وضع داكن
20-04-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 02 - مقدمة كتاب لبيك اللهم لبيك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة

الحج عبادة مالية، فيها دفع للمال، وعبادة بدنية فيها جهد، وعبادة شعائرية فيها مناسك، وفيها طواف، وفيها سعي، فالحج عبادة من نوع خاص، تحتاج إلى تفرغ تام، في الحج تدع عملك، وبيتك، وأهلك، وشأنك، ومكانتك، وأعمالك، وأشغالك، وتذهب إلى الله.. إني ذاهب إلى ربي. أنت في الحج ذاهب إلى الله عز وجل، وكل الدنيا تركتها وراء ظهرك، وما منا واحد إلا وله في بلده شأن، وعمل، وبيت، ووسائل راحته، وفي الحج يدع كل هذا في سبيل الله.
image
قد يسأل سائل وهذا السؤال وجيه ؟ أليس الله في كل مكان، أليس هو معنا أينما كنا ؟ فما معنى الحج ؟ الجواب: أن الله سبحانه وتعالى اتخذ بيتاً في الأرض، وأمرنا أن نزوره في هذا البيت، لا لأنه هناك، بل هو معنا في كل مكان، ولكن أنت حينما تدع بيتك، وعملك، وتذهب إليه، تشعر بأنه راض عنك، لأن بذل الجهد، وتحمل المشقة، وبذل المال لا تبتغي به لا دنيا، ولا سمعة، ولا تجارة، ولا شيئاً من هذا القبيل، بل تبتغي رضاء الله عز وجل، مع أن الله عز وجل في كل مكان، وهو معنا أينما كنا، ولكن اتخذ بيتاً حينما قال:

﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ (125) ﴾

( سورة البقرة )

أُضِيف البيت إلى ذاته العظيمة، فاتخذ بيتاً، وأمرنا أن نزوره في هذا البيت.
والحج يحقق للمؤمن نقلة نوعية، فلو أن الحاج مسلم صحّ إسلامه، ولكن عندما يدخل الإيمان في قلبه، فالحج لهذا الإنسان ينقله من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان، ولو أن الحاج مؤمن، فلعله ينتقل بالحج إلى مرتبة التقوى والإحسان، ولو أن الحاج متّقٍ، فلعله ينتقل إلى مرتبة الصديقية، فهناك نقلة نوعية كبيرة.
الحج يطهِّر النفس مما علق بها من أدران الدنيا، ويصفيها، ويقربها من ربها، ويجعلها مستنيرة، وأن الوقوف بعرفة من معانيه أن تعرف الله عز وجل، لأن الحج من معانيه أن تقيم الحجة بنفسك، فأنت في مناسبة تقترب بها من الله عز وجل، فإذا اقتربت منه ألقى في قلبك نوراً، والله عز وجل مسعد إذا اقتربت منه، فاملأ قلبك سعادة، و هو الغني، فإذا اقتربت منه ملأ قلبك غنى، والإحساس بالصفاء، والغنى، والطمأنينة، هذه كلها مشاعر الحجاج.
يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، وهموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحرم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلبه، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال إليّ، تعال يا عبدي، لأريحك من هموم كالجبال، تجثم على صدرك، تعال يا عبدي لأطهرك من شهوات تُنغِّص حياتك.
image
تعالَ يا عبدي، وذق طعم محبتي، تعال يا عبدي، وذق حلاوة مناجاتي، لبيك اللهم لبيك، يقع في قلبه أن تعال يا عبدي، يجيبه لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات، تعال لأريك ملكوت الأرض والسماوات، تعال يا عبدي لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات، تعال لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات، تعال لأملأ نفسك غنىً ورضا شقيتْ بفقدهما نفوس كثيرات، تعال يا عبدي لأخرجك من وحول الشهوات إلى جنات القربات، تعال يا عبدي لأنقذك من وحشة البعد إلى أُنس القرب، تعال يا عبدي لأخلصك من رُعب الشرك وذل النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعز الطاعة.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة، إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنة قربي، تعال يا عبدي وحُطَّ همومك ومتاعبك، ومخاوفك عندي، أنا أضمن لك زوالها، تعال يا عبدي واذكر حاجاتك، وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عُمارها، فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني، وحقَّ على المزور أن يكرم الزائر.
فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشمت المشقات، وتحملت النفقات، وزرتني في بيتي الحرام، ووقفت بعرفة تدعوني، وتسترضيني، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
في رمضان تشحن من عام إلى عام، ثلاثين يوماً، ثلاثين صلاة تراويح، ثلاثين قيام ليل، ثلاثين يوماً وأنت صائم، غاض للبصر، ضابط للسان، ضابط للجوارح، هذه شحنة تكفيك للعام القادم، أما الحج فهو شحنة العمر، لذلك جعل الله الحج رحلة إلى الله قبل الأخيرة، الأخيرة في التابوت، في النعش، هي قبل الأخيرة، من أجل أن تشحن شحنة تعينك على طاعة الله، والصلح معه إلى نهاية الحياة.
هناك حكمة بالغة عندما شرع الله اللون الواحد في الحج، والتصميم الواحد، حتى تختفي الهوية الخاصة، ويبدو البشر كياناً واحداً، ومن ثم تتعامل معهم بدافع إنساني خالص، بعدما ذابت الفروق الطبقية، والهويات الإقليمية، والانتماءات المتعددة، ليبرز هذا اللباس وكأن الناس متساوون في كل شيء، هو الإنسان على فطرته السليمة في مواجهة خالقه الواحد الديان image
بعد أن يخلع الحاج ثيابه المَخيطة والمحيطة، ويرتدي ثوب الإحرام الموحد، يدخل في أفق الممنوعات، ففي باطنه ممنوع أن يفكر في شيء يؤذي الحرم، ومع الناس فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج ، ومع الحيوان، فلا يُصطاد، ولا يقتل، ومع النبات فلا يُقطع، ولا يشوه، ومع الحجر فلا يكسر ولا يقتلع، هذه الممنوعات التي هي من لوازم الإحرام، ليكون الحج سلاماً دائماً.
وأخيرا من أراد أن يحج ينبغي أن يستعد للحج قبل الحج، أن يستعد بالتوبة النصوح، أن يستعد لأداء الحقوق، أن يستعد بالالتزام التام، فإذا توجهت إلى بيت الله الحرام وجدت من القرب ما لا سبيل إلى وصفه، وجدت أن هذه عبادة عظيمة، وأن الثمار التي قطفتها لا توصف، أما إذا حججت بجسدك وكأنها فريضة ينبغي أن تؤدى شكلاً من دون مضمون، من دون قرب من الله عز وجل، تعود من الحج ولك عن مثالب الحجاج وتقصيرهم الشيء الكثير.
فأيها الأخوة الكرام، تفقهوا قبل أن تحجوا، التزموا بمنهج الله قبل أن تحجوا، اعقدوا الصلح مع الله قبل أن تحجوا، أدوا حقوق العباد قبل أن تحجوا، بعدئذ حجوا.
إذاً الحج من أعظم العبادات، إنه في الحقيقة عبادة العمر، إنه في الحقيقة عبادة ينقلك من حال إلى حال، من تعلق بالدنيا إلى تعلق بالآخرة، من وحول الشهوات إلى جنات القربات.
بشكل موجز ما لم تعد بعد الحج إنساناً آخراً بتصوراتك، بقيمك، بعلاقاتك، بانضباطك، فإنك لم تقطف ثمار الحج التي جعلها الله في متناول الحجاج الصادقين.

 

إخفاء الصور