- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠1الوضوء
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أقسام الوضوء :
أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي إلى أوصاف الوضوء، والوضوء على ثلاثة أقسام:
الأول: فرض، أي من أراد أن يصلي وهو محدث فالوضوء فرض، فعلى المحدث للصلاة، ولو كانت نفلاً، أو فرضًا، أو سنةً، أو تطوعًا، فإن كان المصلي محدثاً، فالوضوء لها ولصلاة الجنازة ولسجدة التلاوة فرضٌ، والوضوءُ فرض لِمَسِّ القرآن، ولو لمراجعة آية.
والثاني واجب: وأما الوضوء الواجب فللطواف بالكعبة، وكما يتضح لكم أن الفرض إذا تركه الإنسان لأيِّ سببٍ يأثم، وإن تركه تهاوناً أَثِم، وإن تركه إنكاراً كَفَر، ومن ترك الصلاة استخفافاً بحقها كفر، أمّا من ترك الصلاة تهاوناً فقد فَسَقَ.
والثالث: مندوب - دققوا أيها الأخوة كيف كان السلف الصالح يتخذون من الوضوء أدباً، حتى يرفع من طاهرة نفوسهم - فيُندَب للنوم على طهارة، فإذا أردت أن تذهب إلى النوم فالوضوء مندوب لك، لأنّ النوم على طهارة يجعل النائم يغيب في منامات سعيدة، فيرى نفسه يقرأ القرآن، أو في مجلس علم، وقد يرى نفسه في زيارة الحبيب المصطفى، وما دام قد نام على طهارة فلنْ يأتيه كابوس في النوم، عند الكوابيس يستيقظ، وكأن الشيطان قد مسّه، هذه المنامات الموحشة، التي تفزع منها النفس، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتوضأ إذا ذهب إلى النوم، ويتوضأ إذا استيقظ منه،، فمثلاً أنْ يستيقظ من النوم مباشرةً إلى الأكل صباحاً، فهذا تأباه النفوسُ الطيِّبة، ولا يجوز له، فالوضوء بعد النوم، أي أنْ يغسل يديه، وكذلك إزالة بعض المفرزات من عينيه، وإزالة بعض الزبد على فمه، وغسل أنفه، وتنظيف ما تراكم فيه، فإذا استيقظ الإنسان من النوم وتوضأ فهذا من السنة بعدَ الاستيقاظ من النوم، كما يُسنُّ المداومة عليه، والمسلم إذا توضّأ وصلى الضحى وخرج من بيته، ثم انتقض وضوءه في أثناء الطريق، ووصل إلى مكتبه، أو وصل إلى مكان عمله فليتوضأ، وهذا الوضوء مندوب للمداومة عليه وعلى استمراريته، وكذلك في الصيف مثلاً رجلٌ متوضئ دخل المسجد، والبحرة فيها ماء زلال، واشتهى أنْ يتوضأ، مع أنّه متوضئ، فهذا مندوب، الوضوء على الوضوء، دخل إلى المسجد الحرام وهو متوضئ وتوضأ فهذا مندوب.
مندوبات الوضوء :
وبعد غيبة، فإذا كان الإنسان في غيبة ندب له الوضوء، وبعد كذب، فإذا وقع الإنسان في كذب فعليه أن يتوضأ، لأن نفسه تنجست:
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
فلا يخون المؤمن ولا يكذب، وكذلك بعد كذب وغيبة ونميمة، تكلَّم عن شخص، وشعر بوحشة وبحجاب، وانقطعت الصلة مع الله عز وجل، أول عمل أنْ يتوضأ، وبعد كل خطيئة أيضًا، والوضوء يلازم التوبة، والتوبة طهارة الباطن، والوضوء طهارة الظاهر، وبعد إنشاد شعرٍ، وكما قال بعض الشعراء: أعذب الشعر أكذبه، قال تعالى:
﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾
إذاً إنشاد الشعر يندَب له الوضوء، فهناك شعر فيه غزل، فيه هجاء، فيه وصف لمحاسن امرأة، شعر من هذا القبيل، عليك أن تتوضأ منه، وكذلك قهقهة خارج الصلاة، اللهم صلِّ عليه كان جلُّ ضحكه تبسمًا، وهناك ضحكة يكاد الشخصُ ينقسم نصفين من فَرط ارتفاع صوته، فهذا الضحك يُندَب أن تتوضأ منه، وغسل ميت، فكل من ساهم في غسل ميت، أو حمله، عليه أن يتوضأ، مع أن الميت طاهر، والمؤمن لا ينجس، ولكن هذا توجيه صحي، أي قد تكون الوفاة بسبب مرض سارٍ، وقد تكون الوفاة قد نتج عنها بعض المفرزات التي فيها بعض الجراثيم، فمن ساهم في غسل ميت، أو حمله فعليه أن يتوضأ، وهذا توجيه صحي كما نوَّهت، ولوقت كل صلاة، أذن العصر وأنت متوضئ فمندوب أن تتوضأ لكل صلاة، وقبل غسل الجنابة، مندوب أن تتوضأ قبل غسل الجنابة، وللجنب عند أكل، وشرب، ونوم، جنب لم يغتسل، وقام ليشرب أو ليأكل فعليه أن يتوضأ، إذًا أكلٌ وشربٌ ونوم ووطء، ولغضب كذلك، فإذا غضب الإنسان وتوضأ فقد يذهب عنه الغضب، وهذا مفهوم ومجرَّب، أو يسكت عنه الغضب، كما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾
وهذا من أروع تشبيهات القرآن الكريم، وكذلك يتوضَّأ لقراءة قرآن، أو حديث شريف، أو قراءة، فهذا مندوب، أمَّا المسُّ ففرض، فشخص حافظ القرآن أحبَّ أنْ يقرأ القرآن، أو أنَّ المصحف مفتوح، فله أنْ يقرأ دون أن يمسَّ المصحف، ومن دون أن يتوضَّأ، لكن المندوب أن يتوضأ إذا قرأ القرآن، ولقراءة الحديث الشريف كذلك، تعظيماً لهذا العلم الشريف، وروايته، ودراسة العلم الشرعي، كأن يحضر مجلس علم، أو أحبّ أنْ يتدارس مع غيره موضوعًا شرعيًّاً فليتوضأ تعظيماً لهذا العلم، والوضوء مندوب للأذان، وللإقامة، وللخطبة، ولزيارة النبي عليه الصلاة والسلام، وللوقوف بعرفة، وللسعي بين الصفا والمروة، وكذلك أكل لحم جزور، فالفقهاء في هذه المسألة وقفوا عند النص، وإذا مس امرأة، والإمام الحنفي قال: لا مانع، ويقصد زوجته، أما المرأة الأجنبية فتحرم مصافحتها، وليس وضوءه، ولكن إذا مس امرأته فعلى المذهب الحنفي لا يتوضأ، وعلى المذهب الشافعي يتوضأ، فأيهما أكثر حيطة؟ المذهب الشافعي، وإذا أردتَ أن تخرج من خلاف العلماء وأنت حنفي المذهب، وأردت أن تصلي بالناس، وبينهم من هو شافعي المذهب، فإذا أردت أن يطمئن الناس لك، فلتتوضَّأ لتخرج من خلاف العلماء، والوضوء يسع كل المصلين، أما عدم الوضوء فيسع الأحناف فقط، فمن أجل أن تسع كل الناس توضأْ واخرج من خلاف العلماء، هذه مندوبات الوضوء، ولا بأس بعد هذا الشرح المسهب من إعادة موجزة.
إعادة موجزة لما سبق :
أوصاف الوضوء: الفرض والواجب والمندوب.
الوضوء على ثلاثة أقسام:
الأول: فرض على المحدث للصلاة ولو كانت نفلاً، ولصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، ولمس القرآن ولو لمراجعة آية.
والثاني: واجب للطواف بالكعبة.
