وضع داكن
29-03-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 03 - مقدمة الكتاب والذي نشر فيه المقالين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 توفي عالم جليل، من العلماء المسلمين، وهو فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، الإمام الداعية، وقد كان له الفضل الكبير في تقريب معاني القرآن الكريم إلى أوسع شريحة من شرائح المجتمع الإسلامي ليس في مصر وحدها ـ بلده الأول ـ بل في أرجاء العالم الإسلامي
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:

((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا "))

 وقال أبو الدرداء:

 

(( فَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ ))

 ومع أننا ـ معشر المسلمين ـ نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده، بينما أمته صلى الله عليه وسلم معصومة بمجموعها ؛ بمعنى أن كل عالم، تفوق في جانب من جوانب الدين، وغيره تفوق في جانب آخر، فالعلماء المسلمون يكمّل بعضهم بعضاً ؛ هذا في حال اتباعهم جميعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله وإقراره، ومواقفه، وأساليبه الحكيمة في الدعوة إلى الله
 وهم يبتعدون عن الصواب، ويثيرون حولهم الجدل، ويتعرضون للنقد والتجريح، حينما يبتعدون عن سنة نبيهم المعصوم، لأن كل عالم يؤخذ منه ويرد عليه، إلا صاحب القبة الخضراء ؛ يؤخذ منه حينما يتبع، ويرد عليه حينما يبتدع
ومن أقوال الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه:

 

 

((... سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ...))

 ويستطيع الإنسان أن يكون عالماً جهبذاً في الطب، أو العلوم، أو الهندسة، من دون أن تتطلب هذه العلوم، ممن يتعلمها قيداً سلوكياً، ولا يُفسد حقائقها أن يتبع النابغ فيها هوى نفسه، في حياته الخاصة، إلا عالم الدين، فإنك إن كنت من المتدينين المخلصين، أو من علمائه، أو الداعين إليه، فلا بد من أن تكون قدوة حسنة لمن تدعوهم إليه، وإلا ما استمع إليك أحد، ولو كنت أكثر الناس اطلاعاً، وعلماً في دين الله، ولن ينظر إليك أحد نظرة احترام جديرة بك، إلا إذا كان سلوكك وفقاً لقواعد الدين.
ذلك أن دعوة المترف إلى التقشف دعوة ساقطة، ودعوة الكذوب
إ لى الصدق دعوة مضحكة، ودعوة المنحرف إلى الاستقامة دعوة مخجلة، لذلك كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم، وشمائله، وفضائله، ومكارمه، قدوةً صالحة، وأسوة حسنة، ومثلاً يُحتذى، وهي ليست للإعجاب السلبي، ولا للتأمل التجريدي، ولكنها وُجدت فيه لنحققها في ذوات أنفسنا، كل بقدر ما يستطيع.
 وشيء آخر مستفاد من قول التابعي الجليل الحسن البصري حينما سئل: بم نلت هذا المقام ؟ فقال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، وبناء على هذا، تكون الطامة الكبرى في العلم الديني، حينما يستغني الناس عن علم العالم، ويحتاج هو إلى دنياهم
لقاءان طيبان، مباركان، تمّا مع فضيلة الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي، بداره في القاهرة ( الهرم )
الأول كان في شهر تشرين الأول عام ألف وتسعمئة وتسعين، والثاني في الشهر الأخير من عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين
 وفي اللقاء الأول وجهت له أسئلة تتعلق بأصول الدين، كالعقل والنقل، والشريعة والحقيقة، والأمر التكليفي والأمر التكويني، والقطعي والظني من النصوص، وما يتبع ذلك من اجتهاد المجتهدين، وتأويل المتأولين، وأساليب الدعوة ؛ كتأليف للقلوب، أو تأليف للكتب، والنصيحة الأولى إلى الدعاة
 وفي اللقاء الثاني طرحت عليه أسئلة، يغلب عليها الطابع الفقهي، ولكن من النوع المشكل، الذي يثير كثيراً من الجدل، في أرجاء العالم الإسلامي، فباستثناء سؤال الصحوة الإسلامية، والسلبيات التي لابستها، وأ سباب تعثرها ؛ وجهت إليه أسئلة عن المذاهب الفقهية، وهل الأصل فيها التعدد أم التوحد، وإذا كان الأصل هو التعدد، فهل هي أربعة مذاهب حصرا، لا يجوز أن نزيد عليها ؟ وسألته عن الطلاق السنّي والطلاق البدعي، وهل الطلاق البدعي ( كالثلاث في واحدة ) يقع أو لا يقع ؟ وسألته عن حكم النظر إلى المرأة في الشاشة الصغيرة، وهل هي حقيقة أو خيال، وسألته عن الحكم الشرعي في نقل الأعضاء والأجهزة، من إنسان صحيح إلى إنسان مريض، بيعاً أو تبرعاً، وسألته عن الحكم الشرعي في جراحة التجميل، وسألته عن جواز استخدام علم هندسة الوراثة في عملية الإنجاب، وسألته عن جواز جعل ثمن للزمن في بيع التقسيط، وفي موضوع الزكاة، سألته عن حكم إسقاط دين الفقير من الزكاة، وعن مشروعية إنفاق جزء من أموال الزكاة في إنشاء أبنية يعود نفعها للفقراء، وسألته عن الحكم الشرعي في إيداع الأموال في البنوك الربوية، وسألته عن الحكم الشرعي في هجرة المسلم طواعية إلى بلاد الغرب، والإقامة فيها بشكل دائم هو وأهله، ثم سألته عن ضرورة إنشاء المجامع الفقهية، من أجل أن تلبي حاجة المسلمين اليومية، لمعرفة حكم الشرع الإسلامي الحنيف، في المستجدات الاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، وفي ختام اللقاء، سألته عن بعض أعماله غير الدعوية
وقد سئل ـ رحمه الله ـ وهو في لندن ـ ما هذه المكانة التي حباك الله بها ؟ فقال: لأنني محسوب على الله
وأختم هذه المقدمة بهذه الحقيقة الخطيرة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم:

 

((فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ "))

والشيء الخطير أن نصل إلى أن " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ
 ولكن ينبغي أن نطمئن الإطمئنان الواعي، الذي يدفع إلى أن نحمل هموم المسلمين، وألاّ ندّخر وسعاً في سبيل ترسيخ مبادئ الإسلام وقيمه في مجتمع المسلمين أولاً، ثم في المجتمعات الأخرى، متيقنين أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مئة سنة، من يجدد لها دينه، وأن هؤلاء المجددين، ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

إخفاء الصور