- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا، و زدنا علما، وأرنا الحق حقا و ارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
مهابتُهُ العظيمة صلى الله عليه و سلم وفخامته الكريمة.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الثامن عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه و سلم، و موضوع البحث اليوم مهابتُهُ العظيمة صلى الله عليه و سلم وفخامته الكريمة.
تمهيد.
أيها الإخوة الكرام ؛ في شخصية الإنسان شيء يخرج عن كل قاعدة، و يهزأ بكل أصول، هذا الشيء سرٌّ من أسرار الله تعالى، إنه المهابة فإنسان قد يكون من أقوى الأقوياء، أو من أغنى الأغنياء ومع ذلك ينزع الله منه المهابة، و إنسان من أضعف الضعفاء، ومع ذلك قد يلقي الله عليه المهابة.
قلت لكم مرة: إن الإمام الحسن البصري حينما أدى واجبه كعالم، و تكلم بالحق الذي رآه أغضب الحجَّاج، فلما نُقل إليه ما قاله الحسن البصري، قال بالحرف الواحد: ( يا جبناء، و اللهِ لأسقينكم من دمه، و جاء بالسياف فورا، وأمره بقطع رأسه، وطلب الحسن البصري عن طريق أعوانه، فالحسن البصري حينما دخل على الحجاج، ورأى السياف ينتظر قدومه، والنطع قد مُدَّ على الأرض، ولم يبق على قطع رأسه إلا أن يصل، ما كان من الحجاج ساعة دخوله إلا أن وقف له، واستقبله، ودعاه إلى الجلوس على سريره، ثم سأله عن حاله، ثم استفتاه ثم قال له: أنت يا أبا سعيد سيد العلماء، ثم عطَّره ثم شيَّعه إلى باب القصر، وودَّعه توديعا لائقا، فالذي صُعق هو السياف والحاجب، فلما خرج تبعه الحاجب، وقال له: يا إمام لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فماذا قلت ؟ فذكر أنه حينما دخل توجَّه داعيًا الله سبحانه وتعالى: و اللهِ قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي عند وحشتي، اِجعل نقمته عليَّ بردا و سلاما، كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم)، ما الذي حدث ؟ لا أحد يستطيع أن يفسَّر ما حدث، لكن في شخصية الإنسان شيء يخرج على كل قاعدة، و يهزأ بكل أصول، هذا الشيء هو أن الله عز وجل يلقي على بعض المؤمنين المهابةَ، وهناك أشخاص تُنزع عنهم المهابة، تراه تافها لا قيمة له، يبدو ظاهرُه على أنه قويٌّ، وعلى أنه غنيٌّ، ثم تراه حقيقة سخيفَ العقل، مضطربَ الفؤاد، إذًا هذا حال لابد أنْ يفهمه المؤمن، لأنه من لوازم حياته، وقد ورد في الأثر أنه:
((من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه اللهُ من كل شيء ))
المؤمن معه سرٌّ عجيب، هذا السر قاعدته الاستقامة على أمر الله، والإخلاص لله، استقامة بالسلوك، والإخلاص بالقلب، ففي القلب إخلاص، وفي السلوك انضباط، فالله عزوجل يمنحك هيبةً بقدر إخلاصك له، وبقدر استقامتك على منهجه، وعندئذ تبدو لك هالةٌ حول شخصك كبيرة جدًّا، ما هذه الهالة ؟ هو أنه مَنْ تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر وضعه.
هارون الرشيد حينما قدِم إلى الديار المقدَّسة ليحجَّ بيت الله الحرام قال: (ائتوني بأحد العلماء الكبار كي أستفيد منه فذهبوا إلى الإمام مالك، قالوا له: إنّ الخليفة يرجو أن يلتقي بك كي يسألك بعض الأسئلة، فقال: قولوا له: يا هارون، إن العلم يؤتى، ولا يأتي، قال لهم: صدق، ثم قال لهم: و اللهِ إن جاء لن أسمح له بتخطَّي رقاب الناس، فبلَّغوه ذلك وقال لهم: معه الحق و هكذا السُّنة فلما جلس قال: من تواضع لله رفعه و من تكبَّر وضعه )، أي إذا كان الإنسان مع الله ألقى عليه هيبةً، وهيئة وقورة، أما إذا كان الإنسان غير مخلص اتَّجر بالدين، وابتغى بالدين عرض الدنيا نزع عنه كلَّ مهابة.
يروون قصةً سمعتها من أحد الأشخاص الذين عاصروا أحداثها، السلطان عبد الحميد أراد أن يدعوَ الشيخ بدر الدين الحسني شيخ الشام إلى استنبول لحضور احتفالات، أرسل له الصدرَ الأعظم، أي أعلى شخصية بعد السلطان، ركب بارجة من البوسفور إلى بيروت، ومنها إلى الشام، ودخل على الشيخ ليدعوَه باسم السلطان، قال له: يا أبي، أنا لا أرضى بمثل هذه الحفلات، ولا أحد يجرؤ أن يكرِّر الطلب عليه ثانيةً، رجع الصدر الأعظم، ووصل في طريق عودته إلى إسكندرون، لكنه كبُر عليه الأمر، الصدر الأعظم يبعثه السلطانُ ليدعو عالما إلى حضور احتفال في استنبول، فيرفض، ماذا سيقول له السلطان ؟ أخذته الحميةُ، قال: واللهِ لآخذنَّه بالقوة، فعاد إلى بيروت مرة ثانية، ووصل إلى الشام، ودخل عليه، وفي نيته أن يأخذه قسرًا، كان الشيخ يصلي، فلما سلَّم رآه في غرفته، قال له: يا أبي رجعت ؟ قال له: نسيت أن أقبِّل يدك يا سيدي، هات إخلاصًا، واستقامة، وخذْ تكريمًا ومهابة، وإذا فَتَرَ الإخلاص عند المسلمين، وضعفت الاستقامة تهاوى قدر الإنسان، واستُهين به، واستخفَّ به، واستهزأ به، فاللهُ عزوجل له مقاييس دقيقة، فالمؤمن من لوازمه أنه مُهاب، واللهُ عزوجل يلقي عليه هيبة، وهذه الهيبة ترفعه بين الناس، من دون قصد منه، وطبعا سيِّدنا رسول الله سيد الأنبياء و المرسلين، كان عليه الصلاة و السلام عظيم المهابة، وقد توَّجه اللهُ تعالى تاج العزَّة والكرامة، وكساه حُلَّة الفخامة، أنا لا أعتقد على الإطلاق أن على وجه الأرض من دون استثناء رجل أعزَّه اللهُ كرسول الله، مع أنه كان في منتهى التواضع، وإذا دخلت إلى الحرم النبوي الآن ترى الذي لا يُصدَّق، مئات الألوف، خمسمائة ألف ومليون يمشون أمام قبره، ويبكون، ولم يروه أبدًا، وما التقوا به، و ما سمعوا منه، و ما أخذوا منه شيئا، قال تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
و لكل مؤمن من هذه الآية نصيب، بقدر إيمانه، قال تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾
العزُّ كلُّه عند الله، والعز كلُّه في طاعة الله، و الكرامة كلها للمؤمنين، ما اتَّخذ اللهُ وليًّا ذليلا، و ما اتَّخذ الله وليًّا جاهلا، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعِز من عاديت، فكان عليه الصلاة و السلام عظيم المهابة، قد توَّجه الله تعالى تاج العزة و الكرامة، و كساه حلة الفخامة، فقد روى الترمذي في الشمائل وغيره من حديث هند بن أبي هالة يصف النبي صلى الله عليه و سلم فقال:
((كان رسولُ الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخَّما))
وعلى ضوء التفسير العلمي، فالإنسان إذا وجدتَ عليه مأخذًا كبيرًا إنْ ؛ في كسب المال، أو إنفاقه، أو في علاقته مع النساء، ووجدته يسترق الطرف، لا يبالي أكان المالُ حلالا أم حراما، إن وجدت زوجته ضعيفة، وورعه قليلاً، و نفسه "خضراء " بالتعبير العامي" وماديًا، سقط من نظرك، رغم أن له ألقابا كبيرة، وشارات علمية ونعوتًا، انتهى، فالقضية أن توقن أن فلانا مستقيم، والاستقامة تعطي قدسية، كما أنّ القدسية نظيرة المهابة.
الحقيقة أنك أحيانا قد لا تعلم عن الإنسان شيئا، ثم هو يفضح حاله، مرة أنا التقيت مع شخص يحمل اثنتين من الدكتوراه، في الفيزياء و في التربية، كنت أتمنى ألاَّ يقول لي هذه الكلمة، لكنه قال لي كلمة من دون قصد فنزلت مكانته مِن عيني، أو هبطت به، والإنسان قد يقول: أنا لا أصلي، ألاَ تصلي، وأنت في الأربعين ؟ أعاقل وراشد هذا ؟! بينما الدين واضح كالشمس، والكون الذي يحيط به معجِز يدلّ على الله، والأمر بالصلاة قطعي، فتشعر بضعف في عقله، إنسان يأكل مالا حراما، أين عقله ؟ إنسان يسلك سلوكا خاطئا أين عقله ؟ فروى الترمذي في الشمائل و غيره من حديث هند بن أبي هالة يصف النبيَّ صلى الله عليه و سلم فقال:
((كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخَّما يتلألأ وجهُه تلألؤ القمر ليلة البدر))
و قال سيدُنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم:
(من رآه بديهة هابه و من خالطه معرفة أحبَّه).
ويا أيها الإخوة الكرام ؛ كتطبيق عمليٍّ لهذا النص، كلُّ مؤمن ينبغي أن يكون على شيء من هذه الصفة، من رآه بديهة هابه، و من خالطه معرفة أحبه، على المخالطة هناك أشخاص على ظاهر المنظر هو رائع، فإذا عاملتَه تستعيذ بالله، مرة ذكرتُ أن الإنسان حينما تراه أول مرة تدرسه من ثيابه، من شكله، ومن أناقته، ومن نظافته، ومن تناسب الألوان، ومن أناقة اختياره للألبسة، أما إذا تكلَّم، وكان كلامه سخيفا نسيتَ أناقته، أو سقطت هيبته، ولو أنه تكلم كلاما طيِّبا، لكنه عاملك معاملة سيِّئة نسيت عذوبة كلامه، إذًا فأولُ شيء في تقييم الإنسان الشكل، ثم الكلام ثم المعاملة، أكثر الناس على الاحتكاك الشديد ينزل قدرُه عندك، على الاحتكاك الشديد، وعلى المخالطة، وعلى السفر، وعلى المجاورة، وعلى الشراكة وعلى المحاككة بالدرهم والدينار، أو في الجوار تسقط هالته الكبيرة، قد يكون ماديا، وقد يكون أنانيا، لا يؤدِّي واجبه في السفر، يأكل فقط، قد يكون وصوليا، و قد يكون فوقيا، لكن الأشخاص الذين على الاحتكاك الحميم، وعلى ضوء العلاقات الحميمة الزائدة تزداد حبًّا لهم، هؤلاء عظماء، و الشيء المألوف من شخص بأنه عن بُعدٍ جيِّد، أما عن قرب فقد يكون غيرَ جيِّد، وعن بُعد قد يكون مقبولاً، أما على المحاككة اليومية فغير مقبول، غير محتمل أساسا، رضي الله عن سيدنا عمر لما أراد من رجل أنْ يأتيه بمَن يشهد له، قال له: (ائتني بمن يعرفك، أولاً قال له كلاما في منتهى الأدب، قال له: لا أعرفك، ولا يضرُّك أني لا أعرفك )، انظُر إلى هذه الكلمة ما أدقّها إني لا أعرفك و لا يضرُّك أني لا أعرفك، ثم طلب منه مرةً أنْ يأتيه بمَن يشهد له، لأنه مرة أرسل جيشا إلى بلاد فارس، نعم، وجاء الرسول، و قال له: (يا أمير المؤمنين مات خلقٌ كثير إنك لا تعرفهم، فبكى سيدُنا عمر، وقال له: من هم ؟ قال: إنك لا تعرفهم، فبكى سيدنا عمر، قال: وما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان اللهُ يعرفهم )، ومَن أنا؟ انظُر إلى الإخلاص لله عزوجل، و ما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم،انتهى الأمر، فهذا الشخص قال له: ( إني لا أعرفك، و لا يضرُّك أني لا أعرفك، مكانتك هي هي، لكن لا بدَّ من شاهد، فجاءه برجل ليعرِّف به، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه ؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال: لا، قال: فأنت إذًا لا تعرفه)، وبشكل عام من الصعب، وهذا كلام دقيق و خطير، من الصعب، أو من المستحيل أن تعرف حقيقة الإنسان مائة بالمائة، قد تعرف من المائة خمسا وعشرين، معي دليل قطعي مُسكِت، إنَّ النبيّ عليه الصلاة و السلام سيدُ الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، لما جاءه وفدٌ، وطلب علماءَ و قرَّاء، وقتلوهم في الطريق، وقد غدروا بهم، لِمَ لمْ يعرف ؟ اسمعوا الجوابَ ؛ ليس من شأن البشر أن يعرف حقيقة الإنسان المعرفة المطلقة التامة، قد تعرف من المائة خمسا وعشرين، من المائة ثلاثين، من المائة خمسين، و بالمائة ستين، أما المعرفة التامة فهي فوق طاقة البشر، لذلك أنصح لكم ألاّ تزكُّوا على الله أحدًا، قل: فلان أرى أنه صالح، والله أعلم، ولا أزكِّي على الله أحدا، أظن أن فلانا صالحٌ، أظنه مستقيما، أظنه ورِعا، أظنه عالما، والله أعلم، ولا أزكي على الله أحدا، فإذا لم تكنْ مكلَّفا بأن تزكِّيَ أحدا فليكن في الكلام تحفُظ، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبَّه، وقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم لا يستطيعون إمعان النظر فيه، لقوَّة مهابته، ومزيد وقاره، أكرر: لا يستطيعون إمعان النظر فيه لقوة مهابته، ومزيد وقاره، ومِن ثَمَّ لم يصفه إلا صغارهم، هذا الذي تأمَّل فيه مليَّا، ورأى لون جلد وجهه ونوع خدِّه، وخدُّه أسيل، دقَّق في ملامح وجهه و في خطوطه، هؤلاء صغار الصحابة، أما كبار الصحابة فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه لعِظم مهابته صلى الله عليه وسلم قال: ومن ثَمَّ لم يصفه إلا صغارهم، أو من كان يعرفه قبل النبوَّة، الذي كان معه، كابن عمِّه رضي الله عنه، كهند بن أبي هالة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:
((صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبةً طويلة و سمعت منه أحاديث كثيرة، و حفظت عنه ألف مثَل ومع ذلك ما ملأتُ عينيَّ منه قط، حياء منه و تعظيما له، و لو قيل لي: صِفه لما وصفته))
لذلك إذا زار الإنسان النبيَّ عليه الصلاة والسلام فمن السُّنة أن تقف بعيدا عن مقامه كما لو كان حيًّا، أحيانا الإنسان يقترب من زميله أو صديقه زيادة يكاد أنفه يلتصق بوجهك، مما يؤدِّي إلى مضايقته، فهذه عدم لباقة، اترُك مسافة أربعين سنتيمترًا بين شخصين، فالاقتراب الشديد جدًّا ليس من الأدب، فكان كبارُ المؤمنين إذا زاروا مقام النبيِّ عليه الصلاة والسلام يقفون أمام مقامه مسافة تتناسب كما لو كان حيًّا.
عظيم مهابته وكمال وقاره .
ومن عظيم مهابته صلى الله عليه وسلم، وكمال وقاره أنّ مَنْ جلس إليه هابه، و ربما أخذته رِعدةٌ شديدة من قوة الهيبة المحمَّدية، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يباسطهم، ويلاطفهم ليسكِّن من روعهم، أقول لكم نقطة دقيقة، إذا كان الشخصُ في منصب قيادي، مثلاً معلِّم مدرسة، رئيس دائرة مستشفى، مدير ثانوية، فهذا اسمه منصب قيادي، فإذا لم تكن له مهابة من الله، فلو عصرت نفسك لن تكون لك مهابة، وإذا كانت هناك مهابة، ولو كنت لطيفا، ولو تباسطت، ولو مزحت، فلك هيبتك، ثم إنّ مزاحك اللطيف مع من دونك، و مؤانستك لمن دونك، سؤالك عن صحَّتهم، وعن أحوالهم، وعن أولادهم، فهذه لا تنقص مهابتك، والهيبة سر من الله عزوجل يلقيه اللهُ على بعض المؤمنين.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
((أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ))
كان سيدنا رسول الله مرةً مستلقيا على حصير و قد أثَّر في خدَّه الشريف كما جاء ذلك في حديث طويل عن عمر قال:
((... فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ))
أنا لست ملِكا، ولكنني نبيٌّ، فالمعنى أنّ هذه قاعدة أساسية، وهي أن ملوك الأرض ملكوا الرقاب، ولكن الأنبياء ملكوا القلوب، وشتَّان بين المُلكين، كلُّ إنسان قويٍّ يملك الرقاب، لكن البطولة والعظمة أن تملك القلوب، البطولة أن يكون المديح في غيبتك لا في حضرتك، المديح في حضرتك تملُّق إليك، أو خوف منك، لكن المديح الذي يُساق في غيبتك، دليل محبَّتك، دليل استقامتك، ودليل أخلاقك العالية، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: أنا لست بملك، ولا بجبَّار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، فعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
التواضع من صفات المؤمنين الصادقين.
وعَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ:
((أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَشِعَ وَقَالَ مُوسَى الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ))
وهذه ملاحظة أتمنى أن تكون واضحة، أحيانا ترى إنسانا فتجده شخصا له قيمته، فإذا فحصتَه اضطرب، والإنسان إذا كان في موقع الفاحص، أو موقع الحاكم، كالقاضي مثلاً، فكمال أخلاقه يؤكِّد إخلاصه لله عزوجل، فإنْ كنتَ كذلك فتواضعْ، واجعَل غيرك يأنس بك، ويُروى أن أحد كبار العلماء، وكان مفتيًا فيها، لعله الشيخ عطا الكسم فيما أذكر، وكان قاضيا، فدخلت امرأةٌ صحتُّها زائدة فيما يظهر، وهناك درج، فلما صعدته سُمِع منها صوتٌ قبيح، فغشيَ وجهَها الخجلُ، والحياء غمسها، وغطَّاها، قالت لأختها: لقد سمعنا القاضي، فلما وصلت، أدرك القاضي ذاك الشيء، و لما وصلت إليه قال: ما اسمكِ يا أختي ؟ فأجابتْ، قال: ما سمعت، ارفعي صوتَكِ، ثم قال: ما سمعت، أنا سمعي ضعيف، قالت: إذًا ما سمعَنا، يعني أنه لم يسمع الصوتَ الذي خرج منها، وليس بيدها ما صدر منها مِن صوتٌ، "فلقد انسلق بدنها " بالتعبير العامي، وذابت ذوبانا خجلاً، لكنه خفَّف عنها، عندما قال لها: أنا سمعي ضعيف، ما سمعت، ارفعي صوتكِ،ففهمت أنه لم يسمعها، والنبيُّ قال:
((لا تحمِّروا الوجوه))
لا تخجِل، ولا تُحرج الناس، لا تضعه في موقف يستحيي منك، وقد ترى شخصا يحمل دخينة، فتجده كأنه يريد أن ينعصر خجلاً، أدِرْ وجهك، ولا تؤكِّد زيادة، هو استحيا منك، وخجل منك، أدر وجهك ولا تدقِّق، لقد هابك فأعِنه على هيبتك، كلُّ إنسان يريد أن يحاسب زيادة تذهب هيبتُه، إن كنتَ أبا، أو كنت معلِّما، أو كنت رئيس دائرة، كثرة الحساب تذهب الهيبة، وبعد ذلك يتواقح، ويكسر، ثم بعد ذلك يفجر، قال: يا مسكينة عليكِ السكينة، قال: فلما قالها أذهب اللهُ ما بها من الخوف.
و من ذلك عن أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
((كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا))
وأنا أتمنى أن الإنسان إذا أدَّب ابنَه، والتأديب وارد أحيانا، فقال لك: لوجه الله فأوقِف، حتى يشعر أن الله عظيم عندك، قال لك: لوجه الله، فلا تُعِدها، انتهى وأوقف، وعلى المؤدِّب ألاّ يضرب الوجه، فالوجه مكرَّم، وكرامة الإنسان في وجهه، فضربُ الوجه منهيٌّ عنه ؛ و في رواية فَقُلْتُ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ))
قالوا: وقف رجل بين يدي الحجَّاج، و كان سيقتله، قال له: ( أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدرُ منك على عقابي، فعفا عنه، ذكَّره بالله عزوجل، قال له: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدرُ منك على عقابي).
وعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ:
((كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ))
مِن حليِّكن، أي من الأشياء الثمينة، إنك رجلٌ خفيف ذات اليد - أي قليل المال - و الحقيقة في أحكام الزكاة يجوز للمرأة أن تعطي زكاة مالها لزوجها، وهو أقرب الناس إليها، لكن الرجلَ لا يجوز أن يعطيَ زكاة ماله لزوجته، لأنه مكلَّف بالإنفاق عليها، فإذا أعطاها من زكاة ماله فقد تحايل في دفع الزكاة، ولا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول مهما علوا، و لا إلى الفروع، ولا إلى الزوجة، فإذا كانت المرأة ميسورة وأنفقتْ على وزوجها الفقير فلها أجران، أمّا الآن فقد ترى المرأة زوجها معدَمًا من الفقر، ومعها ذهب، ومعها سيولة نقدية، ولا تعطيه، و لا تشارك في المصروف شيئا، إنّ المرأة مالها صعب عليها، فالنبيُّ الكريم قال: لهما أجران ؛ أجر القرابة و أجر الصدقة.
طبعا هناك استنباطات كثيرة من هذا الحديث، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف أصحابه معرفة دقيقة، وفتواه تناسب، وأحيانا يكون الرجلُ غنيًّا، ويسأل: أعلى المال المدين زكاة ؟ فنقول له: أنت عندك مال فائض عن الدين ؟ فيجيب: نعم، طبعا، لك مائة ألف دينًا على آخر، ومعك مليون، وهذه مائة الألف ثابتة، معترف بها، واسترجاعها يقيني، ادفع زكاتك، وشخص آخر يسأل: أعلى الدَّين هناك زكاة ؟ نسأله: أمعك مال فائض ؟ لا، ليس معي، إذًا حينما تقبض دَينك تدفع الزكاة، فالفتوى في أحيانٍ كثيرة يجب أن تكون متعلقة بحال الإنسان، والنبي سأل واستفسر.
أيها الإخوة الكرام ؛ مهابته صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، طبعا الدرس له حالة تطبيقية، فمن تطبيقات الدرس، أن الإنسان كلما اشتدَّ إخلاصُه، واشتدَّت طاعتُه لله، فمن المكافآت في الدنيا قبل الآخرة أن الله سبحانه وتعالى يلقي عليه المهابةَ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))
والإنسان إذا عصى اللهَ عزوجل تُنزع منه المهابةُ، لذلك فالنبي الكريم ماذا قال ؟ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))
مليار ومئتا مليون مسلم لا حول لهم ولا طول، هذا هو الوهن، أرجو الله سبحانه و تعالى أن تكون هذه القصص وهذه الحقائق دافعا لنا إلى مزيد من الإخلاص، ومزيد من الطاعة، حتى نكسب نصيبا قليلا مما أكرم الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم من هذه الهيبة، تجد شخصا له هيبته في البيت، وهناك شخص في بيته ليس له هيبة، فمن الممكن أن تتطاول عليه زوجته أو أولادُه، والمهابة إذا نُزِعت مشكلة كبيرة، الحياة لا يُطاق العيش فيها بلا مهابة، إذا كان الإنسان في بيته غير محترَم، تتطاول عليه زوجته، وأولاده، وفي عمله ليس محترما، فالمعنى أن لديه خللا كبيرا، فأنت كن مع الله عزوجل، يقول الإمام الشعراني: أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي، فكلما كان مستقيما مع الله أكثر، وله اتِّصال بالله أكثر، كانت له مهابة أكثر، و من دلائل هذه المهابة أن أهله يحترمونه احتراما بالغا، أما إذا كان لا الشخصُ بلا استقامة، وبلا إخلاص لله عزوجل تُنزَع هذه المهابة، عندئذٍ يجترئ عليه من حوله.
أرجو الله سبحانه و تعالى أن ننتفع بهذه الحقائق وبهذه السير، و اللهُ سبحانه و تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، وسنعالج في الدرس القادم إن شاء الله تعالى خشيته صلى الله عليه وسلم من الله سبحانه.