والثالث: مندوب، للنوم على طهارة، وإذا استيقظ منه، وللمداومة عليه، وللوضوء على الوضوء، وبعد كذب وغيبة ونميمة، وكل خطيئة، وإنشاد شعر، وقهقهة خارج الصلاة، وغسل ميت وحمله، ولوقت كل صلاة، وقبل غسل الجنابة، وللجنب عند أكل، وشرب، ونوم، ووطء، ولغضب، وقرآن، وحديث، وروايته، ودراسة علم، وأذان، وإقامة، وخطبة، وزيارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقوف بعرفة، وللسعي بين الصفا والمروة، وأكل لحم جزور، وللخروج من خلاف العلماء إذا مس امرأة.
* * *
صفات العلماء الذين يعلِّمون الناس العلم الشريف :
وبعد هذه العجالة إلى بعض ما جاء في إحياء علوم الدين من صفات العلماء الذين يعلِّمون الناس العلم الشريف.
1 ـ أن يقتصر المعلم مع المتعلم على قدر فهمه :
الوظيفة السادسة: أن يقتصر المعلم مع المتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفر، أو يخلِّط عليه عقله، أو يشوشه، اقتداءً في ذلك بسيد البشر عليه أتم الصلاة والسلام، ماذا قال؟
(( نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنِ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَنُكَلِّمَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ"، والله هذا الحديث جميل، فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً ))
عليك أنْ تنتقي من الأحاديث ما هو واضح، وأنا أنصح أن الخلافيات يجب ألا نبحث فيها، لماذا؟ هناك أشياء متفق عليها في الإسلام، لا يختلف عليها اثنان على وجه الأرض، وهذه ما أكثرها في كتاب الله، والقرآن كله متفق عليه، التفكر في الكون، وعظمة الله عز وجل، من خلال خلقه، الاستقامة على أمر الله، وتطبيق آيات القرآن، فهناك آلاف الموضوعات التي إذا حدثت الناس بها اجتمعت قلوبهم، وتوحدت كلمتهم، والتفُّوا حولك، من دون أن تبحث في خلافيات لا تقدم ولا تؤخر، لذلك النبي الكريم قال:
(( مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً ))
وهذا حديث آخر لم يذكره الإمام الغزالي، قَالَ عَلِيٌّ:
((حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ))
وقال علي رَضِي اللَّه عَنْه وأشار إلى صدره: "إن هاهنا لعلوماً جمَّة، لو وجدت لها حَمَلَةً"، مثلاً كأنْ تقول لفاسق: إنّ هذه المصيبة لرقي الإنسان، فأعظم الناس بلاء الأنبياء، هذا الكلام ليس صحيحًا لإنسان فاسق، يقول لنفسه: فأنا مبتلى، وأنا مثل الأنبياء إذًا، هذا الفاسق لا تقل له هذا الكلام، قل له: المصيبة عقاب من الله عز وجل، ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، ويعفو الله عن كثير، فإذا خاطبت فاسقًا فبادِره بهذا التوجيه، وإن دخلت على أخ مؤمن راقٍ تائب منيب تقي نقي، مريض فلا تقل له: ربما فعلت ما فعلت، وهذه عقوبة، بل قل لهذا الأخ المؤمن: هذا ابتلاء لرقي المؤمن.
((عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ،عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))
ما أصاب عبد مصيبة إلا بإحدى خلتين، بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة، أو بدرجة لم يكن الله ليبلِغه إياها إلا بتلك المصيبة.
فمثلاً إذا قام شخصٌ يدعو عند عقد قران، فليدعُ بما يناسب عقد القران، وهناك أدعية تناسب عقد القران، كما أن هناك أدعية تناسب الزفاف، وللمناسبات الحزينة أدعية، والإنسان ينتقي الدعاء المناسب، والوقت المناسب، والرجل المناسب، كما قال سيدنا علي: "ما كل ما يعلم يقال، وما كل ما يقال له رجال، ولكنْ إذا وجد الرجال فقدْ آن الأوان"، ويجب أن تقول ما يمكن أن يقال، وفي الوقت الذي يقال فيه، وللرجل الذي يستوعب هذا القول، وهذه هي الحكمة، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
وعن سيدنا عيسى أنه قال: "لا تعلق الجواهر في أعناق الخنازير"، والجواهر هنا تعني الحكمة، فإذا حدثت بها مَنْ ليس أهلاً لها فكأنك علَّقتَ الجواهر في أعناق الخنازير، قيل: كِلْ لكل عبد بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وسئل بعض العلماء عن شيءٍ فلم يجب، فقال السائل: أما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
((مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ))
فقال له العالم: اترك اللجام واذهب، يبدو أنه رآه ليس في مستوى هذا السؤال، فقد يفتنه إنْ أجابه، وقال تعالى:
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾
استنبط بعضهم من هذه الآية أن العلم أثمن من المال، فإذا كان المال لا ينبغي أن نؤتيه السفهاء، فالعلم أثمن منه، فلا ينبغي أن تعلِّم السفهاء كلاماً ليس في مستواهم، يتخذونه حجة للحذلقة والاستعلاء على الناس وتغرير الناس وإيهامهم أنهم علماء وهم ليسوا كذلك.
2 ـ المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجَلِيَّ اللائقَ به :
الوظيفة السابعة للمعلم النصوح: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجَلِيَّ اللائقَ به، والأمور الواضحة، أما أنْ تعمد إلى كتاب الفتوحات مثلاً لعوام الناس، واللهِ يكفرون لأن به أشياء دقيقة، وبعيدة عن أفهام العامة، وقد لا تقبل لمخالفتها للكتاب، وقد تكون منسوبة إلى شيخ ما، فقبل أن تقرأ، وقبل أن تدرس محِّصْ، أما أن تقرأ ما في الكتب من دون تمحيص، من دون تقييم، ومن دون تقيد بكتاب الله، فهذا ليس من صفات العلماء في شيء، ليس كل شيء قرأناه ننقله للناس، فهناك أقوال وقصص تقلب الموازين كلها رأسا على عقب، قال العلماء: ولا تذكر لهذا المتعلم القاصر أن وراء هذا العلم الجليِّ اللائق علماً دقيقاً لا أعلمك إياه، لأنك لست في مستواه، قال: عندئذ تفتر همة هذا المتعلم عن الجليِّ، ويشوش عليه قلبه، ويوهم إليه البخل به عنه، إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق، فهذه المصيبة أن كل إنسان يعتقد أو يتوهم أنه أهل لكل علم دقيق، فإذا قلت للمبتدئ إن هذه معلومات ساذجة بسيطة، وعندي معلومات دقيقة لا أحدِّثك بها، إذا قلت له هذا زهد فيما تعلمه، وظن نفسه أهلاً لهذا الذي ضننت به عليه، فشوشت قلبه، وحيرت فؤاده، وأوقعته في الفتنة، وأنت لا تدري.
إنّ التجار يعرفون هذه الحقيقة، إذ عند أحدهم مساطر متنوعة بالأسعار، فإذا ذهب إلى منطقة فقيرة مثلاً، لا تنفق فيها البضاعة الثمينة، وعرض ما هو ثمين، ثم عرض الوسط، ثم الأدنى، يتعلق أحدهم بالثمينة ولا يملك ثمنها، فلن يشتري إطلاقاً، تلك غالية ولا تباع في المنطقة الفقيرة، وهذه حينما عرضها مع هذه فقدت رونقها، فزهد بها، هذا شيء متبع، والتجار أذكياء، فلما يعرض التاجر الجيد والغالي لإنسان لا يستطيع أن يدفع ثمنه، ولا أن يتذوقه تعلق به، وزهد في الذي دونه ولم يشتر شيئاً، وهذه الظاهرة في التجارة تنطبق تماما على العلم.
فإذا قلت للمتعلم: عندي علم أعمق و أشمل، وأنت لستَ في مستواه الآن، زهد في الذي تعلِّمه إيّاه ممَّا هو مستواه، قال الغزالي: هذه ليست من صفات العلماء الحكماء، فما من أحد سبحان الله إلا وهو راض عن الله سبحانه وتعالى في كمال عقله، فلا أحدَ من بني البشر إلاّ ويظن أن عقله كامل، كل واحد يرى كمال عقله مئة بالمئة، و الناس كلهم راضون عن عقولهم، وساخطون على أرزاقهم، مع أن تفاوت العقول تفاوت كبير، كالذرة جنب أُحُد، ولكن الناس راضون عن عقولهم، فإذا قلت لهم: أنتم لستم في مستوى هذا الكلام، قالوا: بل أنت وعليك ذلك، قال: وأشد الناس حماقة وأضعفهم عقلاً هو أفرحهم بكمال عقله، قال: وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع، ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه، ومن غير تأويل، وحسن مع ذلك إسلامه، ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده، شخص له مصلحة، تفكيره محدود، مستقيم، يصلي، يغض بصره، ماله حلال، فعليك أنْ تقبل منه هذا الوضع، وإن أردتَ أكثر فَتَنْتَه، ليس لديه إمكانية في أنْ يفهم أدق من ذلك، الصلاة فرض فهو يصلي، أما الصلاة فدرجات، والصلاة الوسطى، التفات إلى الله بين الصلاتين، والصلاة لها معوقات، ولها مثبطات، ولها هذه التعقيدات، فلا يفهم عليك، وعليك أنْ تخاطب كل إنسان على قدر عقله.
3 ـ أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذّب قولَهُ فعلُهُ :
آخر صفة من صفات العلماء العاملين، أن يكون المعلم عاملاً بعلمه، فلا يكذّب قولَهُ فعلُهُ - مفعول به مقدم - فلا يكذب قولَهُ فعلُهُ، لأنّ العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر من ستة آلاف مليون إنسان، ولكل إنسان عينان، ولا تجد بالمئة ألفٍ واحدًا عنده بصيرة، فأصحاب الأبصار أكثر من أصحاب البصائر، والناس يرون الظاهر، وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العملُ العلمَ مُنِع الرشاد، وكل من تناول شيئاً ما، مثلاً لو أنّ شخصًا أمسك الكأس وشرب منها، وقال للناس: لا تشربوا من هذا الماء فإنه سم مهلك، سخر الناس منه واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما شرب منه، فإذا ارتكبتَ مخالفة، وحاولتَ أنْ تقنع الناس أنّ هذه مخالفة فلن يسمعوا إليك، ولو أنّ أحدًا منع الناس عن فتِّ البعر لفتوه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، فإذا فتَّه هو ظنَّ الناسُ أنّ هذا شيء ثمين، إذاً كل إنسان يخالف قولُه فعلَه يغري الناس بالمعصية، هم لا يزهدون به، بل إنه يغريهم بالمعصية، ومثل المعلم المرشد مع المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود، فكيف يتنقش الطين بما لا نقش فيه؟ ومتى استوى الظل والعود أعوج؟ خُذْ الآن قضيبًا أعوج، واغرزه في الأرض، فهل ترى ظلَّه مستقيمًا؟ مستحيل، لا بد أن يكون ظله أعوج مثله، ومتى استوى الظل والعودُ أعوجُ؟ متى رأيت هذا؟ ولذلك قيل في هذا المعنى:
يا أيها الرجل المـعلم غيره هـلاّ لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهَهَا عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
***
وقال تعالى:
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكبر من وزر الجاهل، إذْ يزل بزلته خلقٌ كثير، ويقتدون به، فإذا كان للعالم غلطة، أو له معصية، أو مخالفة، أو انحراف طفيف، صار هذا الانحراف سُنَّة ودينًا، وفلان لا يُناقش، هذه لا تجوز، إنّ أكثرَ مِن خمسين شيخًا أفتوا فتاوى خاطئة، هذا الجهاز كيف تحويه، أناس كثيرون عندهم مثله عمائم ولِحًى، فعندما يكون الإنسان ذا مظهر ديني، ويخالف الشرع، صارت مخالفته سنة، قدوة، ودينًا، فهذا الذي يخالف الشرع يغري الناس بالمعصية، فلو أنّ واحدًا عصى الله عز وجل ومظهره عادي فالخطرُ محدود، لأنه لا يُتَّخَذ قدوة، بل يسمَّى عاصيًا، أما أنْ يكون للشخصِ مظهر ديني، وله مخالفة والعياذ بالله فهذا قدوة للناس إلى النار، لذلك ورد عن النبي الكريم في صحيح البخاري حديثٌ مخيفٌ، أنّ النبي الكريم وصف شخصًا من وجهاء الدنيا في العلم، رآه أهل النار بينهم فقالوا له:
((عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ))
لذلك قال بعض الشعراء:
عالم بعــلمه لم يعمــلَنْ معذبٌ من قبل عُبَّاد الوثن
***
على الإنسان أن يكون عالماً عاملاً مخلصاً يقظاً :
النبي الكريم يقول: " تعلموا ما شئتم، فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم"، وقال:
((كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به))
وقال: "كل الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"، فيجب أن تكون عالماً، عاملاً، مخلصاً، يقظاً، فلو كنتَ تقود سيارة منذ خمسين سنة، فكل هذه السنوات وكل الخبرات لا تسمح لك أن تغمض عينيك وأنت تقودها لأنّك ستصاب بحادث، يجب أن تكون عالماً، عاملاً، مخلصاً، يقظاً، هذا كلام لبيب ناصح، فمن أجل ألاّ يضيع أحدٌ وقته سدى، ويبذل جهدًا بلا طائل، ويكون ممن حصّل العلم ولم ينتفع به، فيجب أنْ يكون جامعًا لكل تلك الأوصاف التي سبقت للعلماء، واللهِ لقد مرَّ معي حديث لا أزال أذكره: " أندم الناس يوم القيامة عالم دخل الناس بعلمه الجنة ودخل هو بعلمه النار"
أربعة أدعية أدعو بها، وكلما دعوتُ بها شعرتُ أنه على كل مسلم أنْ يدعو بها:
"اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك"، "اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدًا سواك"، "اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني"، "اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك".
لا يتجنَّب الناس السوءَ فأعمل معصية، فيأخذوا منها عبرةً، ويعاقبني الله عليها، وأصير حديث سوء للناس، فيقال: فلان هكذا عمل، وجرى معه هذا، قال تعالى:
﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾
هؤلاء القوم الذين كفروا بالله، ودمرهم الله عز وجل فجعلهم أحاديث تتلى.
* * *
أحاديث شريفة :
إليكم بعض الأحاديث الشريفة:
1 ـ ثلاث من نعيم الدنيا وإن كان لا نعيم لها :
((ثَلاَثٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ لاَ نَعِيمَ لَهَا....))
وكل إنسان يوطِّن نفسه أنّه سيُسَرُّ بالدنيا يكون مخطِئًا، وطِّن نفسك على ألاّ تُسرّ فعندها ستجد السرور، هذا من الأقوال المتناقضة فيما يبدو، إن أسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، إنّ الذين وصلوا بدنياهم إلى قممها، في المال والعز والجاه والقوة هم أشقى من فيها، وأولئك الذين أخذوا منها اليسير، وعرفوا الله عز وجل، وقنعوا بما آتاهم، هؤلاء أسعد الناس فيها، لِتَكُنْ هذه الكلمة دائمًا في قلبك، إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها:
((ثَلاَثٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ لاَ نَعِيمَ لَهَا : مَرْكَبٌ وَطِيءٌ ، وَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْمَنْزِلُ الْوَاسِعُ))
2 ـ ثلاث من كنوز البر :
((ثلاث من كنوز البر إخفاء الصدقة .....))
إنْ فعلتَ خيرًا فلا تذكره لأحد إطلاقاً، هل يقول لك الشيطان: أنت منافق؟ لا يمكن، إذا قمت بالليل وصليت ركعتين، وأهلك لم يعلموا، وزوجتك ما دَرَتْ، والأولاد ما دروا، ونِمتَ وما ذكرتَ شيئًا مِن هذا، هل يقول الشيطان: لستَ مخلصًا؟ فكتمان الصلاة في الليل، وكتمان الصدقة، يثبت للإنسان أنه مخلص، ثلاث من كنوز البر إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى، فإذا كان يقينُ الإنسان على مستوى رفيع، يعرف أنّ كل الأمور بيد الله عز وجل، والله يعلم، والشكوى للناس ما فائدتها؟ فالذي يشكو للناس تذهب هيبته، الناس لا يزيدون عن أحد رجلين، إما محب فيتألم وإما عدو فيشمت.
ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يـــرحم
***
الآن إذا أصيب أحدٌ بمصيبة وأخفاها، فقد جعل سيدنا يعقوب قدوة له، قال تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
تجد شخصًا يثور بسرعة ويضجر، فيأتي بعض الناس ليزوروه، فيعيد القصة إعادة مسهبة، وكل مرة يحسِّنها، حتى تصير قصة تروى، أنا أقول لمثل هؤلاء: اكتُبها على شكل نشرة، ثم اطبعها ووزِّعها على الناس، لكنّك تجد آخر مستسلمًا ساكتًا، يعلم أنَّ العباد كلهم لا شيء بيدهم، وأنَّ الأمر كله لله، لذلك لا يشكو إلا لله، وبعضهم قال: من اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، فإذا شكوتَ إلى كافر همَّك أصابك منه الهمُّ، فيقول: أنا قلت لك منذ زمن أنّ هذا الطريق يعود عليك بالشرِّ، فهل نفعك الدينُ؟ لقد كان ينتظر أنْ تصاب فيقول هذه الكلمات، ولعله يدفع عليها مئات الألوف، ويقول: ماذا نفعتك الاستقامة؟ أمَا قلت: إنّ المستقيم ينجيه الله؟ قلت لك: هذا كله خلط، فما صدقتني، فإذا بُحْتَ بشكواك لمؤمن فلا مانع، فإنّه يصبِّرك، ويخفف عنك، ويذكرك بآيات القرآن الكريم، وبرحمة الله، وحكمته، وحلمه، والمؤمن الحقُّ لا يقصُّ لأحد إطلاقاً، مثل سيدنا يعقوب " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون "، أما إذا قام أحدٌ بالليل وصلى قيام الليل، ثم دعا: يا رب ألَّمت بي هذه المصيبة فارفعها عني، فهَذِهِ أرقى أنواع الشكوى إلى الله وحده، والعوام يقولون: الشكوى إلى الله عزٌّ، والشكوى لغير الله مذلة.
إذاً:
((ثلاث من كنوز البر؛ إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى))
يقول الله تعالى:
((إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر لم يشكني إلى عواده ثم أبرأته أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه ودمًا خيرًا من دمه وإن أرسلته أرسلته ولا ذنب له وإن توفيته توفيته إلى رحمتي))
فَعَوِّد نفسك، قال: هذه حالها كحال السفن بالبحر، فإذا هاج البحر قليلاً تجد أنّ السفن الكبيرة مثل الجبل، والقوارب الصغيرة متأرجحة، هناك شخص يشبه السفينة الكبيرة، فالموج متلاطم، وهي شامخة كالجبل، وأمّا القوارب فأضعف الموج يكاد يقلبها، فلا تكن قاربًا خفيفاً، بل كن سفينة شامخة، ولا تشكُ مصيبتك لأحد، فإنَّ الله يعلم ويرى، والله عز وجل يقدر الليل والنهار، ويعلم إيمانك، ويرى ثقتك به سبحانه، فإذا أصابتك مصيبة، ولم تشكُها لأحد فهذا يؤكد علمك بالله، علمك برحمته، وبحكمته، وبقدرته، وبرأفته، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى لا يخيِّب ظنَّك.
3 ـ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ :
(( ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ))
طبعاً إذا كان الشخص ميسور الحال وأنفق، فالإنفاقُ كلُّه مقبول، وهو واللهِ مشكور، لكن إذا كان دخلُ الإنسان محدودًا، وجاءه ضيف من بلد آخر، واعتنى به، وأكرمه، فهذا الإنفاق بالإقتار، وكذلك أنْ يكون له قريب محتاج للمساعدة من أجل عملية جراحية، وراتبُه محدود، فأعان قريبَه، وضغط المصروف، هذا الذي ينفق بالإقتار، لا يعلم كم له من الأجر إلا الله، فالإنفاق من الإقتار، وكذلك بذل السلام للعالم، فأنت مصدر طمأنينة للبشر، لا تُخِفْ أحدًا، بعض الأشخاص مخيفون، المرعبون في النار: "شر الناس من اتّقاه الناس مخافة شره".
هذا شخص يخيفك، إذا قصصتَ عليه حادثةً وأخطأتَ خطأً، خشيتَ أنْ يفشيَ سرَّك، فهو مصدر قلق دائمًا، والنبي الكريم:
(( لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))
إذا دخَل شخصٌ غير مؤمن إلى بيتك فقد يحسدك على بيتك، وقد يسمعك كلماتٍ مؤلمةً، وإذا أطعمت واحدًا فقد يحسدك أيضًا على طعامك، إذًا:
(( لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))
أكرِّر:
(( ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ))
فلو فرضنا أنّ أحدًا بمحل تجاري، وأعطى أمرًا للصانع، ونفّذ الأمر، لكنه كسر شيئًا ما مثلاً، فإذا كان مؤمنًا، قال: واللهِ الحقُّ عليَّ، أنا السبب في كسره، والخطأ منِّي لا مِن الصانع، أمّا إذا كان غير مؤمن فيمطِره بوابل من السباب، فلما ينصِف الإنسانُ الناسَ من نفسه فهذا عدل و إحسان، وهذا السلوك المغلوط يقع فيه الأباء مع أبنائهم، والأزواج مع زوجاتهم، فلا يكون منصفًا، بدعوى أنه أبٌ له مكانة، وزوج يجب أنْ يُطاع ولو أخطأ، فعلامة المؤمن أنه ينصف الناس من نفسه، ما دمتَ مخطئًا فاسكت:
(( ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ))
4 ـ ثلاث من الفواقر :
آخر حديث:
(( ثلاث من الفواقر إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر.....))
إذا غلطتَ غلطة ليس لها حل، ولا مغفرة، وإن أحسنت وأحسنت وأحسنت يتعامى عن إحسانك، وكأنك لم تحسن، فهذه قبيحة، فإذا كان لرجل صانع، أو عنده موظف، عيَّنوه مدير مدرسة، أو عيَّنوه معلمًا لصف، وجاء طالب في الوقت، وهو منظم ومجتهد، فأثنِ عليه، وأسمعه كلمة لطيفة، أو موظف ليس له أيَّة مشكلة، فابتسمْ بوجهه، وقل له: أسأل الله أن يعطيك العافية، والِله أنا مسرور منك، أنت موطنُ اعتزازٍ عندي، وأنا أثق بإخلاصك، وأضربك مثلاً للآخرين، واللهِ يبقى أسبوعًا متأثِّرًا بهذه الكلمة الطيبة، أمَّا إذا أحسن أحدُهم وتجاهلتَ إحسانَه فقد حطَّمتَه، لكنْ إذا أحسن فأثنِ على إحسانه، لكنَّ النبي الكريم يقول:
((......إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار إن رأى خيرًا دفنه وإن رأى شرًّا أشاعه....))
قد يمضى على جوارك له ثماني سنوات، ولم تسمع منه كلمة شرٍّ أبداً، وذات مرة أخطأت خطأً، فإذا به يفتح عليك السياقات:
((.....إن رأى خيرًا دفنه وإن رأى شرًّا أشاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت خانتك))
إذاً:
(( ثلاث من الفواقر إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار إن رأى خيرًا دفنه وإن رأى شرًّا أشاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت خانتك))