- محاضرات خارجية
- /
- ٠25ندوات مختلفة - المغرب
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يحسنون القول ويتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام؛ أشكر لكم دعوتكم الكريمة، التي إن دلت على شيء فعلى حسن الظن بي، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم، لكن إن وجدتم في كلمتي هذه ما كنتم تتوقعون فالفضل لله وحده، وإلا فحسبكم الله ونعم الوكيل.
حاجة الناس إلى الهدي الرباني و السنة المطهرة :
أيها الأخوة الكرام؛ في بلادنا في الشام خطيب يخطب يوم الجمعة فيقول: استووا عند الصلاة، واعتدلوا، وأطفئوا هواتفكم، فإن إطفاء الهواتف من إقامة الصلاة.
تُطل علينا يا سيدي يا رسول الله ذكرى مولدك الشريف، ونحن في أمس الحاجة إلى هديك الرباني الذي لا تزيده الأيام إلا رسوخاً وشمولاً، ونحن في أمس الحاجة إلى سنتك المطهرة التي هي المنهج القويم، والصراط المستقيم، والتي لا تزيدها الأيام إلا تألقاً وعبقاً، ونحن في أمس الحاجة إلى أخلاقك العظمى التي لا يزيدها التأمل والتحليل إلا علواً وشروقاً، لقد ألّفت القلوب بكمالك، وأُلفت الكتب بأقوالك.
يا سيدي يا رسول الله، يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
يا سيدي يا رسول الله، لقد زكى الله عقلك فقال:
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾
وزكى لسانك فقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾
وزكى شرعك فقال:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
وزكى جليسك فقال:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾
وزكى فؤادك فقال:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
وزكى بصرك فقال:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
وزكاك كلك فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
لقد أقسم الله بعمرك الثمين فقال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
وجعل عبوديتك له أعلى مرتبة يبلغها إنسان على وجه الأرض، قال تعالى:
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾
التوحيد نهاية العلم والعبادة نهاية العمل :
الآن دققوا:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
أي أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الحياة أن يكون عبداً لله، الأنبياء جميعاً فحوى دعوتهم بكلمتين:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
فالتوحيد نهاية العلم، والعبادة نهاية العمل.
الفرق بين الأقوياء و الأنبياء :
أخواننا الكرام؛ يقع على رأس الهرم البشري زمرتان؛ الأقوياء والأنبياء، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، والأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء عاش الناس لهم، والأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، والأنبياء يمدحون في غيبتهم، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، وشتان بين الأقوياء والأنبياء، لكن بطولة الأقوياء أن يكونوا على منهج الأنبياء.
الحق أنت يا رسول الله، وأنت إشراق الهدى، ولك الكتاب الخالد الصفحات، من يقصد الدنيا بغيرك يلقاها تيهاً من الأهوال والظلمات، يا سيدي يا رسول الله هذه بعض أخلاقك العظيمة إذ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
الفلاح و النجاح :
بالمناسبة أخواننا الكرام؛ هناك نجاح وهناك فلاح، فقد تنجح بجمع المال، أحد كبار أغنياء العالم يملك سبعمئة مليار، وهو على فراش الموت، قال: هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً هذا نجاح، وقد تنجح بالسكن في قصر منيف، أو في تجارة رابحة، أو....إلخ.
ولكن النجاح شيء آخر: أن تنجح مع الله معرفةً، وعبادةً، وطاعةً، وتقرباً، وأن تنجح في بيتك بحسن اختيار زوجتك، وضبطها، وأن تكون معك في الحق، وفي إحقاق الحق، وأن تحسن تربية أولادك، وأن تحسن في عمل إتقاناً واعتدالاً، وأن تحسن في صحتك، فإذا نجحت مع الله، وفي بيتك، وفي عملك، ومع صحتك، هذا لا يسمى نجاحاً يسمى فلاحاً، وقد ورد في ذلك عشرات الآيات:
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
فضائل النبي و مزاياه :
يا سيدي يا رسول الله، يوم كنت طفلاً عزفت عن لهو الأطفال، وعن ملاعبهم، وعن أسمارهم، وكنت تقول دائماً لأترابك إذا دعوت إلى اللهو: أنا لم أُخلق لهذا.
ويوم جاءتك رسالة الهدى، وحُملت أمانة التبليغ قلت لزوجتك خديجة رضي الله عنها وقد دعتك إلى أخذ قسط من الراحة، قلت لها: انقضى عهد النوم يا خديجة.
ويوم فتح جيش الصحابة بقيادتك مكة التي آذتك، وأخرجتك، وكادت لك، وائتمرت على قتلك، وقد ملأت راياتك الأفق ظافرةً عزيزة قلت لخصومك الذين أصبحت حياتهم معلقة بكلمة تخرج من فمك: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ويوم دانت لك الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، صعدت المنبر، واستقبلت الناس باكياً، وقلت لهم:
(( فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه، لا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني))
هذا النبي.
يا سيدي يا رسول الله، كنت تصلي بأصحابك في صلاة الفجر، وعلى غير عادتك أنهيت الصلاة على عجل، وأنت في قمة الغبطة والنشوة مع ربك، لا لشيء ذي بال بل لأنك سمعت بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلفك في المسجد، وكان بهذا البكاء ينادي أمه، لقد أنهيت صلاتك على عجل رحمة بهذا الرضيع.
يا سيدي يا رسول الله، لقد كنت ترتجف حينما تبصر دابة تحمل فوق طاقتها، لقد كنت ترتجف حينما تبصر دابة تحمل فوق طاقتها أكثر مما تطيق، وقلت لصاحب جمل هزيل: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنها قد شكت إليّ أنك تجيعها وتدئبها.
يا سيدي يا رسول الله، لقد كنت تجمع لأصحابك الحطب في بعض أسفارهم، ليستوقدوه ناراً تنضج لهم الطعام، فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، فقلت لهم: نعم أعلم أنكم تكفونني ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه.
وفي بعض الغزوات كان أصحابه ألفاً، فقلت وأنت رسول الله، ونبي الأمة، وزعيمها، وقائد جيشها: كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابه على راحلة، وركبت الناقة، فلما جاء دورك في المشي توسل صاحباك أن تبقى راكباً، فقلت لهما: ما أنتما أقوى مني على السير، ولا أنا أغنى منكما عن الأجر.
حقاً يا سيدي يا رسول الله لقد كنت أحسن الناس خَلقاً وخُلقاً، وأجود الناس عطاء، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرةً، ولقد صدق ملك عُمان حينما قال بعد أن التقى بك: والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير، إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يملك فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويوفي بالعهد، وينجز الوعد.
يا سيدي يا رسول الله، لقد رأى أصحابك رأي العين كل فضائلك ومزاياك، رأوا طهرك وعفافك، رأوا أمانتك واستقامتك، رأوا شجاعتك وثباتك، رأوا سموك وحنانك، رأوا عقلك وبيانك، رأوا كمالك ورحمتك، فكنت كالشمس تتألق في رابعة النهار.
بالمناسبة بين قوسين، إذا رمزنا للشمس بالحق، وللباطل بالظلام الدامس، الحقيقة المرة التي أؤمن بها أفضل ألف مرة من الوهم المريح، الذي يعمل في الظلام ينتصر على النائم في ضوء الشمس، هذه الأمة لا تموت بداً، لكنها تنام أحياناً، الذي يعمل في الظلام الدامس ينتصر على النائم في ضوء الشمس.
رأوا سموك وحنانك، رأوا عقلك وبيانك، رأوا كمالك ورحمتك، فكنت كالشمس تتألق في رابعة النهار، فمن عنايتك لأصحابك، ومن تواضعك لهم أنه دخلت بعض بيوتك فدخل عليك أصحابك حتى أكتظ بهم المجلس، وامتلأ فجاء جرير البجري، فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فنزعت رداءك وألقيته إليه فأخذه ووضعه على وجهه وجعل يقبله ويبكي، وأعاده إليك وقال لك: يا رسول الله ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظرت إلى من حولك يميناً وشمالاً فقلت: إذا أتاكم كريمُ قوم فأكرموه.
وعن عدي بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إليّ وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، فقال عدي: فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، فقلت: أشهد أنك لا تبغ علواً في الأرض ولا فساداً، وأكرم عدي ين حاتم.
ورأى البيهقي في الدلائل أنه وفدَ وفد النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام النبي عليه الصلاة والسلام فخدمه بنفسه، فقال له أصحابه: يا رسول الله نحن نكفيك القيام بضيافتهم، وإكرامهم، فقال: أعلم ذلك، إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم بنفسي.
عدله صلى الله عليه وسلم :
ومن عدله أيها الأخوة صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان، واللفظ عن عائشة:
((إنَّ قُرَيشا أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتَشفَعُ في حدٍ مِنْ حُدودِ اللَّه ؟ ثم قام فَاخْتطَبَ، ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا))
هناك إحصائية عالمية إن لم يكن هناك سرقات في العالم ينال كل إنسان كل يوم مئة دولار، كل إنسان باليوم، ثمانية مليارات إنسان، أكبر مشكلة في بلدهم:
(( لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَ))
صبره صلى الله عليه وسلم :
ومن صبره صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك قال:
(( لقد أوذيت في الله ))
وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم.
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال ))
الابتلاء علة وجودنا في الدنيا :
بالمناسبة تعريف ضروري: علة وجودنا الوحيدة في الدنيا الابتلاء.
﴿ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
أي إذا أرسلت ابنك إلى باريس لينال دكتوراه من السوربون، علة وجوده الوحيدة في باريس الدراسة، لذلك:
(( لقد أوذيت في الله ))
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾
فالبطولة ليس ألا تبتلى، ولكن البطولة أن تنجح في الابتلاء، بل إن مرتبة الإنسان عند الله بحجم نجاحه في الابتلاء، لا تتمنى ألا تبتلى بل تمنى على الله أن تنجح في الابتلاء.
طبعاً لِمَ سمي الابتلاء ابتلاءً؟ لأنه امتحان، ولمَ سمي العمل الصالح صالحاً؟ لأنه يصلح للعرض على الله، ومتى يصلح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
لذلك علة وجودنا الوحيدة في الدنيا بعد الإيمان بالله العمل الصالح، كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال ))
هذا نبي الأمة.
النبي الكريم رحمة مهداة :
من شجاعته صلى الله عليه وسلم عندما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: كنا أي معشر الصحابة إذا حمي البأس، واحمرت الحدق، التقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أقرب إلى العدو منه.
أخواننا الكرام؛ كل مؤمن له ميزة تفوق بها، هذا شجاعة، هذا بذل، هذا تضحية، لكن النبي عليه الصلاة والسلام جمع المكارم كلها، أي لا يوجد صفة لصحابي تفوق بها إلا والنبي سبقه إليها.
من خشيته لله أنه غضب ذات مرة من غلام، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيفاً له فأبطأ، فقال غضباً:
(( لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك))
إنما هو رحمة مهداة.
قانون الالتفاف و الانفضاض :
بالمناسبة أخواننا كلام دقيق:
﴿ فَبِمَا ﴾
باء السبب.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
أي يا محمد بسبب رحمة استقرت بقلبك من خلال اتصالك بنا كنت ليناً لهم، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك، وأحبوك، وأنت أنت لو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة، ولانعكست القسوة غلظة وفظاظة، فانفض الناس من حولك، تقف عند الآية:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
فأي إنسان له عمل حيادي، المعلم، المدرس، أستاذ الجامعة، رئيس الدائرة، له صلة بالله، يمتلئ قلبه رحمة، تنعكس الرحمة ليناً، عندئذٍ يلتف الناس حوله، يحبونه، مدير دائرة، مدير مدرسة، أستاذ جامعة، أي منصب، من السفير إلى الأمير، إن كان هناك رحمة كان هناك لين، مع اللين محبة، مع المحبة التفاف، والبعد عن الله فيه قسوة، والقسوة ينتج عنها الغلظة والفظاظة، والآية تقول:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ ﴾
هذا قانون الالتفاف والانفضاض، يحتاجه الأب، أي من السفير وحتى الأمير.
هيبته صلى الله عليه وسلم :
ومن هيبته صلى الله عليه وسلم أنه كان فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه أحبه.
((أوتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ترعد فرائصه، قال: فقال له: هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد))
ما هذا التواضع؟ قوة مع تواضع، غنى مع إنفاق، رحمة مع محبة.
أخواننا الكرام؛ هو قدوتنا الوحيدة، سيرته العملية منهجنا، القولية دستورنا، له سنة قولية أقواله، وله سنة عملية أفعاله، وله سنة إقرارية، سنته أقواله، وأفعاله، وإقراره، وصفاته .
من عادته يزور الصحابة، سمع امرأة تقول: هنيئاً لك أبا السائد أكرمك الله، فقال لها: ومن أدراكِ أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم.
أقواله سنة، أفعاله سنة، صمته سنة وحده.
صفاته صلى الله عليه وسلم :
الآن صفاته سنة، إذا صافح لا يسحب يده أولاً، ليسحبها الذي صافحه.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً، فالنبي يقول:
((الحياءَ من الإيمانِ ))
الحياء قمة الإيمان، فكان أشد حياء من العذراء في خدرها، فقد بلغ من حيائه أنه لا يواجه أحداً بما يكره، ورحم الله من قال:
يـا من له الأخلاق ما تهوى العلا منهــــــــــا وما يتعشق الكبــــراء
فإذا سخوت بلغت بالجود المـدى وفـــــــــــعلت ما لا تفعل الأنـواء
وإذا عـفـــــوت فـقــــــادراً ومقـــــــــدراً لا يستهين بعفوك الجهـــــــــلاء
وإذا رحمت فـــــــــــــــــــــــأنت أم وأب هــــــذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبــــــة في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا خـطبت فللمنابــــر هـــــــــــــــزة تعرو الندي وللقلـــــــــوب بكــاء
يــــا أيها الأمي حسبك رتبـــــــــــة في العلم أن دانت لك العلماء
***
عفوه صلى الله عليه وسلم :
أخواننا الكرام؛ من عفوه عفا عن سفانة بنت حاتم طائي، فقد عُرض الأسرى على النبي صلى الله عليه وسلم عقب بعض الغزوات، فوقفت امرأة أسيرة فقالت يا رسول الله: هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منَّ الله عليك، وخلِّ عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد بحاجة ورده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:
(( ارحموا عزيز قوم ذل، وغني افتقر، وعالماً ضاع بين الجهال))
فاستأذنته بالدعاء وقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل للئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها، ورجعت إلى أهلها، وقالت لأخيها عدي: ائتِ هذا الرجل، فإني قد رأيت هدياً ورأياً يغلب أهل الغلبة، رأيت فيه خصال الرسول، رأيته يحب الفقير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، إن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلا تزال في عز ملكه، قيل وأسلمت.
واستجاب لها أخوها، وقدم المدينة وهو يظن أنه سيلقى ملكاً، فقال: فقال دخلت على محمد وهو في المسجد، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ قلت: عدي بن حاتم، فقام وانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة في الطريق، فاستوقفته فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ليس هذا بملك، ثم مضى حتى دخل بي إلى بيته، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إليّ فقال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس هو على الأرض رسول الله.
ثم قال لي: لعلك يا عدي - الآن أمراض العصر بهذه الكلمة - إنما يمنعك دخول هذا الدين ما ترى من فقرهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه.
ولعله ما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع أن المرأة تخرج من القادسية على بعيرها فتزور هذا البيت لا تخاف.
ولعله إنما يمنعك من دخول هذا الدين أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، و ايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية قد فتحت عليهم، وأن كنوز كسرى قد صارت إليهم.
أثناء الهجرة تبعه سراقة - طبعاً دققوا - إنسان مهدور دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، تبعه سراقة، ماذا قال له النبي الكريم؟ دققوا إنسان ملاحق، ما معنى ناقة؟ أي مرسيدس بالضبط، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، تبعه سراقة، قال: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ شخص ملاحق، مئة ناقة لمن يأتي به، أي أنا سأصل سالماً، وسأنشئ دولة، وسأملك جيش، وسأحارب أكبر دولة بالعالم، وسأنتصر، وستأتي الغنائم، ولك منها يا سراقة سوار كسرى.
هذه الثقة بالله عز وجل، هذه الفتنة لا تموت، أحياناً تنام، الآن بعضها نائم، لا تموت أبداً:
(( الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة))
النبي بشر قال:
(( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار))
زرت ملبورن، آخر مدينة بالعالم، أستراليا، سدني، بالثلث الثاني منها، ملبورن في الأسفل، بعدها يوجد القطب الجنوبي فقط، جامع، ودعوة، ومحاضرات، دُعيت إليها.
(( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار))
إياكم أن تيئسوا، اليأس يقترب من الكفر، لذلك ثقة النبي بنصر الله لا حدود لها.
صور من حياة الصحابة رضي الله عنهم :
شيء آخر؛ أما أصحابك الذين ربيتهم يا رسول الله، وصنعتهم على علمك، فقد كانوا على شاكلتك.
كان للصديق جارة يحلب لها الشاة، فلما تولى الخلافة، أي أعلى منصب بالأمة الإسلامية، خليفة المسلمين، هذا البيت بيت الجارة، دخل عليه الحزن، لأن هذه الخدمة قد التغت، صار خليفة، في صبيحة اليوم الأول طرق باب الجارة، ابنتها الصغيرة، افتحي الباب يا بنيتي، من الطارق؟ قالت: جاء حالب الشاة يا أماه، سيدنا الصديق خليفة المسلمين، جاء ليحلب لها الشياه.
والله يا أخوان، بذكر الصحابة تتعطر المجالس، ويقابل ذلك: وبذكر اللؤماء تتعكر المجالس.
أخواننا الكرام؛ سيدنا عمر تولى بعده الخلافة، صعد المنبر ثم نزل درجة، لم يقف مكان أبي بكر، قال: أستحي من الله، ثم قال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر، استحى من الله أن يقف على الدرجة العليا، نزل درجة وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر.
لكن خليفة أموياً سأل وزيراً عنده، لمِ عثمان لم ينزل درجة؟ فكانت إجابته ذكية جداً، قال: والله لو فعلها لكنت في قعر بئر.
سيدنا عمر خليفة، أعلى منصب، قمة الهرم، واحد من الصحابة قال: والله ما رأينا خيراً منك، لم يفرح سيدنا عمر بل غضب، وحدّ فيهم النظر، ماذا فعل؟ هو يمدحه، إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خيراً منك، قال: من هو؟ قال: الصديق، قال: كذبتم جميعاً وصدقت، كنت أضل من بعيري، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك.
سيدنا عمر كان إذا عين والياً يقول لك: خذ عهدك- كتاب التعيين - وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاحذر لنفسك، إن وجدناك أميناً ضعيفاً، استبدلناك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، هذه الحالة الأولى، وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنا بقوتك، وأوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبك، إن جمعت الجرمين الضعف والخيانة جمعنا عليك المضرتين، أما إن وجدناك أميناً قوياً، فزدناك في عملك، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك، أخذاً من قوله تعالى:
﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾
سيدنا عمر امتحن والياً، قال له: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، هذا الحكم الشرعي، قال له: إذاً من جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم- دققوا بالثالثة- ونوفر لهم حرفتهم، هذا تأمين فرص العمل، هذا كلام حضاري، إن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
بعهد سيدنا عمر أسلم ملك الغساسنة، ملك الغساسنة جبلة بن الأيهم أسلم، رحب به عمر رضي الله عنه، أثناء طوافه حول الكعبة، بدوي أعرابي دون أن يقصد داس طرف ردائه فانخلع رداؤه عن كتفه، هذا ملك، ضربه ضربةً هشمت أنفه، هذا البدوي من فزارة، شكا ملك الغساسنة لسيدنا عمر، سيدنا عمر- طبعاً الملك اسمه جبلة بن الأيهم- استدعاه ودار حوار صاغه شاعر معاصر، قال له سيدنا عمر:
أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ قال: لست ممن ينكر شيئاً، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي، قال: أرضِ الفتى، لابد من إرضائه ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك، قال: كيف ذاك يا أمير هو سوقة وأنا عرش وتاج؟ كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً؟ قال له: نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، قال: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني، قال له: عنق المرتد بالسيف تحز، عالم نبنيه، كل صرح فيه يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
هذا عصر المبادئ، جاء بعد هذا العصر عصر الأشخاص، سيدنا صلاح الدين الأيوبي انتصر على سبع و عشرين دولة أوربية، له أخ قال له يا أخي: لو برزت كرديتك، قال له: والله لولا أنك أخي لقتلتك، أنا مسلم ولا أزيد على إسلامي شيئاً، هذا اسمه عصر الأشخاص، صلاح الدين أشخاص كبار، نحن الآن في عصر الأشياء، قيمتك من مساحة بيتك، من نوع سيارتك، مرسيدس، قيمة الإنسان متاعه في آخر الزمان، يوجد عصر مبادئ، الصحابة، والتابعون، وتابعو التابعين، وعصر أشخاص صلاح الدين، وعصر أشياء الآن، قيمة المرء متاعه، لذلك نحن في آخر الزمان، لكن النبي قال- دققوا هذه لكم جميعاً إن شاء الله -:
((اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك؟ قال: لا أنتم أصحابي أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم؟ قال : بل منكم، قالوا: و لمَ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون))
أخواننا الكرام، شاعر دخل السجن لقول بيت واحد:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
***
هذا بيت الشعر الذي أدخل صاحبه السجن هو شعار كل إنسان اليوم، ما دام بيته كبيراً، ودخله كبيراً، من بعدي الطوفان.
خيار الإنسان مع الدين خيار وقت فقط :
أخواننا الكرام؛ العودة إلى الله سهلة، والصلحة بلمحة، والإنسان:
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
لكن:
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا ﴾
لذلك أخوننا الكرام، خيارك مع الدين لا خيار وردة حمراء تزين بها صدرك، بل خيار هواء تستنشقه، فإن لم تستنشقه كان الموت.
هذا الذي أتمنى أن أقدمه لكم في هذا اللقاء العاجل .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته