنا دائماً:
الحج عبودية لله عز وجل في أعلى درجاتها، فإذا ذهب الإنسان إلى هناك بنفسه أنه يحتل مكانة اجتماعية معينة، له رتبة خاصة، هذا مما يُفسد الحج، يجب أن تذهب إلى هناك وقد خلعت مع ثيابك كل الأقنعة المزيَّفة، وكل مراتب الدنيا.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾
النقطة الدقيقة في الصيام والحج هي أنّه بعد انتهاء رمضان ينبغي أن تستمر فيما أنت عليه في رمضان، وبعد انقضاء الحج يجب ينبغي أن تستمر فيما أنت عليه في الحج من كثرة ذكر الله عز وجل، والله عز وجل حينما اصطفى رمضان من بين أشهر العام لينسحب ما يحصل للصائم في رمضان لينسحب هذا على كل أشهر العام، وحينما اصطفى مكاناً كبيت الله الحرام؛ حيث فيه الصفاء، والإقبال، والدعاء، والعبادة، لينسحب هذا الصفاء، والإقبال، والدعاء، والعبادة على كل الأماكن، وحينما اصطفى سيد الخلق ليكون مثلاً أعلى يجب أن ينسحب هذا المثل على كل الخلق، اصطفى الله مكاناً، وزماناً، وشخصاً؛ اصطفى رمضان لتكون كل أشهر العام كرمضان، واصطفى بيت الله الحرام ليكون كل مكانٍ كبيت الله الحرام، واصطفى محمداً سيد الأنام ليكون كل البشر على شاكلة محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
الآية التالية تبين أن للأب مكانةً كبيرة:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ يتضِّح من خلال هذه الآية أن للأب مكانةً كبيرة، بل إن الله جلّ جلاله ينتظر من العِباد أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، وكلما قويّ إيمان إنسان الأب معزز مكرم في المجتمع، وكلما كان إيمانه ضعيفاً الأب لا يُعزز ولا يُكرم.
﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ وهذا موجود في معظم بلاد العالم، دنياهم في أعلى مستوى وما لهم في الآخرة من خلاق.
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾
من الممكن أن تحصِّل الدنيا بذكاء، لكن الآخرة لا تُحصّل إلا بعبادة، منهج الله كما قلت قبل قليل منهج موضوعي، لو طبقه كافر لقطف ثماره، فأنت إن أردت الدنيا قد تعرف أبوابها ومداخلها ومخارجها، لكنك إن أردت الآخرة لابد من أن تعبد الله العبادة الصحيحة.
﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)﴾
الحج لقاء مع الله عز وجل:
أيها الإخوة الكرام؛ آيات الحج هذه مهما قرأناها، ومهما تأمَّلنا في معانيها، ومهما وقفنا عند تفاصيلها ودقائقها، تبقى معلومات نظريّة ولابد من أن تحجّ بيت الله الحرام، واسألوا الله أن يُمكنكم من حجّ بيت الله الحرام، لأن الحقيقة أن هذه العبادة كبيرة، وأنها مديدة، وأنها متنوعة، وأنها مالية، وشعائرية، ومناسك، فإذا أُدّيت كما أراد الله عز وجل عشت في سعادةٍ لا توصف وكانت شحنةً كبيرةً جداً.
والله أيها الإخوة؛ تستمع إلى معظم الحجاج بعد أن يعودوا من بيت الله الحرام تصعق، يُحدثك عن كل شيء إلا الحج، عن كل شيء أين سكن؟ ماذا أكل؟ والتكييف، والماء البارد، والطرقات، والأقواس، وبيت الله الحرام، والإضاءة، وتكبير الصوت، يُحَدثك عن كل شيء، بماذا شعرت وأنت تطوف؟ ماذا فعلت وأنت بين الصفا والمروة؟ ماذا دعوت وأنت في عرفات؟ معظم الناس إن جهلوا حقيقة الحج يحدثونك عن كل شيءٍ إلا الحج.
وهناك بعضٌ من هؤلاء والله يذكر لك بماذا شعر وهو في هذه المناسك، تشتهي أن تذهب إلى الحج فوراً، وتشتهي أن تحج كل عام، وتشعر أن الله قد استضافك، وأنت ضيف الرحمن، وأكرمك إكراماً لا حدود له، معقول أنت تارك بيتك، وولدك، وزوجك، ومالك، ومتجرك، ومحلك، ومكانتك، ووظيفتك، ورتبتك، ولباسك، ومركبتك، وأن تذهب إلى بيت الله الحرام.
إنسان عادي جداً لا أحد يعرفك، وتؤدي مناسك الحج في وقتٍ حارٍ جداً، وتنفق نفقة باهظة، الأسعار هناك غالية جداً، هكذا دون أن تكافأ!! قال: من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، هل من المعقول أن تأتي من بلادٍ بعيدة، قد تأتي من الصين، وقد تأتي من أمريكا، وقد تأتي من أستراليا، تركب الطائرة عشرين أو ثلاثين ساعة، تدفع مئتين أو ثلاثمئة ألف، وأن تجلس في عرفات هكذا؟!
والله سمعت من يتحدَّث عن الدنيا في عرفات، هل من المعقول أنّ إلهاً عظيماً قال لك: تعالَ إليّ يا عبدي، قلت: لبيك اللهم لبيك، وتأتي إلى عرفات وتنشغل بحديث دنيوي، أو تنام، يقول لك: أنا أخذت معي فرشة للنوم، هذا الحج؟ أهذا الحج الذي أمرنا الله به؟ هل من الممكن أن تدخل على ملك وتدير له ظهرك؟ ممكن أن تدخل على ملك في مقابلة تجد مقعداً مريحاً تنام، وتغط في النوم! ما هذا اللقاء؟ لقاء مع الله عز وجل، الحج عرفة، فتجد في الحج أشياء ممكن من أجل أن تُقَبِّل الحجر تؤذي المسلمين؟! تدفع هذا بيدك، وتدفع الآخر بقدمك من أجل أن تقَبِّل الحجر وأن تؤذي جميع المسلمين، هناك جهلٌ كبير في الحج.
أيام ما بعد الوقوف في عرفة:
أيها الإخوة؛
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)﴾
هذه أيام ما بعد الوقوف في عرفة، والنزول إلى مزدلفة، ورمي جمرة العقبة، هناك أيام ثلاث أو يومان ترجم فيها الجمرات الثلاثة وتؤدَّي بعض المناسك، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ينبغي أن تبيت بمنى وأن ترجم الجمرات الثلاثة؛ الكبرى والصغرى والوسطى، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ .
الملف مدقق