- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
الأستاذ عدنان:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، مشاهديَ الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونرحب بكم في هذه الحلقة من برنامج: "مكارم الأخلاق"، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم.
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان، جزاك اللهُ خيراً.
الأستاذ عدنان:
دكتور، التفكر بمخلوقات الله، بآيات الله، بما حولنا، هذا التفكر يقودنا إلى معرفةِ حقيقتنا، وإلى معرفةِ وجودنا، من خلال أننا عبادٌ لله تعالى، هذه المعرفة تؤكد فينا الأخلاق، وتؤكد فينا مكارمها، وتؤكد سيرنا على الصراط الحق، والنهج القويم، والتفكر هذا يمكن أن يكون كما في منطوق الآية الكريمة:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
الأفاق أولاً، ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما في النفوس، يمكن أن نتابع؟.
التفكر هو السبيلُ إلى معرفة الله عز وجل :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ عدنان، الله عز و جل يقول:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ ﴾
جاءت يتفكرون بصيغة المضارع، أي أنهم يتفكرون طوال حياتهم.
﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
إذاً: كأن التفكر هو السبيلُ إلى معرفة الله.
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾
فالله عز و جل له آيات كونية، وله آيات تكوينية أفعالهُ، آياته الكونية خلقه، آياته التكوينية أفعاله، ولهُ آياتٌ قرآنية كلامه، فالتفكر بآيات الله الكونية والتكوينية والقرآنية طريقٌ لمعرفة الله، وأصل الدين معرفة الله.
آيات الله زمرتان؛ آياته في الآفاق و آياته في خلق الإنسان :
كما تفضلتم حينما قالَ اللهُ عز و جل
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
فيمكن أن تقسم آيات الله إلى زمرتين كبيرتين؛ آياتُ اللهِ في الأفاق، في الكون، في الشمس، في القمر، في المجرات، في النجوم، في الليل، في النهار، وآيات الله في خلق الإنسان وفيما حولهُ.
لذلك لو أردنا أن نبدأ ببعض آيات اللهِ في الأفاق الدالة على عظمته، أستاذ عدنان بيننا وبين أقرب نجم ملتهب إلى الأرض أربع سنواتٍ ضوئية، ولكي يعلم أخوتنا المشاهدون ما معنى سنة ضوئية؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، فكم يقطع في الدقيقة؟ ثلاثمئة ألف ضرب ستين، كم يقطع في الساعة؟ ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين، كم يقطع في اليوم؟ ضرب أربع وعشرين، كم يقطع في العام؟ ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، كم يقطع في أربع سنوات؟ ضرب أربع، و أي طالب من طلابنا على آلة حاسبة ثلاثمئة ألف ضرب ستين، ضرب ستين، ضرب أربع وعشرين، ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، ضرب أربع، معه رقم كبير جداً، هذا الرقم هو المسافة بيننا وبين أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض، عدا المجموعة الشمسية، بيننا وبينهُ أربع سنوات ضوئية، لأن الشمس أيضاً ملتهبة، لكن بيننا وبينها ثماني دقائق ضوئية فقط، أما أقرب نجم عدا المجموعة الشمسية بعده عنا أربع سنوات ضوئية، هذا الرقم الكبير لو قسمناه على مئة، ما معنى مئة؟ أي أننا ركبنا مركبةً أرضية، وسرنا افتراضاً باتجاه هذا النجم، لو قسمنا هذا الرقم على مئة الناتج كم ساعة نحتاج إلى أن نصل؟ لو قسمناه على أربع وعشرون، كم يوم؟ على ثلاثمئة وخمسة وستين، كم سنة؟ نحتاج إلى خمسين مليون عام بمركبةٍ أرضية كي نصل إلى أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض، الآن السؤال: متى نصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية؟ الأربع سنوات خمسين مليون عام، متى نصل إلى مجرة المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية؟ بل متى نصل إلى نجمٍ اكتشف حديثاً يبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية؟ الآن نفتح القرآن الكريم لنقرأ قوله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
التفكر أحد الأسباب الفعالة في معرفة الله عز و جل :
لذلك:
﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
وكلمة إنما تعني: أن العلماء وحدهم ولا أحدَ سواهم يخشى الله، من تفكر في خلق السماوات والأرض عرفَ عظمة الله، وبقدرِ معرفتك لله تطيعه، وبقدرِ جهلِ الإنسان بالله يعصيه، لذلك لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر على من اجترأت:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
ولكن أستاذ عدنان، هناك نقطة دقيقة جداً، أن في هذه الآية كلمة لو قرأها عالم فلكٍ لخرَ ساجداً لله، كلمة مواقع، لأن هذا النجم كانَ في هذا المكان، وصدر منه هذا الضوء، وبقي هذا الضوء يمشي في الفضاء الخارجي عشرين مليار سنة، حتى وصل إلينا، أما هذا النجم الذي أصدر هذا الضوء سرعته تقترب من سرعة الضوء، أي ما يقدر بمئتين وأربعين ألف كيلومتر بالثانية، أي من عشرين مليار سنة يسير هذا النجم بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر بالثانية، أين هو الآن؟ إذاً هذا المكان ليسَ نجماً هذا موقع النجم، كلمة موقع تعني أن صاحب الموقع ليس في الموقع، هنا الإعجاز، لو تصورنا أن الآية فلا أقسم بالمسافات بين النجوم، هذا ليس قرآناً، أما:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
النجم متحرك أصدر هذا الضوء وتابع حركته، إذاً هذا المكان الذي صدر منه الضوء هو في الحقيقة موقعٌ للنجم وليس نجماً، هذه آية، هذا من إعجاز القرآن الكريم العلمي،
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
التفكر أحد الأسباب الفعالة في معرفة الله عز و جل.
الأستاذ عدنان:
دكتور، شيءٌ آخر: عندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ﴾
لو قال قائل: صحيحٌ أن ما تكلمت به شيءٌ كبير وعظيم وملفت، بل ويكاد أن يستحوذ على فكر الإنسان، لكن مع هذا كله ليس هذا كل شيء.
نعم الله عز وجل لا نهائية :
الدكتور راتب:
نعم الله عز وجل لا نهائية، لا تنتهي عظمته عند حدٍّ، هو الكون عندنا لا نهائي فكيف بخالقه؟ هناك نقطة ثانية أن الله سبحانه وتعالى ذكر آياتٍ كثيرة في القرآن الكريم قال مثلاً:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
أستاذ عدنان، الأرض في دورتها حول الشمس تمر باثني عشر برجاً، طبعاً قضية البروج وعلم الغيب هذه خرافة غير مقبولة إطلاقاً.
(( من أتى كاهناً فصدقة بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ))
أما البروج بالمفهوم العلمي هناك مجموعة نجوم، عددها اثنا عشر برجاً، تمر بها الأرض في دورتها حول الشمس، من هذه الأبراج برج العقرب.
الآن نقف قليلاً لنمهد لهذه الآية، الحقيقة أن بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر بين الأرض والشمس، يقطعها الضوء في ثماني دقائق، الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي أن جوف الشمس يتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض، إذاً الحجم يفوق حجم الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، والمسافة بين الأرض والشمس تصل إلى مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر.
أما في برج العقرب الذي ذكرته قبل قليل، وهو أحد أبراج السماء، وقد أُشير إليه في قوله تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
هذا البرج فيه نجم صغير أحمر متألق اسمه قلب العقرب، هذا النجم يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، قلب العقرب يتسع للأرض والشمس التي تكبرها بمليون وثلاثمئة ألف مرة مع المسافة بينهما، أهذا الإله العظيم يٌعصى؟ أهذا الإله العظيم ألا يخطب وده؟ ألا ترجى جنته؟ ألا تخشى ناره؟
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
الأستاذ عدنان:
دكتور حبذا لو توقفنا قليلاً عند هذه الآية الكريمة، إننا نجد بعض العلماء متخصصين، ومع هذا أكاد أقول لا تشملهم هذه الآية الكريمة، فهل هم فعلاً علماء أم الإطلاق في هذه الناحية؟
الإيمان قرارٌ داخلي :
الدكتور راتب:
الحقيقة هناك آلة تصوير ثمنها مليون ليرة مثلاً، لكن لا يوجد بها فيلم، فكل هذه المناظر الرائعة لا شيء، فالذي طلب الحقيقة يوجد بعقله فيلم، هذه الحقائق تنطبع على هذا الفيلم فيتأثر بمعرفة الله، أما الذي أراد الشهرة، أراد المال، أراد
الدنيا فقط
هو لم يرد أن يعرف الله، بينما أنشتاين أحد أكبر علماء الفيزياء يقول: كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، رحيمةً هي أرحم ما تكون، هو إنسانٌ حي ولكنه ميت.
أي الإنسان له هدف، إذا كان هدفه الشهرة والمال لم يرد معرفة الله أبداً، قد يعرف الإنسان ربه من آثار أقدام، الأقدام تدل على المسير، قد يعرف ربه من أشياء قريبة جداً من حياته، بينما لا يعرف من هو في محطة فضائية ربه لأنه لم يرد معرفته، أحياناً إنسان يعمل على مجهر إلكتروني، يرى الخلية بدقائقها، لكنه لا يعرف الله لأنه لم يرد معرفته، فالإيمان قرارٌ داخلي نتخذه أولاً، فإذا اتخذناه كل شيءٍ يدلنا على الله، وإن لم نتخذه لو كنا من أعلم علماء الأرض وأردنا الدنيا، قد نصل إليها.
﴿ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾
آيةٌ ثالثة تدل على عظمة الله عز وجل :
هناك آيةٌ ثالثة تدل على عظمة الله، الأرض في دورتها حول الشمس، سرعتها ثلاثون كيلو متراً في الثانية، نحن في هذا اللقاء قطعنا عشرات ألوف الكيلو مترات، في كل ثانية ثلاثون كيلو متراً تقطع الأرض في رحلتها حول الشمس، لكن مسارها حول الشمس مسار بيضوي وليس دائرياً، والشكل البيضوي له قطران، قطر أصغر، وقطر أطول، فالأرض إذا انتقلت من قطرها الأطول إلى قطرها الأصغر تقل المسافة بينها وبين الشمس وقانون الجاذبية معروف، الجاذبية متعلقة بالمسافة والكتلة، فالكتلة ثابتة، والمسافة متبدلة، إذاً يمكن أن تنجذب الأرض إلى الشمس فتنتهي معها الحياة، قال بعض العلماء: إذا دخلت الأرض في الشمس تبخرت في ثانيةٍ واحدة، لأن حرارة جوف الشمس عشرون مليون درجة، لذلك لئلا تنجذب الأرض إلى الشمس وقد وصلت المسافة القريبة، ماذا تفعل؟ ترفع الأرض من سرعتها، لينشأ من رفع السرعة قوةٌ نابذة تكافئ القوة الجاذبة الجديدة، فتبقى في مسارها.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾
أي أنها تنحرف عن مسارها، الآن إذا اقتربت الأرض من القطر الأصغر، ماذا يحصل؟ قد تكون القوة النابذة التي معها من رفع سرعتها كافية لتفلتها من مسارها حول الشمس، فإذا سرحت الأرض في الفضاء الخارجي انتهت الحياة بالتجمد، فالفضاء الخارجي حرارته الثابتة تقدر بمئتين وسبعين تحت الصفر، فتنتهي الحياة، لذلك في المنطقة الثانية تقلل الأرض من سرعتها، لينشأ من تخفيض السرعة قوةٌ نابذةٌ أقل تكافئ القوة الجاذبة الأقل بسبب البعد عن الشمس، فلذلك:
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾
قال بعضهم: لو أن الأرض تفلتت وانعتقت من جاذبية الشمس، وأردنا أن نرجعها، لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، قطر الحبل خمسة أمتار، وكل حبل فولاذي قطره خمسة أمتار يتحمل قوة شد تقدر بمليوني طن، فكأن الأرض مربوطة بجاذبيةٍ إلى الشمس بقوة مليوني ضرب مليون مليون، نحتاج إلى مليون مليون حبل، وقوة كل حبل تقدر بمليوني طن، من أجل أن تحرف الأرض عن مسارها حول الشمس ثلاثة ميلي كل ثانية ليكون المسار بيضويٍاً مغلقاً حول الشمس، لذلك الله عز و جل قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
أي بعمدٍ لا ترونها، فلو أننا زرعنا هذه الحبال على سطح الأرض كي نعيدها إلى الشمس، لكان بين كل حبلين مسافة حبلٍ واحد، إذاً لا يوجد ملاحة، ولا طرق، ولا بناء، ولا زراعة،
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
الأستاذ عدنان:
لا تتوفر هذه العمد التي تشير إليها، فإن تُوفرت لا يمكن من خلالها الحياة، وهذا شيءٌ مستحيل، لذلك:
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
إذا انتقلنا إلى موضوع النفس،
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
النفس.
الغشاء العاقل من آيات الله الدالة على عظمته :
الدكتور راتب:
الحقيقة النفس كائن معجز، ففي رحم الأم مشيمة، المشيمة يسميها العوام الخلاص، هي قرص من اللحم، فيه تجتمع دورة دم الأم ودورة دم الجنين معاً، ولا يختلطان، ولو أننا أعطينا إنساناً دماً غير زمرته لمات فوراً بانحلال الدم، فزمرة دم الجنين غير زمرة دم الأم، يجتمع الصنفان من الدم ولا يختلطان بفضل غشاءٍ رقيقٍ سماه العلماء الغشاء العاقل، هذا الغشاء العاقل يقوم بمهمات يعجز عنها علماء الأرض، ماذا يفعل؟ يأخذ الأوكسجين من دم الأم ويضعه في دم الجنين، ثم يأخذ السكر من دم الأم ويضعه في دم الجنين، ثم يأخذ الأنسولين من دم الأم ويضعه في دم الجنين، صار هناك أوكسجين وسكر وأنسولين وسيط، يحترق السكر فيولد طاقة، نواتج هذا الاحتراق ثاني أكسيد الكربون، يأخذه الغشاء العاقل من دم الجنين ويطرحه في دم الأم حتى يخرج مع نَفَسها، فجزء من نفس الأم الحامل هو ثاني أكسيد الكربون لجنينها.
الآن الغشاء العاقل يأخذ عوامل المناعة في الأم يضعها في دم الجنين، عندئذٍ لا يصاب الجنين بكل الأمراض التي حُصنت منها أمه، هذا من مهام الغشاء العاقل، ثم الغشاء العاقل يأخذ المواد الغذائية التي يحتاجها الجنين، البروتين، السكر، الحموض الأمينية، المواد الدسمة، الفيتامينات، المعادن، أشباه المعادن، عشرات ألوف الأصناف، يأخذها ويعرف تقديرها الدقيق وينقلها من دم الأم إلى دم الجنين، هناك يحصل ما يسمى بالاستقلاب، الاستقلاب من نتائجه حمض البول، يأخذ الغشاء العاقل حمض البول من دم الجنين يضعه في دم الأم، فجزءٌ من طرح بول الأم بول جنينها.
الآن قد يحتاج الجنين إلى مادة معينة، كيف يخبر أمه؟ هل يخاطبها؟ هل يطرق على باب الرحم؟ ماذا يفعل؟ تشتهي الأم المادة التي يحتاجها الجنين، شهوة الأم الحامل ترجمةٍ لحاجة الجنين أحياناً.
التفكر أوسع بابٍ ندخل منه على الله وأقرب طريقٍ إلى الله :
لذلك هناك آيات دالة على عظمة الله عز و جل، هذا الغشاء العاقل يقوم بأعمال يعجز عنها أطباء الأرض، وقال بعضهم: لو أوكلت مهمات الغشاء العاقل إلى مئة طبيبٍ متخصصٍ بعلم الأجنَّة لمات الجنين في ساعةٍ واحدة، إذاً:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
أستاذ عدنان، التفكر أوسع بابٍ ندخل منه على الله، وأقرب طريقٍ إلى الله، وأنت إذا عرفت الله عرفت كل شيء.
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء))
الأستاذ عدنان:
دكتور: إذا تحدثنا عن موضوع الإعجازات الموجودة في هذا الكون لنستكمل الحديث، ومن خلال قناعاتٍ ذاتية تحصل للإنسان من خلال خلق الله، والإعجازات التي نراها في كل شيء، في الآيات، في الآفاق، وفي أنفسنا، ماذا نتابع معكم لنصل إلى شيء؟
الإعجاز العلمي :
مراحل الحمل عند المرأة :
الدكتور راتب:
الحقيقة كما أقول دائماً: إن أقرب آيةٍ تدلنا على الله خلقنا، والآن العلم تقدم تقدُماً جديداً، فصار بالإمكان أن نرى أشياء لم يكن لنا أن نراها من قبل، فالرجل حينما يلتقي بزوجته يخرج منه إلى رحم المرأة ما يقارب المئتين والخمسين مليون نطفة، يخرج من الرجل في اللقاء الزوجي ما يصل إلى مئتين وخمسين مليون نطفة، هذا العدد كبير جداً، مع أن البويضة تحتاج إلى نطفة واحدة، هناك حكمةٌ بالغةٌ بالغة أن العبرة في النوعية لا في الكمية، هذه النطف لماذا هي بهذه الكثرة؟ لأنها تواجه أخطاراً مميتة بمجرد دخولها إلى الرحم، في الرحم خليط حمضي كثيف في العضو التناسلي للمرأة يمنع وصول البكتريا، هذا الخليط قاتل بالنسبة للنطف، أي هناك مادة حمضية شديدة جداً من أجل أن تمنع الالتهابات، وهي في الوقت نفسه تقتل معظم النطف، نحن بحاجة إلى نطفة واحدة، الرجل يخرج منه ثلاثمئة مليون نطفة، بعد قليل يغطى جدار الرحم بملايين النطف الميتة، وبعد عدة ساعات يكون قسمٌ كبير من المئتين والخمسين مليون نطفة ميتاً، الخليط الحمضي هذا مهمٌ جداً لصحة الأم، وقويٌ جداً بحيث يستطيع قتل كل النطف الداخلة إلى الرحم بسهولة، في هذه الحالة لن يتحقق التلقيح أبداً وينتهي نسل الإنسان، ولكن النطف الداخلة إلى الرحم يصل قسم كبير منها إلى البويضة، ما الذي يحصل؟
في جسم الرجل مكان لإنتاج النطف، هذه النطف تضاف إلى السائل المحتوي على النطف، وعلى المادة المغذية، والمادة المعقمة، والمادة السكرية، فإنتاج النطف في جسم الرجل آية من آيات الله الدالة على عظمته، وبفضل هذا الخليط تستطيع آلاف النطف الوصول إلى مدخل قناة فالوب، مروراً برحم الأم، نلاحظ دائماً أن البويضة التي هي بحجم حبيبة الملح تجد مكاناً لها في هذا الجهاز المعقد، والحقيقة تستطيع بعد هذه الرحلة الطويلة أن تصل مئات النطف إلى البويضة، غير أنه لم ينتهِ السباق حتى الآن لا تقبل البويضة إلا نطفةً واحدة فقط، ولهذا يبدأ السباق الجديد، هناك عائقان مهمان جداً أمام النطف، الطبقة الحامية التي تقتل جميع أنواع الجراثيم التي تحاول الاقتراب من البويضة، وقشرة البويضة التي يصعب ثقبها إلى حدٍّ كبير، خُلق في النطفة أنظمةٌ خاصةٌ لاجتياز هذين العائقين، فهناك الأسلحة المخفية التي خبأتها النطف تحت طرف الدرع الصلب إلى هذه اللحظة، إنها أكياس الأنزيم المذيبة، هذه الأكياس ستثقب العائق الأول الذي على أطراف البويضة، أي الطبقة الحامية لإذابتها، فعندما تجتاز النطفة هذه الطبقة، وتتقدم فيها، يتآكل درعها شيئاَ فشيئاً، ثم يتفتت ويتبعثر، أما تفتت الدرع هذا هو جزءٌ من الخطة الكاملة الواجبة التنفيذ، لأنه بفضل هذا التفتت ستبدأ أكياس الأنزيم الثانية الموجودة داخل النطفة للظهور، وهذا يؤمن اجتياز آخر عائقٍ يواجه النطفة، ألا وهو ثقب قشرة البويضة.
الآن نشاهد هذه الأحداث تدريجياً، وتجتاز النطفة من خلال الصور الملتقطة هذا الحاجز، الحقيقة لحظة وصول النطفة إلى قشرة البويضة تتحقق معجزةٌ أخرى، فجأة تدخل النطفة بنفسها تاركةً وراءها ذيلها الذي أوصلها إلى هذا، وهذا مهمٌ جداً، لأنها إن لم تقم النطفة بهذا العمل، فسيتدخل الذيل المتحرك إلى الخلية ويخربها، لذلك تخلي النطفة عن هذا الذيل يشبه عمليات مكوك الفضاء والصاروخ الدافع له، حيث يتخلى المكوك عن المحركات وخزانات الطاقة.
ولكن كيف تقوم نطفةٌ صغيرةٌ بهذا الحساب الدقيق كله؟ بقيام النطفة بهذا الحساب عليها أن تعرف أنها وصلت إلى آخر الطريق، وأنها لم تعد بحاجةٍ إلى الذيل بعد الآن، غير أن النطفة جهازٌ بيولوجي لا تشعر بما حولها، ولا تملك أي عقلٍ أو علم، الخالق سبحانه وتعالى نسق فيها أيضاً نظاماً دقيقاً يحقق انعزال الذيل عنها في الوقت الصحيح والمناسب، تقوم النطفة التي تركت ذيلها خارجاً بثقب البويضة، وتضع فيها الصبغيات من خلال ذلك الثقب، هكذا يتم انتقال المعلومات الوراثية، ونتيجة عمل مئات الأنظمة المختلفة المستقلة بعضها عن بعض بنظامٍ متناسقٍ تمّ إيصال المعلومة الوراثية العائدة لجسم الرجل إلى البويضة في جسم المرأة، وكما نرى فلا مكان لأية مصادفةٍ في اتحاد النطفة مع البويضة، بل تحقق ذلك بفضل تصميمٍ وخطةٍ كافيةٍ، هذه الحوادث التي تحققت دون أن يدركها الإنسان، وهذا التخطيط الدقيق لكل مرحلةٍ من هذه المراحل، إنما هي دلائل واضحة على خلق الإنسان من قِبل الله تعالى.
أستاذ عدنان، التفكر ـ كما قلت في مرات كثيرة، في مناسبات كثيرة ـ أقصر طريقٍ لمعرفة الله، وأوسع بابٍ ندخل منه على الله، ومعرفة الله أصل الدين، هذا قول الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ:" معرفة الله أصل هذا الدين"، فكلما تفكرنا في خلق الله ازددنا معرفةً به.
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
والتفكر كما بينتم في الحقيقة يفيدنا أيضاً بأننا نعلم واقعنا، ونعلم عبوديتنا لله تعالى، وبالتالي نتمسك بالهدي القرآني الكريم.
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي، وكل الشكر أيضاً للأخوة الكرام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.