- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في حلقة جديدة في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
دكتور كثيراً ما نسمع كلمة القدوة والأسوة ، فلان يقول : إن فلان هو قدوة لي وعلى العكس من هذا يمكن أن يكون فلان من الناس قدوة لكثير من الآخرين ، وهذا ما نجده في ميدان الافتخار ، أي في الميدان الإيجابي بحيث أن يكون الإنسان قدوة لغيره ، أي يقتدي بالآخرين الجيدين ، في الجانب السلبي هل يمكن أن يكون هناك قدوة ؟ هذا يقودنا إلى تعريف القدوة ما هي ؟
أي إنسان موقعه الاجتماعي موقع توجيهي عليه أن يربط قوله بعمله :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أستاذ عدنان : بادئ ذي بدء هناك مقولة يمكن أن تكون مدخلاً لهذا الموضوع قيل : العدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، والورع حسن لكن في العلماء أحسن ، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن ، والعفاف حسن لكن في الشباب أحسن ، والحياء حسن لكن في النساء أحسن .
تمهيداً لموضوعنا القدوة والأسوة يحتاجه الآباء لأنهم قدوة ، يحتاجه المعلمون ، يحتاجه المربون ، يحتاجه الدعاة إلى الله ، أي إنسان موقعه الاجتماعي موقع توجيهي يحتاج هذا الموضوع ، فلذلك الفضائل لا تثبت في المجتمع في الأفكار ، في الكتب ، نبي واحد لم يجد الناس مسافة إطلاقاً بين أقواله وأعماله أفضل للبشرية من آلاف الكتب ، لأن هذا النبي قدّم الحقيقة مع البرهان عليها ، الحقيقة يمكن أن نرفضها إن لم يكن لها مرتكز في الواقع أما حينما نجد موقفاً كاملاً ينطلق من فهم صحيح ، هذا الفهم الصحيح تجسد في هذا الموقف الكامل ، إذاً قضية الدعوة إلى الله ، قضية الإرشاد ، قضية التعليم ، قضية القيادة ، كل إنسان له مركز قيادي ، مركز توجيهي ، كل إنسان أناط الله به أناساً آخرين هذا اللقاء الطيب وهذا الموضوع المثير موجه إليه .
أفضل إنسان على الإطلاق من دعا إلى الله و عمل صالحاً :
بادئ ذي بدء الفضائل تحتاج إلى مثل ، سيدنا عمر مثلاً كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته ، وقال : إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، و ايم الله لا أوتين بواحد وقع في ما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني .
لذلك أنا أقول ما من عمل يتذبذب بين أن يكون أقدس عمل يرقى إلى صنعة الأنبياء ، و بين أن يكون أتفه عمل لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة كالدعوة إلى الله ، وأن تُنصّب نفسك موجهاً للآخرين ، تكون أقدس عمل وترقى إلى صنعة الأنبياء إذا بذلت من أجلها الغالي والرخيص والنفس والنفيس وكنت قدوة فيها ، الدليل قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {33} ﴾
أي لن تجد في خلق الله إنساناً أفضل عند الله ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ، لأن هذه النفس الإنسانية من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : يا علي :
(( فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))
(( خير له مما طلعت عليه الشمس ))
من استقام على أمر الله كان قدوة لغيره :
إذاً حينما يستطيع الإنسان أن يحدث تأثيراً بالآخرين إيجابياً يحملهم على طاعة الله ، يحملهم على الانضباط الأخلاقي ، يحملهم على أن يكونوا صادقين ، أمناء ، أعفة ، هذا عمل عند الله كبير ، لذلك ما من عمل يتذبذب بين أن يكون أقدس عمل ، و بين أن يكون أتفه عمل كالدعوة إلى الله ، أو إلى إرشاد عام لأناس ينضوون تحت لواء إنسان ، هذه النقطة الدقيقة تعني أن هناك دعوة إلى الله خالصة أساسها أن تكون قدوة ، أن تكون أسوة ، أن تكون مثلاً ، لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، والمسافة بين العين والأذن أربعة أصابع ، فبين أن تقول رأيت فلان صادقاً وبين أن تقول حدثنا عن الصدق
لذلك لماذا تأتي القصة في التربية والتعليم كأداة فعالة جداً في التأثير ؟ لأن القصة حقيقة مع البرهان عليها ، الأفكار لا تعيش في ثنيات الكتب ، لا تعيش في المحاضرات ، لا تعيش في الكلمات ، تعيش في السلوك ، لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( استقيموا يستقم بكم ))
فالإنسان حينما يستقيم يكون قدوة ، لو بدأنا بالأب والأم لمجرد أن يكشف الابن أن أباه لا يتكلم الحقيقة تنشأ مشكلة كبيرة جداً ، وكأن الأب حينما قال لابنه قل له لست في البيت علمه أن يخالف الحقيقة في كلامه ، لذلك أنا أقول دائماً نحن بحاجة إلى مسلم متحرك ، كيف أن الكون قرآن صامت ، كيف أن الكون قرآن صامت والقرآن كون ناطق والنبي قرآن يمشي .
