- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في حلقة جديدة في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
المناظر الخلابة يتأمل ويسبح ربه ومن الناس من يأخذ الأمر على عجل ، لكن الذي يتأمل يجد في نفسه حاجة هامة يمكن أن يتابعها ليوحد الله ربه ، ترى التأمل في هذه الحالة كيف يكون تعريفاً لنصل من بعد ذلك إلى آفاق جديدة في التأمل ؟
من تفكر في خلق السماوات والأرض عرف الله :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عدنان بادئ ذي بدء كتاب الله بين أيدينا إذا قرأنا في القرآن آية أمر ماذا يقتضي منا ؟ أن نأتمر ، و إذا قرأنا في القرآن آية نهي ماذا تقتضي منا ؟ أن ننتهي ، إذا قرأنا في القرآن قصة أمة سابقة ينبغي أن نتعظ ، إذا قرأنا في القرآن مشاهد يوم القيامة وصفاً لأهل الجنة ينبغي أن نطلب الجنة ، إذا قرأنا مشهداً من مشاهد يوم القيامة في النار ينبغي أن نتقي النار ، إذاً ما من آية في القرآن الكريم إلا ينبغي أن يكون لنا موقف منها ، فإذا كان في القرآن الكريم ألف وثلاثمئة أية تتحدث عن الكون ، هل يعقل أن يندرج في القرآن الكريم آيات كثيرة تقترب من ألف وثلاثمئة دون أن يكون لنا موقف منها ؟ مستحيل فآيات الكون في القرآن الكريم تقتضي التفكر ، آيات الكون في القرآن الكريم رؤوس موضوعات للتفكر ، منهج للتفكر ، لأن الله عز وجل جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، لأن الإنسان إذا تفكر في خلق السماوات والأرض عرف الله .
ارتباط التأمل في خلق السماوات و الأرض بمكارم الأخلاق :
مرة ثانية قد يسأل سائل ما علاقة التفكر والتأمل بمكارم الأخلاق ؟ الإنسان حينما يعرف الله يبحث عن منهجه ، منهج الله أخلاقي ، القرآن الكريم أمر بالصدق ، والاستقامة ، والأمانة ، والعفة ، وضبط اللسان ، وأداء الحقوق
أنت حينما تعرف الله دون أن تشعر تبحث عن طريقة تتقرب به إليها ، وطريقته منهجه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، فكما أن التوحيد مرتبط أشد الارتباط بمكارم الأخلاق ، التأمل في خلق السماوات والأرض مرتبط أشد الارتباط بمكارم الأخلاق .
تعريف التأمل :
التأمل في الحقيقة تدقيق النظر في الكائنات ، بفرض الاتعاظ (التذكر)، أو هو استعمال الفكر والعقل ، طبعاً العقل والفكر أحياناً اسمان لمسمى واحد ، وأحياناً العقل في القلب :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
لكن بشكل أو بآخر هذا الجهاز الإدراكي الذي أودعه الله فينا ، هذا الجهاز ينبغي أن نستعمله لما خلق له ، معظم الناس يستخدمون عقولهم لغير ما خلقت لها ، لتحقيق مصالحهم فقط ، للإيقاع بين الناس ، للتآمر على الناس ، أما هذا العقل الذي هو أعظم عطاء على الإطلاق ، ينبغي أن يستخدم لما خلق له ، هو خلق ليتفكر في خلق السماوات والأرض وليزداد معرفة ، وليزداد انضباطاً ، وليزداد إحساناً ، إذاً التفكر هو النظر في ملكوت السماوات والأرض ، بغرض المعرفة والموعظة والانطلاق إلى طاعة الله أو هو استخدام العقل لما خلق له ، تماماً كما لو اقتنيت آلة طبع ملونة هذه الآلة صنعت كي تستخدمها في تصميم الأغلفة ، التقاويم ، البطاقات ، أما حينما تستخدم هذه الآلة الغالية جداً ، الثمينة جداً ، النافعة جداً في تزوير العملة نقول لقد استخدمتها لغير ما صنعت له ، لأوردتك السجن ، والإنسان أحياناً يفكر :
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19﴾
أحياناً يستخدم عقله لغير ما خلق له .
العقل أعظم عطاء من الله عز وجل ينبغي أن يُستخدم لما خلق له :
مرة ثانية أقول قد يكون هذا العقل في ضلال شديد لأنه لم يستنر بوحي الله عز وجل ، كيف أن العين تحتاج إلى ضوء
يتوسط بينها وبين المرئيات كذلك العقل يحتاج إلى وحي الذي عجز عن إدراكه يخبره الوحي به
إذاً التأمل في خلق السماوات و الأرض هو جزء أساسي من أخلاقيات الإنسان ، ولكن ورد في بعض الأحاديث :
(( أمرني ربي بتسع خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة ))
موضوع هذا اللقاء في أن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة .
الأستاذ عدنان :
دكتور أحياناً يمكن أن تكون موضوعات التأمل في الطبيعة ولا تتعداها ، ولكن في بعض الأحيان ينتقل الإنسان وهو الذي استعمل عقله وفطرته السليمة إلى أن يقول يا رب ما أجمل صنيعك ، إذاً ينتقل من شيء إلى شيء من خلال التأمل والتفكر ، بالتالي تختلف أنواع التأملات .
لمعرفة الله عز وجل طرائق ثلاث :
الدكتور راتب :
أستاذ عدنان ، الله عز وجل لا تدركه الأبصار ، يعني مستحيل وألف ألف مستحيل أن ندركه بحواسنا ، ولكن العقول تصل إليه ولا تحيط به ، لذلك الله عز وجل جعل لمعرفته طرائق ثلاث خلقه ، وأفعاله ، وكلامه .
1 – التفكر في مخلوقاته :
الآن أمرنا أن نتفكر في مخلوقاته :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
أنا حينما أتفكر في خلق السماوات والأرض أرقى .
البعوضة أهون مخلوق على الله من آياته الدالة على عظمته :
بعوضة وردت في القرآن الكريم ، أنا لا أصدق أن هناك مخلوقاً أهون على الله من بعوضة ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أكد هذا المعنى :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
هذه البعوضة من يصدق أنه بعد اكتشاف المجهر الإلكتروني الذي يكبِّر الشيء مئات ألوف المرات تبين بعد وضعها تحت المجهر أن في رأسها مئة عين ، وفي فمها ثمانية وأربعون سناً ، و لها ثلاثة قلوب ، قلب مركزي وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، جهاز لا تملكه الطائرات جهاز استقبال حراري ، ترى الأشياء لا بأشكالها و لا بألوانها و لا بأحجامها و لكن ترى الأشياء بحرارتها فقط ، طفل نائم حرارته (37)لا ترى غيره في الغرفة في الليل ، حساسية هذا الجهاز واحد على ألف من الدرجة المئوية ، شيء آخر عندها جهاز تحليل دم ما كل دم يناسبها ينام أخوان على سرير واحد يستيقظ الأول وقد ملئ بلسع البعوض والثاني لا شيء فيه
إذا ً معها جهاز تحليل دم فإذا ناسبها الدم وقعت على صاحب هذا الدم ، لكن لزوجة الدم لا تسمح له أن يمر عبر خرطومها الدقيق معها جهاز تمييع للدم ، تميع الدم ، ولئلا يقتلها الإنسان وهي تلدغه معها جهاز تخدير تخدره أما حينما يحاول قتلها تكون في الجو يكون انتهى مفعول التخدير يتوهمها على يده وهي في الغرفة تضحك عليه .
وعندها أجهزة استقبال حرارية ، و جهاز تحليل دم ، وجهاز تمييع دم ، وجهاز تخدير ، و في خرطومها ست سكاكين ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب تمتص به الدم :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
للبعوضة محاجم إذا وقفت على سطح أملس ومخالب إذا وقفت على سطح خشن :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
الآيات القرآنية في كتاب الله عز وجل رؤوس موضوعات للتفكر :
الآيات القرآنية في كتاب الله عز وجل والتي تزيد عن ألف وثلاثمئة آية هي رؤوس موضوعات للتفكر ، فإذا جعلنا من هذه الموضوعات منهجاً لنا للتفكر عرفنا الله ، وإذا عرفنا الله أطعناه وسعدنا بقربه ، في الدنيا والآخرة .
إذاً النوع الأول من التفكر في خلق الله في السماوات ، في الأرض ، في المجرات ، في الجبال ، في الأنهار ، في الأسماك ، في الأطيار ، في النباتات ، في الحيوان ، في جسم الإنسان ، في حواسه ، في شعره .
شعر الإنسان يقترب من ثلاثمئة ألف شعرة وفي الشَّعر ، جعل لكل شعرة وريداً ، وشرياناً ، وعصباً ، وعضلة ، وغدة صبغية ، وغدة دهنية .
في شبكية العين مئة وثلاثين مليون مخروط وعصية ، أحدث آلة تصوير رقمية احترافية بالميلمتر مربع فيها عشرة آلاف مستقبل ضوئي ، بينما في شبكية العين بالميلمتر منها يوجد مئة مليون مستقبل ضوئي من أجل دقة الرؤية ، لذلك أنت بالعين تفرق بين ثمانية ملايين لون ولو درج أحد الألوان ثمانمئة ألف درجة لفرقت العين بين درجتين .
التأمل أكبر عبادة على الإطلاق :
لذلك التأمل أكبر عبادة على الإطلاق لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾
ورد في بعض الأحاديث : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .
ولو تفكرنا في عظمة الله ما عصى أحد ربه ، هذا الباب الأول التأمل في مخلوقاته .
2 – التفكر في أفعاله :
الآن له أفعال ، هناك زلازل ، هناك براكين ، هناك هلاك أمم ، هناك أمطار غزيرة ، هناك شح في المياه في تقنين ، أمرنا الله عز وجل أن ننظر في أفعاله :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
هؤلاء الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم افتدوه بأرواحهم ، وأيدوه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، هم في لوحة الشرف ، بينما الذين وقفوا ضده وحاربوه هم في مزبلة التاريخ .
كل إنسان مأمور بالتفكر في خلق السماوات و الأرض و التفكر بأفعال الله تعالى :
لذلك :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
فكما أنني مأمور أن أتفكر في خلق السماوات والأرض أنا مأمور أيضاً أن أتفكر في أفعال الله عز وجل ، ولكن لابد من تَحَفظ ينبغي أن أبدأ بالكون ، أن أبدأ بمخلوقاته وأثني بكلامه كي يعطيني التأمل في خلقه وتدبر كلامه رؤية خاصة لفهم أفعاله ، لأن عدل الله لا يدرك بالعقل وحده إلا بحالة مستحيلة أن يكون لك علم كعلم الله .
التفكر في خلق الله عز وجل يكشف للإنسان العظات و العبر :
الباب الثاني أن أتفكر في خلق السماوات والأرض بل في أفعال الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
من لطائف التفسير أن هناك آيتين الأولى :
﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)﴾
فانظروا بالفاء ، والآية الثانية :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
يوجد ثم ، الفاء تفيد الترتيب على التعقيب ، وثم الترتيب على التراخي ، أحياناً يرتكب الإنسان معصية كبيرة أو جريمة ولا يعاقب عليها في القريب العاجل هذه مغطاة بقوله تعالى :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
أحياناً يحلف الإنسان يميناً غموساً كاذبة ، ما إن ينتهي من حلف اليمين إلا يقع مشلولاً هذه :
﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)﴾
أنا كما أنني مأمور أن أتفكر في خلق السماوات والأرض ، مأمور أن أنظر في أفعال الله وأن أستنبط منها العظات والعبر .
تحقق الوعد والوعيد أحد أسباب الإيمان بالقرآن الكريم :
أستاذ عدنان القرآن الكريم فيه وعد وفيه وعيد ، أحد أسباب الإيمان بالقرآن الكريم تحقق الوعد والوعيد مثلاً :
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)بِنَصْرِ اللَّهِ (5)﴾
حينما تحقق وعد الله للروم بانتصارهم على الفرس هذا التحقق دليل أن هذا الكلام كلام الله عز وجل ، أحد أكبر أسباب أن هذا القرآن كلام الله تحقق الوعد والوعيد ، الوعد في الخير والوعيد في العقاب .
3 – التفكر في كلامه :
باب آخر من أبواب التأمل هو تدبر القرآن الكريم ، القرآن الكريم وصف الله عباده المؤمنين أنهم يتلونه حق تلاوته ، ومن أدق ما قاله المفسرون في حق تلاوته : أن تقرأه قراءة صحيحة وفق قواعد اللغة العربية ، ثم أن تقرأه قراءة مجودة وفق أحكام التجويد ، ثم أن تفهمه ، ثم أن تتدبره ، ما الفرق بين فهمه وبين تدبره ؟ الفهم أن تفهم المعاني وقال بعض علماء القرآن : تؤخذ ألفاظه من حفاظه وتؤخذ معانيه ممن يعانيه .
تدبر آيات القرآن الكريم لفهم معانيها و تطبيقها :
أما الشيء الذي أريد أن أقوله التدبر أن تسأل نفسك دائماً أين أنت من هذه الآية ؟ هل أنت مطبق لها ؟ هل تشملك ؟ هل تعنيك ؟ حينما يتساءل الإنسان أين أنا من هذه الآية ؟ هذا هو التدبر ، مثلاً :
﴿ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا (102)﴾
هل أنا منهم ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
هل أنا من هؤلاء ؟ آيات كثيرة تصف حالات المؤمنين أنا حينما أتدبر القرآن أسأل نفسي دائماً أين أنا من هذه الآيات ؟
التفكر في خلق السماوات والأرض ، والنظر في أفعال الله ، والتدبر في القرآن الكريم ولكن قراءة صحيحة ، وقراءة مجودة ، وفهم لمعاني الكتاب ، ثم التدبر ، ثم التطبيق ، أنا حينما أطبق أكون قد تلوت القرآن حق تلاوته ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ورُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ))
و :
(( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ))
هذه بعض أنواع التأمل .
الأستاذ عدنان :
دكتور تعدد هذه الأنواع يعني من طرف آخر تعدد المظاهر في التأمل فما هي المظاهر ؟
مظاهر التأمل :
1 ـ التأمل في الكون يعرفني بالله :
الدكتور راتب :
الحقيقة التأمل أولاً يدفع الناس إلى ربهم ، هي أزمة معرفة ، وإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، أنا حينما أعرف الله لأنني بالأصل أنا مجبول ومفطور على حبّ وجودي ، وعلى حبّ سلامة وجودي ، وعلى حبّ كمال وجودي ، وعلى حبّ استمرار وجودي ، فانا حينما أعرف الحقيقة أتمسك بها ، الأزمة أزمة علم فقط بل إن أهل النار :
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} ﴾
أنا حينما أتأمل وأتعرف إلى الله عز وجل عندئذ أتجه باتجاه تطبيق شرع الله ، هذه واحدة ، إذاً التأمل في الكون يعرفني بالله .
2 ـ التأمل يعرفني بمنهج الله :
التدبر بالقرآن الكريم يعرفني بمنهج الله ، هذه الثانية .
3 ـ التأمل يُمكنني من معرفة الآمر :
الثالثة خير معين على طاعة الله أن أعرف الآمر ، إنني إن عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر ، إذاً خير معين على طاعة الله ، بل إن التأمل قيمة علمية عالية ، الإنسان أودع الله فيه قوة إدراكية وما لم يلبِ الحاجة العليا فيه هبط عن مستوى إنسانيته ، أنا حينما أتفكر في خلق السماوات والأرض أؤكد إنسانيتي ، وأؤكد هذه القدرة الإدراكية التي أودعها الله في .
4 ـ انقلاب الإيمان من إيمان فطري تصديقي إلى إيمان تحقيقي :
شيء آخر ينقلب الإيمان من إيمان فطري تصديقي قد يكون هشاً لا يقاوم ضغطاً أو إغراءً إلى إيمان تحقيقي ، فرق بين الإيمان التصديقي والإيمان التحقيقي ، الإيمان التحقيقي يجعل الإنسان عابداً ، و لعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد . ثم إن التفكر في خلق السماوات والأرض دليل رجاحة العقل ، طبعاً أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
التأمل في خلق السماوات والأرض فوائده لا تعد و لا تحصى :
إذاً نحن أمام فوائد لا تعد ولا تحصى من التأمل في خلق السماوات والأرض ، ومرة ثانية هناك ارتباط وشيج ودقيق ومتين بين التفكر في خلق السماوات والأرض وبين مكارم الأخلاق ، أنا حينما أتعرف على الله أتواضع ، حينما أتعرف إلى الله لا أتأل على الله ، لا أستعلي على عباد الله ، لا أسخر الناس لخدمتي ، لا أبتز أموالهم ، أخاف من الله لا أبني مجدي على أنقاض الآخرين ، لا أبني حياتي على موتهم ، لا أبني أمني على خوفهم ، لا أبني عزي على ذلهم ، هذا كله من نتائج الإيمان ولا تصح الحياة إلا بالإيمان ، لا يستقيم البشر إلا بالإيمان ، أما إذا شردوا عن الله عز وجل انظر إلى حياتهم صراعات وحروب ، يعني حماقات البشر حينما يدفعون ثلثي دخلهم لقتل البشر .
الأستاذ عدنان :
دكتور الأشياء الداعية للتأمل موجودة أمام الناس جميعاً ، لماذا فلان يتأمل فيصل إلى الله عز وجل وفلان يتأمل ثم يشرد وكأن شيئاً لم يكن ؟
من اتخذ قراراً بمعرفة الله عز وجل كل شيء في الكون يدله عليه :
الدكتور راتب :
قضية اتخاذ قرار بمعرفة الله ، إن اتخذت هذا القرار في أعماقي كل شيء أمامي يدلني على الله ، وإن لم أتخذ هذا القرار لو كنت في محطة ناسا الفضائية ، لو كنت في مجهر إلكتروني لو وضع تحت يدي حقائق مذهلة في علم الأحياء وفي علم المجرات لا أؤمن لأن الإيمان يحتاج إلى قرار سابق ، تماماً آلة تصوير غالية جداً احترافية ثمنها مليون من دون فيلم لا شيء ، اطلاع على حقائق لكن لا يوجد شيء تنطبع عليه ، إذا في طلب للحقيقة كل هذه الحقائق ترسم على الفيلم عندئذ يرقى الإنسان .
الأستاذ عدنان :
هل توالي التأمل يدعو إن لم يكن يدعُ مبدئياً يدعُ في النهاية إلى أن يكون الإنسان مؤمناً بالله تعالى ؟
دور الدعاة لا أن يجبروا من حولهم على طاعة الله بل يقنعوهم بطاعة الله :
الدكتور راتب :
هذا قاله الإمام الغزالي : أردنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله . الإنسان منطقي ويحب ذاته
فإذا أقنعته أن مصلحته في طاعة الله يطيع الله ، لذلك دور الدعاة الصادقين لا أن يجبروا من حولهم على طاعة الله ، أن يقنعوهم بطاعة الله .
(( علموا ، ولا تعنفوا))
الإجبار لا قيمة له ، القمع لا يفعل شيئاً ، البطولة أن تقنعني لا أن تقمعني ، البطولة أن تثير حماستي لهذا لموضوع لا أن تجبرني على أن أفعله ، لأن الله عز وجل قال :
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
فالبطولة بالإقناع .
الأستاذ عدنان :
في بعض الأحيان يمكن أن يكون التأمل في منعكس على النفس وذات الإنسان محلقاً به ، وفي بعض الأحيان لا يكون ذلك ، قد يكون هذا الرفض الداخلي من رفض في وجود الله تعالى ، وقد يكون هذا التأمل في مزيد من الرفض ترى هذه الناحية التأمل في هذا الوضع ماذا يفيد ؟
الإنسان مخير لا مسير :
الدكتور راتب :
الإنسان مخير :
﴿ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17)﴾
الله عز وجل كل شيء يدل عليه ، الإنسان إذا اختار الشهوة والمصلحة والعلو في الأرض لا يرى شيئاً ، حبك الشيء يعمي ويصم .
الأستاذ عدنان :
أستطيع أن أقول : إن التأمل أيضاً بحاجة إلى أن يكون الإنسان متبعاً لفطرته السليمة التي تدعوه للإيمان ، وبعد ذلك التأمل ينميها وينمي طريق وصوله إلى الله عز وجل .
الدكتور راتب :
تثقل المعلومات الإيمانية بالتفكر .
الأستاذ عدنان :
في هذا الأمر أيضاً ومن خلال التأمل نتابع معكم الموضوع العلمي ، ومن خلال التأمل نرجو الله عز وجل أن يزيدنا الله إيماناً ، فمن جملة أنواع التأمل كما بينتم التفكر في خلق السماوات والأرض .
الموضوع العلمي :
طيور البحر (الكالاموس):
الدكتور راتب :
في سواحل أوربا الشمالية طيور البحر المسماة الكالاموس ، هذه الطيور تبني أعشاشها هنا في الصخور العالية على طول هذه السواحل ، عند مجيء شهر آب تقوم صغار الطيور بأول تجربة طيران لها ، وتحاول الطيران باتجاه البحر ، وهذه تجربة شاقة بالنسبة لها ، فالبحر بعيد عن الصخور ما يقارب كيلو متراً والعش عال جداً
وأخيراً يلقي أول الصغار نفسه من العش إلى الجو باتجاه الأسفل ، يحلق نحو البحر تحت إشراف الطيور الكبيرة وبهذا تتم أول تجربة طيران بنجاح ، ثم تليه بقية الصغار .
مع أن هذا الطيران خطير جداً في البحر ولكن لا بد لها من التدرب على الطيران لتأمين حياة الصغار ، فالثعالب المتربصة بها موجودة في الساحل .
الله تعالى خلق كل كائن وألهمه التضحية لحماية صغيره :
قضية التدريب قضية أرادها الله في كل مخلوقاته ، وإن أطول أعمار الطفولة هي طفولة الإنسان ليزداد تدريباً وتجربة من والديه ، في إحدى تجارب التدريب على الطيران لم يصل هذا الصغير إلى البحر واضطر للنزول الإجباري في الساحل ولكن أمه لم تتركه وحده كما ترون ، تحاول الأم بكل قوتها أن توجه الصغير بسرعة نحو البحر ، لأن الثعالب قد رأتها ، تدفع الأم الصغير إلى البحر باستمرار
ومن جهة أخرى ترفرف بجناحيها لتشد انتباه الثعالب إليها ، توشك الثعالب أن تصل إلى الصغير ، تقوم الأم بتضحية مثالية نادرة لا شبيه لها لتكسب الصغير المزيد من الوقت وتنقذه فتلقي بنفسها أمام الثعالب ، لتفتدي صغيرها بحياتها لعلها تستطيع إنقاذه ، الصغير الذي لا علم له بما جرى من الحوادث خلفه ينجح في الوصول إلى البحر ، الطائر الصغير ينادي أمه فبقاؤه في الحياة وحده مستحيل ، وتجيب لندائه الطيور الأخرى وتقبل بين صغارها ، هناك تفسير واحد فقط لقيام الحيوان بتصرف عاطفي وإيثار بهذا الشكل بل وتضحية بحياته لأجل صغاره ، الله تعالى خلق هذا الكائن وألهمه التضحية التي قام بها لحماية الصغير .
هذه من آيات الله الدالة على عظمة الله ، أم تضحي بحياتها من أجل صغيرها ، فإذا وجدت إنساناً يقصر في العناية بأولاده ماذا نقول عنه ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
لكن الذين شردوا عن الله :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾
خاتمة وتوديع :
الأستاذ عدنان :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .