- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، لا عز إلا بالفقر إليك ، و لا أمن إلا في الخوف منك والغنى إلا في الافتقار إليك ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
يقول الله سبحانه و تعالى في الحديث القدس :
عبدي ماتت التي كنا نكرمك لأجلها فاعمل صالحا نكرمك لأجلك .
يتضح أيها الإخوة من هذا الحديث القدسي أن جزءا كبيرا من إكرام الله سبحانه و تعالى للعبد من أجل أمه ، صونا من قلبها من أن يتفطر .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله و صفيه و خليله .
قال عليه الصلاة و السلام حينما سئل :
أي الناس أعظم حقاً على الرجل ؟ قال : أمه ، وأي الناس أعظم حقاً على المرأة ؟ قال : زوجها .
اللهم صل و سلم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن واله ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيء قدير .
العبادة لله وحده .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه و تعالى في سورة الإسراء يقول :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
وقضى ربك ، أي أن الله سبحانه و تعالى أمر أمراً مقطوعا به ، وقضى ربك أي أمر أمراً مقطوعا به ، ماذا أمر ؟ ألا تعبدوا إلا إياه ، قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
لا عبادة إلا لله وحده ، لأنه أهل العبادة ، لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله ، لا إله إلا الله أي لا مسير للكون إلا الله ، قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
لماذا أمرك أن تعبده وحده ؟ لأن الأمر كله بيده ، أي شيء يخطر في بالك فهو بيده ، عدوك الذي تخشاه بيده ، رزقك الذي تحرص عليه بيده ، صحتك التي تخشى أن يصيبها المرض بيده ، من هم حولك بيده ، من هم بعيدون عنك بيده ، قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
والعبادة طاعة تسبقها معرفة تعقبها سعادة ، قال تعالى :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾
و قال تعالى
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
دعوة الأنبياء جميعا ، علة الخلق الأمر الأول في الأرض .
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾
لماذا قرن الله سبحانه وتعالى العبودية مع الإحسان للوالدين ؟
ولكن الشيء الذي يدهش أن الإحسان إلى الوالدين جاء مع توحيد العبودية ، فكيف قرن الله سبحانه و تعالى الإحسان للوالدين مع العبودية لله عز وجل ؟
لا شك أن الإحسان إلى الوالدين عمل عظيم يرقى إلى درجة تشابه أو تقارب العبودية لله عز وجل ، فالله الذي أوجدك وأمدك يستحق العبادة ، وهذه الإنسانة التي تولتك بالعناية والرعاية والتربية حينما كنت مفتقرا إليها ، تستحق الإحسان ، قال تعالى :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
فعلُ " أحسن " في القاموس يتعدى بإلى : تقول : أحسنت إليك .
لكن هذا الفعل في هذه الآية يتعدى بالباء ، فما علة ذلك ؟ وما الحكمة من أن يأتي حرف الباء بعد الإحسان للوالدين ؟
قال بعض المفسرين : إن من معاني حرف الباء الإلصاق ، و لا يُقبل منك إحسان لوالديك إلا منك شخصيا ، مباشرة ، لا يقبل منك أن تحسن إليهما بوساطة ، أو عن طريق إنسان آخر ، قال تعالى :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
فإذا عبدت الله عز وجل فقد أديت حق نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ونعمة الربوبية ، وإذا أحسنت إلى والديك فقد أديت حقهما ، وحقُّهما حق التربية والرعاية يوم كنت مفتقرا إليهما .
أيها الإخوة الأكارم ؛ قال تعالى
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
بر الوالدين لا يظهر إلا في الشيخوخة .
وقد يكون الأب شابا والأم شابة وعلى جانب كبير من العلم والحكمة ، فظلهما خفيف ومؤنتهما يسيرة ، وهما يعرفان ما يقال وما لا يقال ، عندهما حكمة ، فبرُّ هذين الأبوين سهل يسير ، لا يكلف الكثير ، و لكن الله سبحانه أتى بحالتين صعبتين شاقتين ، قال تعالى :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾
أن يكون الأب أو الأم عندك في البيت لا معيل لهما سواك ، لا بيت آخر يؤويهما ، عندك في البيت ، وأن يبلغا من الكبر عتيا ، عندئذ ربما ثقل عليك طلبهما ، ربما تدخل فيما لا يعنيهما ، ربما أفسدا عليك شيئا ، ربما حمَّلاك ما لا تطيق ، ربما أرهقاك ، ربما تدخلا في شؤونك بينك وبين زوجتك ، ربما وجَّهاك وجهة لا ترضاها ، قال تعالى :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾
وأنت في هذه الحالة الصعبة ، في هذه الحالة التيس يصبح برُّهما عبئا ثقيلا ، و مشقة كبيرة ، في هذه الحالة بالذات ، قال تعالى :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾
ما من كلمة في اللغة العربية أهون من كلمة أف ، و لو أن في اللغة كلمة أقل منها لقالها الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾
يحمل على كلمة أف أن تغلق الباب بعنف ، يحمل على كلمة أف أن تشد النظر إليهما ، أن تنظر إليهما بقسوة ، يحمل على كلمة أف أن تتبرم بهما ، يحمل على كلمة أف أن تدير وجهك ، استخفافا بأمرهما ، قال تعالى :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
اجتهد في أن تلقي على مسامعهما أطيب الكلام ، أرق العبارات أجمل الحديث ، أدق التبجيل ، أعظم التعظيم ، قال تعالى
﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
الله جل في علاه رافع السماء بلا عمد يأمرك أن تقول لهما قولا كريما ، فما قولك بإنسان موسر تقيم عليه أمه دعوى النفقة ، كيف تُضطر هذه الأم من أجل أن تعيش تقيم على ابنها دعوى أمام القضاء .
البر أن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾
اخفض لهما جناح الذل ، و لو أن الأم أمية و أنت تحمل أعلى شهادة ، و لو أن في كلام سذاجة و أنت أذكى الأذكياء ، و لو كنت في مكان مرموق ، هذا الذي يدخل عليه أبوه فيستحيي به ليس مؤمنا ، هذا الذي يتجاهل أمام الناس أباه ليس مؤمنان قال تعالى :
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
كنت مفتقرا إليهم ، والآن هما مفتقران إليك ، فما موقفك ، ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ، ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يُغفر له ، كأن العقوق أكبر جريمة يقترفها الإنسان ، هذا الذي يلتفت إلى زوجته و ينسى أمه ، هذا الذي يغضب إذا غضبت زوجته ولا يغضب إذا غضبت أمه ، يا رسول من أعظم الناس قال : أمه -لم يقل : زوجته - زوجها - لم يقل : أبوها قال تعالى :
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ﴾
تودد إليهما ، اخدمهما بنفسك ، اجلس معهما ، أصغ إلى حديثهما ، أكثر الإطلالة عليهما ، خذهما معك إلى نزهة ، لا تأكل أكلة طيبة من دونهما ، لا تنس يوم كنت مفتقرا إليهما ن لا تنس يوم كنت صغيرا لا تقوى على تأمين طعامك ، ولا تأمين شرابك ولا تأمين كسوتك ، وكنت في قلبيهما ، قال تعالى :
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
بعض المفسرين فسروا هذه الآية أن الله عز وجل حينما قضى على ابن سيدنا نوح بالغرق بعث موجة كبيرة حالت بين سيدنا نوح و بين أن يرى ابنه يغرق ، قال تعالى :
﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾
رحمة بالأب ، صونا لقلبه.
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة و السلام :
(( بر أمك و أباك و أختك و أخاك ، ثم أدناك فأدناكك ))
أمر نبوي .
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، مَنْ أحَقُّ الناس بِحُسْن صَحابتي ؟
(( قال : ' أمُّك ' ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ' أمُّك ' ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ' أمُّك ' ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ' أبُوك ، ثم أدناك أدناك ))
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
واللهُ سبحانه وتعالى كما قلت في مطلع الخطبة إذا توفيت أمه :
عبدي ماتت التي كنا نكرمك لأجلها فاعمل صالحا نكرمك لأجلك .
البر أيضاً بعد موتهما .
(( عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا قَالَ نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ))
فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما .
أيها الإخوة الأكارم ؛ هناك واجبات تترتب على المؤمن بعد موت والديه ، أن يسأل اللهَ لهما الجنة ، أن يدعو لهما ، أن يستغفر لهما ، أن ينفذ عهدهما ، أن ينفذ وصيتهما ، أن يصل الرحم التي لم تكن لها صلة إلا بهما ، أن يبر صديقهما ، قال عليه الصلاة و السلام :
(( دعوة الوالدة أسرع إجابة ، فقيل : يا رسول الله ولِم ذلك ، قال : هي أرحم من الأب ))
ودعوة الرحم لا تسقط ، رجل هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليمن و أراد الجهاد ، و ذروة الإسلام الجهادِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ قَالَ أَبَوَايَ قَالَ أَذِنَا لَكَ قَالَ لَا قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا ))
يعني بر الأم عمل يرقى إلى مستوى الجهاد ، يمكن أن تلقى الله به ، جاءه رجل آخر ليستشيره بالغزو ليغزو معه ، فقال عليه الصلاة و السلام ألك والدة ؟ قال : نعم ، قال : فالزمها فإن الجنة عند قدميها ..." وجاء آخر يطلب البيعة على الهجرة ، فقال : يا رسول الله ما جئت حتى أبكيت والدي ، فقلا : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهم" هذا هو الكتاب ، وهذه هي السنة ، في الكتاب :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
وفي السنة هذه هي الأحاديث التي بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام فضل الأم والأب ، و لكن الذي يقع اليوم أن الناس تركوا العمل بكتاب الله وتركوا العمل بالسنة النبوية ، فكان لا بد من أن يُحدث في كل عام يومٌ تُكرم فيه الأم ، و لو أن طبَّقوا الكتاب والسنة لجعلوا في كل عام ثلاثمائة وخمسة وستين يوما تُكرم فيه الأم ، ليس عند المؤمن ، العام كله والسنة كلها عيد للأم لأن باب الجنة مفتوح لمن بر أمه وأباه .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يُروى عن أبي يوسف وكان صاحبا لأبي حنيفة رضي الله عنه ، يروي أبو يوسف تلميذُ أبي حنيفة قال : كان أبو حنيفة رضي الله عنه يحمل والدته على دابة إلى مجلس واعظ قصَّاص يُسمى عمر بن ذرعة ، وكانت أمه تحضر دروسه ، وتعتقد بعلمه وتستخف بأبي حنيفة وبعلمه ، قال أبو حنيفة : ربما ذهبت بها إلى مجلس عمر ، و ربما أمرتني أن أذهب إليه لأسأل عن مسألة لها ، فآتيه وأذكر له ما تريد أمي ، وأقول : إن أمي أمرتني أن أسألك عنها ، فيعجب عمر ويقول : أنت تسألني عن هذا وأنت شيخنا وإمامنا ؟! فأقول : هي أمرتني ، فيقول لي بصوت خافت لا تسمعه أمي : قل لي كيف الجواب حتى أفهم الفتوى منك وأخبرك به ، فأخبره بالجواب سرا ، ثم يرفع صوته ويخبرني بالجواب فأخبرهما به ، فترضى بجواب عمر ولا ترضى بجوابي ، وربما أفتاها أبو حنيفة فلا ترضى إلا أن تذهب إلى رجل زرعة القصَّاص فتذهب إليه مع أبي حنيفة ويسأله عن المسألة التي سألته أمُّه ، فيقول : يا شيخنا ما هو الجواب ؟ فيقول : الجواب كذا ، فيلقن زرعة أم أبي حنيفة الجواب فترضى ، فيرجع بها أبو حنيفة ولم تعلم أن أبا حنيفة أفتاها في المرتين " أي بر الوالدة واجب على كل مؤمن ، أكانت مثقفة أم غير مثقفة ، أعرفت قدرك أم لم تعرف ، أعرفت علمك أم لم تعرف علمك ، هي أمٌّ وكفى ، أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك ، ولا تعلق على أنها عرفتك أم لم تعرف ، لا تعلق على تصرفاتها ، أنت مأمور من قِبل الحق جل و علا أن تبرَّها .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، و سيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العامين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل و سلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
حليب الأم :
