وضع داكن
28-03-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 25 - أسماء الله الحسنى - تمهيد.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  أتمنى على القارىء الكريم قبل أن يشرع في قراءة موسوعة أسماء الله الحسنى ، أن يقرأ هذا التمهيد ليُلم بعدد من الحقائق المتعلقة بمضمون هذه الموسوعة ، كمعنى الإحصاء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لدخول الجنة ، و الدعاء بأسماء الله الحسنى الذي جعله الله تعالى سبباً للاستجابة ، و كيف أن الفهم العميق لأسماء الله الحسنى جعله الله تعالى سبباً لفهم القرآن الكريم ، و فهمه و العمل به سبب النجاة في الدنيا و الآخرة ، و معرفة أسماء الله الحسنى سبب لتعظيم الله المنجي من عذاب الله ، و معرفة أسماء الله الحسنى سبب للتحرر من سيطرة العباد و قهرهم ، و معرفة أسماء الله الحسنى باعث قوي على التوبة النصوح ، التي هي سبب لسعادة الدارين ، و هذا ما سأعالجه في هذا التمهيد للكتاب .

* * *

 أخرج البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :

 

" إن لله تسعة و تسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة "

 يتضح من هذا الحديث أن أصل الدين معرفته ، فمستحيل أن تعرفه ثم لا تحبه ، و أن تحبه ثم لا تطيعه ، و أن تطيعه ثم لا تسعد بقربه ، في الدنيا و الآخرة .
 و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : " من أحصاها " فالإحصاء يختلف عن العدّ ، لقوله تعالى:

 

 

﴿ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾

[ سورة مريم : الآية 94]

 فمن أحصاها فقد استوفاها ، أي أنه لا يقتصر على بعضها ، لكن يدعو الله بها كلها ، و يثني عليه بجميعها ، فيستوجب الجنة .
 أو من أطاق القيام بحق هذه الأسماء ، و العمل بمقتضاها ، و هو أن يعقل معانيها ، فيلزم نفسه بواجبها . و من معاني " أحصاها " : أنه عرفها على وجه التفصيل ، لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمناً ، و المؤمن يدخل الجنة . و قيل : أحصاها يريد بها وجه الله و إعظامه ، و قيل : معنى أحصاها : عمل بها ، فإذا قال " الحكيم " مثلاً سلَّم لله في جميع أوامره ، و في جميع أفعاله ، لأن جميعها مقتضاها الحكمة ، و إذا قيل " القدوس " ، استحضر كونه منزهاً عن جميع ما لا يليق بجلاله ، و قال بعض العلماء : معنى أحصاها أي : سلك طريق العمل بها ، فليوطن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها ، و ما كان يختص بالله تعالى : كالجبار و العظيم فيجب على العبد الإقرار بها ، و الخضوع لها ، و عدم التحلي بصفة منها ، و ما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع و الرغبة ، و ما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية و الرهبة ، فهذا معنى أحصاها و حفظها ، و يؤيده أن من حفظها عداً و أحصاها سرداً و لم يعمل بها ، يكون كمن حفظ القرآن و لم يعمل بما فيه ، و قال بعضهم : و ليس المراد بالإحصاء عدها ليس غير ، لأنه قد يعدها الفاجر ، و إنما المراد العمل بها ، و قال أبو العباس : يحتمل الإحصاء معنيين أحدهما : أن المراد تتبُّعها من الكتاب و السنة ، حتى يحصل عليها ، و الثاني : العمل بها ، و تمام الإحصاء أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر و الباطن بما يقتضيه كل اسم من الأسماء ، فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته ، قيل : من حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية ، قال أبو الحسن القابسي : أسماء الله و صفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، و لا يدخل فيها القياس ، و لم يقع في الكتاب ذكر عدد معين ، و ثبت في السنة أنها تسعة و تسعون ، قال تعالى :

 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾

[ سورة الأعراف : الآية 180]

 قال أهل التفسير : من الإلحاد في أسمائه ، تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة، و أشار ابن القيم رحمه الله إلى أن الإحصاء مراتب ، و ذكر بأنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها ، فحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال معروف ثواب حفظه ، كما قال صلى الله عليه و سلم : " الذي يقرأ القرآن و هو حافظ له مع السفرة الكرام البررة " ، فلو فرضنا أن منافقاً حافظاً للقرآن ؛ لكنه لا يحل حلاله و لا يحرم حرامه ، فهل ينفعه حفظه للقرآن ؟ و هل تنفعه تلاوته للقرآن ؟ فالقرآن حجة للمرء أو عليه ، فكذلك هذه الأسماء حينما تكون مجرد حفظ فقط لا ينفعه حفظها ، لكن يحفظها و يتأمل معانيها و يلزم نفسه بمقتضياتها.

* * *

 لقد أمر الله تبارك و تعالى عباده بأن يدعوه بأسمائه فقال :

 

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾

[ سورة الأعراف : الآية 180]

 و في القرآن الكريم في مواضع عدة أخبر الله سبحانه و تعالى عن جمع من أنبيائه أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه و صفاته ، كقوله تعالى :

 

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾

[ سورة الأنبياء : الآية 83]

 و نرى ذلك في السنة ، فيما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم من أدعية دعا بها ، أو أمرنا أن ندعو بها ، نجد كثيراً من النصوص فيها الدعاء بالأسماء و الصفات ، و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :

 

" ما أصاب مسلماً قط هم ، أو حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، و ابن أمتك ، ناصيتي ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداًُ من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، و نور بصري ، و جلاء حزني ، و ذهاب همي ، إلا أذهب الله تعالى همه ، و أبدل مكان حزنه فرحاً "

 قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات ؟ قال : بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن .
 و الدعاء بأسماء الله و صفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم ، كما قال أحد العلماء : " يطلب بكل اسم ما يليق به ، تقول : يا رحيم ارحمني ، يا حكيم احكم لي ، يا رزاق ارزقني ، يا هادي اهدني " .
 و قال ابن القيم : " يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب ، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم ، و من تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا ".

 

* * *

 حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تفقد الحديث عن الأسماء و الصفات ؛ ففي سورة من السور ، أو صفحة من الصفحات ، تجد أحياناً سرداً لأسماء الله عز وجل ، و صفاته ، و حديثاً عن عظمة الله سبحانه و تعالى ، و أحياناً تأتي تعقيباً على آية من الآيات في وعد ، أو وعيد ، أو حكم شرعي ، أو عن أنبيائه و رسله ، أو حديثاً عن المكذبين الضالين ، فلماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء و الصفات ؟ أليس هذا موحياً بأهمية السماء؟ ثم أليس موحياً بأن هناك واجباً آخر ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه ؟ و ألا نقف عند مجرد الإثبات وحده ، و هو أمر مهم ، بل الانحراف فيه ضلال .
 ثم إننا كثيراً ما نجد الآيات تختم بالأسماء و الصفات ، و هي تختم ختماً مناسباً بمعنى ما دلت عليه الآية ، و يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل :

 

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

[ سورة المائدة : الآية 38]

 فقال : هذا الأعرابي لستَ قارئاً للقرآن ، و لكن عزّ فحكم فقطع ، و لو غفر و رحم لما قطع ، و لهذا تجد ختم الآية مناسباً لمعناها "

 

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

 

[ سورة المائدة : الآية 38]

 إذاً ختم الآيات بالأسماء و الصفات يعطينا دلالة على الارتباط بين الاسم و الصفة ، و بين ما سبق في الآية ، ثم تجد عجباً حينما تتأمل الفرق بين ما قد يبدو لنا أنها أسماء مترادفة و هي ليست كذلك ، فأحياناً يأتي ( غفور رحيم ) و أحياناً ( غفور حليم ) و بينهما فرق دقيق ، و أحياناً ( عليم حكيم ) و أحياناً ( عليم حليم ) و بينهما فرق دقيق ، و لو قرأت في كتب التفسير لوجدت عجباً في ذلك .

* * *

 و معرفة الأسماء الحسنى ، و الصفات الفضلى سبب لتعظيم الله سبحانه و تعالى ، ذلك أن المسلم الذي يعلم أن الله حليم كريم ، و أنه عز وجل غفور رحيم ، و أنه شديد العقاب ، بطشه شديد ، و كيده متين ، و لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء ، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون ، و حينما يعلم أن الله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية في الأرض ، و لا في السماء ، حين يعلم هذه الأسماء و تلك الصفات ، فإنه يزداد تعظيماً له سبحانه و تعالى ، و يزداد خضوعاً له ، فيسعد بقربه في الدنيا و الآخرة .

* * *

 فالمسلم حينما يعلم أسماء الله الحسنى ، و صفاته الفضلى ، يستهين بالمخلوقين ، و يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً ، بل انظر إلى أثر هذا الأمر عند هود عليه السلام ، حينما عاداه قومه ردّ عليهم مستهيناًَ بجبروتهم :

 

﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة هود : الآية 53]

 فعلم هود أنهم قوم لا يعرفون إلا منطق التحدي ، فقال لهم متحدياً :

 

﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾

[ سورة هود ]

 إن علمه بأن نواصي العباد بيد الله هو الذي دفعه إلى أن يستهين بجبروتهم و ببطشهم .
 و حين يدرك المسلم أن نواصي العباد بين يدي الله عز وجل يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً ؛ فلا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق ، و لا يرجو منه نفعاً و لا نوالاً ، و لا يخشى منه منعاً و لا بطشاً .

* * *

 حينما يعلم المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، و يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، و حينما يعلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه سؤله؟
 هل من مستغفر فأغفر له ؟ حينها يقبل على الله عز وجل ، و يتوب إليه و يشعر أن الله رحيم رؤوف و أنه سيقبل التوبة .
 أرجو الله جل و علا أن يوفق قراء هذه الموسوعة لمزيد من معرفة الله تعالى فهي أصل الدين، و لمزيد من الالتزام بأمره و نهيه ، فهو أصل العمل الصالح و هما أصل سعادة الدارين .

 

إخفاء الصور