- محفوظات
- /
- ٠5مقدمات الكتب
أتمنى على القارىء الكريم قبل أن يشرع في قراءة موسوعة أسماء الله الحسنى ، أن يقرأ هذا التمهيد ليُلم بعدد من الحقائق المتعلقة بمضمون هذه الموسوعة ، كمعنى الإحصاء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لدخول الجنة ، و الدعاء بأسماء الله الحسنى الذي جعله الله تعالى سبباً للاستجابة ، و كيف أن الفهم العميق لأسماء الله الحسنى جعله الله تعالى سبباً لفهم القرآن الكريم ، و فهمه و العمل به سبب النجاة في الدنيا و الآخرة ، و معرفة أسماء الله الحسنى سبب لتعظيم الله المنجي من عذاب الله ، و معرفة أسماء الله الحسنى سبب للتحرر من سيطرة العباد و قهرهم ، و معرفة أسماء الله الحسنى باعث قوي على التوبة النصوح ، التي هي سبب لسعادة الدارين ، و هذا ما سأعالجه في هذا التمهيد للكتاب .
* * *
أخرج البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
" إن لله تسعة و تسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة "
يتضح من هذا الحديث أن أصل الدين معرفته ، فمستحيل أن تعرفه ثم لا تحبه ، و أن تحبه ثم لا تطيعه ، و أن تطيعه ثم لا تسعد بقربه ، في الدنيا و الآخرة .
و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : " من أحصاها " فالإحصاء يختلف عن العدّ ، لقوله تعالى:
﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾
فمن أحصاها فقد استوفاها ، أي أنه لا يقتصر على بعضها ، لكن يدعو الله بها كلها ، و يثني عليه بجميعها ، فيستوجب الجنة .
أو من أطاق القيام بحق هذه الأسماء ، و العمل بمقتضاها ، و هو أن يعقل معانيها ، فيلزم نفسه بواجبها . و من معاني " أحصاها " : أنه عرفها على وجه التفصيل ، لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمناً ، و المؤمن يدخل الجنة . و قيل : أحصاها يريد بها وجه الله و إعظامه ، و قيل : معنى أحصاها : عمل بها ، فإذا قال " الحكيم " مثلاً سلَّم لله في جميع أوامره ، و في جميع أفعاله ، لأن جميعها مقتضاها الحكمة ، و إذا قيل " القدوس " ، استحضر كونه منزهاً عن جميع ما لا يليق بجلاله ، و قال بعض العلماء : معنى أحصاها أي : سلك طريق العمل بها ، فليوطن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها ، و ما كان يختص بالله تعالى : كالجبار و العظيم فيجب على العبد الإقرار بها ، و الخضوع لها ، و عدم التحلي بصفة منها ، و ما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع و الرغبة ، و ما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية و الرهبة ، فهذا معنى أحصاها و حفظها ، و يؤيده أن من حفظها عداً و أحصاها سرداً و لم يعمل بها ، يكون كمن حفظ القرآن و لم يعمل بما فيه ، و قال بعضهم : و ليس المراد بالإحصاء عدها ليس غير ، لأنه قد يعدها الفاجر ، و إنما المراد العمل بها ، و قال أبو العباس : يحتمل الإحصاء معنيين أحدهما : أن المراد تتبُّعها من الكتاب و السنة ، حتى يحصل عليها ، و الثاني : العمل بها ، و تمام الإحصاء أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر و الباطن بما يقتضيه كل اسم من الأسماء ، فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته ، قيل : من حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية ، قال أبو الحسن القابسي : أسماء الله و صفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، و لا يدخل فيها القياس ، و لم يقع في الكتاب ذكر عدد معين ، و ثبت في السنة أنها تسعة و تسعون ، قال تعالى :
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾
قال أهل التفسير : من الإلحاد في أسمائه ، تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة، و أشار ابن القيم رحمه الله إلى أن الإحصاء مراتب ، و ذكر بأنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها ، فحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال معروف ثواب حفظه ، كما قال صلى الله عليه و سلم : " الذي يقرأ القرآن و هو حافظ له مع السفرة الكرام البررة " ، فلو فرضنا أن منافقاً حافظاً للقرآن ؛ لكنه لا يحل حلاله و لا يحرم حرامه ، فهل ينفعه حفظه للقرآن ؟ و هل تنفعه تلاوته للقرآن ؟ فالقرآن حجة للمرء أو عليه ، فكذلك هذه الأسماء حينما تكون مجرد حفظ فقط لا ينفعه حفظها ، لكن يحفظها و يتأمل معانيها و يلزم نفسه بمقتضياتها.
* * *
لقد أمر الله تبارك و تعالى عباده بأن يدعوه بأسمائه فقال :
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾
و في القرآن الكريم في مواضع عدة أخبر الله سبحانه و تعالى عن جمع من أنبيائه أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه و صفاته ، كقوله تعالى :
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
و نرى ذلك في السنة ، فيما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم من أدعية دعا بها ، أو أمرنا أن ندعو بها ، نجد كثيراً من النصوص فيها الدعاء بالأسماء و الصفات ، و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
" ما أصاب مسلماً قط هم ، أو حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، و ابن أمتك ، ناصيتي ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداًُ من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، و نور بصري ، و جلاء حزني ، و ذهاب همي ، إلا أذهب الله تعالى همه ، و أبدل مكان حزنه فرحاً "
قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات ؟ قال : بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن .
و الدعاء بأسماء الله و صفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم ، كما قال أحد العلماء : " يطلب بكل اسم ما يليق به ، تقول : يا رحيم ارحمني ، يا حكيم احكم لي ، يا رزاق ارزقني ، يا هادي اهدني " .
و قال ابن القيم : " يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب ، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم ، و من تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا ".
* * *
حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تفقد الحديث عن الأسماء و الصفات ؛ ففي سورة من السور ، أو صفحة من الصفحات ، تجد أحياناً سرداً لأسماء الله عز وجل ، و صفاته ، و حديثاً عن عظمة الله سبحانه و تعالى ، و أحياناً تأتي تعقيباً على آية من الآيات في وعد ، أو وعيد ، أو حكم شرعي ، أو عن أنبيائه و رسله ، أو حديثاً عن المكذبين الضالين ، فلماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء و الصفات ؟ أليس هذا موحياً بأهمية السماء؟ ثم أليس موحياً بأن هناك واجباً آخر ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه ؟ و ألا نقف عند مجرد الإثبات وحده ، و هو أمر مهم ، بل الانحراف فيه ضلال .
ثم إننا كثيراً ما نجد الآيات تختم بالأسماء و الصفات ، و هي تختم ختماً مناسباً بمعنى ما دلت عليه الآية ، و يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل :
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
فقال : هذا الأعرابي لستَ قارئاً للقرآن ، و لكن عزّ فحكم فقطع ، و لو غفر و رحم لما قطع ، و لهذا تجد ختم الآية مناسباً لمعناها "
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
إذاً ختم الآيات بالأسماء و الصفات يعطينا دلالة على الارتباط بين الاسم و الصفة ، و بين ما سبق في الآية ، ثم تجد عجباً حينما تتأمل الفرق بين ما قد يبدو لنا أنها أسماء مترادفة و هي ليست كذلك ، فأحياناً يأتي ( غفور رحيم ) و أحياناً ( غفور حليم ) و بينهما فرق دقيق ، و أحياناً ( عليم حكيم ) و أحياناً ( عليم حليم ) و بينهما فرق دقيق ، و لو قرأت في كتب التفسير لوجدت عجباً في ذلك .
* * *
و معرفة الأسماء الحسنى ، و الصفات الفضلى سبب لتعظيم الله سبحانه و تعالى ، ذلك أن المسلم الذي يعلم أن الله حليم كريم ، و أنه عز وجل غفور رحيم ، و أنه شديد العقاب ، بطشه شديد ، و كيده متين ، و لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء ، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون ، و حينما يعلم أن الله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية في الأرض ، و لا في السماء ، حين يعلم هذه الأسماء و تلك الصفات ، فإنه يزداد تعظيماً له سبحانه و تعالى ، و يزداد خضوعاً له ، فيسعد بقربه في الدنيا و الآخرة .
* * *
فالمسلم حينما يعلم أسماء الله الحسنى ، و صفاته الفضلى ، يستهين بالمخلوقين ، و يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً ، بل انظر إلى أثر هذا الأمر عند هود عليه السلام ، حينما عاداه قومه ردّ عليهم مستهيناًَ بجبروتهم :
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
فعلم هود أنهم قوم لا يعرفون إلا منطق التحدي ، فقال لهم متحدياً :
﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾
إن علمه بأن نواصي العباد بيد الله هو الذي دفعه إلى أن يستهين بجبروتهم و ببطشهم .
و حين يدرك المسلم أن نواصي العباد بين يدي الله عز وجل يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً ؛ فلا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق ، و لا يرجو منه نفعاً و لا نوالاً ، و لا يخشى منه منعاً و لا بطشاً .
* * *
حينما يعلم المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، و يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، و حينما يعلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه سؤله؟
هل من مستغفر فأغفر له ؟ حينها يقبل على الله عز وجل ، و يتوب إليه و يشعر أن الله رحيم رؤوف و أنه سيقبل التوبة .
أرجو الله جل و علا أن يوفق قراء هذه الموسوعة لمزيد من معرفة الله تعالى فهي أصل الدين، و لمزيد من الالتزام بأمره و نهيه ، فهو أصل العمل الصالح و هما أصل سعادة الدارين .