مادام الحديث عن الأم ، وما دام عوَّدتكم في كل خطبة أن أحدثكم عن آية كونية تثبت عظمة الله عز وجل فليكن الحديث عن حليب الأم ، فقد قال العلماء : إن الهوة واسعة جدا بين الإرضاع الوالدي والإرضاع الصناعي ، الهوة واسعة جدا ، ففي حليب الأم مواد نوعية يصعب تقليدها ، فالإرضاع الوالدي كما يقول معظم العلماء آمنُ الطرق لصون الطفل من الأمراض والالتهابات والإنتانات ، ففي حليب الأم - دققوا جيد - ففي حليب الأم مواد مضادة للالتهابات المعوية والتنفسية ، وفي حليب الأم مواد تمنع التصاق الجراثيم بمخاطية الأمعاء ، وفي حليب الأم مواد حالة للجراثيم مركزة فيه تركيزا كبيرا ، وفي حليب الأم كريات بيض مزودة بمضادات حيوية تقي الرضيع أمراض الكوليرا والزحار والشلل والكزاز ، أي أن مناعة الأم كفلها في حليبها ، فإذا رضع ابنها من حليبها اكتسب مناعتها ، كل اللقاحات التي تلقحت بها الأم موجودة في حليبها ، فأن يرضع ابنها منها فهذا ضمانة لصحته ولمناعته من الأمراض الكبيرة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في حليب الأمن مواد حامضية تقتل الجراثيم في الأمعاء ، وقد أحرى بعض العلماء إحصاءات على وفيات الأطفال ، فكانت وفيات الأطفال الذين يرضعون إرضاعا صناعيا أربعة أمثال الأطفال الذين يرضعون إرضاعا طبيعيا ، هذه إحصاءات دقيقة ، تؤكدها البحوث الحديثة ، لذلك كل شركات الحليب المصنعة للحليب المتعلق بالأطفال أُمرت أن تكتب على عبواتها : ننصحكم بالإرضاع الوالدي .
شيء آخر اكتُشف حديثا و تصلب الشرايين ومرض السكري و البدانة إنما بسبب أن هذا الذي أُصيب بهذه الأمراض كان في صغره يرضع إرضاعا صناعيا ، و قد يتوقع الأطباء أن الإنسان لو كانت رضاعته طبيعية لكان في وقاية من هذه الأمراض الوبيلة التي تصيب إنسانا وتبتعد عن آخر ، و لا يدري العلماء ما السبب .
أيها الإخوة الأكارم ؛ الإرضاع الوالدي يقي المرأة سرطان الثدي ، بل إن من أسباب سرطان الثدي الامتناع ، إرضاع الطفل .
شيء آخر ؛ العلماء قالوا : إن الإرضاع الطبيعي يُهضم في ساعة و نصف ، بينما الإرضاع الصناعي تزيد مدة هضمه عن ثلاث ساعات ، فضلا عن أن حليب الأم لا تحتاج إلى تبريده و لا إلى تعقيمه ولا إلى شراءه و إلى البحث عنه ، جاهز بالحرارة المطلوبة ، و يصعب أن ترضع طفلا إرضاعا صناعيا بدرجة حرارة ثابتة ، فقد يبدأ الرضاع بحرارة و ينتهي بحرارة و لكن حليب الأم دافئ في الشتاء بارد في الصيف ثابت الحرارة طوال مدة الرضاعة .
شيء آخر يصعب على صانعي حليب الإرضاع أن يعيَّر الحليب كل يوم ، فقد ثبت بالعلم أن حليب الأم يعيَّر كل يوم بحسب نمو الطفل و حسب حاجته إلى المواد و تركيزها في دمه ، و حليب الأم معقم خالٍ من الجراثيم و يقي من سوء التغذية ، ومن التهابات الأمعاء و التهابات القصبات ، و يقي من التحسس و من الأمراض المعدية و سهل الهضم و سهل التحضير ، و لا سيما في الليل ، و لا سيما في السفر ، و يقي الأم الأورام الخبيثة في الأثداء ، بل إن الفطام السريع كما قال بعض العلماء يحدث ردًّا نفسيا وانحرافات سلوكية ، قال تعالى :
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾
يحدث ردا نفسيا و انحرافات سلوكية .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا هو التخطيط الإلهي ، أن يرضع الطفل من أمه ، فإذا غيَّرنا و بدلنا وقعنا في مصيبات و مشكلات لا حصر لها .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، و تولنا فيمن توليت ، و بارك لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي و لا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، و لا يعز من عاديت ، تباركت ربنا و تعاليت ، اللهم أعطنا و لا تحرمنا ، و أكرمنا و لا تهنا ، و آثرنا و لا تؤثر علينا ، و أرضنا وارض عنا ، و اقسم لنا من خشيتك مت تحول به بيننا و بين معصيتك ، و من طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، و متعنا اللهم بأسماعنا و أبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، و انصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، و لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب و ترضى ، إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .