- ندوات إذاعية
- /
- ٠18إذاعة القرآن الكريم - قطر
مقدمة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المذيع :
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته شيخنا .
الدكتور راتب :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
اللهم آمين ، حياكم الله شيخنا ، وأسعد الله صباحك بكل خير ، دائماً مع ضيوفنا الكرام ، نطرح سؤالنا الذي نستهل به هذا اللقاء ، نسألهم كيف أصبحوا ؟ فكيف أصبحت شيخنا؟
الدكتور راتب :
والله بخير ، من الله بخير دائماً ، أما سواه لست بخير دائماً .
المذيع :
الحمد لله على كل حال ، وأيضاً تعودنا مع ضيوفنا الكرام برسائل خفيفة ، شيخنا دائماً نرسلها لفئات المجتمع ، قبل الدخول في موضوعنا ، فشيخنا ماذا تقول لكل أم تستمع إلينا في هذا الصباح الجميل اليوم ؟
الأم والأب مثل مبسط لعظمة الله عز وجل ومحبته :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . الحقيقة الدقيقة أن الله عز وجل كماله مطلق ، وهو غني عن عباده ، ومع ذلك يقدم لهم كل شيء ، حتى نفهم هذه الحقيقة العميقة الدقيقة الرائعة ، جعلنا من أبٍ وأم ، يوجد شيء مبسط محدود يشبه عطاء الله ، الأب والأم وحدهما فقط من كل من حولك يتمنيان لك أن تكون فوقهما في كل شيء ، الله عز وجل جعل الأم والأب مثل مبسط جداً لمحبته لعباده ، فالأم يسعدها أن تكون ابنتها بزواجها أنجح من زواج أمها ، بدخلها ، بوضعها ، بجمالها ، لذلك عندنا مثل حي بيننا ، الأم والأب يقدمان لنا مثلاً مبسطاً لعظمة الله عز وجل ومحبته ، هذا أول نقطة ، النقطة الثانية الدقيقة جداً:
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾
توسع معنى الرزق بشكل واضح جداً ، فالتصديق رزق كما تفضلتم قبل قليل ، والإيمان رزق ، والزوجة الصالحة رزق ، والبنات الأطهار رزق ، والشباب الذين لهم ولاء لأبيهم رزق ، والسمعة الاجتماعية رزق ، والمكانة رزق ، والحرفة رزق ، والأوضاع العامة كلها رزق ، لذلك الرزق واسع جداً ، أي عطاء إلهي رزق ، عندك زوجة صالحة قد تسافر شهرين ، ولا يخطر في بالك لثانيةٍ واحدة أن إنساناً دخل بيتك ، غريب طبعاً ، نعمة كبيرة ، من يعرفها ؟ من يشك بزوجته يتقلب على جمر وهو مسافر ، من دخل البيت في غيابي ؟ مثلاً ، فعندنا نعم كثيرة ، إلا أن المشكلة أن النعم إذا أُلفت نسيت ، الذي عنده زوجة صالحة وغاب عنها شهراً ، لا يخطر في باله ولا ثانية واحدة أن إنساناً غريباً دخل بيته ، هذه نعمة أُلفت فنسيت ، فجاء الدعاء النبوي:
(( اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها ))
فالبطولة أن ترى النعم المألوفة ، وهي موجودة ، أما حينما تُفتَقد تراها صارخة ، لكن البطولة أن هذه النعم التي ألفتها وأنت تعيشها موجودة ، لذلك:
((أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها ))
النقطة الدقيقة جداً:
﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ ﴾
كأن المعنى المتبادر ، هذه النعمة تستمر ، أما النص بخلاف ذلك:
﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾
نعمة الأمن لا تعدلها نعمة :
تزداد قوةً إذا تواضعت ، تزاد غنىً إذا أنفقت ، تزداد سعادة في بيتك إذا عاملتها بالإحسان ، هذه النعم تزداد وتزداد إلى ما لا نهاية ، لذلك إن لم تقل وأنت صادق: ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ، هناك مشكلة مع الله ، هذا المؤمن لماذا؟ هو مع القوي ، الله قوي ، مع الغني ، مع الرحيم ، مع الكريم ، مع المعطاء ، أنت مع ذات كاملة ، هي أصل الجمال والكمال والنوال ، فإذا كنت مع الله كان الله معك ، وهذه المعية الدقيقة جداً معيتان ، معية عامة ، ومعيةٌ خاصة ، فإذا قال الله عز وجل:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ َ﴾
هذه معية عامة ، أي معكم بعلمه فقط ، هو مع الفاجر ، مع العاصي ، مع المؤمن ، مع الولي ، مع الصادق ، معهم بعلمه ، إلا أن المعية المهمة جداً للمؤمن:
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
هذه معية خاصة ، نحن نعول على المعية الخاصة ، المعية العامة ، مع الكافر ، مع المجرم ، مع الطاغية ، معه بعلمه ، أما المعية الخاصة ، معية نصرٍ ، معية تأييد ، معية حفظ ، حدث ولا حرج ، فإذا كان الله معك فمن عليك ، من يجرؤ أن ينال منك ، وإذا كان عليك فمن معك ، يا رب ماذا فقد من وجدك ، وماذا وجد من فقدك .
المذيع :
الآن الحمد لله ، الكثير نسمعهم ذاهبين إلى أعمالهم والحمد لله الأرزاق وفيرة ، والأمور متيسرة ، وراتبه يأخذه آخر الشهر ، رسالتك له شيخنا .
الدكتور راتب :
والله يا سيدي ، لي رسالة لها جانب سلبي ، النعم إذا أُلفت نسيت ، أنا أتمنى هذه النعم المألوفة أن نراها صارخة ، أنت في بلد آمن ، حياتك مضمونة ، لا يوجد قناص ، لا يوجد موت مفاجئ بغلطة ، فما دمت آمناً أنت بنعم كبيرة ، نعمة الأمن لا تعدلها نعمة . الآن أقول لكم كلمة دقيقة جداً وهي من أعماقي: الله عز وجل قال:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
الإنسان إذا علم أن الله يعلم لا يمكن أن يعصيه :
جاء الجواب:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾
أولاً قد تكون مؤمناً ، وهناك خطأ في البيع والشراء ، يوجد سعر مرتفع جداً ، استغليت جهل هذا الشاري بالأسعار ، ضاعفت السعر ، هذا ظلم ، أو أن إنساناً يتحرك حركة لا ترضي الله بعلاقته مع النساء بغياب زوجته مثلاً ، هذا ظلم ، الله يعلم .
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ﴾
مثل بسيط: طبيب من حقه أن يرى مكان الألم من المرأة ، فإذا أخذ نظرةً إلى مكانٍ آخر ، من يكشف هذه المخالفة ؟ الله وحده .
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
فأنت إذا علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تعصيه ، الدليل أضرب مثلاً من واقعنا: تركب مركبتك والإشارة حمراء ، لماذا تقف ؟ إنك تقف لأنك تعلم يقيناً أن واضع القانون علمه يطولك من خلال هذا الشرطي ، إن صح التعبير .
المذيع :
أو الرادار .
الدكتور راتب :
أو من خلال الرادار ، واضع القانون علمه يطولك ، وبإمكانه لأنه قوي أن يسحب منك الإجازة سنة ، أو أن يعاقبك بمبلغ كبير ، ما دمت موقناً أن واضع القانون علمه يطولك وقدرته تطولك ، لا يمكن أن تعصيه ، اسمع القرآن:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا ﴾
نقطتين ، الآن الله سوف يضغط الأمور بكلمتين:
﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
اختار من كل أسمائه القدرة والعلم ، بالتعبير المعاصر علمه يطولك ، وقدرته تطولك ، إذا أيقنت بهذا لا يمكن أن تعصيه ، علمه يطولك .
النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في معرفة فضائلها لا تنتهي :
الشيء الدقيق: لو أنك موظف في دائرة ، المدير العام ماذا يملك عليك من سلطة ؟ لا يرفّعك أحياناً ، إذا وجد تقصيراً لا يرفّعك ، أو لا يعطيك إجازة كما تتمنى ، لكن ، انتهت صلاحياته ، لا يوجد إجازة ، ولا ترفيع ، وإذا أحب أن يلغي وظيفتك يلغيها .
ثلاثة؛ التعبير الدقيق الله عز وجل له علينا مليون خيار ، مثلاً المسلمون قهروا في بلد معين ، جاءهم وباء ، بعد ذلك حجزوا حرية مليون ، ثمانية عشر مليون حريتهم محجوزة ، الله كبير ، كلمة كبير لا أرتوي منها ، قدرته مطلقة ، وسائل العقاب عنده لا تعد ولا تحصى ، خثرة في الدماغ لا ترى بالعين تجعل الإنسان مشلولاً ، من مكان فقد ذاكرته ، يكون بمكان كبير، بمنصب رفيع ، فقد ذاكرته انتهت وظيفته ، في ثانية تنتهي كل ميزاتك .
أذكر إنساناً فقد بصره وهو بمنصب رفيع في بلد ، هو صديق صديقي قال له: والله أتمنى أن أجلس على الرصيف وأتسول ، ويرد لي بصري .
نحن بمليون نعمة ، هذه النعم ينبغي أن نشكرها ، والحقيقة الدقيقة: الشكر له معاني عميقة ، أول شيء بالشكر أن تعلم أن هذه نعمة من الله ، عندك زوجة صالحة ، عندك أولاد يحترمونك ، عندك بنات محتشمات ، عندك دخل معقول ، عندك مركبة متواضعة ، هذه النعم التي أُلفت المؤمن لا ينساها ، يذكرها دائماً .
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾
هذه الآية فيها ملمح دقيق جداً ، هي الاقتداء اللغوي .
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾
معنى ذلك أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في معرفة فضائلها لا تنتهي ، عندك أولاد يملؤون البيت فرحة ، صغار تحبهم ، شباب تحبهم ، يافعين تحبهم ، عندك أولاد ، لست محروماً من الأولاد ، عندك زوجة ترتاح لها ، لا تخشى من خيانتها ، هذه نعمة كبيرة الزوجة الصالحة والأولاد الأبرار ، وليس عندك مشكلة ، لا خثرة في الدماغ ، ولا شلل ، ولا تشمع كبد ، ولا فشل كلوي ، وكل مرض يهد جبالاً ، أنت بصحة ، لك بيت .
أذكر مرة قال لي أخ: أنه أنا كنت مسافر بعمل تجاري ، يبدو بالصيف في ازدحام على الفنادق ، قال لي: من الساعة الرابعة بعد الظهر ، بعدما انتهت أعمالنا حتى الساعة الثانية عشر ليلاً لم يجد فندقاً ، ولا بيتاً ، ولا غرفة ، وأخيراً وجد فندقاً من الدرجة العشرين ، نام في الممر ، على فراش شديد القذارة ، قال لي: هذا أصبح مأوى بالنسبة لي ، فإذا إنسان دخل بيته ، معه مفتاح بيت ، قد يكون أجرة ، قد يكون ملكه ، قد يكون كبير أو صغير ، معه مفتاح بيت .
(( الحمد لله الذي آواني وكم ممن لا مأوى له ))
دخلت لبيتك وجدت طعاماً ، النبي سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ، يدخل بيته أحياناً: أعندكم شيء ؟ قال: لا ، ولا شيء إطلاقاً ، هل يوجد الآن بيت مسلم في الأرض لا تجد فيه أنواع مكدسة من الطعام والمؤونة .
المذيع :
أنا أتكلم قبل قليل مع أخي أبو مالك ، أقول: الحمد لله مع أن الجميع يشكو من الرزق والغلاء ، ولكن هل هناك أحد مات من الجوع ؟ أيامنا بخير ، وأمورنا طيبة .
الدعاء مخ العبادة :
الدكتور راتب :
أنا أتمنى على المستمعين أن يشكروا النعم المألوفة .
المذيع :
هذا هو الصحيح .
الدكتور راتب :
أنت متزوج ليس عندك حاجة كبيرة جداً لا تحتمل باللقاء الزوجي ، عندك زوجة ، عندك أولاد ، لك مكانة كبيرة ، لك أب وأم على قيد الحياة ، بالإمكان أن تكسب رضاهم ، ليس عندك مشكلة كبيرة بصحتك ، أي لا يوجد خثرة في الدماغ ، ولا شلل ، ولا فشل كلوي ، ولا تشمع كبد ، نحن بنعم لا تعد ولا تحصى ، وهذه النعم كلما ذكرناها بقيت ، بل وازدادت .
﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾
المذيع :
لكن شيخنا ، في المقابل يوجد أناس دائماً يشتكون لماذا أنا فقير وغيري غني ؟
الدكتور راتب :
هذا مرض ، هذه الشكوى مرض ، مرض نفسي ، لأن البطولة أن تشكو من بيده أمرك ، تشكو لإنسان ضعيف ، يشمت بك إن كان عدوك ، ويرثي لحالك إن كان صديقك ، ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ، الشكوى إلى الله ، الشكوى إلى الله كاملة مقبولة ، يا رب أنا بيدك يا رب ، أنت خالقي ، أنت ربي ، مسيري ، أتمنى أن يتسع رزقي قليلاً ، سأقول كلمة دقيقة: الدعاء هو العبادة ، الدعاء مخ العبادة لماذا ؟ لأنك حينما تسأل الله داعياً ، أنت موقن بوجوده أولاً ، وموقن بعلمه إن صمت ، وبسمعه إن ذكرت ، مؤمن بقدرته ، بمحبته ، لمجرد أن تدعو الله ، هناك خمس خصائص ، لذلك:
﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾
والدعاء هو العبادة ، والدعاء مخ العبادة ، أنت إذا دعوت الله أنت مع الله .
المذيع :
لكن هناك توكل على الله ، يجب أن أتحرك ، لا أن أدعو وأنا جالس .
الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله :
الدكتور راتب :
الموقف الدقيق جداً ، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، مثلاً عندي سفرة في مركبتي ، أنت كمؤمن في أعلى درجات الثقة بالله والتوكل ، تراجع المحرك ، والزيوت ، والمكابح ، تراجع كل شيء ، بعد أن تأخذ بالأسباب كلها تقول: يا رب توكلت عليك ، هذا التوكل الإسلامي ، هذا التوكل الذي يسبقه الأخذ بالأسباب .
لماذا النبي الكريم قبل معركة بدر ، دعا الله طويلاً حتى وقع رداءه ، فيأتي الصديق يقول له: بعض مناشدتك ربك .
شيء محير! إيمان الصدّيق أعلى من إيمان رسول الله ؟ لا ، ليس أعلى أبداً ، لكن النبي متأدب مع الله ، خاف أن يكون الأخذ بالأسباب أقل مما ينبغي ، خاف أن يكون أخذه بالأسباب أقل مما ينبغي ، لذلك الكلام الفيصل الدقيق أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا الدين الصحيح .
المذيع :
شيخنا ، أشرتم ما شاء الله أن الأرزاق ليست محصورة في المال ، الأرزاق في كل شيء .
الدكتور راتب :
الآية دقيقة :
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾
فالتكذيب هنا قضية عقدية ، فهنا توسعت الدائرة كثيراً .
المذيع :
شيخنا ، الإنسان مجبول بفطرته على حب المال ، من الناس من يسعى لأجل الحصول على كفايته منه ، ومنهم من يسعى لأجل حرز الجزء الوافر منه فينفق جل عمره في طلب المال ، لماذا يحصد أغلب الناس الرزق للحصول على الأموال فقط ؟
الفلاح شمولي فالبطولة أن تكون فالحاً لا أن تكون ناجحاً :
الدكتور راتب :
انظر سيدي ، الحقيقة بالبداية قد يتوهم متوهم ضعيف العقيدة ، ضعيف الإيمان ، أن المال كل شيء
مع التقدم بالسن ، بمنتصف الحياة يراه شيئاً وليس كل شيء ، أما على فراش الموت فلا شيء ، مثلاً الذي يملك ثلاثة وتسعين ملياراً ، بيل غيتس قال على فراش الموت : هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً ، وفي مقولة ربما قالها جوبز ، سبعمئة مليار ، أعلى ثروة يملكها إنسان ، ومع أبل : هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً لماذا ؟ يوجد عندنا نجاح أحادي اسمه نجاح ، وعندنا فلاح ، الفلاح شمولي ، الفلاح أن تنجح مع ربك ، معرفةً ، واستقامةً ، وطاعةً ، وتقرباً ، ودعوةً إليه ، والنجاح الثاني أن تنجح في اختيار زوجتك ، إنسانة صالحة مؤمنة راقية مربية ، وأن تنجح في تربية أولادك ، وأن تنجح في عملك ، العمل مشروع وليس مادة محرمة ، ليس ملهى ليلي ، عمل مشروع ، فإذا نجحت مع ربك معرفةً ، وطاعةً ، وتقرباً ، وعملاً صالحاً، ودعوةً ، ونجحت في اختيار زوجتك من الصالحات ، وفي تربية أولادك ، ونجحت في صحتك ، اعتنيت بصحتك ، انتقلت من حالة نجاح إلى حالة فلاح ، فلاح شمولي، ولم ترد كلمة نجاح في القرآن إطلاقاً .
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
مفلح أي ناجح مع ربه ، في بيته ، في عمله ، في صحته ، فالفلاح شمولي ، فالبطولة أن تكون فالحاً ، لا أن تكون ناجحاً .
المذيع :
بارك الله فيك شيخنا ، هل يمكن أن يكون الفقر خيراً لي ؟ الآن بعضنا دائماً يريد المال الوفير والغنى .
الدكتور راتب :
(( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه))
أعرف شخصاً دخله أقل مما ينبغي سافر إلى بلد نفطي ، وجد دخلاً كبيراً ، زوجته محجبة ، قال لها: إن لم تأتني بالبنطال لا استقبلكِ ، هذا الغنى المطغي ، يوجد غنى مطغي .
فالإنسان حينما يرضى بقضاء الله وقدره ، الله حكيم ، لو أن هذا المال يفسده الله يقنن له دخله ، لو أن الفقر يفسده يكثر له دخله ، هناك حكمة ، أنت مع ربٍ حكيم ، أما الكلام الدقيق عليك أن تأخذ بالأسباب التي أُمرت بها ، وبعدئذٍ توكل على رب الأرباب ، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
المذيع :
شيخنا ، السببية هي سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون ، فلكل سببٍ مسبب، ما أهم الأسباب الآن الجالبة للرزق بأنواعه سواءً كان الرزق مادياً أو معنوياً ؟
طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً :
الدكتور راتب :
لا ، المادة أولاً ، أن تتقن عملاً ، أن يكون لك حرفة أو شهادة ، والحقيقة يوجد تنافس كبير الآن ، قديماً كان الناجح ناجحاً ، الآن لا يكفي الناجح ، تحتاج أن تتفوق ، لأن هناك تنافساً كبيراً على المناصب ، وعلى التجارات ، فلابد من العلم ، أحياناً إنسان يعمل بيده عشر ساعات لينال رغيف خبز ، وأحياناً بتوقيع ينال ملايين ، فكلما ارتقى علمك وأنت باختصاص مهم جداً للأمة يزداد دخلك . فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويبقى المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا ، فيربحهما معاً ، الدليل:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، أما جنة الدنيا جنة القرب من الله .
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
فأنت إذا كنت مع الله كان الله معك ، وإذا كان معك فمن عليك ، من يجرؤ أن ينال منك .
المذيع :
شيخنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، بعضهم يقول لك: الآن يوجد أناس ليسوا مسلمين ، لكن الله موسع عليهم في الرزق ، مع أنهم لا يذكرون الله أبداً .
العلاقة بين الرزق والمعصية علاقة عكسية :
الدكتور راتب :
يوجد جواب دقيق جداً ، اسمع الجواب ، قرآن:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
ما قال: باب ، قال:
﴿ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
قد تأتي الدنيا بشكل مذهل وصاحبها ملحد ، لأن الدنيا دار ابتلاء لا دار جزاء ، تصلح الدنيا بالكفر والعدل ، وقد لا تصلح بالإيمان والظلم ، هذه الدنيا لها نظام آخر ، فالدنيا لها نظام آخر أو لمن أتقنها . مثلاً؛ أنا أقول لك بقناعتي : لو أن بلداً بعيداً عن الدين بعد الأرض عن السماء ، لكن عندهم تكافؤ فرص ، عندهم ضمان اجتماعي ، هذا البلد يقويه الله، لذلك قال ابن تيمية : إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة ، الدنيا تصلح بالكفر والعدل ، ولا تصلح بالإيمان والظلم .
المذيع :
شيخنا؛ نحن سنعود إن شاء الله تعالى ، ونواصل ما تبقى من محاورنا بإذن الله ، لكن نريد أن نتوقف مع فاصل ، فاصل قصير ، ونعود إليكم إن شاء الله ، فابقوا معنا .
وإنني لا أجد أثر المعصية في الدابة ، هل بالفعل أن قلة الأرزاق بعض الأحيان تكون سبباً من أسباب المعصية ؟
الدكتور راتب :
طبعاً ، الدليل:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
واضحة ؟ هناك علاقة بين الرزق والمعصية ، هناك معاصي تذهب الرزق ، الزنى بوابة الفقر ، بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين ، مستحيل ، بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين .
المذيع :
شيخنا ، نحنا في بداية الحلقة كنا نتكلم عن الشخص الذي يخاف من المستقبل ، يقول لك: العيال من سيكون لهم ؟ دائماً حتى لا يتزوج على أساس والله ما عندي ، لا ينجب أولاداً والله ما عندي .
الرضا بالرزق هو علامة من علامات الإيمان :
الدكتور راتب :
هذا ضعف إيمان شديد ، الله عز وجل قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ﴾
فعل ماض ، ليس مضارعاً .
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ﴾
رزقك منتهٍ .
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾
المذيع :
شيخنا ، هناك من يسعون لأرزاقهم ، ويكرمهم الله تعالى برزق وفير ، سواءً ولد صالح ، زوجة صالحة ، رغم ذلك لا يقنع بما قدر له من رزق ، بالمقابل هناك من يشكر الله تبارك وتعالى ، أو يسر بهذا الرزق ، هل الرضا بالرزق أيضاً له دور كبير في اطمئنان النفس ؟
الدكتور راتب :
علامة إيمان ، لا يوجد مشكلة بصحتك ، وعندك بيت ، وعندك أولاد وزوجة ، ولك صديق راتبه أربعة أضعاف راتبك ، أريد أن أقول كلمة دقيقة جداً: الآن ليس لك:
(( إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ ))
ذلك اسمه كسب ، عندنا شيء اسمه رزق وشي اسمه كسب ، الرزق ما استهلكته ، ليس لك:
(( إلا ما أكلتَ ))
لكن الأكل ليس له أثر مستقبلي .
(( فأفْنَيتَ ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ ))
وما سوى ذلك ، أي حجمك المالي هذا اسمه كسب ، لم تنتفع به لكن ستحاسب على كل درهم ، واضح ؟ الذي يملك ثلاثة وتسعين ملياراً بيل غيتس سيحاسب على هذا المبلغ دولاراً دولاراً ، قطعاً ، كيف اكتسبه ؟ فيه غش ، فيه تدليس ، فيه مادة محرمة ، رفعنا المادة الحافظة لعشرة أضعاف ، فأصبحت مادة مسرطنة ، يوجد أسباب كثيرة للرزق الحرام .
المذيع :
أيضاً شيخنا ، هناك من عنده راتب ، وراتب كبير ، لكن ليس فيه بركة ، ما السبب؟
العمل الصالح يقبله الله ويعوضه أضعافاً مضاعفة :
الدكتور راتب :
البركة سيدي عطاء إلهي ، بالمال المحدود تفعل كل شيء ، وإذا ذهبت البركة أموال طائلة تبدد . مثلاً أذكر قصة إنسان له دخل معين ، حسب دخله ومبلغه الذي بين يديه عليه زكاة تبلغ اثني عشر ألفاً وخمسمئة ليرة ، شخص أعرفه ، هذا زكاة ماله ، له زوجة ضغطت عليه لعدم دفع الزكاة وطلاء البيت ، بسبب ضغطها الشديد استجاب و ألغى دفع الزكاة، عمل بسيارته حادثاً الفاتورة بشكل مذهل كانت اثني عشر ألفاً وخمسمئة ليرة ، كانت نفس رقم الزكاة ، درس من الله هذه اسمها رسالة ، فالذي وفره دفعه .
فلذلك الإنسان إذا تقاعس عن عملٍ صالح يعاقب ، العمل الصالح يقبله الله ويعوضه أضعافاً مضاعفة ، والله أقول لك كلمة:
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾
أنت عندما تزور مريضاً غالٍ عليك ، تقدم له هدية ، ماذا تفعل مع الهدية ؟ تضع بطاقتك باسمك ، هي مني .
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾
يا الله! أعطاك أكبر باعث للإنفاق ، الذي تنفقه أعرفه ، والله يعوض أضعافاً مضاعفة ، يعطيك صحة ، زوجة صالحة ، ما عندك ولا مشكلة في البيت ، أولاد أبرار ، بنات صالحات محجبات ، يعطيك مكانة اجتماعية ، لذلك قال:
(( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))
حذف المفعول به ، يقدر الخيرات ، استقم ، سعادة ، طمأنينة ، حصانة ، بيت ناجح ، عمل ناجح ، سمعة طيبة .
(( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))
الخيرات .
المذيع :
شيخنا من كل ما سبق الآن ، سؤالنا هو: لماذا ربط الله تبارك وتعالى الآن الحصول على الرزق بالسعي ؟
كل أنواع الرزق أساسه الجوع :
الدكتور راتب :
للتنظيم ، لكن كيف يأتي الرزق ؟ هل يمكن أن يستيقظ فيجد أمام البيت مئتي ألف دولار ، لابد من السعي ، لأن هناك عملاً ، بالعمل تمتحن ، أنت في دار ابتلاء ، كان من الممكن ألا تحتاج للطعام إطلاقاً ، إذاً لا يوجد شغل ، سأقول كلمة دقيقة : لولا الجوع ما رأيت شيئاً في الأرض ، لا يوجد مؤسسات ، ولا معامل ، ولا دور حضانة ، كل شيء يلغى ، لأنه يوجد جوع فأنت انظر ، الأنبياء بماذا وصفوا ؟ أنبياء قيم البشر ، قال:
﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾
هم مفتقرون في وجودهم إلى تناول الطعام ، لا يكفي ، قال:
﴿ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾
ومفتقرون إلى ثمن الطعام بالعمل ، فأنت مفتقر إلى الله مرتين ، مرة بالطعام ، ومرة بثمن الطعام ، يوجد مؤسسات ، ومعامل ، ومزارع ، ودور نشر ، كل أنواع الرزق أساسه الجوع، تعمل كي تأكل ، واضحة ؟
المذيع :
نعم .
الدكتور راتب :
﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾
الأنبياء هنا بشر ليسوا آلهة ، لأنهم بشر مفتقرون إلى تناول الطعام ، ولأنهم بشر مفتقرون أيضاً إلى ثمن الطعام ، فالأنبياء كانوا:
﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾
هذا شأن الإنسان ضعيف .
المذيع :
هناك عطاء من الله ، من دون حركة ، قد يكون عنده إرث ، نقود ما شاء الله .
وصف دقيق للدنيا :
الدكتور راتب :
كلامي دقيق جداً اقبله مني: عنده مئة مليون ، ألف مليون ، هذا اسمه كسب ، ليس له قيمة أبداً ، ليس لك:
((إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ))
هذا لك ، والباقي لن تنتفع منه إطلاقاً ، وستحاسب عليه درهماً درهم .
المذيع :
إنسان قد يكون عنده قصور ، آخر شيء يسكن في بيت واحد ، عنده مثلاً أموال كثيرة .
الدكتور راتب :
ينام على سرير واحد ، يركب مركبة واحدة .
المذيع :
والباقي فشل .
الدكتور راتب :
غرور ، هذا اسمه:
﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾
طرفة: إنسان يعمل موظفاً في محل تجاري ضخم ، يأتي بعلبة فخمة جداً ، ينظف المحل ويضع القمامة في هذه العلبة ، يلفها بورق هدايا ، ويضع لها شريطة حمراء ، شيء أنيق جداً ، يضعها على الرصيف ، يأتي إنسان ينظر فيتوقع أن فيها ألماس أو ذهب ، هدية ثمينة جداً ، فيأخذها ويسرع بالمشي ، فيلحقه هو ، بعد مئة متر يفك الشريط الأحمر ، بعد مئة ثانية ينزع الغلاف ، بعد مئة ثالثة يفتح العلبة ، قمامة المحل ، هكذا الدنيا ، في البدايات المال شيء كبير ، مال يحلم به ، بالمنتصف شيء لكن ليس كل شيء ، على فراش الموت لو معك مئة مليار هذا الرقم لا يعني شيئاً ، يعني عملاً صالحاً قدمته له قبل الموت ، من هو البطل ؟ من هو الذكي ؟ من هو العبقري ؟ الذي يصل إلى النهاية قبل أن يصل إليه ، هو شاب ، يوجد موت ، وحساب ، وعذاب ، وجنة ، ونار للأبد ، يتحرى الحلال في طعامه ، في شرابه ، في دخله ، في إنفاقه ، في زواجه ، في تربية أولاده ، دائماً الإنسان إذا كان أخذ ووصل للنهاية بعقله يتفق معها .
الله عز وجل لا يمكن أن يخلق الإنسان إلا ويضمن له رزقه :
مرة عندنا دكتور في الجامعة يعد من كبار علماء النفس ، جاء موضوع الذكاء فقال لنا في بداية الموضوع : هذا الذكاء عندكم في الكتاب حوالي ثمانين صفحة ، أتحبون أن أضغطها كلها بكلمة واحدة ؟ قال: الذكاء هو التكيف ، تتكيف مع الموت ، من بيت لقبر من منصب رفيع لقبر ، من فيلا رائعة لقبر ، من مركبة فاخرة إلى قبر ، هذه الحقيقة أن تعيش المستقبل قبل أن تصل إليه ، هذا الذكاء ، مادام يوجد موت ، وحساب ، وعذاب ، وجنة ، ونار، هذا العمل لا يرضي الله ، هذا ملهى لكن دخله كبير جداً ، هذه الصفقة فيها مادة محرمة لا يقبلها ، مادام عندك ميزان أنت أسعد إنسان في الأرض ، أما الحياة بلا ميزان حمق وغباء وتورط .
المذيع :
شيخنا ، نريد أيضاً أن نقف عند الآية الكريمة ، قول الله تبارك وتعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾
نريد أيضاً أن نشرح على هذه الآية الكريمة .
الدكتور راتب :
الله عز وجل لا يمكن أن يخلق الإنسان إلا ويضمن له رزقه ، الآمر ضامن ، عندما أمرك أن تعيش ، وأن تتزوج ، وأن تنجب ، ضمن لك رزقك ، لكن ضمنه لك بشرط أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على رب الأرباب وكأنها ليست بشيء ، أدرس ، الدراسة طريق للرزق ، أتقن حرفة طريق للرزق ، استثمر مالك ، فلابد من أن تأخذ بالأسباب ، والحقيقة الحمقى دائماً يتمنون نتائج مذهلة بلا أسباب ، هذا أحمق ، أما ادرس ، خذ دكتوراه من اختصاص جيد يأتيك دخل كبير ، اعمل تجارة ، ادخل شريكاً مضارباً إذا كنت لا تملك مالاً ، شريك مضارب معك خبرة أنت ، فالإنسان يبحث عن رزق حلال ، زوال الكون أهون على الله من ألا يكون هذا الشيء واقع ، إذا بحثت عن طاعة ، عن رزق حلال ، الله جاهز .
المذيع :
هناك من أعطاهم الله المال لكن يسرفون ويبذرون .
الدكتور راتب :
الإسراف شيء ، والتبذير شيء .
المذيع :
ما الفرق بينهم ؟
العمل الصالح علة وجودنا في الدنيا :
الدكتور راتب :
الإسراف في المباحات ، مثلاً عنده مئة ثوب ، هذا رقم كبير ، لا داعي ، أو عنده غرف كثيرة جداً ، شخص في باريس يملك خمسين غرفة في قصره ، الإنسان ينام بغرفة واحدة فقط ، دائماً الإسراف من المباحات ، والتبذير من المعاصي ، واحدة بالمباحات ، وواحدة بالمعاصي ، لماذا هناك إسراف ؟ أنت علة وجودك في الدنيا العمل الصالح ، فأنت يكفيك هذا البيت الواسع ومركبة جيدة جداً ، وعندك دخل ، ومصروف كبير جداً ، لكن لا داعي أن تعدد المركبات لدرجة غير معقولة ، وتعدد القصور ، وتعدد المنتجعات ، يكفيك منتجع ، وقصر ، وبيت ، وسيارة ، مثلاً هذا الغني ، والباقي اعمل مشروعاً للأيتام ، مشروع ميتم ، مشروع مستشفى ، مستوصف ، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
والله أعرف شخصاً في بلد ، عمّر أربع أبنية ، البناية عشرة طوابق ، والطابق أربع شقق ، والشقة ستين متراً ، إذا تزوج شاب حديثاً يعطيه هذه الشقة بعِشر قيمة الأجرة ، الأجرة عشرون ألفاً يعطيه ألفين ، تزوج ومعك خمس سنوات ، أمن الزواج لخمسة آلاف إنسان ، وأبقاه في شقته لخمس سنوات وبعد ذلك عليه أن بحث عن سكن آخر ، أريد أن أزوج غيرك ، هذا أعظم مشروع سمعته في حياتي ، لأن عندنا مشكلة خطيرة جداً هي البطالة ، والعنوسة ، والعنوسة من لوازم البطالة .
اقبل مني هذا التعليق: أنت قد يكون معك مبلغ ضخم تضعه بالبنك وتأخذ الفوائد التي قد تكفيك عشر أضعاف مصروفك ، أنت ما فعلت شيئاً ، أما عندما تفتح مشروعاً تجارياً فقد شغلت الكثير من العاطلين عن العمل .
أذكر مرة قرأت عن ستروين سيارة فرنسية ، لها مئتا معمل ، أي عندك مثلاً ما يقارب خمسين ألف عامل ، يفتحون خمسين ألف بيتاً ، أعرف أخاً كريماً عنده معمل ، استأذن أن يصفي المعمل ، قلت له: لمَ ؟ قال لي: لا يوجد ربح إطلاقاً ، قلت له: كم عامل عندك ؟ قال لي: أربعة وثمانون ، قلت له: أنت مسؤول عن أربعة وثمانين بيتاً ، والبيت فيه خمسة أشخاص كحد أدنى ، أم وأب وثلاثة أولاد ، أنت تطعم خمسة آلاف إنسان ، ولا تربح ، هذا أكبر ربح .
المذيع :
الإنسان يضع في نيته أن هذا للقرب من الله .
الله تعالى أرادنا أن نكون ضعفاء كي نفتقر في ضعفنا فنسعد بافتقارنا :
الدكتور راتب :
هذا المهم ، والله جزاه الله خيراً ألغى إغلاق المعمل ، وبعد ذلك أكرمه الله كثيراً ، قلت له: أنت لا تربح! أنت تطعم خمسمئة إنسان ، وفتحت خمسمئة بيت ، هذا العمل ، العمل فيه خير ، حتى لو لم تربح ، أنت فتحت بيوتاً ، أنت جبرت خاطر شباب ، هذا الذي قلت لك أنه اشترى أربعة أبنية ، وأعطاهم أجاراً مخفض جداً العشر ، هناك شباب بتزكية من علماء ، يقولون هذا طالب مؤمن عندنا ، أعطه هذا البيت بأجرة ، طبعاً النساء تطلب بيتاً للسكن ، يوجد بيت زوجوه ، هذا البيت لخمس سنوات ، إذا أردت أن تبدله ببيت أكبر مثلاً ، هذا أصبح عملك. الملخص: الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
المذيع :
جزاك الله خيراً شيخنا ، أيضاً يوجد نقطة نريد أن نتطرق لها الآن ، فلنقل محدود الدخل ، قليل الدخل ، إن صحت هذه العبارة ، يقول: أنا أحاول أن أوسع في الرزق قليلاً ، وأكابد في هذه الحياة ، ويقول: أن الإنسان متوسط الدخل ، أكيد سيكون حاله أفضل من حالي ، لكن متوسط الدخل يمكن أن يكون لديه التزامات أكثر ، مدارس ، وأولاد ، أكيد الشخص الثاني أو الغني دخله أكثر ، فتأتي إلى الشخص الغني يقول: لا ، أنا أريد أن أوسع في الرزق ، إذاً هناك تعب وكبد تجده في كامل المراحل ، ما سر ارتباط هذا بالآية الكريمة :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾
الدكتور راتب :
سبحان الله! لأن الكبد هو الضعف ، الضعيف يفتقر إلى الله فيسعد بافتقاره ، والقوي البعيد عن الله يعتز بقوته فيشقى باستغنائه ، جعلنا فقراء كي نستقر في ضعفنا ، جعلنا ضعفاء.
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
أرادنا أن نكون ضعفاء كي نفتقر في ضعفنا ، فنسعد بافتقارنا ، ولو كنا أقوياء لاستغنينا عن الله بقوتنا ، فشقينا باستغنائنا .
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
حتى يلجأ إلى الله ، يدعوه في الليل ، الدعاء مخ العبادة ، الدعاء هو العبادة .
المذيع :
هذا الضعف مهما كانت مكانته في الحياة ، وفي المجتمع .
مجالات الرزق :
الدكتور راتب :
سيدي ، النبي الكريم من هو ؟ سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وهو سيد ولد آدم ، قال:
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال ))
﴿ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
المذيع :
الرزق هل هو مقتصر فقط على المال ؟
الدكتور راتب :
لا .
المذيع :
ما مجالات الرزق ؟
الدكتور راتب :
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾
التصديق بالحق رزق ، أنت مؤمن رزق ، زوجة صالحة رزق ، أولاد أبرار يحترموك رزق ، بنات صالحات محجبات رزق ، مكانة اجتماعية رزق ، ليس عندك ولا خثرة في الدماغ ، ولا تشمع كبد ، ولا فشل كلوي ، هناك أمراض تجعل حياة الإنسان جحيم لا يطاق ، فأنت معافى.
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي ))
وآواني ، وكم ممن لا مأوى له ، صباحاً تستيقظ ليس بك شيء ، وقفت ، هناك أناس يصابون بالشلل ليلاً ، قمت ليس بك شيء ، لذلك لو أصبح الإنسان:
(( مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها ))
(( مَنْ أصبَحَ منكم آمِناً في سِرْبه ))
ليس عليه دعوى ، لا يوجد مذكرة بحث ضده .
(( آمِناً في سِرْبه ، مُعافى في جَسَدِهِ ، عندهُ قوتُ يومِه ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها ))
ثلاث نعم إذا أصابت الإنسان ما فاته من الدنيا شيء :
أقول لك كلمة دقيقة: ثلاث نعم إذا أصابت الإنسان ما فاته من الدنيا شيء ، إطلاقاً نعمة الهدى ، يعلم أن هناك إله عظيم ، وهناك جنة ، وهناك نار ، وهناك عمل صالح ، وهناك استقامة ، وهناك صلاة ، هناك قرب من الله ، هناك بذل ، هناك إنفاق ، هناك عمل صالح ، نعمة الهدى
مثلاً تعلم يقيناً أن هناك إله عظيم ، سيحاسب ، وسيعاقب ، وهناك عمل صالح ، وكسب مشروع ، وكسب غير مشروع ، وفي مضاربة ، وربى ، ما دمت تعلم هذه التفاصيل هذه أكبر نعمة أنت فيها نعمة الهدى ، الصحة ، لا خثرة في الدماغ ، ولا تشمع في الكبد ، ولا فشل كلوي ، ولا شلل ، نعمة الصحة ، الثالثة الكفاية: عندك دخل يغطي نفقاتك فقط ، ثلاث نعم إذا أصابت الإنسان ما فاته من الدنيا شيء أبداً .
المذيع :
إحدى الأخوات طلبت مني أن أسألك دعاء يحصن النفس من الشرور للأبناء ؟
الدكتور راتب :
والله الدعاء لا يكفي ، الدعاء مع الأخذ بالأسباب ، رفيق السوء يفسد ، أما إنسان يختار أصدقاءه ، ومعارفه ، والناس الطيبين مؤمنين .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾
إذا لم يهتم ، يسهر مع أي أحد ، لأي مكان يذهب ، هذا متفلت والمتفلت لا حصانة له .
المذيع :
شيخنا ، ذكرتم أنتم أن المال وكثرة المال عند الإنسان أو الأرزاق ليس مؤشراً فقط للاستقامة أو لرضى الله تبارك وتعالى ؟
إذا رافق الرزق استقامة فهذا من علامات البركة :
الدكتور راتب :
هناك آية قرآنية:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
المذيع :
شيخنا أنا كيف أعرف أن هذا الرزق وهذا المال الوفير الذي يتدفق هو علامة من علامات البركة ، بركة الله تبارك وتعالى ؟
الدكتور راتب :
إذا رافق الرزق استقامة بركة ، هذا الرزق معه استقامة ، أما رزق معه ملهى ، فتح ملهى ، مرابي كبير ، أصبح غنياً كبيراً ، فإذا جاء مع الرزق معاصي وآثام ، أو دخل غير مشروع ، هذا بلاء وليس لله .
المذيع :
أي بمجرد خلوها من هذه الأمور تعرف أن هذه علامة من علامات البركة ؟
الدكتور راتب :
ثم من أدى زكاة ماله ، انظر:
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))
أنت لا تجرؤ أن تقول لإنسان أدى زكاة ماله شحيح .
المذيع :
بارك الله فيك شيخنا ، وجزاك الله الخير على هذه الحلقة ، وهذه الكلمات ، شخص يقول: وجود الشيخ معكم رزق .
الدعاء :
الدكتور راتب :
الله يجعلنا نستحقها ، وينولكم مرادكم إن شاء الله ، ويعلي قدركم ، أدعو لكم والله من أعماقي أن يحفظ لكم بلدكم ، أنتم بنعم كبيرة ، إلا أن النعم إذا أُلفت نسيت ، فالبطولة أن تذكر نعمةً تعيشها .