وقالت بحقه أم المؤمنين السيدة عائشة :
(( كان خلقه القرآن ))
على كل داعية أن يحرص على ألا يرى المدعو في سلوكه ما يخالف كلامه :
أنا أرى أن الداعية ، المعلم ، الموجه ، المرشد ، أي منصب قيادي توجيهي ، قبل أن يتكلم احرص على أل تجد في كلام هذا الإنسان مسافة إطلاقاً ، لذلك مرة أحد الدعاة نصح أخوانه الدعاة قال : احرص على أن يراك المدعو وفق ما تدعوه ، واحذر أشد الحذر على أن يراك الذي تدعوه على خلاف ما تدعوه ، لذلك قضية القدوة الحسنة مهمة جداً .
من هنا أقول القدوة قبل الدعوة ، قبل أن تنطق بكلمة إن كنت أباً ، قبل أن تنطق بكلمة إن كنت معلماً ، قبل أن تنطق بكلمة إن كنت داعية ، احرص على ألا يرى المدعو في سلوكك ما يخالف كلامك ، لذلك بعض العلماء قال : من دُعي إلى الله بمضمون ضحل ، أو بمضمون غير متماسك ، أو بمضمون صحيح لكن عرضه لم يكن بأسلوب علمي ، أو لم يكن بأسلوب تربوي ، أو وجدوا عمقاً في الدعوة لكن لم يجدوا مصداقية في الداعية ، قال : هذا المدعو بهذه الطريقة لا يعدّ مُبلغَاً عند الله ، لأنه في أعمق كيان الإنسان شعور أن دين الله عظيم ، هذا ليس دين الله ، بهذا التفكك ، بهذا الضحالة ، بهذا الأسلوب الذي لا يرضي المستمع .
أعظم عمل للدعاة أن يكونوا قدوة صالحة لأتباعهم :
لذلك من دعا إلى الله بمضمون سطحي غير متماسك ، من دعا إلى الله بأسلوب غير علمي ، بنى دعوته على المنامات والشطحات والكرامات ، ومن دعا إلى الله بأسلوب غير تربوي ، أو دعا على الله بأسلوب عميق لكن المدعو اكتشف الذي يتكلم ليس صادقاً فيما يقول عندئذ هذا الإنسان لا يُعدّ عند الله مبلغاً ، ويقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة .
لذلك أعظم ما يكون عند الدعاة أن يكونوا قدوة صالحة لأتباعهم ، وحينما يكون الإنسان قدوة صالحة الدعوة تسري بشكل عجيب ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً ، فإذا وجدوا إنساناً لا يلتزم بما يقول يتفلت الناس من منهج الله بسذاجة وبجهل ، لأنهم ربطوا الدين بإنسان ، الدين فوق البشر .
لذلك أنا أقول يجب أن يعتمد كل من يتكلم ، كل من يوجه ، كل من يرشد أباً كان أو داعية أو خطيباً أو من يحتل منصباً قيادياً ، مدير مستشفى إذا أراد من الأطباء أن يلتزموا بالقواعد الصحيحة ينبغي أن يسبقهم إليها .
الكلمة لن تجدي نفعاً إلا إذا دعمها الواقع :
لذلك هناك علم القيادة ، هناك علم الإدارة ، هذا علم قائم بذاته ما لم يكن القائد ، المدير ، صاحب المؤسسة ، المشرف ، الداعية ، الأب ، المعلم ، قدوة لمن يدعوهم لا جدوى من هذه الدعوة ، لذلك أستاذ عدنان الكلمة جاء بها الأنبياء ، الأنبياء بماذا جاؤوا ؟ لم يأتوا بالصواريخ ، ولا حاملات الطائرات ، ولا بالصواريخ ، العبرة للقارات ، ولم يأتوا بالفضائيات ولا بالكومبيوتر أتوا بالكلمة لكنها كانت صادقة ، فلما أصبحت الممارسة على عكس المنطوق كفر الناس بالكلمة ، كفر الناس بالكلمة .
لذلك الآن لا يمكن أن تجدي الكلمة إلا إذا دعمها الواقع ، إلا إذا جاء الواقع مطابقاً لها ، إلا إذا ارتكزت على مرتكز حسي ، العالم كله لا يرى الإسلام إلا من خلال المسلمين ، أما حينما يرى مجتمعاً إسلامياً قوياً طاهراً صادقاً لا يخترق يعلو الإسلام في نظر الآخرين ، أنا أقول دائماً هذا الذي يقف في خندق معاد للدين هذا لن يفهم الدين الإسلامي من كتبه ، ومراجعه ، ولا من تفسير القرطبي ، ولا من فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، هذا لا يفهم الإسلام إلا من المسلمين الذين أمامهم .
المسلم سفير الإسلام فأمانته دعوة و صدقة دعوة و عفته دعوة :
لذلك أنا أرى أن العالم الغربي لو رأى الجاليات الإسلامية كما ينبغي لكان موقفه من الإسلام غير هذا المسلم ، لكن المسلم لا يظن أنه سفير هذا الدين العظيم ، هو في الحقيقة سفير هذا الدين ، من هنا أنطلق من شيء آخر اسمه الدعوة الصامتة
يعني يمكن أن تكون أكبر داعية وأنت صامت ، لأن أمانتك دعوة ، ولأن صدقك دعوة ، ولأن عفتك دعوة ، ولأن إنصافك دعوة ، مرة جاءتني رسالة بالبريد الإلكتروني ، إمام سكن في لندن ، ثم نُقل إلى ظاهر لندن ، اضطر أن يركب مركبة كل يوم مع السائق نفسه ، فمرة صعد المركبة ، وأعطى السائق ورقة نقدية كبيرة ، ردّ له السائق التتمة ، عَدّها ، فإذا هي تزيد عشرين بنساً على ما يستحق ، فقال هذا الإمام في نفسه : سأردّ هذه الزيادة للسائق ، لكن بعد أن جلس جاءه خاطر شيطاني ، قال : إنها شركة عملاقة ، ودخلها فلكي ، والمبلغ يسير جداً ، وأنا في أمسّ الحاجة إليه ، فلا عليّ أن آخذه ، لكن الذي حصل أنه قبل أن ينزل دون أن يشعر مدّ يده إلى جيبه ، وأعطى السائق العشرين بنساً ، فابتسم السائق ، وقال له : ألست إمام هذا المسجد ؟ قال : بلى ، قال : والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في المسجد لأتعبد الله عندك ، ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك ، يروي كاتب القصة وهو الإمام نفسه أنه وقع مغشياً عليه ، لأنه تصور عظم الجريمة التي كاد يقترفها لو لم يدفع للسائق هذا المبلغ ، فلما صحا من غفوته قال : يا رب ، كدت أبيع الإسلام كله بعشرين بنساً .
القدوة قبل الدعوة :
القدوة قبل الدعوة ، كل الكلام والفصاحة والأدلة والتحليلات والبراعة في إقناع الناس تسقط في الوحل أمام عمل سيء يرتكبه هذا الداعية ، هذا الكلام يحتاجه الآباء ، امرأة قالت لابنها في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام : تعال هاك (لأعطيك)فقال عليه الصلاة والسلام : ماذا أردت أن تعطيه ؟ قالت تمرة ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : أو إن لم تفعلي ذلك لعدت عليك كذبة .
شيء دقيق جداً لذلك بعض علماء الحديث جاء من المدينة إلى البصرة يتلقى حديثاً عن رجل رآه قد رفع ثوبه ليوهم الفرس أن في ثوبه علفاً ، فلما اقترب منه لم يجد شيئاً في الثوب ، فلم يكلمه وعاد أدراجه إلى المدينة ، قال : هذا الذي يكذب على فرسه لا يمكن أن يُنقل عنه كلام عن رسول الله ، القدوة قبل الدعوة .
الأستاذ عدنان :
دكتور الآن بالنسبة لكم تعدون مثلاً لخطبة الجمعة ، قرع الباب بيت يريد أن يزوركم أنتم مشغولون .
تناقض الكذب و الخيانة مع الإيمان :
الدكتور راتب :
أنا أقول له أنا لا أستطيع أن أستقبلك في هذا الوقت ، هذا الوقت ملك عشرة آلاف إنسان ينتظرون الخطبة فاعذرني .
الأستاذ عدنان :
دكتور في الحياة الاجتماعية أحياناً تحدث أشياء من مثل هذا ، يرى الإنسان نفسه متقلقلاً بين أن يكون صريحاً وبالتالي قدوة حسنة لابنه الذي سيفتح الباب ، وبين أن يتقلقل بالكلام و يقول اصرفه بالأسلوب المناسب .
الدكتور راتب :
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
الآن في علم طباعة ، هناك مؤمن عصبي المزاج مقبول ، هناك مؤمن هادئ مقبول ، هناك مؤمن يعتني جداً بثيابه مقبول ، هناك مؤمن أقل اعتناء بثيابه مقبول ، هناك مؤمن يحب أن يبقى في البيت مقبول ، هناك مؤمن يحب أن يسافر كثيراً .
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
فإذا كذب أو خان ليس مؤمناً ، لأن الكذب والخيانة يتناقضان مع الإيمان ، أستاذ عدنان هناك شيئان متعاكسان كالأبيض والأسود يجتمعان في بعض البيوت الشامية خط أبيض وخط أسود من الحجارة ، لكن الضوء والظلام يتناقضان وجود أحدهما ينقض الآخر ، فالضوء ليس معه ظلام والظلام ليس معه ضوء ، أنا أعتقد أن الكذب والخيانة يتناقضان مع الإيمان .
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
أعظم ما في حياة المؤمن أنه صادق مع ربه و مع نفسه و مع الناس :
لذلك نحن حينما نعتمد الصدق ، فإن الرجل ما يزال يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي للفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً .
(( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدي إِلي البِرِّ ، وإِن البِرَّ يهدي إِلى الجنةِ ، وإِن الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتى يُكتَب [ عند الله ]صِدِّيقًا ، وإِن الكذبَ يهدي إِلى الفُجُورِ ، وَإِنَّ الفُجُورَ يهدي إِلى النارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ ليكذبُ حتى يكتبَ عندَ اللهِ كذَّابا ))
إذاً نحن حينما نربي أولادنا على الصدق نعيش في حالة أخرى ، الحقيقة الكذب منتشر في العالم ، نكذب في كلامنا ، في خطابنا ، في تقييمنا للأشياء ، نكذب ونرائي ، نكذب وننافق ، هذا كله من ثغرات المجتمع الكبيرة ، لذلك أعظم ما في حياة المؤمن أنه صادق مع ربه ، صادق مع نفسه ، صادق مع الناس ، الإنسان أحياناً يشعر بالحرج إذا تكلم الحقيقة ، لكن إذا تكلم الحقيقة وأحرج قليلاً ترتاح نفسه كثيراً ، أما إذا أوهم الآخرين بكلام غير صحيح يقول عليه الصلاة والسلام : كفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق ، وأنت له به كاذب .
القدوة قبل الدعوة ، أنا أخاطب كل من كان موقعه الاجتماعي موقع إرشاد ، موقع قيادي ، موقع توجيه ، لذلك سيدنا عمر لما جاءته كنوز كسرى يروى أن وقف رجلان مع رمحيهما فلم يترائيا لعظم الكمية ، سيدنا عمر قال إن الذي أدى هذا لأمين ، سيدنا علي كان إلى جانبه قال يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانتهم لقد عففت فعفوا ولو وقعت لوقعوا .
من كان محسناً ملك القلوب لا الرقاب :
قضية القدوة يحتاجها كل من ولاهم الله أمر المسلمين ولا سيما الدعاة إلى الله عز وجل ، القدوة قبل الدعوة ، الإحسان قبل البيان أنت إذا كنت محسناً ملكت القلوب ، وفرق كبير بين أن تملك الرقاب وبين أن تملك القلوب ، الأقوياء ملكوا الرقاب والأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء عاش الناس لهم ، والأنبياء عاشوا للناس ، لذلك القدوة قبل الدعوة ، الإحسان قبل البيان ، أنت إذا أحسنت فتحت قلوب الناس لمحبتك ، فإذا تكلمت فتح الناس عقولهم لكلامك ، بإحسانك تفتح قلوبهم وبكلامك بعد الإحسان تنفتح لك عقولهم ، أما إذا كنت فصيحاً متكلماً بارعاً في إقناع الناس ولم تكن محسناً لم ينتفع الناس بهذا الكلام ، هذا المبدأ الأساسي ، القدوة قبل الدعوة ، الإحسان قبل البيان .
مرة سمعت أن امرأة تمشي مع ابنها ، أعطته قطعة سكر وبعد ثلاث مئة متر سألته أين ورقة السكرة ؟ قال ألقيتها في الطريق رجعت معه ثلاثمئة متر وقالت له ضعها في سلة المهملات ، نحن حينما نعتني بصغارنا تقر أعيننا بهم حينما يكبرون .
أولادنا أكبر ورقة رابحة ولكن يحتاجون إلى جهد كبير في توجيههم :
الآن شيء اسمه علم قيادة ، برع به بعض الدعاة إلى الله ، لأن الأمة بقادتها ، الأمة بنخبتها ، الأمة بعلمائها ، الأمة بمفكريها ، هؤلاء قادة للأمة كل في حقله ، لكن صفات القائد الرائعة متى تصنع ؟ شيء غريب من السنة إلى السنة السابعة لذلك أخطر مرحلة في التعليم المرحلة الأولى ، كل القيم ، والمبادئ ، والأساليب ، والأنماط ، وأساليب النظافة ، والأناقة ، والعناية بالثياب ، طريقة الطعام والشراب ، كل هذا يرسخ عند الطفل بين الأولى والسابعة ، وبعد هذا السن يصعب تقويم الطفل ، لذلك نحن حينما نخاطب الأب والأم فقط ، إذا كان الأب صادقاً والأم كذلك تعلم الأطفال الصدق ، أما إذا دخن الأب أمام ابنه ، ثم رأى في يد ابنه دخينة فأقام عليه الدنيا في تناقض كبير صار .
أنا أقول إن معظم أخطاء الصغار هو خطأ من الذين يربيهم ، ولو أردنا جيلاً قوياً واعياً معطاءً يتحمل المسؤولية يجب أن نربي الأب والأم على هذه الخصائص ، أنا أقول هذا الكلام خطير جداً ونحن في أمس الحاجة إليه ولا أبالغ إذا قلت أولادنا أكبر ورقة رابحة بأيدينا ، أولادنا هم مستقبلنا ، أولادنا يعقد عليهم الأمل في أن تستعيد أمتنا دورها القيادي بين الأمم ، ولكن يحتاجون إلى جهد كبير ، يجب أن ننتبه إلى توجيههم ، يجب أن ننتبه من أين يستقون ثقافتهم ، يجب أن يستقي هؤلاء الصغار ثقافتهم من هذا الدين العظيم ، من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، من أصحابه العظماء ، لا بد من صدق وألخص هذا الموضوع الذي يعدّ من أخطر الموضوعات التربوية أن القدوة قبل الدعوة وأن الإحسان قبل البيان .
الأستاذ عدنان :
دكتور يمكن في بعض الأحيان أن يقال عن الإنسان الصريح في موضوع إن جاءه ضيف أن يستقبله أو أن لا يستقبله ، يقال عنه إنه جلف ، يقال بالمقابل عندما تأتي التوجيهات ليكون الطفل في بيت أبويه يستمع إلى كلام الصدق ويتصرف بصدق ويقول الصدق ، نجد هنا في الميدان الاجتماعي ما يغالبنا فإما أن نغلبه وإما أن يغلبنا ، هنا كيف يمكن أن يكون التوجيه ضمن حالة اجتماعية واسعة يتهم فيها من يكون على القدوة الحسنة التي أوردتموها .
التواصي بالحق يوسع دوائر الحق :
الدكتور راتب :
الحقيقة إذا كانت هناك بقعة ضوء متألقة هذه تتوسع ، أما إذا شاع الكذب صار الصادق شاذاً ، إذا شاع النفاق أصبحت الصراحة قسوة ، نحن نريد أن نعتني ببقعة الضوء هذه لتتنامى ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
التواصي بالحق يوسع دوائر الحق ، لذلك حينما يلغى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حينما لا نتناهى عن منكر نفعله ، عندئذ تستحق الأمة الهلاك بدليل أن الله عز وجل يقول :
﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ (79)﴾
فلا بد من أن أكون صادقاً ، ولا بد من أن أدافع عن صدقي ولو أن الآخرين تألموا ، أما حينما يشيع الكذب ، يشيع النفاق ، يصبح المؤمن غريباً وقد بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء .
كل إنسان مسؤول له أجر مرتين إذا أحسن وعليه وزر مرتين إذا أساء :
إلا أن هناك ملاحظة مهمة جداً هو أن الذي يحتل منصباً قيادياً ، معلم صف ، أب في أسرة ، مدير مستشفى ، رئيس جامعة ، مدير معمل ، أي منصب قيادي له حساب خاص عند الله ، ما حسابه الخاص ؟ إن أحسن فله أجران أجر إحسانه وأجر من قلده ، وإن أساء فعليه وزران وزره ووزر من قلده ، من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، هذا ترغيب وترهيب ، الأب حينما يدخن وله أولاد يتحمل هو وزر تقليد أولاده له ، والأب حينما يصدق ويكون الموقف حرجاً له مكافأة صدقه وله مكافأة أولاده الذين أعجبوا بهذا الصدق ، فلذلك هؤلاء القادة المرشدون ، الموجهون ، العلماء ، المدرسون ، المعلمون ، الآباء ، الأمهات ، هؤلاء لهم أجر مرتين إذا أحسنوا ، وعليهم وزر مرتين إذا أساؤوا .
الأستاذ عدنان :
دكتور حتى في الحياة الاجتماعية عندما يعرف فلان أنه يسير على طريق القدوة فإنه يعرف فيما يأتي من الزمن أنه هو هكذا ، وفعلاً يجب أن نتمثل ما يفعله فلا يؤاخذه إنسان إن كان من قبل قد آخذه ، وهذا من الأخلاق الكريمة ومن مكارم الأخلاق التي نرجو الله عز وجل أن تكون واسعة الأفق في مجتمعاتنا ، ومن مكارم الأخلاق أن نتابع ما يتصل بالإعجازات العلمية لندرك عظمة الله عز وجل .
الموضوع العلمي :
الطيور تعد أكثر العجماوات تضحية في عالم الأحياء :
الدكتور راتب :
لكن لي كلمة أخيرة من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به ، أنت حينما تجعل الهموم هماً واحداً يكفيك الله الهموم كلها ، وإذا عملت لوجه واحد كفاك الله الهموم كلها .
الحقيقة أن هذه الكائنات التي نسميها العجماوات تعيش حياة اجتماعية راقية فالطيور مثلاً تعد أكثر العجماوات تضحية في عالم الأحياء ، فالطائران الأب والأم يعملان دون توقف لأجل الصغير الخارج من البيضة ، بعض أنواع الطيور تحضر الطعام لصغارها باستمرار طوال أربع وعشرين ساعة ، عمل الصغار الوحيد هو فتح أفواهها انتظاراً للطعام الذي سيحضره الأب أو الأم ، فالصغار بحاجة إلى رحمة الوالدين وإيثارهما ليبقوا على قيد الحياة ، وإنّ تَرْكَ الفراخ تعيش لوحدها يعدّ موتاً محققاً لها .
هذه الطيور الغواصة تضحي بنفسها لأجل صغارها ، فالعش الذي بنته خلف الشلال الصغير أمين وبعيد عن الأعين ، يجمع الوالدان الطعام لصغارهما دون كلل ، وفي كل عشر دقائق يأتي الطعام إلى العش ، هذه الكائنات ليست بشراً بل طيور ، والمنتظر من كل حيوان بحسب رأي بعض من يعتقد بالتطور الاهتمام بنفسه وإشباع بطنه وحسب ، ولكن الأمر هنا بعكس ذلك تماماً ، فالأمهات تهتم بصغارها قبل نفسها بل وتضحي بحياتها من أجلهن .
وتقوم كائنات كثيرة بتضحيات أكبر لأجل صغارها ، الأثل الوحشي تخاطر بحياتها لحماية صغارها ، تضع نفسها كالجدار الواقي بين المفترس وصغارها عند أي هجوم ، تتظاهر أنها بطيئة من أجل صغارها رغم أنها أسرع من هذه الصغار ، وهكذا عند وصول الحيوانات المفترسة ستنجو الصغار وقد تموت الأم ، هذه مغامرة خطيرة جداً وأحياناً تخسر بعض الكائنات حياتها في هذه المخاطرة .
أستاذ عدنان نحن حينما نتأمل عظمة الخلق نتعرف إلى الخالق ودائماً وأبداً التفكر في مخلوقات الله أقصر طريق إلى الله وأوسع باب ندخل منه على الله .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ عدنان :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .