وضع داكن
22-12-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الدرس : 06 - المداراة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الفرق بين المداراة والمداهنة:


الخُلق الذي ينبغي أن يتحلى به المؤمن المداراة, ولاسيما إذا كان في عصر يغلب فيه أهل البعد والكفر والعصيان.
فالمداراة خُلق وموقف دقيق جداً، بينها وبين المداهنة خيط رفيع، لخطأ طفيف تنقلب المداراة إلى مداهنة، المداراة مندوبة، والمداهنة محرمة، بشكل مختصر: المداراة بذل الدنيا من أجل الدين، بينما المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا، وفرق كبير بينهما.
أولاً: من تعريفات المداراة أنها الملاينة والملاطفة، وفي تعريف آخر هي خفض الجناح للناس، ولين الكلام لهم، وترك الإغلاظ لهم في القول، والمداراة الدفع برفق، والمداراة يحتاجها المؤمن، لكنه في عصر من العصور تشتد الحاجة إليها، وفي عصر آخر تقل الحاجة إليها، نحن في عصر تشتد الحاجة فيه إلى المداراة.
إن المداراة من المداري صدقة له، وإن المداهنة من المداهن خطيئة عليه، والفرق بينهما كما قلت: المداراة أن تبذل شيئاً من دنياك من أجل صلاح دينك، بينما المداهنة أن تبذل جزءاً من دينك من أجل دنياك؛ الأولى مندوبة، والثانية محرمة.

من أقوال الصالحين:

يقول الماوردي -رحمه الله تعالى-: إذا كان للإنسان عدو، وقد استحكمت شحناؤه, واستوعرت سراؤه، واستخشنت ضراؤه، فهو يتربص بدوائر السوء، وانتهاز فرصة، ويتجرع بمهانة العجز مرارة غصة، فإذا ظفر بنائبة ساعدها، وإذا شاهد نعمة عاندها، فالبعد عن هذا حذراً أسلم، لكف عنه متاركة أغنم, لأنه لا يسلم من عواقب شره، ولا يفلت من غوائل مكره إلا بالبعد عنه أو مداراته.

وقد قال لقمان لابنه: يا بني كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإذا كان صادقاً فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.
 

مسالك الدعوة إلى الله:

من آيات المداراة أيها الأخوة:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾

[سورة النحل الآية: 125]

هناك موعظة حسنة، أما إذا جادلته بالتي هي أحسن فلفرق بينهما، استخدم كلمة حسنة في الوعظ والإرشاد، أما إذا كان الجدال, فالجدال من شأنه أن المجادل يربط كرامته بأفكاره، فإذا كان هناك جدال فالقضية حساسة جداً، لا ينبغي أن تختار الكلمة الحسنة، ينبغي أن تختار الكلمة الأحسن، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾

[سورة النحل الآية: 125]

من الأحاديث الشريفة المتعلقة بالمدارة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

((مداراة الناس صدقة))

[أخرجه ابن حبان في صحيحه]

رأي شخصي:

وأنا أصر على التفريق الدقيق بين المداراة والمداهنة، يعني إن لم تصلِ لئلا ينزعج هذا الذي لا يصلي فهذه مداهنة، إن قال شيئاً يخالف العقيدة، وابتسمت، وأيدته بذلك فهذه مداهنة، أما في أثناء الحساب بينك وبين إنسان معاند, إذا سامحته ببعض حقك المادي فهذه مداراة، إن بذلت من المال أو من حظوظ الدنيا أو من راحتك أو من مصالحك من أجل أن تأخذ بيد هذا الذي تحاوره فهذه مداراة، أما إذا بذلت من دينك، من فرائض الدين، من السنن، من سلامة العقيدة، وأرضيت الطرف الآخر بأفكار لا تؤمن بها، وتعارض الدين تقرباً إليه, فهذه مداهنة وليست مداراة.

توجيه نبوي:

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ:

((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ, فَلَمَّا دَخَلَ: أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ, ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ, قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ))

إنسان شرير بطاش لا يرحم، فإذا داريته تلطفت معه، بششت في وجهه من أجل أن تدفع شره, فهذا من المداراة.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:

((إِنَّا لَنَكْشِرُ –نكشر: بمعنى نبتسم- فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ, وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ))

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ, فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ, وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ, فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ, فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ:

((ادْعُهُ لِي, فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَهُ, فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ, يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ, وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ))

وكان في خلقه شيء، ما كان سويًّا، كان شريرًا، خبأ له هذا الثوب وقدمه له.

 

إذاً: المداراة نصف العقل، والمداراة من صفات الأذكياء، والمداراة من صفات المؤمنين الموفقين، إنسان شرير مخيف إذا جاملته في أفكاره وأقررتها فهذه مداهنة، أما إذا قدمت له ثوباً تتقي به شره فهذه مداراة، إذا قدمت له هدية تتقي بها شره فهذه مداراة، أما إذا أقررته على فجوره أو على فسقه، أو أقررته على عقيدته الزائغة فهذه مداهنة.
إنسان من أهل الكتاب جاءه مولود، فلك أن تزوره، ولك أن تهنّئه بهذا المولود، لكن ليس لك أن تهنّئه بعيده الذي فيه تصريح بما يخالف القرآن، تهنئته بالعيد مداهنة، لكن تهنئته بمولود مداراة، لك أن تزوره إذا مرض، هذا من المداراة، وليس لك أن تقره على شركه، هذا من المداهنة، ففرق واضح بين المداراة والمداهنة؛ المداراة بذل الدنيا من أجل الدين، بينما المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا.

حد المداراة:

يروى أن داود -عليه السلام- جلس كئيباً خالياً، فأوحى الله إليه: يا داود ما لي أراك خالياً؟ قال: هجرت الناس فيك يا رب، قال: أفلا أدلك على شيء تبلغ به رضائي؟ خالق الناس بأخلاقهم، واحتجر الإيمان فيما بيني وبينك.
أنت إنسان موظف في دائرة فيها موظفون من كل الاتجاهات، سلّم عليهم جميعاً، واسألهم عن صحتهم جميعاً، واسألهم عن أولادهم جميعاً، إلى هنا مداراة، إن غادرت المكان فسلّم عليهم، السلام عليكم، قال لك: الطقس بارد، نعم بارد، لا، ليس باردًا، القضية متعلقة بالطقس، متعلقة بالأسعار، متعلقة بالدنيا، جاء بخبر غير صحيح متعلق مثلاً بأسعار الأسهم، اقبل منه هذا الكلام، إذا كانت القضية لا علاقة لها بالعقيدة، ولا بالدين، بل هي متعلقة بالدنيا، إذا عارضته، وتشبث برأيه، وتشبثت برأيك، والموضوع كله لا يحتمل هذه المعارضة، فالمداراة الآن مطلوبة، إلا إذا نطق بالكفر، أو بالباطل، أو بشيء يرفضه القرآن والسنة، فينبغي ألا تسكت، ينبغي أن تكون مدافعاً عن هذا الدين.

طبع المؤمن:


قال أبو الدرداء لأم الدرداء: إذا غضبت فأرضني، وإذا غضبت رضيتكِ، فإن لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق.
وبين الأخوة الكرام أخوك له وجهة نظر متعلقة بالعمل، فإذا غضبت منه أرضه، وإذا غضب منه يرضيك، وإذا كان العكس ترضيه أنت.
وسيدنا معاوية يقول: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, قيل: وكيف؟ قال: إن مدوها أخليتها، وإن خلو مددتها.
خلِّ خيطًا بينك وبين أخيك.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أُرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ:

((أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا, عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا, وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا, عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا ما))

[أخرجه الترمذي في سننه]

خلِّ خيطًا، خلِّ علاقة، خلِّ السلام.
أنصح الأخوة الكرام ألا يبتروا خصومهم، دع بينك وبينهم خيطاً من مودة، دع سلاماً، سؤالا عن صحته، دخل رمضان هنئه، هناك مشكلة؟ لك خصم، وبينكما خلافات مستحكمة، لكن دخل رمضان, أرسل له رسالة تهنئة، يذهب حر صدره.
المداراة: ألا تبذل من الدين شيئاً، لا من عقيدتك، ولا من فرائضك، ولا من واجباتك، ولكن تتقرب إلى إنسان ترجو له الهداية عن طريق مودته.
يروى أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أعطى شاعراً فقيل له: لمَ تعطِ من يقول البهتان ويعصي الرحمن؟ كيف؟ فقال: إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به من عرضك.
إنسان سفيه، كلامه قاسٍ جداً، كلامه منتشر بين الناس، فإذا داريته بهدية ملكته، فصار معك أفضل ألف مرة من أن تثيره عليك، ويشيع بين الناس ما لا ينبغي أن يقال.
وقد ورد أيضاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((ذبّوا عن أعراضكم بأموالكم))

تملك قلب عدوك بالإحسان إليه:

إنسان سفيه قال عنه مرةً النبي: من يقطع لسانه؟ هناك من فهم هذا الكلام أن تأتي بمقص وتقص له لسانه، لا، من يقطع لسانه بالإحسان إليه.
الإحسان مسكت، يكون على أعلى درجة من العداوة تجده تحجّم، أضرب مثلاً:
يروى أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- جاءته رسالة من مواطن، كان خليفة المسلمين، هذه الرسالة يقول قائلها: أما بعد فيا معاوية –هكذا, لا يا أمير المؤمنين، ولا أيّ لقب-، أما بعد؛ فيا معاوية إن رجالك قد دخلوا أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام، عنده ابنه يزيد، قال: يا يزيد اقرأ ماذا نفعل؟ قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك ليأتوك برأسه, -هذا الموقف العنيف القمع-, سيدنا معاوية قال: لا يا بني خير ذلك أفضل، أمر الكاتب أن يكتب: أما بعد, فقد وقفت على كتابي ولدي حواري رسول الله ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها -هو عبد الله بن الزبير-, فجاء الجواب: أما بعد، فيا أمير المؤمنين -أول كتاب فيا معاوية, الكتاب الثاني يا أمير المؤمنين- أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، فجاء بابنه يزيد، ماذا كنت تريد؛ أن نرسل له جيش أوله عنده وآخره عندك ليأتوك برأسه؟ قال له: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
المداراة: قمة الذكاء.
والمداراة: قمة توفير الجهد والوقت والطاقة.
والمداراة: أن تصل إلى أهدافك بأقل تكلفة.
المداري يصل إلى أهدافه بأقل تكلفة، وهذا هو الذكاء، الذكاء هو التكييف، لكن من دون كلمة واحدة فيها تنازل, أو فيها استسلام، أو فيها إقرار على باطل، قضية أرض، سيدنا معاوية اشترى رضاه بهذه الأرض، الأرض ومن فيها، وأنت ابن ولدي حواري رسول الله، هو قال له: يا معاوية، هو قال له: وإنك ابن ولدي حواري رسول الله.

 

ما قيل عن المداراة:

 

يقول محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد بداً من معاشرته، يعني هذا قدرك، هناك إنسان يمكن ألا تعاشره، يمكن أن تبتعد عنه، لكن أحياناً طبيعة القرابة أو طبيعة العمل تقتضي أن تكون مع هذا الإنسان كل يوم، شئت أم أبيت، أحببت أم كرهت، لذلك ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد بداً من معاشرته حتى يجعل الله له فرجاً أو مخرجاً.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ
الحسن البصري يقول: كان الناس يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: المداراة هي العقل كله.
يمكن أن تتلافى شرًا كبيرًا وفتنة كبيرة بكلمة، وهذه الكلمة ليس فيها تنازل أبداً، لكن تقدم له شيئًا من الدنيا، ملكت قلبه فأصبح معك بعد أن كان يهاجمك، أنت قصصت لسانه بهذه الطريقة، لكن قص لسان بالإحسان إليه.
وقال أبو يوسف: خمسة يجب على الناس مداراتهم؛ الملك المسلط، والقاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقبس من علمه.
قال ابن حبان: من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك -إرضاء الناس جميعاً نفاق-, ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بُداً، وإن دفعه الوقت إلى استحسان, -الآن دققوا الظرف العصيب- إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها.
القضية ليست متعلقة بالدين إطلاقاً، متعلقة بعادات، لو قال لك شخص قوي: أنا أحب أن أنام الساعة الواحدة بالليل، خير إن شاء الله، نم الساعة الثانية، القضية متعلقة بالنوم، بعادات معينة، أنت تحب أن تنام باكراً، ما دامت القضية متعلقة بالعادات، وقال لك شيء من عاداته، وسألك فأجبه، أما إذا كانت متعلقة بالدين فينبغي ألا تسكت، لك أن تستحسن أشياء من العادات أنت تستقبحها، ولك أن تستقبح أشياء أنت تستحسنها، ما لم يكن مأثماً، فإن ذلك من المداراة:
وما أكثر من دار فلم يسلم فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟
الذي يداري قد لا يسلم، فكيف بالذي لا يداري؟.

المداراة سبب في تقوية أواصر الألفة بين المؤمنين:

أيها الأخوة, قال بعضهم: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي من أقوى أسباب الألفة بينهم.
الآن هناك شيء ثان: الآن ضمن الجامع الواحد، ضمن الأخوة الإيمانية الواحدة هناك طباع مختلفة، أنت إذا كنتَ مكلفًا أن تداري الفسقة والكفار الأقوياء، ليس في شأن الدين، في شأن الدنيا، من باب أولى أن تداري أخوانك المؤمنين، هناك أخ انعزالي، وأخ انبساطي، وأخ أنيق جداً، وأخ أقل أناقة، وأخ مضياف، وأخ أقرب إلى العزلة، فإذا عاشرتَ هؤلاء بطباعهم، ولم تأخذ عليهم هذه الطباع فهذه من المداراة، إذا كنت تداري الكافر فمن باب أولى أن تداري المؤمن، فالمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي من أقوى أسباب الألفة بينهم، المداراة مندوب لها، والمداهنة محرمة.

فوائد المداراة:

أيها الأخوة, من فوائد المداراة: الراحة في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
المداراة: لا بد منها لاتقاء شر الأشرار، ودوام معاشرة الأخيار، مع الأشرار تتقي بها شرهم، مع الأخيار تدوم لك صحبتهم، يحتاج إليها مع الأصدقاء، كما يحتاج إليها مع الأعداء.
المداراة: دليل كمال العقل، وحسن الخلق، ومتانة الدين.
والمداراة: تكون في الأمور الدنيوية فقط، وتحرم إذا كانت في أمور الدين، لأنها تنقلب إلى مداهنة.
المداراة: أن تبذل الدنيا من أجل الدين، والمداهنة: أن تبذل الدين من أجل الدنيا.

أخطاء دفنها التاريخ لا تفتش عنها:

أنت ذهبت إلى بلد إسلامي, ممنوع مثلاً في هذا البلد أن تدعو بصوت مرتفع، ادعُ بقلبك، قضية تحدٍّ، وقضية استفزاز، استووا واعتدلوا، الله أكبر انتهت العملية، ليس هناك مشكلة، كنت هناك فدارهم ما دمت في ديارهم، وأرضهم ما دمت في أرضهم.
دائماً المشكلة ما حجمها؟ أحياناً الحجم كبير، والمكسب صغير، هذا حمق، آدم طوله ستون مترًا، لا، خطأ ليس هذا معقولا، إن كان طوله ستين أم مترًا ماذا ينتج عن هذا الموضوع؟ لا يخرج منه شيء، معركة فاشلة، معركة بلا جدوى، هناك شخص يتشبث ويتشنج، ويستفز، تنشأ مشكلة بين المؤمنين نحن في غنى عنها، في قضية لا تقدم ولا تؤخر.
الآن أكبر مشكلة أن نبحث في التاريخ عن مشكلة نأتي بها إلى الحاضر، ونقيمها سببًا للعداوة:

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 134]

وانتهى الأمر، هؤلاء عاشوا في فترة ماضية، إن كانوا محسنين فلهم، وإن كانوا مسيئين فعليهم، طيب بأي مرض مات رسول الله؟ قال له: بالتهاب ذات الجنب، قال له: لا، خطأ، الآن هو مات عليه الصلاة والسلام، ما يهمك بأي طريقة مات، مات وانتهى، إذا كانت له توجيهات نبوية بالصحة، علِّمنا إياها، أما بأي مرض مات فلا يهمنا، توفاه الله عز وجل، تنشأ مشكلة تعمل حزازات، وتسبِّب خصومات، وتنشر بغضاء وعداوة.
القاعدة أيها الأخوة: أية قضية في العلم لا يبنى عليها دليل لا فائدة منها، طول سيدنا آدم لا يبني عليه حكم شرعي، إن كان ستين مترًا، وإن كان مترين، عادي، هذه قضية لا يبنى عليها حكم شرعي فابتعد عنها، لكن هناك قضايا إذا أقررت يصبح الحلال حراماً والحرام حلالاً، فهذه لا مجاملة فيها.
إذاً: أيّ موضوع لا يبني عليه حكم شرعي, ابتعد عنه، أرح واسترح.

هكذا نعلم الجاهل:

مرةً سألني أخ كنت على الإذاعة بثّا مباشرًا على الهواء، قال لي: صلاة التراويح ثماني ركعات أم عشرون؟ نحن ليس عندنا مشكلة في العالم الإسلامي إلا ثماني أم عشرين، يمكن أن نقاتل من أجلها، قلت له: صل 8, وصل 12، وصل 20، وصل بالبيت, وصل بالجامع، ولا تفتعل مشكلة, نحن في غنى عن هذه المشكلة.

دعاء الختام:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور