- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠21برنامج مكارم الأخلاق - قناة انفنيتي
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في حلقة جديدة في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
دكتور عندما يكون الإنسان شجاعاً هل الشجاعة تعني أنه يقذف بنفسه على المكاره فقط ؟ إذ أن الشجاعة إن كانت تعني هذا المعنى فأن يقذف الإنسان في الذنوب وهي المكاره ستؤدي به إلى نهاية وخيمة ، هل تسمى هذه شجاعة ؟ لا طبعاً ، إذاً الشجاعة محفوفة بأطر سليمة من ناحية لا هي من الجبن ولا هي من التهور ، إذا توقفنا عند الشجاعة في ميادينها لنستخلص فحوى معناها الاصطلاحي .
الإنسان من بين جميع المخلوقات قَبِل حمل الأمانة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عدنان هذا الموضوع يحتاج إلى مقدمات ، الله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرمه أعظم تكريم ، الله عز وجل عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، فالإنسان من بين جميع المخلوقات قبل حمل الأمانة ، معنى أنه قبل حمل الأمانة أنه قبل أن يتولى تزكية نفسه ، تولى أن يعرفها بالله ، وتولى أن يطهرها من كل دنس ، وتولى أن يحليها بالكمالات التي يمكن أن تكون سبب سعادته الأبدية :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
كل إنسان مكلف أن يعبد الله عز وجل :
ثم جاء الله بهذا الإنسان إلى الدنيا ، الآن في الدنيا في شهوات :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
في عقل :
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7)﴾
في فطرة :
﴿ فأقم وجهك للدين حنيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
في شهوة ، في فطرة ، في عقل ، في كون يدل على الله ، في منهج ، في شرع ، في اختيار ، الإنسان مكلف أن يعبد الله ، والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية طوعية .
الشجاعة هي أن أضحي بالدنيا من أجل الآخرة :
الإنسان حينما أودع فيه الشهوات جعله كائناً متحركاً في حركة ، هذه الحركة واسعة جداً يمكن أن نعبر عنها بمئة وثمانين درجة ، لكن الطريق الموصل إلى سلامته وسعادته يجب أن يبقى في درجات محددة ولتكن مئة درجة ، فالشجاعة أن توقع الحركة وفق منهج الله ، أنا حينما ألقي بنفسي إلى التهلكة أكون خالفت منهج الله ، وحينما أضن بنفسي عن أية مخاطرة أكون قد خالفت منهج الله ، أما حينما يرتسم في ذهني هدف نبيل واضح يرضى الله عنه وهو إذا وصلته سبب سعادتي ورقيي ؛ هذا الهدف ينبغي أن أسعى إليه مع كلفة باهظة ، هذه الشجاعة أن أضحي بالغالي من أجل الأغلى ، أن أضحي بالدنيا من أجل الآخرة ، أن أضحي بحياتي من أجل ديني ، دائماً عندنا أولويات ، المؤمن تقع في أوليات حياته هذا الدين العظيم ، لذلك الشجاعة كما قيل الإقدام على المكاره :
﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
الشجاعة إقدام على المهالك والمكاره والمتاعب من أجل هدف نبيل :
دعك من القتال ، هذا الذي يقبع وراء طاولة الدراسة ، ويدرس سنوات طويلة بجهد جهيد ، لا ينام الليل ، يتابع الدروس ، يحضر المحاضرات ، يؤدي الوظائف ، يتفوق ، ينجح ، بعد مرحلة ما يغدو في مرتبة عالية ، وله دخل كبير ، عندئذ يقطف ثمار تعبه الطويل.
يوجد بالحياة الدنيا كمبدأ لافوا زيه مصونية المادة يعني أي جهد تبذله في البداية تحصله في النهاية ، وأي جهد تضن به في البداية تدفع ثمنه باهظاً في النهاية ، الشجاعة حركة لكن أنا الحركة ينبغي أن يكون لها هدف واضح ، هدف نبيل ، هدف مشروع ، هدف سمح الله به ، أنا حينما أضحي ببعض ما أملك من أجل هذا الهدف أكون شجاعاً ، أما الذي يقترف المعاصي والآثام لا يعدّ شجاعاً مع أنه يقتحم إلى المهالك ، الذي يسرق المال و يضحي بحياته لا يسمى شجاعاً ، لا بد من هدف نبيل ، ولا بد من سبل نبيلة لتحقيق هذا الهدف ، لذلك الشجاعة إقدام على المهالك والمكاره والمتاعب من أجل هدف نبيل .
كان من الممكن أن يكون الطرف الآخر في كوكب آخر ، لاسترحنا وأرحنا ، وقد كان من الممكن أن يكونوا في قارة أخرى ، وكان من الممكن أن يكونوا في حقبة أخرى ، في قرن معين يأتي المؤمنون ، في قرن آخر يأتي غير المؤمنين ، لا في حروب ولا منازعات ولا اجتياح ولا حروب أهلية ولا مآسي التي تئن منها البشرية ، ولكن شاءت حكمة الله أن نجتمع معاً في كل زمان ومكان ، وفي بلاد متقاربة لماذا ؟ قال بعض العلماء : لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي ، ولأن أهل الحق لا يستحقون جنة عرضها السموات والأرض إلا ببذل الغالي والرخيص والنفس والنفيس ، وكان من الممكن أن ينتصر الله من أعداء دينه ، ولكن شاءت حكمته أن يجعل النصر على أيدينا فلذلك لا بد من الشجاعة .
الشجاعة تحتاج إلى إيمان و تضحية :
الحياة مركبة تركيباً عجيباً ، مركبة تركيباً امتحانياً :
﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
مستحيل وألف ألف ألْف مستحيل أن نصل إلى شيء ثمين من دون امتحان ، الآن حتى يكتب الإنسان قبل اسمه دالاً فقط كم سنة دراسة ؟ أكثر من خمس وثلاثين سنة حتى يكتب دال فقط ، مراتب الآخرة أعلى بكثير ، أن تصل إلى جنة عرضها السماوات والأرض لذلك لما الإمام الشافعي سئل : يا إمام ، أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ فقال : لن تمكن قبل أن تبتلى .
لذلك الشجاعة تحتاج إلى إيمان ، أقول لك بكلمة صريحة : الذي لا يؤمن بالآخرة لا يمكن أن يكون شجاعاً لأنه وضع البيض كله في سلة واحدة ، فإذا انتهت حياته ضاع كل شيء ، أما الذي وضع آماله كلها في جنة عرضها السماوات والأرض قمة سعادته أن يغادر الدنيا إلى جنة ، لذلك مفهوم الشجاعة من أصعب المصاعب أن يفهمه الآخرون ، مفهوم الشجاعة لا يفهمه الآخرون ، الشجاعة تحتاج إلى تضحية والتضحية بماذا ؟ بالدنيا هي عند الطرف الآخر كل شيء ، كل شيء .
الموت عرس المؤمن لأنه يلقى الله عز وجل :
لذلك لما فتح المسلمون بلاد الله الواسعة كان يقول قائدهم جئناك بأناس يحبون الموت كما تحبون الحياة .
فقط للتمثيل (أنا أضع المثل تركيبياً)أن إنساناً فقيراً جداً لكنه ذكي جداً ، عرض عليه أنه إذا أتى بدكتوراه في بلده يحتل أعلى منصب ، ويسكن في أجمل بيت ، ويقتني أجمل مركبة ، ويتزوج أجمل امرأة ، هكذا المثل تركيبي ، ذهب إلى بلاد بعيدة لينال الدكتوراه ، عمل في المطاعم ينظف الصحون عمل حارساً ليلياً ، بذل جهداً مخيفاً في سنوات عجاف طويلة كلها تعب ، وإرهاق ، ودأب ، وعمل ، ودراسة ، ومطالعة ، ودوام ، وكسب رزق قليل بجهد كبير ، فلما نال الدكتوراه وأخذ الشهادة وصدّقها وقطع بطاقة الطائرة وتوجه إلى المطار وأخذ بطاقة الصعود ووضع رجله في سلم الطائرة ، أنا أؤكد لأخوتي المشاهدين أن هذه اللحظة هي أسعد لحظات حياته على الإطلاق ، لأنها مرحلة فاصلة بين التعب والجهد والشقاء ، والدخل القليل والجهد الكبير ، والغربة والوحشة ، وبين أن يكون في أهله وفي بلده في أعلى مكانة وفي أجمل بيت وأجمل مركبة أنا أقرب المعاني ، حينما يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( تحفة المؤمن الموت ))
الموت عرس المؤمن ، صدق أستاذ عدنان أنا قرأت تاريخ الصحابة بشكل عام جميل ، شيء واحد لفت نظري أنهم جميعاً من دون استثناء بينهم قاسم مشترك واحد وهو أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند لقاء ربهم : وا كربتاه يا أبت ، قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه .
من لم يؤمن بالله لا يمكن أن يكون شجاعاً :
النبي عليه الصلاة والسلام تفقد أحد أصحابه عقب معركة (سيدنا سعد بن الربيع) كان من حرصه على أصحابه
يتفقدهم دائماً
فأرسل أحد الصحابة ليتفقده في ساحة المعركة ، رآه مع الجرحى يئنّ ، قال له : يا سعد ، إن رسول الله أمرني أن أتفقدك أنت مع الأموات أم مع الأحياء ؟ قال له : أنا مع الأموات ، ولكن بلغ رسول الله مني السلام ، وقل له : جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته ، وقُل لأصحابه لا عذر لكم إذا خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف .
إنسان فقد حياته لم يقل يا ويلي يا ويل أولادي ، كان في أعلى درجات سعادته لذلك البطولة لا أن نجعل الموت أكبر مصيبة أن نجعل الموت عرساً لنا ، وقرباً من الله عز وجل ، من دون هذه المعاني مستحيل أن تكون هناك شجاعة ، نوع من الانتحار ، نوع من فقد كل شيء ، لذلك لا تنتظر ممن لم يؤمن بالله ولم يؤمن بالآخرة أن يكون شجاعاً ، يعني يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل .
الأستاذ عدنان :
حتى لو سميت شجاعة فإنها تكون في إطار محدود حتماً ، أما الشجاعة التي تحدثت عنها فهي واسعة آفاقها كبيرة ، وما أظن إنساناً يتحلى بالشجاعة الدنيوية التي لا تنطلق من أسس عقيدة دينية كما وضحتم ، ما أظنه إلا يقف خاضعاً أما شجاعة هؤلاء كمثل ابن الربيع .
انقلاب الأمر على فرعون عندما جاء بالسحرة ليؤيدوه :
الدكتور راتب :
سحرة فرعون جاء بهم ليؤيدوه لكن لما رأوا سحرهم لا شيء أمام هذه المعجزة انقلب الأمر ، أنا أسمي هؤلاء السحرة بحالة جديدة اسمها حرق المراحل :
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾
تصور طاغية يهدد من حوله ، بماذا كان ردهم ؟
﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾
صدق أستاذ عدنان كلمة
﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
تفعل في نفسي فعلاً كبيراً ، يعني بالتعبير القريب ، لو عرضنا على إنسان دراجة يتملكها وسيارة يركبها لربع ساعة فقط ماذا يختار ؟ دراجة يتملكها ويركبها دائماً ، لو عرض عليه أن يتملك سيارة لربع ساعة ودراجة لربع ساعة ، يختار السيارة ، أما إذا عرض عليه أن يتملك مركبة فارهة و هي باسمه مع وقودها وسائقها على الدوام وأن يعار دراجة ليركبها ربع ساعة ماذا يفعل بلا تردد ؟ إله عظيم خالق الأكوان يخاطب الإنسان يقول له :
﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾
الآخرة خير نوعاً وأبقى أمداً من الأولى :
﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)﴾
خير نوعاً وأبقى أمداً ، فهذا الذي يؤثر الدنيا على الآخرة ما عرف حقيقة الآخرة ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، هم مكرمون :
﴿ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
الحقيقة هذا الدين لا يستقيم من دون فهم للآخرة ، من دون فهم للآخرة الدين متاعب ، الدين محرمات ، الدين عبء ، الإنسان لو وضع كل أهدافه في الدنيا يرى الدين تكاليف لا مبرر لها .
المؤمن حر وقوته و قيمته عند الله من حريته :
لذلك أنا أقول لا بد من أن نضم إلى الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر ، من هنا تأتي الشجاعة بالموقف ، أنا لست أعني بالشجاعة دائماً القتالية ، أحياناً تعترف بخطئك هذه شجاعة ، أنت حينما ترى أن الله يراقبك تعترف بخطئك ، أحياناً تدلي برأيك من دون أن تهاب إنساناً هذه شجاعة ، أساساً ما من شيء يؤخر تقدم البشرية كالكذب :
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
فالإنسان حينما يكذب يسقط ، أما حينما يكون شجاعاً يصدق ، في تعبير فيه شجاعة ، في إدلاء برأي بشجاعة ، في اعتراف بخطأ بشجاعة ، في أن تنحاز إلى الأقلية أحياناً ، الأكثرية أحياناً تائهون غارقون في ملذاتهم الخط العريض ، أحياناً تنحاز إلى الفئة المستنيرة الواعية وتأخذ موقفاً رائعاً ، لذلك الوقوف في وجه التيار الفاسد هذه شجاعة ، السير مع التيار سهل جداً لا يحتاج إلى شيء ، لكن البطولة لا أن تقبل بيئتك المنحرفة أن تقف في وجه انحراف البيئة ، وأن تخطط لتغيير البيئة ، هؤلاء الذين غيروا مسرى التاريخ شجعان لو أنهم خضعوا لبيئتهم ولمعطيات عصرهم وللمغانم وللمكاسب وللأقوياء ما كانوا عظماء إطلاقاً ، هم عظماء لأنهم رفضوا بيئتهم المنحرفة ، وأصلحوها ، واعتمدوا على الله في إصلاحها .
فلذلك الشجاعة مفهوم واسع جداً ، يعني أحد مفهوماته الشجاعة القتالية ، أما إنسان أحياناً يتكلم بحرية لا يقبل أن يكون منافقاً ، لا يقبل أن يكون صدىً للآخرين ، لا يقبل أن يحسب على أحد ، لا يليق بالإنسان أصلاً أن يكون مجيراً لجهة في الأرض ، هو إمعة ، لذلك المؤمن حر وقوته من حريته ، وقيمته عند الله من حريته .
الأستاذ عدنان :
دكتور هنا قد يتساءل إنسان إذا ما فكر يجد النتيجة واضحةً بينة ، الشجعان كيف أنهم وقفوا في وجه التيار الفاسد ، يعارضون بداية لكنهم عندما يثبتون ويعرف الآخرون أنهم كانوا على صواب ينقلب أمر النظرة السوء إليهم إلى إكبار وإجلال ، فيحصلون على الشجاعة وعلى الجائزة وعلى الجنة أيضاً في الدار الآخرة .
العبرة في النهاية :
الدكتور راتب :
العبرة في النهاية قال تعالى :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
العبرة أن هؤلاء الذين طغوا وبغوا هم في مذابل التاريخ ، أما الذين كانوا شجعاناً هم في قمم البشر وهم في لوحة الشرف للبشرية .
الأستاذ عدنان :
نستطيع أن نذكر أمثلة عديدة في الشجاعة وما قلتم ليس أمر الشجاعة القتالي إلا بواحدة ضئيلة ضمن شجاعات كثيرة جداً .
النبي عليه الصلاة والسلام
كان سيد الشجعان و قدوة لنا :
الدكتور راتب :
النبي عليه الصلاة والسلام كان سيد الشجعان ، كنا إذا حمي الوطيس كنا نحتمي برسول الله ، أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، هو النبي عليه الصلاة والسلام قدوة في كل شيء ، كل واحد منا له تميز بشيء لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان قدوة في كل شيء ، عرض عليه المال والنساء والزعامة :
(( و الله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ))
الثبات على المبدأ من الشجاعة ، المواقف الجريئة من الشجاعة ، الإدلاء بالرأي من الشجاعة ، الشجاعة واسعة جداً ، الشجاعة صفة الأبطال ، صفة رواد المجتمعات ، صفة الذين يغيرون مجتمعاتهم من حال إلى حال ، نسأل الله أن نكون من الشجعان ، وحينما ينتفي الكذب والنفاق في مجتمع يكون في حال غير الحال الذي نئن منه ، نحن حينما نكون صادقين مع أنفسنا ومع الله نكون شجعاناً ، وحينما نؤمن بالآخرة إيماناً يقينياً نكون شجعاناً ، وحينما نعيش لمبدأ كبير نكون شجعاناً .
إعجاز الله في مخلوقاته :
الأستاذ عدنان :
دكتور عندما نقف عند إعجاز الله عز وجل في مخلوقاته ، هل نأخذ الموقف الشجاع في أنفسنا وفي اعتقادنا أن : أيها الإنسان أقبل على ربك ، خذ الموقف الشجاع الذي يفيدك في المستقبل ، والذي تنتفع من خلاله في الدار الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض نتابع معكم موضوع الإعجاز .
العنكبوت كائنات تصطاد بنصب الشباك :
الدكتور راتب :
الحقيقة لازلنا في موضوع العنكبوت ، يعرف الناس عامة أن العنكبوت كائنات تصطاد بنصب الشباك ، إلا أن هذه العنكبوت التي تسمى ديلوبيس لا تنتظر علوق صيدها في الشباك ، و بدلاً من ذلك تقيم فخاً متحركاً ، تجهز خيوطاً خاصة جداً بمئتي ضربة فرشاة في الدقيقة ، ثم تضم الخيوط الدقيقة لبعضها ضمن خطة محكمة ، و بذلك يصبح الفخ القاتل جاهزاً .
و بعدها تتربص في الطرق التي تمر بها الحشرات كثيراً ، فعيونها الحادة تميز حتى أكثر الخطوات دقة ، ثم تَلُفُ صيدها بالحرير الخاص الذي صنعته ، و يمكنها أن تصطاد أكثر من فريسة في الليلة الواحدة و تنسج لكل فريسة شبكة خاصة بها ، هذه الشبكة إحدى خوارق التصميم الحقيقية ، ليس للفريسة نصيب للخلاص من هذا الفخ .
أسلوب الصيد لدى عنكبوت بولاس معجزة من إلهام الله تعالى :
أسلوب الصيد لدى عنكبوت بولاس معجزة أخرى في الخلق ، هذه العنكبوت تشد فريستها باتجاهها بأسلوب لا يقاوم ، هدفها ذكر العت ، تنتج العنكبوت أيضاً من جسمها خيطاً أمتن من الفولاذ ، و تضع على هذا الخيط قطرات لاصقة قوية ، ثم تدلي هذا الخيط من الشجرة باتجاه الأسفل مثل صنارة صيد السمك ، وتضرب بصنارتها ضربات خفيفة مثلما يفعل صياد السمك تماماً ، و تنتظر بصبر ، تستخدم العنكبوت حيلة عبقرية لشد الفريسة إليها ، تفرز أنثى العت هرمون الفيرمون لجلب ذكور العت و العنكبوت تقلد الرائحة نفسها و تضعها في طرف الفخ .
ذكر العت لا يقاوم هذه الدعوة المغرية ، و عندما يقترب العت تبدأ العنكبوت بلف الخيط من مركزه ، فالخطة المعجزة قد نجحت و وقعت الفريسة في الفخ ، ترون على الشاشة المعادلة الكيميائية لهرمون الفيرمون الذي ركبته أنثى العت ، و هذا الفيرمون مادة كيميائية خاصة جداً لا توجد إلا عند أنثى العت ، لو أردنا إنتاج مثل هذه المادة الكيميائية للزمنا القيام بأعمال معقدة في مختبر كيميائي متطور .
لو فرضنا أن العنكبوت أنتجت هذا الهرمون بعقلها فكان يجب على هذه الحشرة الصغيرة أن تتابع الطريق نفسها ، أولاً كان عليها أن تجد عتة أنثى لتتعلم منها طريقة مراودة الذكور ، ثم تأخذ منها نموذجاً كيماوياً من الفيرمون لتقوم بتحليله و تقليد إنتاجه في المختبر بحسب المعادلة التي وجدتها ، ثم وضع المادة الكيميائية التي ركبتها على طرف الخيط الذي جهزته للصيد ، إلا أن هذه العنكبوت الصغيرة ليس لها عقل قادر على أي تصميم ، و لم تحصل على أي تعليم ، و لا تملك مختبراً كيميائياً ، إذاً كيف استطاعت هذه العنكبوت إنتاج نسخة من هرمون الفيرمون ؟ كيف فكرت في وضع هذا الهرمون في طرف الفخ الذي صنعته ؟ هذه الأسئلة تأخذنا إلى حقيقة واضحة فمادة الفيرمون الكيميائية التي تنتجها العثة و تستخدمها العنكبوت للاصطياد وجدت من قبل الله تعالى ، يظهر لنا مرة أخرى بهذا المثال بديع صنع الله تعالى حاكم الكائنات و العوالم كلها .
عنكبوت الباب المفخخ تستخدم أسلوباً ذكياً للاصطياد ألهمها إياه الله عز وجل:
عنكبوت آخر تستخدم أسلوباً ذكياً للاصطياد هي عنكبوت الباب المفخخ ، هذه العنكبوت لا تهاجم كالعناكب الأخرى من الجو بل تحصل على صيدها من تحت التراب ، أولاً تقوم بحفر عش لها تحت التراب ، ثم تصنع باباً دائرياً في مدخل العش باستخدام خيطها مع التراب ، تثبت نقطة من طرف هذا الباب بمفصلة ، تنشر الخيوط الدقيقة المشدودة من داخل العش إلى الخارج ، وتموه الخيوط و الباب بالأوراق أو التراب ، بفضل هذا النظام تستشعر في جوانب العش أخف اهتزاز ثم تنسحب إلى داخل العش ، عندئذ يكون الفخ جاهزاً ، فالحشرة التي تمر بأمان فوق العش ستصير طعاماً للعنكبوت بعد قليل ، هاهنا نملة صغيرة تتجول بين الأزهار بأمان إلا أن واحدة من هذه الأزهار مختلفة إنها فخ للعنكبوت
إذاً كيف نصبت العنكبوت هذا الفخ و ليس لديها إمكانية تعقل و لا تفكير ؟ ثم كيف جهزت نظام إنذار مبكر في أطراف هذا الفخ ؟ ممن تعلمت الاختفاء بين الأزهار مقلدة إياها على سطح الأرض ؟ و الجانب الأغرب في هذا الموضوع معرفة كل عنكبوت مولودة تقنية الصيد لدى نوعها . عنكبوت بولاس هذه لا تزال صغيرة قد صنعت أول فخ لها ، حجمها لا يبلغ قيد أنملة أما فخها فأصغر من رأس الإبرة .
الله عز وجل خالق كل شيء ألهم هذه الكائنات أن تقوم بأعمال معجزة :
عنكبوت ديلوبيس هذا المولود الجديد نسج شبكة صغيرة جداً ، هذا العنكبوت الصغير مهندس منذ ولادته يبدأ بنسج أولى شباكه ، وجود عناكب صغيرة بكثرة في ساحة ضيقة يمكن أن يسبب بعض المشاكل الخفيفة ، و على الرغم من ذلك في فترة قصيرة يستمر كل شيء بلا توقف ، هذه العناكب ستفترق عن أمهاتها لصنع أعشاشها بعد مدة وجيزة ، بلاشك هذا المشهد يوضح أن نسج الشبكة و قابلية نصب الفخ كان بإلهام إلهي للعناكب ، بلا شك إنها القدرة ، فالذي ألهمها أعمالها و خلق الخصائص الخارقة لهذه الكائنات هو الله تعالى جل جلاله .
هذه الكائنات تقوم بأعمال معجزة لا يقدر عليها الإنسان ، السؤال الدقيق من علمها ؟ من أعطاها هذه الإمكانيات ؟ من أعلمها أن بعض الحشرات تستخدم مادة لإغراء الذكور ؟ كيف صنعتها هي ؟ كيف وضعتها هي لتجلب العناكب ؟ هذه كلها أسئلة جوابها أن الله عز وجل هو الخالق .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ عدنان :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .