- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، السلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
دكتور ، الرفق ، وما أحوج الإنسان في حياته إلى الرفق به من قبل الآخرين وبالتالي الآخرون أيضاً بحاجة لرفق هذا الإنسان بهم .
(( إن اللَّه رفيق يُحبُّ الرَّفْق في الأمر كلَّه ))
ترى هل الرفق أن يكون الإنسان ضمن معنىً لغوي ، يمكن أن يكون في إطار ضيق ، أم أن الإطار الاصطلاحي يضم صفات كثيرة في باب الرفق ؟.
الرفق يرقى بالإنسان و يسمو به :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عدنان ، بالتعريف الاصطلاحي : الرفق لين الجانب ، الرفق لطافة الفعل ، الرفق الأخذ بالأيسر والأسهل ، الرفق ضد العنف ، والعنف لا يلد إلا العنف ، هذه حقيقة تغيب كثيراً عن الأقوياء ، العنف لا يلد إلا العنف .
(( إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ ))
الحقيقة الرفق الذي يكون في الإنسان مرتبة أخلاقية عالية جداً ، ونحن نتحدث عن مكارم الأخلاق ، الرفق الذي يكون في الإنسان سمو به ، يعني الإنسان قد يرقى رقياً إلى أعلى الدرجات ، ويبقى مظهره واحد ، له رأس ، وجذع ، وأيدي ، وأرجل ، لكن الفرق بين إنسان رفيق ، وإنسان متوحش ، فرق كبير .
تماماً كما لو وجدت قطعة لحم متفسخة ، تكاد تخرج من جلدك من نتن رائحتها وقد تجد قطعة لحم مشوية ، وأنت جائع ، كلاهما قطع لحم ، الأولى تخرج من جلدك من نتن رائحتها ، والثانية تتمنى أن تأكلها .
فلذلك الرفق يرقى بالإنسان ، هو لين الجانب ، ولطافة الفعل ، والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف .
الأستاذ عدنان :
دكتور ، الرفق له أصل في القرآن الكريم ، ودعوة إليه ، وكذلك في الحديث النبوي الشريف ، لو أردنا أن نتوقف عند ما ورد في القرآن الكريم عن الرفق ، هل يمكن أن توضحوا ذلك للأخوة المشاهدين ؟.
من اتصل بالله عز وجل اشتق من كمالاته الرحمة و الرفق :
الدكتور راتب :
يقول الله جل جلاله يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
في هذه الآية ملمح دقيق جداً ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ ﴾
هذه الباء باء السبب ، يعني بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، تبين أن الرفق سببه الرحمة ، والرحمة من الله ، الرحمة تشتق من الله ، لأن الله أرحم الراحمين ، وكل إنسان اتصل بالله عز وجل اشتق من كمالاته ، فالذي يتصل بالرحيم يمتلئ قلبه رحمة على الخلق ، والذي ينقطع عن الرحيم يقسو قلبه .
الاتصال بالله يولد الرفق بعباده و الانقطاع عنه يولد القسوة :
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾
من النار ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
هذا الرفق هو اللين ، لين الجانب.
(( غَفرَ الله لرجل كان قبلكم : سهلاً إذا باع ، سَهلاً إذا اشترى ، سهلاً إذا اقتضى ))
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف ))
فاللين هنا يعني الرفق ، هو لين الجانب ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
يا محمد ! وأنت أنت ، وأنت سيد الخلق ، وأنت حبيب الحق ، وأنت سيد ولد آدم ، أنت الذي أوتيت المعجزات ، أنت الذي أنزل عليك القرآن ، أنت الذي أوتيت جمال الصورة ، أنت الذي أوتيت فصاحة البيان ، لو كنت أنت أنت
﴿ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
رأسمال الداعية أن يكون محبوباً ليسرع الخطا إلى الله تعالى :
أي في النهاية إنسان متصل بالله ، يمتلئ قلبه رحمة ، تنعكس الرحمة رفقاً ، يلتف الناس حوله ، إنسان منقطع عن الله ، يمتلئ قلبه قسوة ، تنعكس القسوة غلظة ، وفظاظة ينفض الناس من حوله ، وكأنها معادلة رياضية بالتمام والكمال ، اتصال ، رحمة ، لين التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
لذلك أنا أقول للأخوة الذين يدعون إلى الله : هذا الداعية ليس نبياً ، ولا رسولاً ، ولا يوحى إليه ، ولا معه معجزات ، ولا أوتي الفصاحة التامة ، ولا جمال الخلق ، فكيف يكون فيه غلظة وفظاظة ؟ ينفض الناس من حوله ، رأسمال الداعية أن يكون محبوباً ، لأن الإنسان بالحب يسرع الخطا إلى الله .
سقراط معلم كبير في تاريخ البشرية ، مرة استدعى أحد أولياء طلابه ، وقال : خذ ابنك عني إنه لا يحبني .
إذا ألغي الحب في الإسلام أصبح الإسلام متصحراً ، أصبح كلاماً ، أصبح ثقافة لكن الإيمان هو نظام كامل ، عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك .
الأستاذ عدنان :
يقال في كل إنسان نبعة خير ، إذا ما استطاع الآخرون أن يصلوا إلى هذه النبعة تتغير كثير من صفات الإنسان الجافي ، وشهدنا في سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأشياء والأفعال التي تؤكد هذا الأمر ، في تعامله مع الآخرين ، في تعامله مع أصحابه ومع أعدائه ، كان لين الجانب ، واضحاً جلياً في تصرفاته ، هذا في ميدان التصرفات ، وله في ميدان آخر ميدان الكلام ؛ الحديث النبوي الشريف أيضاً هناك الشيء الكثير ، ممكن أن نتحدث عن هذا الجانب ؟.
الرقة و اللطف أساس منهج الدعوة إلى الله عز وجل :
الدكتور راتب :
النبي عليه الصلاة والسلام ماهر في قلب أعدائه إلى أصدقاء ، مرة جاءه عكرمة ابن أبي جهل مسلماً ، وأبوه أبو جهل أعدى أعداء الإسلام ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت ))
كان رفيقاً به ، كان عليه الصلاة والسلام رفيقاً بأصحابه ، كان عليه الصلاة والسلام حريصاً عليهم كحرصه على أولاده .
الحقيقة أن الدعوة إلى الله بين أن تكون إلقاء درس ، وبين أن تكون قلباً كبيراً يسع الناس كلهم ، لذلك رأسمال الداعية ليس لسانه ، ولا فصاحته ، ولا معلوماته ، بقدر ما يكون عليهم بقلب كبير ، يستوعب إخوانه ، ويستوعب الناس جميعاً .
لذلك مرت جنازة فوقف النبي لها ، قيل هذا يهودي ، قال : أليس إنساناً ؟.
كان أعداؤه يدهشون لرقته ، ولطفه ، لذلك
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
المنهج في الدعوة :
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
هذه أخلاق الدعاة ، لذلك هذه الآية :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
الأهداف النبيلة لا يمكن إلا أن يكون لها وسائل نبيلة :
إذاً كان عليه الصلاة والسلام في تصرفاته رفيقاً ، الأنصار حينما قال لهم :
(( أما إنكم لو شئتم لقلتم ، فلصَدقتم ولصُدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، طريداً فآويناك ، عائلاً فأغنيناك ، قال : يا معشر الأنصار ! ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله ؟ ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم ؟. ))
إذاً كان النبي رفيقاً بأصحابه ، وكان حليماً عليهم ، لكن من أحاديثه الرائعة كما تفضلتم ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ ))
نعود ونقول دائماً : الأهداف النبيلة لا يمكن إلا أن يكون لها وسائل نبيلة ، أما هدف نبيل عن طريق العنف ، والقهر ، هذا الهدف لا يتحقق ، لذلك النبي كان رحمة للعالمين ، رحمة بالناس ، كان أصحابه لا ينامون الليل من شدة محبتهم له ، إذاً يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ ))
امتحان إيمان كل إنسان بمقدار رفقه بمن حوله :
أؤكد لكم أستاذ عدنان ، الإنسان موصول ومنقطع ، موصول رفيق ، منقطع عنيف ، موصول رحيم ، الرحمة لين ، اللين التفاف ، مقطوع قسوة ، القسوة غلظة وفظاظة ، والغلظة والفظاظة انفضاض ، هذه حقيقة ثابتة .
فالإنسان يمتحن إيمانه بمقدار رفقه بمن حوله ، وكلما كان أكثر رفقاً كان أكثر محبة ، وأكثر رقياً عند الله وعند الناس.
الأستاذ عدنان :
دكتور أحياناً لو قلنا إن إنساناً في مجتمع ما يتعامل مع الآخرين ، النتائج التي يحصل عليها ، نتائج مرسومة ومخطط لها ، إذا عاملهم بشيء من العنف ، إذا عاملهم بأدنى العنف ، الآن مرحلة ثالثة إذا عاملهم بالرفق ، هل تختلف النتائج ما بين العنف ، وشيء من العنف والرفق ؟.
الرفق يحقق العمل الصالح و العمل الصالح سبب دخولك الجنة :
الدكتور راتب :
الحقيقة ، أنا لا أصدق أن يستطيع الإنسان تحقيق رسالة نبيلة بالعنف ، لأنه في الأصل :
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
ولأن النفوس البشرية فطرت على حب المحسن ، جاء في الأثر القدسي :
(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم ، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ))
فالرفق لا يأتي إلا بالخير ، ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير ، أنت في الدنيا من أجل عمل صالح يكون سبب دخولك الجنة ، ليس ثمن ، سبب ، فرق كبير بين سبب وبين ثمن البيت ثمنه مئة مليون ، أما سبب دخوله مفتاح ثمنه عشرين ليرة فقط .
فلذلك العمل الصالح هو سبب دخول الجنة ، إذاً الرفق يحقق العمل الصالح ، أما بالعنف لا يحقق شيئاً ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه :
(( إنما أنا رحمة مهداة ))
يعني كل الأهداف الكبيرة ، العظيمة ، النبيلة ، لا تحقق إلا بالرفق ، الرفق لا يأتي إلا بالخير ، ومن حُرم الرفق ، حُرم الخير ، الخير أن تملك قلوب الناس .
الفرق الكبير بين العنف و الرفق :
أستاذ عدنان ، سهل جداً أن تملك رقاب الناس ، تملكها بقوتك
لكن الأقوياء ملكوا رقاب الناس ، بقوتهم ، بينما الأنبياء ملكوا قلوب الناس برفقهم ، وشتان بين أن تملك القلوب وبين أن تملك الرقاب ، الأقوياء عاش الناس لهم ، والأنبياء عاشوا للناس ، وشتان بين أن يعيش الناس لك ، وأن تعيش لهم ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا وشتان بين أن تعطي ولا تأخذ ، وبين أن تأخذ ولا تعطي ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم أما الأنبياء يمدحون في غيبتهم ، فرق كبير بين الرفق وبين العنف ، ويعطى الإنسان على الرفق ما لا يعطى على العنف .
دائماً التصرف الحاد سهل ، الابن أخطأ ضربه سهل ، وتركه سهل ، لكن البطولة أن يرهبك وأن يحبك في وقت معاً ، هذا يحتاج إلى رفق .
الأستاذ عدنان :
ذكرتم دكتور فيما يتصل بأن الخير مطلوب ، وورد عنه في القرآن الكريم نصوص كثيرة ، وكذلك في أفعال وأقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك هو منفعة في المجتمع وخير ، ترى في ميدان الفقه إذا أردنا أن ندخل هذا الباب ، فماذا يمكن أن نجد من الرفق من هذا الميدان ؟.
اعتدال المؤمن في كل علاقاته :
الدكتور راتب :
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مِن فقْه الرجل رفقه في معيشته ))
الحكمة ، إنفاق معتدل ، علاقات معتدلة .
(( أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا ، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً مَّا ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوْنا مَا عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً ما ))
دائماً المؤمن رفيق ، أي معتدل ، معتدل في إنفاقه ، معتدل في بذل الوقت ، قد يعمل عملاً مستمراً وينسى عباداته ، وقد ينصرف إلى العبادة وينسى عمله ، رفيق ، أي معتدل في عبادته ، في أعماله ، في أسرته ، ومع أسرته ، ومع الناس ، في البيت ، وفي العمل ، في مطالب الدنيا ، ومطالب الآخرة ، هنا الرفق الاعتدال .
(( مِن فقْه الرجل رفقه في معيشته ))
(( الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة ))
هناك تجارة أساسها المضاربات ، أساسها تلف الأعصاب ، أساسها الحظوظ ، ما في جهد بشري ، ففي تجارات تتلف الأعصاب ، في إنفاق كبير يحتاج إلى جهد كبير ، فلو أنك اعتدلت في إنفاقك لما احتجت إلى هذه الهموم ، خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .
من ثمار الرفق أن تكون أعمال الإنسان معتدلة :
للرفق معنى دقيق هو الاعتدال أحياناً ، يعني معتدل في علاقاته ، معتدل في زياراته ، معتدل في إقامته في بيته ، هناك من يقبع في البيت ولا يخرج منه ، هناك من لا يأتيه إلا عند النوم ، فالاعتدال في علاقته مع أسرته ، في علاقته مع محيطه ، مع جيرانه مع أقربائه ، مع زملائه في العمل ، اعتدال في أكله ، في شربه ، في صحته .
(( مِن فقْه الرجل رفقه في معيشته ))
الأستاذ عدنان :
من خلال هذه الناحية دكتور قولك : أن يكون معتدلاً ، هذا هو ما يتصل بالرفق فعلاً ، إذ إنه لو خلط الإنسان من خلال أعماله وعلاقاته مع الآخرين ، لو خلط ما بين الرفق وما بين ما يمكن أن يقال عنه التراخي ، لضاعت الأمور .
لذلك من ثمار الرفق أن تكون أعماله معتدلة ، يعني أعمال الإنسان معتدلة في النطاق السليم ، لتعطي النتائج بعد ذلك ثمارها جيدة صالحة ، حبذا لو بينتم أن الاعتدال هو ميزان الرفق ، وبالتالي تكون ثماره كثيرة .
الرفق كمال في الإيمان و محبة لله :
الدكتور راتب :
أولاً الاعتدال ، أو الرفق دليل كمال الإيمان ، يعني الإيمان في إيمان ، وفي إيمان أعلى ، وفي إيمان أعلى ، وفي إيمان كامل ، من صفات كمال الإيمان أن تكون رفيقاً النبي عليه الصلاة والسلام حينما عقد صلح الحديبية ، هذا سلام ، سماه الله فتحاً مبيناً ، فكأن الله يريد لنا السلام ، يريد لنا الراحة ، يريد لنا أن تنظم حياتنا انتظاماً مريحاً ، فكل أعمال العنف ، والقسوة ، والحروب ، هذه تسبب قلقاً في المجتمعات كثيراً جداً .
فلذلك الأصل أن السلام هو المطلوب ، الأصل أن تعيش حياة هادئة هو المطلوب لأنه بهذه الطريقة تتفرغ لعبادة الله عز وجل ، لذلك يقال : الرفق كمال في الإيمان ، والرفق محبة لله ، الله يحبك إن كنت رفيقاً ، والناس يحبونك ، والمحبة شيء ثمين جداً ، ورأسمال عظيم جداً ، والرفق ينمي المحبة والتعاون ، التعاون من أين يأتي ؟ من الرفق ، العنيف لا ينصح ، العنيف لا تقدم له النصيحة ، العنيف لا يتعاون معه إطلاقاً ، إن أردت تعاون الناس معك ، إن أردت أن تستعير خبرات الناس ، إن أردت أن يكون الناس لك نصحة ، إن أردت أن يفديك الناس بأرواحهم ، كن رفيقاً بهم ، هكذا كان الأنبياء ، نحن نفتقر إلى كمالات كبيرة جداً في حياتنا .
الأستاذ عدنان :
فعلاً كما بينتم دكتور أن الأمر في موضوع الرفق أن يكون في نطاق الاعتدال حتى إنكم قلتم الرفق يساوي الاعتدال في حياة الإنسان وتصرفاته ، إذ إنه إن كان الرفق في ميدان التراخي يمكن أن يستغل هذا التراخي بحيث تكون الثمار سيئة ، بل يمكن أن تكون شوكاً .
إذاً الرفق ضرورة في حياة الإنسان ، في ذاته ، في مجتمعه ، ومن حوله .
الموضوع العلمي :
والآن إن أردنا أن نتابع إعجاز خلق الله تعالى ، وهو الرفيق بعباده ، وبكل مخلوقاته .
عدم استطاعة الإنسان أن يقارن بين تكنولوجيا ودقة أي طائرة بالطيور :
الدكتور راتب :
نتابع موضوع الطير ، في تصميمه الكامل ، يحاول الناس أستاذ عدنان دائماً الوصول إلى الأكمل في صناعة الطائرة ، فالجناح في الطائرة أبرز ما فيه تخفيف الاحتكاك بالهواء ، إلى أقل درجة ، وبقاء الطائرة في الجو بسهولة ، وقد توصل الإنسان إلى تقنية الطائرات تقنية رائعة جداً ، نتيجة بحوث وتجارب متراكمة ، وعلوم مئة سنة ، لكن تصميم أشكال الطائر والجناح ، باعتبار عوامل خاصة كثيرة ، بمساعدة الحاسوب (الكومبيوتر) ورغم ذلك ، لا تقارن تكنولوجيا ودقة أي طائرة بالطيور ، رغم التقدم ، مئة عام خبرات استخدام الحاسوب ، استخدام علوم نظرية ، علوم تطبيقية ، رغم كل هذا لا تقارن تكنولوجيا طيران الطائرات بطيران الطائر .
شيء دقيق : تصمم أشكال الطائرة والجناح باعتبار عوامل كثيرة ، إلا أن الناس طوروا وسائط تطير أسرع من الطيور ، ولكن التحكم في طيران الطيور تفوق كثيراً في كل زمان بمثل لا يقارن ، هناك شيء اسمه المناورة ، هناك طائرة تطير ألف كم في الساعة بحجم كبير جداً تقل 800 راكب الآن ، لكن الطير يملك قدرة على المناورة لا تستطيعها أي طائرة مناورة .
التصميم الكامل في الطائر يرجع إلى الخالق سبحانه :
إلى من يرجع هذا التصميم الكامل الموجود في الهياكل ؟ نبدأ في التصميم ، رغم وجود مئات المهندسين ، ورجال العلم وراء تصميم كل طائرة فأثر من قابلية الطيور على الطيران ، وأجسام الطيور التي هي أكمل بكثير من الطائرات ، لا شك أنه لا يمكن أن يكون الطائر هو نفسه صاحب هذا الأثر ، هذا أثر من ؟ الطائر متعلم ؟ درس جامعات ؟ لا شك أن الطائر ليس هو صاحب الأثر ، وليس لدى الطائر أي معلومات عن التصميم ، ولا عن الدينامكية الهوائية ، بل يولد فرخاً بلا شعور
يستخدم الجناح الذي أوجده له خالقه أثناء وجوده في البيضة ، ولا يستطيع أن يضع جناحاً مختلفاً في نفسه حتى لو أراد ذلك ، مع أنه بالأصل أعطي الجناح بحسب حاجته ، والتفكير في وجود هذا التصميم ، نتيجة مصادفات عمياء نتيجة تفسير أعمى غير منطقي ، قال تعالى :
﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
الطيور واحدة من التجليات الكثيرة لعلم الله وحكمته التي لا حدود لها في الأرض :
إذا دققنا في بنية أجسام الطيور وأجنحتها ، ذلك لأن هناك معجزات مهمة مخفية في تفاصيلها ، الآن أجسام الطيور صممت بأخف الأشكال الممكنة ، فالطيور ذات عظام أقل بالنسبة للكائنات البرية بالإضافة إلى أن هذه العظام ليست صلبة ، ولا كثيفة كما في الكائنات البرية ، بل على العكس ، فعظامها مفرغة من الداخل ، والعوارض المتقاطعة المنسقة داخل العظام تجعل هيكل الطائر متيناً جداً الطائرة يجب أن تكون خفيفة ، ويجب أن تتحمل كل الظروف الجوية الصعبة ، ويجب أن تملك طاقة كبيرة ، تصميم الريش في الطائر شيء محير ، بنية ريش الطائر الذي يبدو بسيطاً في الظاهر ، معجزة في تصميمه ، فداخل كل ريشة آلاف الرويشات الصغيرة ، المرتبة بشكل تقاطعي ، هذه الرويشات الصغيرة مرتبط بعضها ببعض بصنارات مجهرية تكوّن بهذا سطحاً أملساً خفيفاً ، فهذا التصميم الذي لا نظير له ذو آلاف التفاصيل المجهرية داخل ريشة واحدة فقط ، لا تعود إلى الطبيعة بلا شك ، ولا إلى المصادفات العمياء ، ولا إلى الطائر نفسه ، بل تعود إلى الله رب العالمين ، هو الذي خلق الطيور بخصائصها كلها ، وهذه الكائنات واحدة من التجليات الكثيرة لعلم الله وحكمته التي لا حدود لها في الأرض .
الطائر الطنان نوع مدهش من الطيور يتميز بـ :
1 ـ أجنحته الدقيقة و الحادة كالسكين تشكل تيار هواء بحركاته السريعة :
تحلق الطيور أحياناً في الجو أثناء طيرانها ، مستفيدة من الرياح ، إلا أن هناك نوعاً مدهشاً من الطيور يطير دون أن يستخدم الرياح أبداً ، إنه الطير الطنان ، أجنحة هذه الطيور معجزة أخرى للخلق ، أنظمة الطيران لديها مختلفة تماماًً عن الطيور الأخرى ترفرف بجناحيها 25 مرة في الثانية الواحدة ، بسبب هذا لا تدرك عين الإنسان حركة جناح الطير أبداً ، ولرؤية هذا النظام الرائع يلزمنا إبطاء حركة آلة التصوير
قد نصور الطائر بفيلم ، ثم نبطئ الحركة ، الأجنحة الدقيقة والحادة كالسكين تشكل تيار هواء بحركاته السريعة نحو الأسفل تماماً ، كما يفعل الإنسان بالمروحية ، فالمروحة في المروحية تدور حول قضيب معدني ثابت ، تشكل تياراً هوائياً باتجاه الأسفل ، الهواء المدفوع للأسفل يرفع المروحية للأعلى ، مبدأ طيران الطنان يشبه إلى حدّ كبير الطائرة المروحية ، يصنع تياراً نحو الأسفل يستطيع هذا الطائر أن يقف في الجو من دون تيار هوائي إطلاقاً .
2 ـ تقدمه للأعلى و الأسفل و الأمام و الخلف بتغير زاوية جناحيه :
شيء آخر : يستطيع بتغير زاوية جناحيه أن يتقدم للأعلى ، والأسفل ، والأمام والخلف ، رفرفة الطنان بجناحيه 25 مرة في الثانية ، وعدم تضرره منها أبداً يحير جداً ، لا يستطيع الإنسان أن يحرك ساعديه في الثانية إلا مرة واحدة ، فإذا أجري هذا العمل بمساعدة آلة لو ربطنا اليد بآلة وحركنها 25 ثانية لاحترقت العضلات ، أما هذا الطائر 25 رفة بالثانية وعضلاته سليمة .
3 ـ الطنان ذو خلقة رائعة من أعقد آلات الطيران والأكثر تفوقاً في العالم :
شيء آخر : عصفور الطنان ذو خلقة رائعة ، فمع خفق جناحيه ملايين المرات دون توقف لا يحصل أي عطل في
عضلاته
هذا الطائر الصغير واحد من أعقد آلات الطيران والأكثر تفوقاً في العالم ، إنه معجزة وحده ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد .
خاتمة وتوديع:
الأستاذ عدنان :
فيما ذكرت دكتور تتوالى ملامح الرفق من الله تعالى بخلقه ، وما أجدرنا أن نكون في قبول هذا الرفق معانين له ، ومتفهمين له ، لنكون على الطريق الحق ، والنهج القويم .
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .