- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠1الوضوء
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مقدمة :
أيها الأخوة المؤمنون، فقرة الفقه المتعلقة بالعبادات التي وعدتكم بها بالدرس الماضي لا تزيد عن عشر دقائق، إن كانت في كل درس فهذا أعون على إتقان الصلاة التي هي عماد الدين، وكتاب مراقي الفلاح، كتاب في العبادات فقط، وفي الفقه الحنفي فقط، كتاب موجز، ومبوَّب، ومقنَّن ومرقَّم، والقراءة فيه سهلة، وله متن وله شرح، فإذا استعصى عليك شيءٌ في المتن، رجعتَ به إلى الشرح.
أركان الوضوء :
في الوضوء يقول مؤلف الكتاب طبعاً استناداً إلى استنباطات العلماء: أركان الوضوء أربعة، وهي فرائضه:
1 ـ غسل الوجه :
الأول: غسل الوجه، وحدُّه طولاً، من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن، وحدُّه عرضاً ما بين شحمتي الأذنين.
2 ـ غسل اليدين مع المرفقين :
والثاني: غسل اليدين مع المرفقين، ليس إلى المرفقين بل مع المرفقين، فالمرفق داخل في غسل اليد.
3 ـ غسل الرجلين مع الكعبين :
والثالث: غسل الرجلين مع الكعبين.
4 ـ مســح ربع الرأس :
والـرابع: مســح ربع الرأس.
سبب الوضوء :
استباحة ما لا يحل إلا به، فهل تحل الصلاة بغير وضوء؟ لا، فإنها لا تحلُّ إلا به، لاستباحة الصلاة، واستباحة الطواف، وهذا حكمه الدنيوي، وحكمه الأخروي الثواب في الآخرة.
الوضوء عبادة، فإذا قام الإنسان ليتوضأ، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، دخل في عبادة.
شرط وجوبه :
العقل، البلوغ، الإسلام، القدرة على استعمال الماء الكافي، فإذا كان الإنسان لا يقدر على استعمال الماء، أو يقدر والماء غير كافٍ فعندئذٍ يتيمَّم، وجود الحدث، عدم الحيض والنفاس، فلولا الحدث لما وجب الوضوء، وضيق الوقت.
في بعض الصلوات، كصلاة العيدين، أو صلاة الجنازة، إذا كان الوقت ضيقاً حيث تفوته الصلاة إذا ذهب ليتوضَّأ جاز له التيمم، لضيق الوقت.
إذاً شرط وجوبه: العقل، والبلوغ، والإسلام، والقدرة على استعمال الماء الكافي، ووجود الحدث، وعدم الحيض والنفاس، وضيق الوقت.
شروط صحته :
شروط صحته ثلاثة: عموم البشرة بالماء الطهور، أي أن يبلغ الماء كل الأماكن التي نصّ عليها الشرع بالماء الطهور، وانقطاع ما ينافيه من حيض، ونفاس، وحدث، وزوال ما يمنع وصول الماء إلى الجسد، فطلاء الأظافر يمنع وصول الماء، والشحم يمنع وصول الماء، والعجين يمنع وصول الماء.
وعندنا شروط الوجوب، كما عندنا شروط الصــحة.
هذا فصل قصير، وبعدها ننتقل إلى موضوع آخر.
معلومات جانبية متعلقة بالوضوء :
يجب غسل ظاهر اللحية الكثة، واللحية نوعان، طبعاً الذقن غير اللحية، وكثيرون يظنون أنّ الذقن هو اللحية، فيقال: ليس له ذقن، أو لم يربِّ ذقنه، فكل واحد منا له ذقن، الذقن شيء، واللحية شيء، ويستعمل العامة خطأً الذقن بدل اللحية، إذًا فمن كانت له لحية كثة، أي غزيرة الشعر، يجب غسل ظاهرها، والشرع لم يكلَّفكَ بغسل أصول اللحية، عندئذ تحتاج إلى تنشيف على الهواء، وهذا أمرٌ صعب، فوق الطاقة، وعليه غسل ظاهر اللحية الكثة في أصح ما يُفتى به، ويجب إيصال الماء إلى بشرة اللحية الخفيفة، فإذا كانت اللحية خفيفة وجب أن يصل الماء إلى البشرة، أيْ إلى أصل اللحية، ولا يجب إيصال الماء إلى المسترسل من الشعر عن دائرة الوجه، فإذا كان لك شعر مسترسل لا يجب إيصال الماء إليه، ولا إلى ما انكتم من الشفتين، إذا ضمَّ إنسان شفتيه فهناك جزء من الشفتين من داخل الفم، فالجزء الذي يعد من داخل الفم لا يجب إيصال الماء إليه، ويجب تحريك الخاتم الضيق، وإيصال الماء إلى أصل اللحية الخفيفة، وغسل ظاهر اللحية الكثة، أي الكثيفة، وعدم وجوب إيصال الماء إلى ما استرسل من الشعر الخارج عن دائرة الوجه، فهذه معلومات جانبية متعلقة بالموضوع.
شيء آخر: لو ضره غسل شقوق الرجلين، إذا كان في الأرجل شقوق، أي مذبوحة من الشتاء، وهي مؤلمة، ويؤذيها الماء وضره غسل شقوق رجليه جاز إمرار الماء على الدواء الذي وضعه فيها.
وبعد: شخص واحد له لحية كثة توضأ فرضاً وحلقها، لا يقال له: أعد الوضوء، ولا يعاد المسح، ولا الغسل على موضع الشعر بعد حلقه ولا الغسل بعد قص ظفره، وشاربه.
فإذا طرأ بعد الوضوء قص ظفر، أو قص شارب، أو حلق شعر لم يصل الماء إليه عند الوضوء، فالشرع متساهل لا يجوز أن تعيد الوضوء في هذه الحالات، أ ي معلومات لطيفة ويحتاجها كل إنسان، وهذا مما يعين على إتقان الوضوء، لا زلنا في موضوعات أخرى، وإن شاء الله نتابعها في الدرس القادم، هذا ويسن في الوضوء ثمانية عشر شيئاً، نقرؤها الآن مجرد قراءة، وربما عدنا إليها في الدرس القادم.
ما يسن في الوضوء :
يسن في الوضوء ثمانية عشر شيئاً: غسل اليدين إلى الرسغين، والتسمية ابتداء، والسواك في ابتدائه ولو بالإصبع عند فقده، فالسواك من سنن الوضوء، لم تجد السواك فبالإصبع، والمضمضة ثلاثاً ولو بغرفة واحدة، طبعاً عندنا سنة التكرار، وسنة المضمضة، فإذا أخذت غرفة يمكن أنْ تتمضمض فيها ثلاث مرات، فالمضمضة تحريك الماء بالفم مرة أولى، ثم مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، إذاً والمضمضة ثلاثاً ولو بغرفة واحدة، والاستنشاق بثلاث غرفات، قطعاً لأن الاستنشاق ليس عندك عضلات بالأنف تحركها ثلاث مرات، فلابد من المرة الأولى، والثانية، والثالثة، أما بالفم فممكن، إذاً يجوز أن تتمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة، ولا يجوز أن تستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة، فثلاث مرات ثلاث غرفات، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، المبالغة تعني إيصال الماء إلى كل أنحاء الفم، وإيصال الماء إلى أقصى الأنف، المبالغة لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها، والتخليل يعني بالأصابع، الأصابع مبتلة تخلل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها، وتخليل الأصابع، وتثليث الغسل، كل عضوٍ ثلاثًا ثلاثًا، أول مرة تدلك، والثانية إسالة الماء، والثالثة التأكد من التنظيف، واستيعاب الرأس بالمسح مرة، ويجوز مسح ربع الرأس، أما السنة فكامل الرأس، ومسح الأذنين ولو بماء الرأس، فهذا ممكن، أن تمسح الأذنين بماء الرأس نفسه، طبعاً تُدخل إصبعك إلى داخل الأذن، وتمررها بتجاويفها وخطوطها، ثم ظاهر الأذن، و الدلك.
أحدث شيء سمعته من طبيب جزاه الله خيراً أن هناك عصيات بالمستقيم اسمها العصيات الزرق، هذه متواجدة بالمستقيم، ولها وظائف حيوية، ومحظور عليها لأسباب يصعب شرحها أن تنتقل إلى داخل الجسم أو إلى الدم، فإذا دخلت في الفم بسبب عدم الاحتراز منها، عدم إتقان الغسل، إذا دخلت إلى الفم ووصلت إلى الدم سببت أمراضًا وبيلة.
فالأحاديث الشريفة تحضُّنا على المبالغة بالطهارة، فإذا دخل إنسان المرحاض وجب أن يبالغ في تنظيف يديه، ولا سيما الأنامل عند الأظافر، عند هذه الثنيات، فلو أن عصية زرقاء دخلت إلى الفم ولم يكن المتوضأ قد اعتنى بتغسيل يديه، فهذا يسبب له أمراضاً، يجب أن تعلموا أن أوامر النبي الكريم مبنية على حقائق علمية لأن الله سبحانه وتعالى أوحى له بذلك:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
ومسح الأذنين ولو بماء الرأس، و الدلك، والولاء، كشخصٍ غسل وجهه، فرنَّ جرس الهاتف، وتكلَّم ربع ساعة، ثم رجع وأكمل غسل يديه، فلم تتوفَّر الموالاة، بل صار في الوضوء انقطاع، فيجب أن يتوضأ مرة واحدة، والنية، والترتيب، فالإنسان أحيانًا ينسى فيغسل رجليه قبل يديه، فاختلَّ الترتيب وخالف السنة كما نص الله تعالى في كتابه، والبداءة بالميامن، في كل شيء تبدأ باليمين، ورؤوس الأصابع، ومقدم الرأس، ومسح الرقبة إلى الحلقوم، إذًا الميامن، والترتيب، والنية، والولاء، والدلك، ومسح الأذنين بماء الرأس، واستيعاب الرأس كله، وتثليث الغسل، وتخليل الأصابع، وتخليل اللحية الكثة من أسفلها، والمبالغة في المضمضة، والاستنشاق لغير الصائم، والمضمضة ثلاثًا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات، أما الاستنشاق فبثلاث غرفات قطعاً، والسواك ولو بالإصبع، والتسمية ابتداءً، وغسل اليدين إلى الرسغين، وهذه ثمانية عشر شيئاً هي سنن الوضوء، وفي الدرس القادم إن شاء الله نتحدث عن آداب الوضوء وهي أربعة عشر أدبًا.
***
للإنسان في علمه أربعة أحوال :
وبعدُ فإلى بعض الفصول المختارة من إحياء علوم الدين، ولا زلنا في الموضوع الكبير، وهو العلم.
الدرس اليوم: "وظائف المعلم"، تحدثنا عن آداب المتعلم، واليوم وظائف المعلم، فإذا وضعك الله عز وجل وأكرمك في مقام التعليم فعليك واجبات، ابحث عن واجباتك قبل أن تبحث عن حقوقك قبل أن نبدأ بالواجب الأول هناك مقدمة لطيفة.
اعلَمْ أن للإنسان في علمه أربعة أحوال، كحاله في اقتناء الأموال، إذ لصاحب المال حالةُ استفادةٍ فيكون مكتسباً، إذًا أولاً كسب المال، وحالُ ادخار لما اكتسبه، فيكون به غنياً عن السؤال، وحالُ إنفاقٍ على نفسه فيكون منتفعاً، وحالُ بذلٍ لغيره فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف الأحوال.
اكتساب، وادخار، وإنفاق على نفسه، وإنفاق على غيره، والإنفاق على الغير هو أشرف الأحوال، هو السخاء، هو الفضيلة، وكسب المال ضرورة، وادخاره شح، وإنفاقه على النفس أنانية، وكسبه ضرورة، فلا بد أن نعمل، فادخاره شح، وإنفاقه على الذات أنانية، أما إنفاقه على الآخرين فهذه فضيلة، فكذلك العلم يُقتنَى كما يُقتنَى المال، فله حال طلب واكتساب، وحال تحصيل يغني صاحبه عن السؤال، وحال استبصار، وهو التفكر المحضُ والتمتع به، وحال تبصير، وهو أشرف الأحوال.
إذًا أوّلاً تَعَلُّم، وبعدما تعلمت، جمعت حقائق كثيرة، ومعلومات كثيرة، وفهمت شيئاً كثيراً من كتاب الله، ومن سنة رسول الله، فشعرت بالغنى، هذا الادخار، تأملت فيما تعرف، وتبصرت فيما حصّلت، فشعرت بالراحة، الآن أنفقته على نفسك، فاعملْ به، واستفد منه، أما حينما تعلِّمه غيرك فهو أشرف الأحوال.
فمن عَلِمَ وعمل وعلّم فهو الذي يدعَى عظيمًا في ملكوت السموات والأرض، عَلِم وعمِل وعلّم، هذه سورة نقرؤها كل يوم عشرات المرات
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
عَلِمَ وعمل ودعا، علم وعمل وعلّم، وإذا واجهته معارضات ولاقى تضيقًا صبر، فلا يترك طلب العلم بسرعة، واللهِ أنا لا أريد هذه العمل، لأنّ به وجع رأس فلا أريده، علم وعمل وعلّم وصبر، فإذا توافرت هذه كلها فيسمَّى عظيماً في ملكوت السموات والأرض.
من يتعلم ويعمل ويعلّم كالشمس والمسك :
اسمعوا التشبيه اللطيف، قال: فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يطيِّب غيره وهو طيب، والذي يعلِّم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال من العلم، والدفتر الفارغ تملؤه علمًا فيفيدك، أما الدفتر فهو جاهل ويبقى جاهلاً، وكالمِسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع، والإبرة تكسو غيرها وهي عارية، والمصباح يضيء لغيره وزبالته تحترق، فالذي يتعلم ويعمل ويعلّم، كالشمس، والمسك، والذي يتعلم ويعلم ولا يعمل كالشمعة تحرق نفسها وتضيء غيرها، لذلك نسأل الله أنْ الله يجعلنا من الصادقين في طلب العلم، وأنا أدعو بدعاء دائماً: "اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعدَ بما علمت مني"، أي أنَّ واحداً علَّمتُه ويسبقني، واللهِ هذه صعبة، وشيء مؤلم، تعلِّمه حديثًا يطبقه ويسعد به إلى الأبد، وأنت لا تطبقه، تُعلمه آيةً ويطبقها بحذافيرها، فيجلب منها خير الدنيا والآخرة، وأنت لا تطبِّقها، واللهِ هذا الشقاء كلُّه، لذلك سئل النبي الكريم: مَنْ أندم الناس؟ - أندم اسم تفضيل – قال رجل دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار.
وفي صحيح البخاري حديثٌ يقصم الظهر:
((عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ))
لذلك:
وعالم بعلمه لم يعمــــلن معذب من قبل عباد الوثن
***
"اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد مني بما علمتني، اللهم أعوذ بك أن أكون عبرة لخَلْقك، اللهم إني أعوذ بك أن أتجمل بشيء يشينني عندك، اللهم إني أعوذ بك أن أقول للناس قولاً في رضاك ألتمس به أحدًا سواك"، القول جيد، القول في رضى الله عز وجل، لكن القائل يلتمس به أحدًا سواك، لذلك أيها الأخوة الأكارم، الإخلاصَ، الإخلاصَ، فقليل من العمل ينفع مع الإخلاص، ومع غير الإخلاص لا ينفع لا قليل العمل ولا كثيره، لذلك: يا معاذ أخلص دينك يكفِكَ القليلُ من العمل، أخلص دينك.
وظائف المعلم :
1 ـ الشفقُة على المتعلمين :
وبعد هذه المقدمة نقول: الوظيفُة الأولى للمعلم الشفقُة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه:
((إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، أُعَلِّمُكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَأَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَنَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ))
إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، حتى الشيء الثابت الذي لا يأتيه الباطل، أنا رحمة النبي عليه الصلاة والسلام لأمته والخلق جميعاً أشد من رحمتهم لأنفسهم.
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
إذا تحدَّاك إنسان، وقابلك مقابلة سيئة، وأنت تقتدي برسول الله فكيف تواجهه؟ جاءه جبريل قال: أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، يقصد أهل الطائف، قال: لا، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله، فرحمته فوق رحمتنا لأنفسنا، وفوق رحمتنا لأولادنا، هذا شيء ثابت، إنما أنا مثل الوالد لولده، إذاً على المعلم أن يقصد إلى إنقاذ المتعلمين من نار الآخرة، وهي أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، فإذا كان نشب بالبيت حريق، والابن بالحمام، والحريق من أطراف البيت كله، فإنَّ الأم أو الأب يقتحم أحدهما النار لينقذ ابنه، فإنقاذ الأب ابنه من نار الدنيا ليس بشيء أمام إنقاذ النبي عليه الصلاة والسلام أتباعه من نار الآخرة، فهذه نار مؤقتة، قد يكون الحريق من الدرجة الأولى ولكنه يشفى بإرادة الله، والدرجة الثانية يشفى أيضًا، وبالدرجة الثالثة قد يعيش مشوَّهًا، أما نار الآخرة فليس لها حل، لذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، وبالنسبة للدنيا إذا دلَّك شخص على عمل مربح وربح منه فأنت مدِينٌ له، لقد حكى لي أخ، وهو واللهِ صادق عندي، أنَّه اشترى بيتًا أنزل صاحبُه السعر سبعين ألفًا، أنا مبدئِيًّاً ما صدقت، خفَّض سبعين ألفًا، قال لي: نعم والله، سألت ما السبب؟ قال لي: إنَّ صاحب البيت في بداية عمله التجاري دَلَلْتُه على مصلحة ربح منها الملايين، فلم ينس هذا المعروف، إذًا فتخفيض سبعين ألفًا مبلغ يسير، لكنها ثروة طائلة جاءت نتيجة مساعدة سابقة وإرشاد، فقد دعمه ووجهه، فإذا نزل له في سعر البيت سبعين ألفًا فمبلغ بسيط مقارنة بالمليون، فإذا أصاب شخصًا في الدنيا خيرٌ عن طريق شخص آخر فتراه مدينًا له طوال حياته، فإذا كانت المساعدة والدلالة تتعلق بالحياة الأبدية وبالجنة التي عرضها السموات والأرض، إذْ لا فناء، ولا كبر، ولا مرض، ولا هم، ولا حزن، ولا قلق:
((قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))
إذا دخل شخص بيتًا فخمًا بمصيف جميل، فقال: وَاللَّهِ إنّه جميل ، فقال لك صاحبه: خذه، و يقدر ثمنه بمليونين ونصف، إنّه لك، مع السيارة، وهذا دخل شهري قدْرُه عشرة آلاف ليرة، ألا تشعر أنك صغرت أمامه، والمعلم في الدنيا هو السبب في دخول الجنة، لذلك قالوا: حق المعلم أعظم من حق الوالدين، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، إذا ترك لك الأبُ مئة مليون، أجلْ هناك آباء تركوا مئة مليون، فإذا مات الابن انتقلت التركة إلى غيره، فمهما كان عطاء الأب غزيرًا يفقده الابنُ بالموت، أما عطاء المعلم فهو إلى أبد الآبدين، لا ينفد خيرُه، والمعلم سبب الحياة الباقية، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما العلم هو المفيد إلى الحياة الأخروية الدائمة، أعني معلم علوم الآخرة، لا رياضيات ولا هندسة، معلم علوم الآخرة، فإذا عرفت الله عز وجل، واستقمت، وعملت الأعمال الصالحة هذا الذي يعلمك، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك، نعوذ بالله منه، تتعلم من أجل الوجاهة، والمنصب، والرياسة، وترؤس المجتمعات، وتصدّر المجالس، فإذا كان هذا هو العلم فهذا هلاك بهلاك، هذه الوظيفة الأولى للمعلم، أن يعلم المتعلمين كأبنائه.
2 ـ أن يقتديَ بصاحب الشرع :
الوظيفة الثانية: أن يقتديَ بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه، فلا يطلب على العلم أجراً، ولا يقصد به جزاء ولا شكوراً، بل يعلمه لوجه الله تعالى، وطلباً للتقرب إليه، وأن يكون هذا العمل خالصاً لوجه تعالى، لا يريد جزاء، ولا شكوراً، ولا تلميحاً، ولا تصريحاً، ولا مادة، ولا معنى، ولا شيئًا من هذا، ولا يرى لنفسه مِنَّة عليهم، هنا تبرز المشكلة، إنّه لم يطلب منهم شيئًا، ولكنه شعر بذاته أن له فضلاً عليهم، وهذا أكبر عيب، قال العلماء: ولا يرى لنفسه منَّة عليهم، وإن كانت المنّة لازمة عليهم، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إذا علَّمتَ إنسانًا وقبل أنْ يتعلم منك استجاب لك، فهو ذو فضل عليك، وليس لك فضل عليه لو ما تعلم منك، فلو أنّه لم يتعلم على يديك، فقد حُرِمتَ الأجر عند الله، لكن هؤلاء الذين استجابوا لك، واستمعوا، وطبقوا، وسعدوا كلهم في صحيفتك، فهم سبب سعادتك، كالتاجر الذي فتح محلاً فخمًا، ثم لم يدخله أيُّ زبون، فما قيمة المحل؟ فهنا الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه يقول: لا يكفي ألاّ يطلب أجرًا ولا أن يحس أن له فضلاً عليهم، فهو مخطئ، بل لهم الفضل عليك، لأنهم استمعوا، واستجابوا، وإن كانت المنَّة لازمة عليهم، بل يرى الفضل لهم إذ هذَّبوا قلوبهم، فأنتَ تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها، وهذه الأمثال جميلة.
قال: كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك، فقال لك: خذ الأرض وازرعها، والمحصول لك، فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض، فكيف تقلده منَّة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى؟ ثواب المعلم عند الله أكثر من ثواب المتعلم، إذاً من له الفضل على الآخر؟ المتعلم له الفضل، إذْ لولاه لمَا نلت هذا الثواب، فلا تطلب الأجرة إلا من الله تعالى كما قال عز وجل:
﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾
فإن المال وما في الدنيا كلها خادم للبدن، والبدن مركب النفس ومطيتها، والمخدوم هو العلم، قال العلماء: إذ به شرف النفس، فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل حذائه بوجهه لينظفه، إذا طلب أحدٌ على دعوته إلى الله منفعةً ماديةً أو معنوية كمن مسح حذاءه بوجهه لينظفه، الحذاء خادم، والوجه مخدوم، لكنك جعلتَ المخدوم خادمًا، والخادم مخدومًا، وهذا هو الانتكاس على أم الرأس، وسوف نتابع هذه الوصايا.
3 ـ أن يترفع عن الدنيا :
ثم عليك أنْ تترفع عن الدنيا، اجعل الدين في السماء، ولا تمرغه في الوحل، هناك أناس مرَّغوه في الوحل، وأساؤوا إليه إساءة كبيرة، فلا تطلب على دعوتك إلى الله ولا على تعليمك أجراً، واحتسب الأجر عند الله تعالى، وإذا كنت طموحًا فاترك الأجر لله عز وجل، وإليك بعض الأحاديث الشريفة.
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّه، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
وبصراحة أريد أنْ أقول لكم: إذا كان الدين عندك حضور مجالس علم فقط، فليس عندك روحانية، ولا تشعر بسرور، واعلم أنّ الإيمان له حلاوة، فإذا أكلَ الإنسانُ أكلة طيبة وهو جائعٌ، ألا يسعد بها؟ بلى، فالإيمان له حلاوة، قال عليه الصلاة والسلام:
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ- الأولى- أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا...))
كيف ذلك؟ مثلاً دعاك شخصٌ وأنت لم تصلِّ الظهر، تعتذر حتى تصلي الظهر أولاً، اعتذِرْ عن كل شاغلة لتصلي الظهر بإتقان ورويَّة وإلاّ فأنت في غنى عن دعوته.
مثالٌ آخر: دخلتَ أنت وصديق محلاً، وهذا المحل لا يجوز أن تدخله، تقول: استحييت منه فدخلتُ، أي أنّ هذا الصديق أغلى عليك من الله ورسوله، وإذا قلت: أنا لا أدخل، وهذا خطأ، وكان الأولى ألاّ تدخل، وأنت حين تضحي بصداقات الناس من أجل إرضاء الله عز وجل فقد عملتَ صوابًا، ولن يتخلَّى الله عنك، فهو وليُّك، وعندما تؤثر صديقًا على محبة الله، وتؤثر مبلغًا من المال على رضى الله عز وجل، فقد جعلتَ منفعتك مقدمة على طاعة الله و مرضاته، لكنّك إذا كان الله ورسول أحبَّ إليك مما سواهما، فتقول: معاذ الله، كما قال سيدنا يوسف حين دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
المؤمن صاحب مبدأ وله مواقف عظيمة :
المؤمن صاحب مبدأ، وله مواقف، فقد يلين الجبل ولا يلين هو، فمواقفه صلبة، لأنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما، أما بعض الأشخاص إذا دعي إلى حفلة مختلطة يقول: واللهِ استحييت، وأنا أرى أنّ مجاملة الآخرين لا بد منها، ولا بد من مسايرتهم، وأرجو الله أنْ يغفر ذنوبنا، هذا يعني أنّ محبة الناس ومجاملتهم مقدمة على محبة الله و رسوله، إذا كانت لك علاقة ربوية قلت: هكذا يريد شريكي، فالدرهم والدينار أحب إليك من الله ورسوله، قال لي شخص: الحمد لله، إني أصلي الصلاة في وقتها وفي المسجد، ولكن أسأل الله أنْ يصلح شريكي في المطعم فإنّه يقدِّم خمرًا، أصلحه الله و هداه، قلت له: انسحب، فقال: أنسحب؟ أرباحه طائلة، لكني لا أذهب إلى المطعم أبداً، والحمد لله، الأمرُ برقبته، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، واللهُ عز وجل يضع المؤمن في ظروف، وهذه الظروف يخلقها الله خلقًا، ليظهر الإنسانُ على حقيقته، فيما إذا كان الدرهمُ والدينا أحبَّ إليه من الله ورسوله أو أن الَله ورسوله أحبُّ إليه من الدرهم والدينار، يقول: الضرورات تبيح المحظورات، العلماء قالوا: هذه الضرورات إذا خِفْتَ فَقْدَ الحياة، أو فَقْدَ أحد الأعضاء، فعندئذ الضرورات تبيح المحظورات، يقول المؤمن: واللهِ آكلُ خبزًا يابسًا ولا آخذ مالاً حرامًا، أرضى أنْ آكُل خبزاً فقط، ولا آخذ هذا المال الحرام، نجحت حينئذٍ، وبعدها سوف نعطيك الرضا، والرحمة، والتجلي، والمال، فالله عز وجل قال:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
لا يمكن لإنسان أنْ ينجو من الفتنة، فربنا عز وجل عنده محكٌّ، لتَتَكَلَّمْ بما شئت، كأنْ تقول: أنا أحب الله، ومحبة لا يعلمها إلا الله، ثم تمر أمام فتاة جميلة فتنظر إليها و تحدق، فأين الذي في قلبك من محبة الله؟ لا توجد مادة في قانون أرضي تحاسبك، تنظر، أوْ لا تنظر، أما ربنا فيحاسبك إذا نظرت وضربَ على اسمك بأنك لستَ له محبًّاً، ورسبتَ في الامتحان، فاحذرْ فإنَّ علاقتك مع الله عز وجل:
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا...))
فإذا آثرتَ محبة الله ورسوله جمعت الدنيا والآخرة، لذلك: من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
علامة المؤمن الصادق أنْ يحب أخوانه في الله محبة عجيبة :
أمّا الثانية:
((وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّه))
في دنياكَ أشخاص تحبهم لله، لا هو زبون، ولا صديق، ولا قريب، ولا صهر، ولا جار، ولا عنده سيارة فتركبها، ولا حالته المادية جيدة، فيدعونا لمائدته، ليس مِن علاقة بينك وبينه إلا علاقة الأخوة في الله، تشعر نحوه بمحبة آسرة، وتعقيبًا على هذه الظاهرة ذكر لي شخصٌ فقال: واللِه إذا مضى يومٌ ولم أرَ صديقي الذي صادقتُه لله فإنّي لا أهنأ، وإذا رأيته أشعر بسعادة عارمة، إذًا علامة المؤمن الصادق أنْ يحب إخوانه في الله محبة عجيبة، خالصةً لله، لا يطمع في مالهم، ولا في مناصبهم، ولا في أي شيء، بل رآه مؤمناً فأحبَّه، ورآه أخلاقياً فأحبه، جاء في الحديث القدسي:
((وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ، وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ، وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ))
وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ- وجبت- وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ، انظُر مليًّاً، فهذه مجالسة لله، دونما مصلحة دنيوية صغرتْ أو كبرتْ، وَجَبَتْ مَحَبَّتِي، أنت الآن ضيف الله عز وجل: "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر".
(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))
((...وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))
في أحيان كثيرة تجد الإنسان المسلم يفضل أنْ يأكل تحت المطر، إذا كان خارج بلده و لا يدخل مطعمًا فيه معصية، يفضل أنْ يأكل شطيرة (سندويشة)، يأكل ما خَشُنَ في طاعة الله، ولا يأكل أفخر المأكولات في مكان يعصى الله فيه، فهذه علامة المؤمن.
ابتعاد المسلم عن كل ما هو غير أخلاقي :
((...وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
هذا مقياس لنا جميعاً، أن تنفر من كل ما هو جاهلي، ومِن كل ما هو غير أخلاقي، وأنا أشبه هؤلاء بشخصٍ سقط في كنيف ثم خرج أو أُخرِج و دخل حماماً، واغتسل ساعة ثم تعطَّر بالعطورات ذات الأرج الفوَّاح، ولبس الثياب النظيفة، وصفَّف شعره، ثمّ ما لبث أنْ رأى السياقات بمياهها السوداء، أيشتهي أنْ ينزل إلى الكنيف مرة ثانية؟ فلو حَنَّ إلى الكنيف لكان مجنونًا حقًّاً، وهكذا المؤمن بعد أنْ أنقذه اللهُ من القاذورات، والسفالات، والسخافات، ومن كل ما يشين الإنسانَ، كالمزح الفاحش، والغرور، وبذاءة اللسان، والضلالة، فإذا أنقذك الله عز وجل من القاذورات، والبذاءات، وطهَّر قلبك بالإيمان، فأنت ذو حظٍّ عظيم:
((... وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))
وإذا تحقَّق للمرء هذه الهداية فإنّه يقول: واللهِ لو قطعت إرباً إرباً فلن أعود إلى ما كنت عليه، هذا شيء يعلمه كل منكم، تكره أن تعود إلى ما كنت عليه، هذا الحديث أُحبُّ أن تحفظوه، وتتمثلوه دائماً.
صفات المؤمن الحق :
إذًا ألخِّص وأكرِّر: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فإنْ كنتَ في زيارة لبعض أرحامك ووجدتَ ما لا يرضي الله عز وجل مِن منكر، إذًا تودِّع، والسلام عليكم، وهذا تعليم و تنبيهٌ بمَن كنتَ في زيارتهم.
ثانياً:
((...وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ..))
فلا تقيم مودة و صداقة خالصةً إلاّ إذا كانت قائمةً على رضا الله تعالى، فهذا الذي ينمو بذرُه، ثم يكون منها شجرة، ثم تكون هذه الشجرة، شجرة المحبة والمودة مثمرةً ثمرًا يانعًا، فإنها تعود ثمراتها بخيرٍ على الفرد و المجتمع، و بهذا يكون ظلُّ الإسلام ظليلاً، و يتحقق لنا المعنى السامي للحديث:
((...وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ))
هذه صفات المؤمن الحق:
(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ...))
حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً يوم القيامة، وأدخله الجنة برحمته، فأعطى المال و عفا عن أهل الإساءة، ووصل رحمه، و ردَّ على الإساءة بإحسان، فسيدنا ابن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه فَقَدَ مالاً، فتوجه إلى الله عز وجل وقال: "اللهم إن كان الذي أخذ هذا المال عن حاجة فبارك له فيه، وإن كان قد أخذه بطراً فاجعله آخر ذنوبه يا رب"، وآخر بالغ في الإساءة لصحابي فقال له: "إن كنتَ صادقًا فيما تقول فغفر الله لي، وإن كنتَ غير صادق فغفر الله لك"، فالمؤمن يترفَّع عن مستوى المشاحنة، والخصومات، ويعلو عن كلِّ ما فيه عيبٌ وشين، ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، فقد سما في معارج القبول، فأنت رجلٌ منَّ الله عليك بنعمةٍ كبرى هي نعمة الهداية، والسلوك الأخلاقي الإيجابي، وكذلك من أدَّى، وأقرى الضيف، وأعطى على النائبة، فهذا برئ من الشح، فلا يسمى شحيحاً، وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده، ودخل بها على أولاده، فقد يذهب الإنسان إلى السوق يشتري خضارًا ويحمل حملاً ثقيلاً، فهذا فخر، أنت عندئذٍ بريء من الكبر، فاحملْ حاجتك بيدك، لقد برئ من الكبر من حمل حاجته بيده، الثالثة: برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله ، فإذا أكثرت من ذكر الله، فأنت بريء من النفاق، وبريء من الشح من أدى زكاة ماله، وأقرى الضيف، وأعطى على النائبة، وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده، وبرئ من النفاق من أكثر ذكر الله.