- محاضرات خارجية
- /
- ٠25ندوات مختلفة - المغرب
انطلاقاً من المكانة السامية للقدس ضمير المؤمنين بعامة ، والمسلمين بخاصة ، فهي موطن أبينا إبراهيم ، ومتعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ولا سيما المسجد الأقصى ، الذي نوه الله به في الآيات المقصلة ، وتُليت فيه الكتب المُنزلة ، أولى القبلتين ، وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ، لا تُشدُّ الرحال بعد الحرمين إلا إليه ، بارك الله حوله ببركات الدين والدنيا ، والذي أضحى بالإسراء إليه ، والمعراج منه ، رمزاً للشخصية المعنوية للمسلمين .
انطلاقاً من هذا فقد دعتِ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) إلى عقد ندوة عالمية حول القدس الشريف ، وتراثها الثقافي في إطار الحوار الإسلامي المسيحي ، في الرباط عاصمة المملكة المغربية خلال المدة الواقعة بين 19-21/10/1993 ، وقد أكَّدت المنظمة الإسلامية أن من أهداف الندوة ؛ التعريف بأهمية القدس الدينية والتاريخية ، والحضارية ، وكشف مخططات التهويد ، وتغيير طابع المدينة العربي والإسلامي ، ودعوة المنظمات العربية والإسلامية والدولية ، إلى دعم التراث الثقافي في المدينة ، وقد حضر المؤتمر عدد كبير من الشخصيات العربية ، والإسلامية ، والدولية ، منهم مفكرون وباحثون ، وعلماء ، وأكاديميون ، ورؤساء المنظمات ، والهيئات والمؤسسات التي تُعنى بشؤون القدس ، وقد شارك في المؤتمر ثلاث عشرة دولة إسلامية ، منها الجمهورية العربية السورية ، وست عشرة منظمة دولية ، وإسلامية ، وعربية ، وعشرون باحثاً أكاديمياً ، وقد كان لي شرف تمثيل سورية في هذه الندوة العالمية .
وقد انتظمت الندوة خمسة محاور .
المحـــــور الأول : القدس عبر العصور التاريخية .
والمحور الثانـــي : تراث المدينة المقدس .
والمحور الثالـــث : طمس الهوية الإسلامية ، وتهويد المدينة .
والمحور الرابـــع : القدس والمنظمات الدولية .
والمحور الخامس : مستقبل القدس ، والمدن العربية الأخرى في ظل الاحتلال .
وكان لي أيضاً شرف المشاركة ، في هذه الندوة العالمية ، ببحث يدور حول موضوع المحور الأول (القدس عبر العصور التاريخية) وفيما يلي ملخص ما جاء في البحث الذي لاقى قبولاً حسناً ، وانطباعاً جيداً .
القدس عبر العصور التاريخية :
نحن ، الأمةَ الإسلامية ، نرجع في معتقداتنا وتصوراتنا ، وفي قيمنا إلى ما جاء به الني ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وحي متلوٍّ وهو القرآن ومن وحي غير متلوٍّ وهي السنة المطهرة ، التي هي بيان وتفصيل لمضمون القرآن ، ونرجع إلى سيرته التي تعد تجسيداً عملياً لفهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقرآن وحي السماء إلى الأرض .
أيها السادة والسيدات :
من هذه المبادئ الخالدة ، وتلك القيم السامية ، انطلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ ينشرون هذه الرسالة السماوية في الآفاق مجددين من خلالها أهدافهم النبيلة ، ومتخذين لهذه الأهداف النبيلة وسائل نبيلة من جنسها ، فهذه وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسامة بن زيد قائد الجيش الإسلامي ، قال له :
" لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاةً ، ولا بقرة ، ولا بعيراً ، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم بالصوامع ، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له ... اندفعوا بسم الله .
وفي موقف سيدنا عمر بن الخطاب من أهل القدس ، إنْ في وثيقة الأمان التي أعطاها لأهل القدس ، وإنْ في حفاظه على كنائس أهل الكتاب ، أكبر دليل على مدى التسامح الديني الذي يتحلى به ذلك الخليفة الراشد .
ولقد زار سيدنا ـ عمر رضي الله عنه ـ كنيسة القيامة ، ولمَّا حان وقت الصلاة ، قال له البطريك (مكانك صل) ، فأبى عمر رضي الله عنه وخرج يصلي خارج الكنيسة ، وبعد أن أتمها قال :
" يا شيخ ، إنني لو أقمت الصلاة في كنيسة القيامة ، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامتي الصلاة فيها ، وإني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها وأنتم بها أحق وأولى " .
وقد قال الدكتور غوستاف لوبون :
" وكان سلوك الفرنجة حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نحو النصارى ، وقال كاهن مدينة لوبوي : عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها ، فقد قطعت رؤوس بعضهم ، وبقرت بطون بعضهم ، فكان المسلمون يضطرون إلى القذف بأنفسهم من على الأسوار وحرق بعضهم في النار ، فكانوا يموتون بعد ذلك بعذاب طويل ، وكان لا يُرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس المسلمين ، وأيديهم وأرجلهم فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم ، ولكن هذا لم يكن سوى بعض ما أصابهم ".
ولم يكتف الفرسان الفرنجة بذلك ، فعقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة جميع السكان الباقين الذين كان عددهم نحو ستين ألفاً ، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام ، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً .
وبعد فتح القدس من قبل السلطان صلاح الدين ، سمح للفرنجة بمغادرتها بعد جزية بسيطة عن كل شخص ، وامتازت معاملة صلاح الدين بالإنسانية ، فأعفى كثيرين من دفع الجزية ، وسمح للمسيحيين الشرقيين بالبقاء في المدينة .
يقول الإمام الحافظ ابن كثير موضحاً لنا عفو السلطان ورحمته بالمسيحيين بعد فتح المدينة المقدسة :
" وأطلق السلطان خلقاً كثيرين منهم بنات الملوك بمن معهم من النساء والصبيان والرجال ، وشفع في أناس كثيرين فعفا عنهم ، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر ، ولم يأخذ منه شيئاً مما يُقنى ويُدَّخر وكان رحِمه الله حليماً ، مقداماً ، شجاعاً ، رحيماً " .
لقد اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة ، والإنسانية فبينما كان الفرنج منذ سنوات ، يخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين ، يقتلون كل من يصادفونهم من الرجال والنساء والأطفال ، سواء في بيوتهم ، أو في مساجدهم ، ولم يسلم منهم أحد ، حتى اللاجئون إلى المسجد الأقصى وامتلأت الشوارع بجثث القتلى ... وسالت أنهار الدم فيها .
بينما الفرنج يفعلون تلك الأعمال الوحشية ، لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب من قبل جنود المسلمين ، ولم يحلَّ بأحد من الأشخاص مكروه ، بل صار رجال الشرطة المسلمون يطوفون الشوارع والأبواب ، تنفيذاً لأوامر السلطان صلاح الدين ، لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين ، وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب إلى أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير ، فوهبهم له فأطلق العادل سراحهم على الفور ، وأعلن صلاح الدين : أنه سوف يطلق سراح كل شيخ ، وكل امرأة عجوز .
وأقبل نساء الفرنج ، وقد امتلأت عيونهن بالدموع ، فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن وقع أزواجهم وآباؤهم في الأسر ؟ فأجاب صلاح الدين بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن وبذَلَ للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كلٍ بحسب حالته ، فكانت رحمته وعطفه على نقيض أفعال الغزاة الفرنج .
لقد شهد المؤرخون المسيحيون ـ المعاصرون وغير المعاصرين ـ بكرم أخلاق صلاح الدين ، وسماحته ، وبأن صلاح الدين عامل النساء الفرنجيات معاملة حميدة ، وسمح لهن بالخروج من بيت المقدس معزَّزات مكرمات ، ومعهن أموالهن ، وأتباعهن وحشمهن .
وكانت زوجة الملك جاي لوز جنان الأسير موجودة في بيت المقدس فطلبت من صلاح الدين السماح لها بمصاحبة زوجها في الأسر في نابلس فأذن لها .
كذلك طلبت الأميرة (أتينت) أرملة أرناط من صلاح الدين الخروج كما طلبت إطلاق سراح ابنها من زوجها الأول ، فأكرمها السلطان ، وسمح لها بالسفر ، ثم أطلق سراح ابنها .
أما اليتامى والشيوخ والأرامل من الفرنجة ، فإن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراحهم دون فداء ، بل منحهم أيضاً مساعدات مالية من ماله الخاص .
وهكذا بدا الفارق عظيماً بين صلاح الدين عندما استولى على بيت المقدس سنة 1187م وبين ما فعله الفرنجة بالمدينة وأهلها المسلمين عندما سقطت في أيديهم سنة 1099 ، فذبحوا من صادفوه فيها من المسلمين وكتب المؤرخ المسيحي ابن العبري يقول :
" ولبث الفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً "
على أن الخطر الذي هدد أولئك الفرنجة من بيت المقدس ، لم يأت من جانب المسلمين، وإنما أتى من جانب إخوانهم الفرنجة أنفسهم ، إذ لم يكادوا يدخلون حدود إمارة طرابلس الصليبية حتى انقض عليهم بعض أفراد الصليبيين واعتدوا عليهم ، وعندئذ اتجه أولئك المشردون شمالاً صوب مدينة طرابلس ذاتها ، ولكن أهل طرابلس خشوا على أنفسهم وعلى مدينتهم من تلك الجموع الخاوية الوفاض ، فأغلقوا أبواب مدينتهم في وجوههم ورفضوا أن يستضيفوا إخوانهم في محنتهم ؛ ليخففوا عنهم بعض آلامهم ، بل إن أهل طرابلس نهبوا ما بقي مع بعضهم من أموال تركها لهم صلاح الدين ، وهكذا لم يجد أهل بيت المقدس من إخوانهم الفرنجة جزءاً من المعاملة الرحيمة التي لقوها من صلاح الدين ، فذهب بعضهم إلى أنطاكية ، حيث وجدوا مقرَّاً ومقاماً إلى حين .
وهكذا نجد أن التدين الصحيح ، يجعل من الإنسان كائناً يفيض رحمة وإنصافاً ، ومروءة ، وما أحوج العالم اليوم إلى قيم إنسانية ، تكون سياجاً يرشد القوة المدمرة التي أبدعها عقل الإنسان .
وبعد أن ألقيت بقية الكلمات ، وجرت المداخلات ، ودارت الحوارات ودرست في توسع واستيعاب الجوانب المختلفة المتعلقة بالقدس الشريف وبتراثها الثقافي والعمراني والحضاري ، وبحثت الأصول التاريخية للمدينة اتخذت الندوة عدداً من التوصيات ، وفيما يلي أهمُّ ما جاء فيها :
1ـ تؤكد الطابع الإسلامي للقدس الشريف ، وما تمتعت به المدينة المقدسة من أمن وسلام في ظل الحكم العربي الإسلامي عبر العصور .
2ـ يدعو المشاركون في الندوة إلى تضافر الجهود كافة ، للمحافظة على التراث الثقافي والحضاري لمدينة القدس الشريف ، وتُعد الندوة هذه المحافظة مسؤوليةً جماعيةً ، وواجباً إنسانياً ، يتحمله المجتمع الدولي بعامة ، والمؤمنون الشرائع السماوية الثلاث بخاصة .
3ـ تناشد الندوة الحكومات والمنظمات والهيئات الدولية ، القيام بتحرك فاعل ، ومؤثِّرٍ لإيقاف المحاولات الجارية لطمس المعالم التاريخية والحضارية لمدينة القدس ، ولمحو الهوية الثقافية والحضارية للمدينة المقدسة ، ولوضع حد عاجل لسياسة تهويد القدس الشريف ، وباقي مدن فلسطين المحتلة .
4ـ تؤكد الندوة على التوصيات والقرارات السابقة التي اتخذتها المؤتمرات الإسلامية والعربية بشأن تقديم جميع أنواع الدعم المعنوي والمادي للمؤسسات التربوية والثقافية في القدس الشريف خاصة والأراضي الفلسطينية المحتلة عامة ، وكذلك للمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية .
5ـ تؤكد الندوة ، بعد أن بحثت مستقبل القدس الشريف ، على أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية ، وعلى أنها مدينة مقدسة مفتوحة أمام أصحاب الشرائع السماوية الثلاث، في إطار التعايش الإنساني دون مساس بحق من حقوق العرب مسلمين ومسيحيين فيها .
6ـ تشيد الندوة بمواقف صمود الشعب الفلسطيني في القدس الشريف وتناشد المجتمع الدولي تقديم الدعم المادي والأدبي لأبناء القدس لمواصلة محافظتهم على المآثر التاريخية والحضارية ، وعلى دعم المؤسسات التربوية والعلمية ، وعلى حماية المساجد ودور العبادة بمدينتهم المقدسة بوضعها من معالم التراث الثقافي في القدس الشريف.
7ـ تؤكد الندوة على ضرورة دراسة الوضع الراهن للأوقاف الإسلامية وممتلكات الكنائس المختلفة في القدس الشريف ، وما آلت إليه تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي .
8ـ توصي الندوة بأن تقوم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافية بالتنسيق مع المنظمات الإسلامية والعربية والدولية ، وبصفة خاصة مع منظمة اليونسكو ، من أجل ضمان المحافظة على التراث الثقافي في القدس الشريف .
9ـ تندد الندوة بالقرار الصادر عن محكمة العدل العليا الإسرائيلية بتاريخ 23/9/1993 الذي يعد موقع الحرم القدسي الشريف خاضعاً للسيادة الإسرائيلية ، مما يترتب عليه تفويض جماعة ما يُسمى (أبناء الهيكل) السيطرة على هذا الموقع المقدس .
10ـ توصي الندوة بدراسة التراث الحضاري في القدس الشريف والوقوف على متطلبات صيانته والمحافظة عليه ، وذلك من خلال لجنة فنية تؤلف لهذه الغاية ، وتكون تابعة لوحدة القدس بالمنظمة الإسلامية وتكلف بالعمل على توثيقه وصيانته وترميمه .
11ـ تدعو إلى التنسيق والحوار الإسلامي ـ المسيحي المستمر من أجل حماية المآثر الثقافية والحضارية والتعليمية والمحافظة على الأماكن المقدسة في مدينة القدس .
وتعرب الندوة عن تقديرها العميق وشكرها الجزيل للمملكة المغربية ملكاً وحكومةً وشعباً ، على ما خصت به المشاركين في هذه الندوة من بالغ الحفاوة وكرم الضيافة وحسن الاستقبال .