- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، مشاهدي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرحب بكم في برنامج:" مكارم الأخلاق"، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم.
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً.
الأستاذ عدنان:
دكتور، كما تعلمون أن الإنسان في هذه الحياة وفي الكون له حقيقة، الحقيقة هي في أنه هو المخلوق الأول، وهو المخلوق المكرم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾
تُرى ما حقيقة هذا المخلوق؟ ما حقيقة الإنسان بشكلٍ عام؟.
الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم والمكلف بعبادة الله عز وجل :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الحقيقة أن الإنسان كما تفضلتم هو المخلوق الأول، لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
هذا الإنسان لأنه قَبِل حمل الأمانة، كان عند الله المخلوق الأول، لذلك:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
تسخير تعريفٍ وتسخير تكريم، تسخير التعريف يقتضي أن يؤمن، وتسخير التكريم يقتضي أن يشكر، فإذا آمن وشكر حقق الهدف من وجوده، قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
والإنسان كما تفضلتم هو المخلوق المكرم:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
والإنسان أيضاً هو المخلوق المكلف، كُلف أن يعبد الله عز وجل، والعبادة في أدق تعاريفها، طاعةٌ طوعية وليست قسرية، ممزوجةً بمحبةٍ قلبية، فمن عبد الله ولم يحبه ما حقق الهدف من العبادة، من أطاع الله ولم يحبه ما عبده، ومن أطاعه ولم يحبه ما عبده، ومن أحبه ولم يطعه ما عبده، إذاً الإنسان هو المخلوق الأول، والمخلوق المكرم، والمخلوق المكلف بعبادة الله عز وجل.
الأستاذ عدنان:
لماذا في النهاية أنه ظلومٌ وجهول؟.
من قَبِل حمل الأمانة فهو عند الله من المقربين :
الدكتور راتب:
الحقيقة أنه قَبِل حمل الأمانة، فإذا أدى هذه الأمانة كما أراد الله ليس ظلوماً، وليس جهولاً، وهناك من يحمل الكلمتين الأخيرتين في الآية على أنهما استفهام إنكاري، هذا الذي قَبِل حمل الأمانة، وطمع أن يكون عند الله من المقربين، وطمع في:
﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾
هل يكون ظلوماً جهولاً؟ لا، لكن إذا قبل حمل الأمانة، ثم خان الأمانة، ولم يتعرف إلى الله، ولم يحمل نفسه على طاعة الله:
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
فحينما تؤدى الأمانة، ليس ظلوماً ولا جهولاً، أما إذا لم يؤدِ الأمانة هو في الحقيقة ظلومٌ وجهول.
الأستاذ عدنان:
الإنسان بحدِّ ذاته، هل يشعر كل إنسانٍ في هذا الكون أنه حُمّل هذه الأمانة؟.
كل إنسان فُطر فطرة تتناسب مع منهج الله عز و جل :
الدكتور راتب:
طبعاً، يشعر بهذه الأمانة حينما فُطر في أصل بنيته الخلقية على منهج الله، فلمجرد أن يخالف الإنسان منهج ربه، يشعر بانقباض وضيق، وهذا سنأتي عليه في حلقة أخرى إن شاء الله، الإنسان فُطر فطرةً تتناسب مع منهج الله عز و جل، قال تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
نعود إلى تعريف العبادة: هي طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية.
لكن الحقيقة أن الإنسان خلق للجنة، لذلك قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، لا يزيدون عند الله عن نموذجين، النموذج الأول: الإنسان أيقن أنه مخلوقٌ للجنة، لذلك اتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على دفع ثمن الجنة، وهو العمل الصالح، فصفة المؤمن في أي مكان، وفي أي زمان هو هذه الصفة، هي اليقين أن الجنة هي محط الآمال، ومنتهى الرحال، وأن الجنة دفع ثمنها في الأرض، يأتي إلى الأرض ليدفع ثمنها، لذلك في الأرض يتقي أن يعصي الله، وفي الأرض يبني حياته على العطاء.
أخصّ خصائص المؤمن يقينه بالآخرة وضبطه لشهواته :
لو سألتني عن أخصّ خصائص المؤمن، يقينه بالآخرة وضبطه لشهواته، ونحن نتحدث عن مكارم الأخلاق، وأبرز
صفةٌ في مكارم الأخلاق ضبط الشهوات ثم العمل الصالح
إذاً العمل الصالح هو ثمن الجنة، والاستقامة أي ضبط الشهوات وفق منهج الله هذا الطريق يكون سالكاً إلى الله، ثم اليقين أن الإنسان خُلق للجنة،
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
تصديقه بالحسنى ـ والحسنى هي الآخرة ـ دفعه إلى أن يتقي أن يعصي الله، أي استقام على أمر الله، أي جعل الطريق سالكاً إلى الله، أما الحركة على هذا الطريق فهي العمل الصالح، أعطى من ماله، من علمه، من وقته، من خبرته، من كل ما رزقه الله عز و جل، ثم استقام على أمره لأنه أيقن أنه مخلوقٌ للجنة، وأن هذه الدنيا سماها الله حياةً دنيا، لأن بعدها حياةً عليا، حياة عليا أي فيها:
(( ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
الأستاذ عدنان:
حتى يكون الإنسان ضمن هذا التوجيه ألا يحتاج إلى فكرٍ وعقلٍ يفكر به؟ وإلى هذه العاطفة الدينية والإيمان وما إلى ذلك؟.
الله عز وجل ميّز الإنسان بأنه أودع فيه قوة إدراكية :
الدكتور راتب:
الحقيقة أستاذ عدنان، أن الجماد كائن يشغل حيزاً، وله وزن، وله أبعادٌ ثلاثة، هذا الجماد، بينما النبات كائنٌ له وزن ويشغل حيزاً، وله أبعادٌ ثلاثة، لكنه ينمو، يختلف عن الجماد أنه ينمو
بينما الحيوان كائن يشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، وله وزن وينمو كالنبات، ويمتاز عن النبات أنه يتحرك، النبات لا يتحرك، ينمو ولا يتحرك، الحيوان ينمو ويتحرك، أما الإنسان فكائنٌ يشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، وله وزن، وينمو، ويتحرك، ويفكر، ميّز الله الإنسان بأنه أودع فيه قوةٌ إدراكية، فما لم تُلبَ هذه الحاجة العليا هبط عن مستوى إنسانيته، قال تعالى:
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
ما لم تلبَ الحاجة العلوية في الإنسان، معرفة الله، معرفة الحقيقة، معرفة منهج الله، ما لم تلبَ هذه الحاجة العليا هبط عن مستوى إنسانيته، في الإنسان حاجات سفلى كالطعام، والشراب، والزواج، وما إلى ذلك، لكن حاجته العليا أن يعرف الحقيقة، لذلك هو قد أودع فيه قوةٌ إدراكية.
الأستاذ عدنان:
حتى إن هذه الأشياء الدنيا يمكن أن تسخر لخدمة الحاجات العليا أيضاً؟.
كل شيءٍ في الدنيا حيادي لأن الإنسان في الأصل مخير :
الدكتور راتب:
طبعاً، النقطة الدقيقة في هذا السؤال جزاك الله خيراً، أن كل شيءٍ في الدنيا حيادي، لأن الإنسان في الأصل مخير، فيمكن أن يستخدم الطعام والشراب ليتقوى بهما على طاعة الله، ويمكن أن يتزوج ليتقوى بالزواج على طاعة الله، ويمكن أن يعمل ليكسب رزقاً حلالاً يكفيه مؤونة السؤال، إذاً كل شيءٍ خلقه الله في الدنيا حيادي، لأن الإنسان في الأصل مخير، بل إن حظوظ الإنسان حيادية، بل إن شهوات الإنسان حيادية، بل إن خصائص الإنسان حيادية، ما دام الإنسان مخيراً، فكل خصائصه، وكل حظوظه، وكل شهواته، حيادية، لذلك يرقى بأنه استخدم المال في العمل الصالح لا في إيقاع الأذى بين البشر.
إذاً قضية الإنسان أنه فيه جانبٌ إدراكي، و جانب شهواني، ومعه منهج، أستاذ عدنان، تماماً كالمركبة فيها محرك، ماذا يفعل المحرك؟ يعطي المركبة قوة الدفع، لكن لا بد من مقود، وإلا كان حادثٌ أليم، المقود هو العقل، ولابدّ من طريقٍ تمشي عليه المركبة إنه الشرع و المنهج، فالمحرك يتحرك، والعقل يضبط هذه الحركة، والطريق هو الشرع، فأي إنسان إن دفع بشهواته من دون عقل كان مصيرهُ الدمارُ و الهلاك.
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
الكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى :
الحقيقة، الإسلام العظيم أعطى الإنسان تفسيراً عميقاً، دقيقاً، متناسقاً، للكونِ والحياة و الإنسان، نعمةُ المؤمن الذي عرف الله، وقرأ كتابه، أنه يملك تفسيراً صحيحاً، وعميقاً، ودقيقاً، ومتناسقاً للكون والحياة والإنسان، الكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، الكون كل ما فيه ينطق بوجود الله، وكماله، ووحدانيته، الكون طريق معرفة الله، لأنه قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ يمشي، فالكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، الكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فمن خلاله نتعرف إلى الله، وهو أكبر شيءٍ ثابتٍ في الإيمان، دعك من اختلاف الديانات، دعك من اختلاف اللغات، دعك من اختلاف العروق والأجناس، هذا الكون ثابت فيه علم، وفيه حكمة، وفيه رحمة، وفيه قوة، وفيه عدل، فهذه المظاهر التي تبدو من خلال هذا الكون هي تعريفٌ بالله عز و جل، لذلك قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
هذا هو الكون.
الأستاذ عدنان:
حسناً دكتور، أنا أعود للمثل الذي بينتهُ و طرقته قبل قليل، سيارة فيها مقود، الإنسان يديرُ المقود، والعقل هو المحرك أو القوة الدافعة، بعد ذلك الطريق هو المنهج، ألا يمكن أن يكون الطريق سلساً، جيداً، وبالمقابل يمكن أن يكون عسيراً؟ وكذلك المحرك يمكن أن يكون مضبوطاً، قوياً، ويمكن أن يكون ضعيفاً، والسائق قد يسهو أحياناً، وقد ينتبه أحياناً أخرى، ترى هل هذه الأمور تنطبق فعلاً على الإنسان، من حيث إن عقله يمكن أحياناً أن يضبط سلوكه، وأحياناً يمكن للشهوة أن تتغلب على عقله، ويمكن أن يكون أحياناً طريق العبادة، طريق التعرف إلى الله تعالى، فيه شيء صعب على الإنسان، من خلال اعتقاده، من خلال إيمانه، ويسهل الطريق ويصعب من خلال ما يمكن أن يجده الإنسان في ذاته.
طريق الله طريق مستقيم واضح المعالم :
الدكتور راتب:
الحوادث المروعة في الطرقات، سببها السُّكر أحياناً، حينما يتعطل العقل يكون الحادث المروع، وحينما ينطلق المحرك من دون ضابط يكون الحادث المروع، وحينما نختار طريقاً متعرجاً، هذا طريق الشهوات، وطريق الانحلال والانحراف، هذا الطريق متعرج ومنحرف، وطريق وعر، وفيه أكمات، وفيه حفر، أما حينما تختار طريق الله فاستقم إليه، طريق الله طريق مستقيم، واضح المعالم، فيه إشارات، فيه علامات:
﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾
والمحرك قوي، والمقود محكم، عندئذٍ السلامة محققة، أستاذ عدنان البشر على اختلاف أجناسهم فطروا على حبّ وجودهم، وعلى حبّ سلامة وجودهم، وعلى حبّ كمال وجودهم، هذا شيء من جبلة الإنسان ولا يأتي الشقاء إلا من الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تسخير تكريم :
إذاً: الكون مسخر لهذا الإنسان، تسخير تعريف وتكريم، تماماً كما لو قدم لك صديقٌ متفوق في اختراع الآلات هاتفاً فيه ميزات رائعة جداً، قدمه لك هديةً، فأنت يحتمل في نفسك شعوران، الأول شعور الإكبار لهذا الإنجاز، و الثاني شعور الامتنان لأنه قدم لك هديةً.
فالكون مسخر لهذا الإنسان ـ ولله المثل الأعلى ـ تسخير تعريف وتكريم، ردّ فعل التعريف أن نؤمن، وردّ فعل التكريم أن نشكر، فلمجرد أن تعرف الله، وأن تشكره، حققت الهدف من وجودك:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
أما هذه الحياة الدنيا هي دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، لأن الرخاء مؤقت والشقاء مؤقت، قد جعلها دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، إن أسعد الناس في الدنيا من عرف حقيقتها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، ذلك أن الإنسان حينما يسهو عن مغادرة الدنيا، ويضع كل آماله في الدنيا، ويضع كل البيض في سلةٍ واحدة، هو يغامر ويقامر لأنه قد يفقد حياته في ثانية، فإذا كلّ الذي حصّله وراء ظهره.
الدنيا جسرٌ للآخرة :
لكن المؤمن حينما عرف أن بعد هذه الحياة الدنيا آخرة، وأن السعادة سعادة الآخرة، وكما قال الإمام عليٌ رضي الله عنه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله " حينما نقل المؤمن اهتماماته إلى الدار الآخرة، عندئذٍ أصاب وأفلح ونجح وتفوق.
لذلك الدنيا جسرٌ للآخرة، الدنيا ليست مقراً بل هي ممر، الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له، الإنسان يفقد حياته بثانية، أي كل مكانته، وعظمته، وهيمنته، وحجمه المالي، وحجمه الكبير في المجتمع، مبني على قطر الشريان التاجي، فإذا ضاقت هذه اللمعة دخل في متاعب لا تنتهي، الإنسان قيمته في سيولة دمه، فإذا تجمدت قطرةٌ من الدم في أحد فروع شرايين الدماغ أصبح معه خثرة، فقد حركته، فقد نطقه، فقد ذاكرته، والإنسان كل مكانته متعلقة بنمو الخلايا، فإذا نمت نمواً عشوائياً فقد حياته، فالذي لا يعرف الله يغامر، ويقامر، ويشعر بخسارةٍ لا توصف.
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِم ْيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
والخسارة مؤلمة جداً.
من اتبع هواه وفق منهج الله لا شيء عليه :
لذلك التكيف هو أعلى درجة في الذكاء، أن تتكيف مع المصير المحتوم لا أن تقعد عن العمل، لك أن ترقى إلى أعلى مستوى، ولك أن تؤسس عملاً، ولك أن تؤسس مشروعاً، ولك أن تنال دكتوراه، لكن وفق منهج الله، أنت مطمئن لأن الله عز و جل يقول:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
فالذي يتبع هواه وفق منهج الله لا شيء عليه، هذا هو الكون، والحياة دار عمل وليست دار أمل، دار تكليف وليست دار تشريف، دار سعي وليست دار استرخاء، لذلك من عرف حقيقة الدنيا جعلها مع أوراقه الرابحة، ومن لم يفهم حقيقة الدنيا كانت مع أوراقه الخاسرة، أما الإنسان هو المخلوق الأول ـ كما تفضلتم في بداية الحلقة ـ والمخلوق المكرم، والمخلوق المكلف، مكلف بعبادة الله عز وجل، لكن العبادة بمفهومٍ شائع مفهومٍ سطحي، أن تصلي، وتصوم، وأن تحج، وأن تزكي، لكن العبادة لها مفهوم أعمق بكثير، العبادة انصياع لمنهج الله.
من عَبَد الله سعد بقربه في الدنيا و الآخرة :
أي ملخص وملخص الملخص: أنك إذا عبدت الله سعدت بقربه في الدنيا والآخرة، تعرفه فتطيعه فتسعد بقربه، وطاعته منهج تفصيلي، ليست عبادات شعائرية افعل ولا تفعل في كل شيء، ما من حركةٍ ولا من سكنةٍ إلا ولها حكمٌ شرعي، فأنت آلة معقدة جداً، ولك صانعٌ عظيم، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة، فانطلاقاً من حبك لذاتك، وانطلاقاً من حرصك على سلامتك، يجب أن تطيع الله.
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
الأستاذ عدنان:
دكتور هذا الكلام جميل، وكل من يستمع إلى هذا الكلام يقول: الحقيقة يجب أن يكون الإنسان مؤمناً، مع هذا نجد في الدنيا المؤمنين ونجد غيرهم، كيف يكون هذا؟.
العقل أداة معرفة الله :
الدكتور راتب:
الإنسان حينما يعطل عقله، العقل أداة معرفة الله، حينما يجعل عقله تبريرياً أي كلما انحرف في سلوكه استنجد بعقله ليعطيه غطاءً لانحرافه، حينما يكون العقل تبريرياً يكون السلوك منحرفاً، فلذلك العقل من دون وحي كالعين من دون ضوء تماماً، فالعقل وحده من دون وحي يهتدي به كالعين التي لا قيمة لها إطلاقاً من دون وسيطٍ بينها وبين الأشياء.
الأستاذ عدنان:
هذا توضيح جميل، أستطيع إذاً أن أقول: إن الإنسان إذا لم يكن على طريق أن يُعمِلَ عقله، وأن يضبط حركته، وأن يسير على الطريق المستقيم، فإنه في هذه الحالة يكون فعلاً المخلوق الغير مؤهل لدخول الجنة، ودخول الجنة لها ثمنٌ في هذه الحياة الدنيا كما تفضلتم يجب أن يقدمه الإنسان، ضمن هذا المشوار ـ إن صحّ القول ـ الطويل لحياة الإنسان لا من خلال عمره ولكن من خلال الترتيبات التي يجب أن يسلكها في حياته، أستطيع أن أقول: من عظمة الله تعالى ومن قدرته أشياء كثيرة، إن أشياء كثيرة من عظمته وقدرته يجب أن يتعرف إليها الإنسان، ومتى تعرف إليها فإنه يصل إلى السلامة بإذن الله، هذا يحتاج إلى آياتٍ بيناتٍ لهذا الأمر، كيف ندركها؟ كيف نتعرف إليها؟ كيف تنتقل بنا في الحقيقة إلى أشياء في حياتنا تدلنا على الخالق، ونسير من خلالها السير السليم الصحيح في حياتنا الدنيا؟ وهناك أمثلةً عديدة يمكن أن نتابعها معكم.
الموضوع العلمي :
معجزة خالق الأكوان في خلق الإنسان :
الدكتور راتب:
أستاذ عدنان، يقول الله جلّ جلاله:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
والموضوع اليوم معجزة خالق الأكوان في خلق الإنسان، فهناك رحلةٌ زمنيةٌ قصيرة مرّ بها الإنسان، ولنرجع مدةً إلى الماضي وندقق معاً في هذه الحكاية الرائعة المليئة بالمعجزات، ولنشاهد عظمة الله في خلق الإنسان، كان الإنسان خليةً واحدة في بطن الأم ومحتاجٌ إلى حمايةٍ، وهو أصغر من حبيبة ملحٍ واحدة.
والآن أنتم أيها الأخوة المشاهدون تتحركون في الحياة الدنيا بحركةٍ رائعةٍ، كنا جميعاً خليةً واحدة أصغر من حبيبة الملح، مثلما كان كل الناس على وجه الأرض، وقد انقسمت هذه الخلية وأصبحت اثنتين، ثم انقسمت مرةً أخرى وأصبحت أربع خلايا، ثم ثماني ثم ست عشرة، واستمرت الخلايا بالتكاثر، ثم ظهرت أول قطعة لحمٍ، ثم أخذت قطعة اللحم هذه شكلاً وأصبح لها يدان، ورجلان، وعينان، الخلية الأولى كُبّرت مئة مليار ضعف، وأخذت وزناً بستة مليارات ضعف، فالتي كانت قطرة ماءٍ فقط بالسابق، أجرى الله فيها معجزاتٍ عدة، فخلق منها الإنسان الذي يتابع هذا المشهد، قال تعالى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾
الحقيقة أن خلق الإنسان أحد أكبر الآيات الدالة على عظمة الله، وكل إنسانٍ خُلق هكذا، ويتابع خلق ابنه من خلال أقرب الناس إليه، فالابن يشهد على عظمة الله عز وجل، الناس المنغمسون في نزعة الحياة الدنيا يسيرون لا مبالين بالمعجزة المهمة المتحققة أمام أعينهم، هذه المعجزة هي خلق الإنسان.
رحلة البويضة في رحم الأم من آيات الله الدالة على عظمته :
الحقيقة: تبدأ أول مرحلةٍ في معجزة الخلق بنضج الخلية ـ خلية البويضةـ في عضوٍ في جسم المرأة يسمى المبيض، هناك رحلةٌ طويلةٌ أمام البويضة الناضجة، سوف تدخل أولاً قناة فالوب، وهنا ستقطع مسافةً طويلةً حتى تصل إلى الرحم، تبدأ قناة فالوب بالحركة للإمساك بالبويضة، الحقيقة هناك أشياء مدهشة في خلق الإنسان، وهذه المشاهد مأخوذة بمناظير دقيقة جداً في جسم المرأة، فتبدأ قناة فالوب بتمهيد طريقٍ لهذه البويضة، فتمسك البويضة الناضجة قبل خروجها من المبيض بمدةٍ قصيرة، وتحاول إيجاد خلية عن طريق لمساتٍ خفيفة على المبيض، ونتيجةً لهذا البحث تجد قناة فالوب البويضة الناضجة وتسحبها لداخلها، وحينئذٍ تبدأ رحلة خلية البويضة، يتوجب على البويضة قطع طريقٍ طويلٍ عبر قناة فالوب، لكن ليس لها أي عضوٍ يُؤَمن لها قطع هذا الطريق، كالزعانف، أو الأرجل، ولهذا خلق لرحلتها نظامٌ خاص، نظامٌ رائعٌ جداً، فقد وظفت ملايين الخلايا التي توجد في السطح الداخلي لقناة فالوب لإيصال البويضة إلى الرحم، تحرك الخلايا هذه الشعيرات الموجودة على السطح الداخلي لقناة فالوب لإيصال البويضة إلى الرحم، وهذه الشعيرات تحرك البويضة على سطحها ونحو الرحم باستمرار، وهكذا تُحمل خلية البويضة من يدٍ إلى يد إلى الجهة التي يجب ذهابها نحوها كحملٍ ثمينٍ جداً، عندما ندقق في هذه الشعيرات نجدها قد نسقت في المكان والشكل الذي يجب أن تكون عليه ضمن خطةٍ ذكيةٍ جداً، وتقوم معاً بحركة نقلٍ إلى الجهة نفسها، وكأنها آلةٌ مبرمجةٌ لذلك، فلو لم يقم قسمٌ من هذه الخلايا بمهمته، أو قام بنقلها إلى جهاتٍ مختلفة، لن تصل البويضة إلى هدفها، ولا تتحقق الولادة أبداً، ولكن خلق الله تامٌ، فكل خليةٍ تنفذ مهمتها التي أوكلت إليها دون أي خطأ.
وهكذا تتقدم إلى المكان المجهز خصوصاً لأجل البويضة أي إلى رحم الأم، لكن خلية البويضة المنقولة بدقة بهذا الشكل عمرها لا يتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، وتموت ما لم تلقح في هذه المدة، وتحتاج إلى المواد الحياتية للتلقيح، النطفة تأتي من جسم الرجل، الحقيقة هذه المشاهد التي ترونها هي مشاهد أُخذت بآلات دقيقة جداً مجهرية، فلابد أن نعظم خالقنا وربنا الذي خلقنا.
﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾
ومن نطفةٍ لا ترى بالعين، وإن شاء الله هناك أبحاثٌ أخرى حول خلق الإنسان، تقدر في الإنسان عظمة الله عز و جل.
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
فسبحان الله إنه:
﴿ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
ترى هل عرف الإنسان حقيقته ونفسه ليسلك السبل التي ذكرتموها في البداية المؤدية إلى الجنة؟ نرجو الله تعالى.
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي، في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة وأصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.