- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠2العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً، وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الله عز وجل مُتَّصِف بِصفاتهِ قبل خلْقِه :
أيها الأخوة المؤمنون، وصَلْنا في الدَّرْس الماضي إلى قول الإمام الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ: "مازال بِصِفاته قَديماً قبل خلقِه" إلى آخر كلامِه من الردّ على الجَهْمِيَّة والمعتَزِلَة ومن وافَقَهم مِن الشِّيعَة.
أيها الأخوة، اليوم أُريد أن تُصْغوا إليَّ إصْغاءً شديداً لأنّ هذا مِن أدَقِّ الموضوعات، لن أُعْطِيَكم كَمِيَّة كبيرة إلا أنَّني أُحاوِل أن أُعَمِّق هذه الصَّفَحات التي نحن بِصَدَدها.
الله عز وجل له صِفات، وله صِفات أفْعال، يا ترى قبل أن يفْعَلَ ما يفْعَل لم يَكُنْ مُتَّصِفاً بِهذه الصِّفات؟ مازال مُتَّصِفًا بِهذه الصِّفات قَديماً قبل خلقِه، فَكَلِمَة (خالِق)، مثلاً قبل أن يَخْلُقَ العالَم ألم يكن خالِقًا؟ فالعَالَم حادِث سَبَقَهُ عَدَم، فَقَبْلَ أن يُخْلَق هذا العالمَ فالله عز وجل ألَمْ يَكُنْ قادِراً على أن يَخْلِق ثمَّ صارَ خالِقًا؟! هذا المعنى كُفْر.
يقول الإمام الطحاوي: ما زال بِصفاتِه قديماً قبل خلْقِهِ، طبْعاً المعتزلة والجَهْمِيَّة ومَن وافَقَهم مِن بعض الشِّيعَة يقولون: إنَّ الله تعالى صارَ قادِراً على الفِعْل والكلام بعد أن لم يَكُن قادِراً عليه، لِكَوْنِهِ صار الفِعْل والكلام ممكنًا، بعد أن كان مُمْتَنِعاً، وأنَّه انْقَلَبَ مِن الامْتِناع الذاتي إلى الإمْكان الذاتي؛ هذا كلام المعتزِلة والجَهْمِيَّة وبعض فِرَقِ الشِّيعَة.
فالله عز وجل لم يَزَل مُتَّصِفًا بِصفاتهِ قبل خلْقِه، فَهُوَ تعالى خالِقٌ قبل أن يخْلُق، ومُتَكَلِّمٌ قبل أن يتكَلَّم، مُعْطٍ قبل أن يُعْطي؛ هذا هو موضوع الدرْس اليوم.
الله تعالى قديم وما سِواه حادِث :
بعضهم أيْضاً يقول: إنَّ الفِعْلَ صارَ مُمْكِنًا بعد أن كان مُمْتَنِعاً منه، إذًا كيف تَوَصَّل هؤلاء إلى هذه الحقيقة التي لا تتَّفِقُ مع أُصول العقيدة؟ قالوا: إنَّ دوام الحوادِث مُمْتَنِع، طبْعاً الإنسان يفْعَلُ شيئًا وينتهي الفِعْل، فَدَوامُ الحوادِث مُمْتَنِع، أنت تَصْنَع طاوِلَة وينتهي صُنْعُها! لم تَكُنْ مَصْنوعَة ثمَّ صُنِعَت، وانتهى صُنْعُها، فَما دام الشيء الحادِث لهُ بِداية وله نِهايَة، فَهَؤُلاء يقولون: دوام الحوادِث مُمْتَنِع، وأنَّهُ يجب أن يكون للحوادِث مَبْدأ، لامْتِناع الحوادِث ألاّ يكون لها أوَّل، إذا وُجِدَ حادِث لا أوَّل له فليس هذا بِحادِث، وأصْبَحَ قديماً، ومِنَ ثَمَّ صارَ خالِقاً، فَنَحن عندنا فرْق دقيق؛ فالله تعالى قديم وما سِواه حادِث، فهو تعالى لا أوَّل له، أما الحادِث فَسَبَقَهُ عَدَم، والحادِث لا يسْتَمِرّ إلى ما شاء الله، له بِداية وله نِهاية، وهؤلاء قالوا: إنَّ دوام الحوادِث مُمتنِع، وإنَّه يجب أن يكون للحوادِث مَبْدأ، لامْتِناع حوادِث لا أوَّل لها، فَيَمْتَنِعُ أن يكون الباري عز وجل لم يَزَل فاعِلاً مُتَكَلِّماً بِمَشيئتِه، فَيَسْتحيل على الله أن يكون دائِماً فاعِلاً، ودائِماً مُتَكَلِّماً، بل يَمْتَنِعُ أن يكون قادِراً على ذلك، لأنَّ القُدْرَة على المُمْتَنِع مُمْتَنِعَة، هذا هو الوَهْم الخطير الذي تَوَهَّمَهُ المعتزلة والجَهْمِيَّة، ومَن وافَقَهم من الشِّيعَة، فالشيء الحادث ليس قديماً، سَبَقَهُ عَدَم فله بِدايَة، وليس مُسْتَمِراً أي ينتهي وما دام الحادِثُ مُنْتَهِياً، والله عز وجل هو الذي خلق هذه الحوادِث فَفِعْلُهُ له بِدايَة وله نِهايَة، قبل البداية وبعد النِّهايَة، اِمْتَنَعَ عليه أن يفْعَل فَكَيْفَ نحلُّ هذا الإشْكال؟ قال: إنّ هذا فاسِد، لأنَّه يدلّ على امْتِناع حُدوث العالَم، وهو حادِث! والحادِث إذا حدَثَ بعد أن لم يَكُن مُحْدَثًا فلا بدّ أن يكون مُمْكِنًا.
الله عز وجل قادِرٌ دائِماً على كُلّ مُمْكِن :
الآن سَنَدْخُل في مَوضوع، فالإمكان شيء، والحُدوث شيء، فأنا مَثَلاً دائِماً بِإمكاني أن أنقُل هذا الكأس مِن هذا المكان إلى ذاك المكان، فقد نَقَلْتُه في وَقْتٍ مُعَيَّن، وقبل أن أنْقُلَهُ فأنا قادِر عليه، وبعد أن نَقَلْتُه أنا قادِر عليه، فأنا دائِماً يُمْكِنُني أن أفْعَلَ ذلك، لَكِنّ الفِعْل مرتبط بِوَقْت مُعَيَّن، ومكان مُعَيَّن، والآن دَخَلْنا في موضوع حلّ الإشْكال، فالإمْكان يعني أنَّ الله عز وجل دائِماً قادِر على أن يفْعَل ما فَعَل؛ قبل أن يفْعَل، وبعد أن يفْعَل فهو قادِرٌ على فِعْل ما فَعَل، فالقُدْرة المُسْتَمِرَّة تُلْغي معنى الحُدوث الطارئ فيما هو خَلَقَهُ عزَّ وجل.
قال: فلا بدّ أن يكون مُمْكِنًا، والإمكان ليس له وَقْتٌ مُحَدَّد، أما الحُدوث فَلَهُ وَقْت، وما مِن وَقْتٍ يُقَدَّر إلا والإمكان ثابت فيه، مهما أَغْرَقْتَ في القِدَم، ومهما أغْرَقْتَ في المُسْتَقْبَل فإنّ الله سبحانه وتعالى قادِرٌ على أن يَفْعَلَ الذي فَعَلَهُ.
قال: فليس لإمكان الفِعْل، وجوازه، وصِحَّتِه مَبْدَأٌ، ولا نِهايَة، فالله عز وجل كامِلٌ في قدْرَتِه، والعالَم حادِث، أما الله تعالى فهو قادِر على كُلّ مُمْكِن، والعالَم مِن المُمْكِن، فَقَبْلَ أن يخْلِقَهُ فهو قادِرٌ عليه، وبعد أن خَلَقَهُ فهو قادِرٌ على مِثْلِهِ، فَقُدْرَتُهُ ليْسَت مُمْتَنِعَة، بل مُسْتَمِرَّة، أما الحادِث فلم يُسَمَّ حادِثًا إلا لأنَّ له بِداية، وله نِهايَة، فَيَجِب إذاً أنَّهُ لا يزال الفِعْل جائِزاً مُمْكِنًا صحيحاً، فَيَلْزَمُ أنَّه لا يزال الربّ قادِراً عليه، فَيَلْزَمُ جواز حوادِثَ لا نِهاية لأوَّلِها، كيف حَلَلْنا الإشكال؟ الله تعالى له أفعال، وأفْعاله حوادِث، وسَبَقَها عَدَم، وانْتَهَت، إلا أنَّ الله عز وجل قادِرٌ دائِماً على كُلّ مُمْكِن.
ثمَّ إنَّ أسماء الله تعالى وصِفاتُه قديمةٌ قِدَمَ وُجودِه، وكان الله عليماً، وكان الله على كلّ شيء قديراً، فَقُدْرَتُه لا تنْفَكُّ على وُجودِه، فَهُوَ تعالى مَوْجود، وهو تعالى قادِر، وأسماؤُهُ كُلُّها قديمة أزَلِيَّة أبَدِيَّة، فالحادِث سَبَقَهُ عَدَم، وينتهي بِعَدَم، أما الله تعالى فقادِر على كُلّ مُمْكِن، فالقُدْرَة على المُمْكِن ليس لها وَقْت، فَهِيَ مُمْتَدَّة في القِدَم ومُمْتَدَّةٌ في المُستَقْبَل، لكنَّ الحادِث سَبَقَهُ عَدَم، وينتهي بِعَدَم.
قُدْرَة الله تعالى لا علاقة لها بالزَّمَن بل إنَّ الزَّمَن بعض خلقِه :
حينما تتَحَدَّث عن الآخرة فليس لك إلا الخبر الصادِق، يا ترى ما نوع الجَنَّة؟ خلْق مُتَجَدِّد، طبْعاً العلماء أجابوا، عندنا شيء اسمه التَّسلسل، وهو أن تقول: هذه الدَّجاجة من هذه البيْضَة، والبَيْضة من الدجاجة، فهذا إلى متى؟ العَقْل لا يقبل هذا التَّسلسل اللاَّنِهائي، فلا بدّ مِن خالِقٍ خلق أوَّل دجاجة، ثمَّ بدأتْ دجاجة وبيضة الخ... فالتَّسَلسل مُمْتَنِع في الماضي، والتَّسلسل مُمْتَنِع في المستقبل، إلا أن يكون تسَلْسلُ الماضي ينتهي بالله عز وجل، وأن يكون تَسلسل المُستقبل ينتهي بالله عز وجل، فالله عز وجل قادِر أن يخلق في الجنَّة كلّ يومٍ شيئاً جديداً إلى ما لا نِهاية، إلا أنّ آخر شيء هو ذاتُه، فالتَّسلسُل من دون إله مُمْتَنِع، أما إن كان الله تعالى هو الأوَّل، وبعده خَلْقٌ مُتَسَلْسِل فهذا مُمْكِن، هو الآخر وقبله خَلْق مُتَسلسل فهذا مُمْكِن، متى قلتَ: الله، أي لا بِداية ولا نِهاية! والزَّمن خالِقُه الله تعالى، والمُشْكِلة أنَّ القَضِيَّة تَفوق العُقول، وعندما يريد العَقْل الحادِث أن يفْهَم الذات الإلهِيَّة، والأبَدِيَّة السَّرْمَدِيَّة، فهذا شيء فوق طاقَتِه، لكن إذا قلت: (الله) عز وجل كان المعنى ألاّ بِدايَة له، فإذا قُلْتَ: له بِدايَة أصْبَحَ حينئذٍ مَخْلوقًا! فَكَلِمَة حادِث أي سَبَقَهُ عَدَم، وينتهي بِعَدَم، فإذا قلتَ: متى كان الله عز وجل؟ نقول لك: ومتى لم يَكُن؟! والحديث عن ذات الله عز وجل نُفَوِّض للَّه معنى هذه الآيات الدَّقيقة المُتَعَلِّقَة بِذاتِه، والحقيقة المُطْلَقَة عن الله لا يعلمها إلا الله تعالى.
فَيُقال لهم: هَبْ أنَّكم تقولون ذلك، لكن يُقال: إنْ كان جنس الحوادِث عندكم له بِدايَة، فإنَّه صار جنس الحوادث عندكم مُمْكناً بعد أن لم يكن مُمْكِناً، وليس لِهذا الإمكان وَقْت مُعَيَّن، بل ما مِن وقْتٍ يفرض إلا والإمكان ثابتٌ قبله، فالله تعالى خلق العالم قبل مليار سنة، وهو تعالى قادِر على خلقه قبل مليار مليار سنة! وقبل ذلك، والله عز وجل دائِماً قادِر على خَلْق العالم، إذاً فقُدْرَتُه تعالى لا علاقة لها بالزَّمَن، بل إنَّ الزَّمَن بعض خلقِه.
الله تعالى قادِر على خَلْق العالم وقُدْرَتُهُ على الخَلْق لا علاقة لها بالزَّمَن :
الفرْق كبير بين أن يكون الإنسان مُحاطاً بالزَّمان والمكان، وبين أن يكون الله عز وجل هو خالقَ المكان والزَّمان، فَيَلْزَمُ دوام الإمكان، وإلا لَلَزِم انْقِلاب الجنس، فالإمكان مُسْتَمِرّ، وإلا للَزِم انقِلاب الجِنس من الامْتِناع إلى الإمكان، مِن غير حُدوث شيء، فأنت إذا قلتَ: لم يكن الله تعالى قادِراً، ثمَّ أصْبَحَ قادِراً، يُمكن أن نَنْفي العالم كلَّه بهذه المَقولة الضَّالة! فما دام الله تعالى غير قادِر فَكَيف خلق العالم؟! فالله تعالى دائِماً قادِر على خَلْق العالم، وخلقهُ في وَقْتٍ مُعَيَّن، وقُدْرَتُهُ على الخَلْق لا علاقة لها بالزَّمَن، أما الحُدوث فله زَمَن، وسَبَقَهُ عَدَم، وينتهي إلى عَدَم، أمَّا الإله مع أنَّه خلق فلا يجوز أن نقول: قبل أن يخْلُق كان مُمْتَنِعاً على الخَلْق، أو غير قادِرٍ على الخلْق.
صفات الله عز وجل ليْسَت مُتَعَلِّقة بالحوادِث فالله تعالى فعَّال قبل أن يفْعَل :
هناك رأيٌ دقيق عن التَّسَلْسل، قال: وهو أيْضاً انْقِلاب الجِنْس مِن الامْتِناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإنّ ذات جِنْس الحوادِث عندهم تصير مُمْكِنَة بعد أن كانت مُمْتَنِعة، وهذا الانْقِلاب لا يَخْتَصّ بِوَقْتٍ مُعَيَّن، فإنَّه ما مِن وقْتٍ يُقَدَّر إلا وإمكانٌ ثابِتٌ قبله، فَيَلْزَم أنَّه لم يَزَل هذا الانْقِلاب مُمْكِناً، فالحوادث ذاتِيًّاً مُمْتَنِعة قبل أن تكون، وممْكِنة بعد أنْ كانت، والله سبحانه وتعالى دائِماً وسابِقاً ولاحِقًا وأزَلاً وأَبَداً قادِرٌ على خلقِها، إذاً صفاته ليْسَت مُتَعَلِّقة بالحوادِث، فَهُوَ تعالى فعَّال قبل أن يفْعَل، وخلاَّق قبل أن يخلق، ومُحْيٍ قبل أن يُحْيي، ومُميت قبل أن يُميت، وأرْجو الله تعالى أن أكون قد وَضَّحْتُ لكم هذه الحقيقة: أنّ الحادث له بِداية ونِهاية، وسبَقَهُ عدم وينتهي بعَدَم، فإذا ربَطْتَ الحادث مع قدرة الله عز وجل ينتج معك كلامٌ فيه كُفْر، وهو أنَّ الله عز وجل قبل أن يخْلق لم يكن قادِراً على الخَلْق! وبعد أن خلَق لم يكن قادِراً بعد أنْ خلَق! فإذا ربَطْتَ فِعْل الله تعالى مع الحادِث، فهذا غلط كبير، صِفات الله تعالى الكاملة جلَّ جلاله هي كامِلَة، ولا علاقة لها بالحوادث، وصِفات أفعاله كلَّها أبَدِيَّة أزَلِيَّة، لكن لِحِكْمَةٍ أرادها الله تعالى خلَقَ العالم بعد أن لم يَكُن، وربَّما أنْهى الأرض بِقِيام الساعة، وهذا مُمكن لأنَّها مِن خلقِه.
الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يُحيط به مَخْلوق :
قال: فَيَلْزَم أنَّهُ لم يَزَل المُمْتَنِعُ مُمْكِنًا، وهذا أبْلَغُ في الامْتِناع من قولنا لم يزَل الحادِثُ مُمْكِنًا، فالشيء المُمْتَنِع مُمْكِن، منَعَهُ لِحِكْمة، فقَدْ لزمهم فيما فرُّوا إليه أبْلَغ مما لزِمَهم فيما فرُّوا منه، وهذه نقطة دقيقة جداً، فالإنسان إذا أقْحَمَ عقله في غير اخْتِصاص العَقْل، وأدْخَلَ عقْله في الذات الإلهِيَّة، وبدأ يُفَكِّر، كُلَّما فرَّ مِن فِكْرة خاف منها وَقَعَ في فِكْرة أكبر منها، ويقع في متاهات، لذلك قال تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾
فَمِمَّا يُريح الإنسان أن يَقِفَ عند حُدوده، ويَعُدَّ أنَّ جَهْلَهُ بِذات الله هو عَيْن العِلْم به، وأنَّ عِلمه بِكُلّ شيء عن الله هو عَيْن الجَهْل به! لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يُحيط به مَخْلوق، بما في ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: فإنَّهُ يُعْقَل كَوْنُ الحادث مُمْكِنًا، ويُعْقَلُ أنَّ هذا الإمكان لم يَزَل، وأما كَوْنُ المُمْتَنِع مُمْكِنًا فَهُوَ مُمْتَنعٌ في نفسِه، فكَيف إذا قيل: لم يَزَل إمكان هذا المُمْتَنِع، وهذا مَبْسوط في مَوْضِعِه.
فليس الشيء الذي لم يحدث ـ المُمْتَنِع ـ ممكن عند الله عز وجل، ليس الحادث ممكن أن يخلقه الله، وإنَّما الشيء الذي لم يخْلقه هو عند الله عز وجل قادِر على أن يخلقه، لذا قال سيِّدنا عليّ رضي الله عنه: "علِمَ ما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون".
ثلاثة أقوال معروفة لأهل النَّظر من المسلمين وغيرهم في نوع الحوادث :
نوع الحوادث، هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أم في المستقبل فقط؟ أم في الماضي فقط؟ قال: فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النَّظر من المسلمين وغيرهم، فأضْعفها قَوْل من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، فالتَّسلسل من الماضي إلى ما لا نهاية لا يُمكن! والعقل لا يقبل ذلك، فلا بدّ مِن حدّ.
وثانيها: قَوْلُ من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كَقَوْل كثير من أهل الكلام، ومَن وافَقَهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قَوْل مَن يقول: يُمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقول أئِمَّة الحديث، مع بعض التَّوْجيهات، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحدٌ يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل، ولا شكّ أنَّ جمهور العلماء مِن جميع الطوائف يقولون: إنَّ كُلّ ما سِوى الله تعالى مَخلوق، كائِنٌ بعد أن لم يَكُن، وهذا قَوْل الرُّسُل وأتْباعِهم مِن المُسلمين واليهود والنَّصارى وغيرهم، ومِن المَعْلوم بالفِطْرة أنَّ كَوْن المَفْعول مُقارِنًا لِفاعِلِه لم يزَل ولا يزال معه مُمْتَنِع المُحال، فالله عز وجل خلق العالم، فإذا كان هذا العالم الذي خلقه الله عز وجل مُقارِن لله تعالى أصْبَحَ العالم مثل الله عز وجل! أزَليّ أبديّ!! هذا الكلام فاسِد، فالمَفْعول ليس بالضَّرورة مُقارن للفاعِل، ولمَّا كان تَسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الربّ سبحانه وتعالى هو الآخر، الذي ليس بعده شيء، فكذا تَسلسل الحوادث في الماضي لا يمنَعُ أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الأوَّل الذي ليس قبله شيء، فَنَحن نقول: التَّسلسل ممكِن بِشَرط، والماضي ممكن بِشَرط أن ينتهي إلى الله، وإلى الأوَّل الذي ليس له بداية، والتَّسلسل مقبول في المستقبل بِشَرط أن ينتهي إلى الله تعالى الآخر الذي ليس له نِهاية، أما مِن دون الله تَسلسل مُستقبلي مُسْتَمِرّ فالعَقْل لا يقبله! فإنَّ الربّ سبحانه وتعالى لم يزل، ولا يزال يفعل ما يشاء، ويتكلَّم إذا شاء، قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾
وقال تعالى:
﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
وقال تعالى:
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾
فالله عز وجل خالق خلْقًا مُسْتَمِرًّاً، بِمَعنى أنَّه قادِرٌ قدرة لا تتعلَّق بالزَّمان، فهو تعالى فعَّال لما يريد في أيّ وقْت، ومشيئته لا يحدّها شيء، والمُثْبَتُ إنَّما هو الكمال المُمْكن الوُجود، وحينئذٍ فإذا كان النَّوع دائِماً، فالمُمْكن والأكمل هو التَّقدّم على كلّ فرْد من الأفراد، فالله عز وجل خلَق هذا الإنسان بالذَّات، إلا أنَّه تعالى دائِماً قادِر على خَلْق نَوْع هذا الإنسان، بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يُقارنُه بِوَجْهٍ من الوُجوه، فالله عز وجل دائِماً وأبَداً قادِر على خَلْق النَّوع، بلا زمان وبلا مكان.
وأما دوام الفِعْل فَهُوَ أيْضاً من الكمال، فإنّ الفِعْل إذا كان صِفَة كمال فَدَوامُهُ دوامُ الكمال، ودوام الفِعْل يعني دوام الإمكان.
التَّسلسل لفْظ مُجمل ينقسم إلى :
1 ـ التسلسل الواجب :
قالوا: والتَّسلسل لفْظ مُجمل لم يَرِد في نَفْيِهِ كتاب ولا سنَّة، ويجب مُراعاة لفْظه، وهو ينقسم إلى واجب ومُمْتَنِعٍ وممكن، فكان التَّسلسل في المُؤَثِّرين مُحال مُمْتَنِع لذاته، إذا اعْتبرنا أنَّ الله غير موجود فالشيء نفسه، هذا يُؤَثِّر في الذي بعده، وذاك في الذي بعده، فالله عز وجل يخلق البَيْضة ويخلق منها الدَّجاجة، أما أن نعتَقِد أنّ البيضة وحدها هي التي تخلق، أو العكس فهذا شيء مُستحيل.
والتَّسلسل الواجب ما دلَّ عليه العقل والشَّرع مِن دوام أفعال الربّ تعالى إلى الأبَد، وأنَّه كلَّما انقضى لأهل الجنَّة نعيمٌ أحْدَث لهم نعيماً آخر لا نفاذ له، معنى هذا أنَّ التسلسل قائم في الجنَّة، والله تعالى قال:
﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾
وكذا التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزَل، وأنَّ كلّ فِعْل مَسْبوق بآخر فهذا واجب في كلامه، فإنَّه لم يزَل مُتَكَلّماً إذا شاء، أي قادِراً على التَّكلّم متى شاء، فالموضوع كلّه على هذه الفِكْرة وهو أنَّ الله عز وجل دائِماً وأبَداً قادِرٌ على كلّ شيء، فَصِفات أفعاله لا علاقة لها بالعلم الفاني والذي سَبَقه عَدَم، والبديل أنَّ الله تعالى قادِر على كلّ ممكن، والقُدرة على الممكن ليس لها وقتٌ تحَدّ به، فإنَّه لم يزل متَكَلِّماً إذا شاء، ولم تحدث له صِفَة الكلام في وقْتٍ، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإنَّ كل حيِّ فعَّال، والفرق بين الحي والميِّت الفِعْل، ومعنى أنَّه تعالى دائِماً فعَّال أي دائِماً قادرٌ على الفِعْل.
لو فرضْنا أنَّ أحَدًا دخل إلى القِطار، وإلى أحد الغرف فيه، وخلال ربع ساعة تجده يستَوْعب ما في القِطار ؛ طاولة مُتَحَرِّكَة، ومقْعد، وتَكْييف، وتدفئَة، وإعلانات، فلو أنَّ النوافذ مغلقة لضاق نفسه، أما لو كان القِطار يمْشي، والنوافذ مَفْتوحة، وينظر مِن خِلالها إلى الطبيعة، فما دام هناك تَجدّد لا يشعر بمَلَلٍ، لذا أفْخَم قِطار مِن دون تَجَدّد تملّ فيه، وأبسَط قطار لو ترى مِن خلاله المناظر تُسَرّ، فلا يمكن إلا أن تكون الجَنَّة مُتَجَدِّدة باسْتِمرار، ما معنى: وهم فيها خالدون؟ إذا أَلِفَ الإنسانُ شيئًا يضجر منه ويمَلّ منه، ولكن من أجل أنَّ الجنَّة مُتَجَدِّدَة فإنَّهُ يخْلُد إليها، فَمَعنى الخُلود الميول، تقول: خَلَدَ إلى الشيء أيْ مال إليه، أما البقاء فيها دوماً فهذه هي الأبَدِيَّة، فهي فيها جمال مُتَجَدِّد، فهذا التَجَدُّد يجعلك تخلد إليها، وهذا هو معنى قوله تعالى
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾
أما الدَّوام الذي لا نهاية له فَهُوَ مُسْتفاد من كلمة أبَداً، أما التَّجَدُّد فهو مُستفاد من كلمة خالدين فيها.
2 ـ التسلسل الممكن :
قال: أما التَّسلسل المُمْكن، فالتَّسلسل في مفعولاته من هذا الطَّرَف كما تتسلْسل في طرف الأَبد، فإنَّه إذْ لم يزَل حَيًّاً قادِراً مُريداً ومتَكَلِّماً وذلك من لوازم ذاته، فالفِعْلُ مُمْكن له بِمُوجب هذه الصِّفات له، وأن يفْعَل أكمل من ألاّ يفْعَل، ولا يلْزَمُ من هذا أنّه لم يزل الخلْق معه، فإنَّهُ سبحانه مُتَقَدِّمٌ على كلّ فَرْدٍ مِن مَخلوقاته تَقَدُّماً لا أوَّلَ له، فَلِكُلِّ مَخلوقٍ أوَّل، والخالق سبحانه وتعالى لا أوَّل له، فَهُوَ وَحْده الخالق وما سِواه مَخْلوق كائِن، بعد أن لم يكن، والتَّسلسل المُمْكن نحو الماضي، والواجب نحو المستقبل، والمستحيل أن تعتقد أنَّ الشيء في التسلسل يخلق الذي بعده.
3 ـ التسلسل الممتنع :
قال: وكلّ قَوْل سوى هذا فَصَريحُ العَقْل يرُدُّه ويقضي بِبُطْلانه، نحن عندنا تَسلسل مستحيل، أنَّ الشيء في التسلسل يخلق الذي بعده، والواجب هو تَسَلْسُل المستقبل، والمُمْكِن تسلسل الماضي، والتَّسلسل في الأصل ممْتَنِع عقْلاً إلا أن يكون الله نِهايَةَ التَّسلسل المستقبلي، والله جلَّ جلاله بِداية الأوَّل، وكلّ قَوْلٍ سوى هذا فصَريحُ العقل يرُدُّه ويقضي بِبُطْلانه، وكلّ من اعْتَرف أنّ الربَّ لم يزل قادِراً على الفِعْل لَزِمَهُ أحَدُ أمْرَيْن لا بدّ له منهما: فإمَّا أن يقول: إنَّ الفِعْل لم يَزَل ممكنًا، وإما أن يقول: لم يزَل واقِعاً، وإلا تناقَضَ تناقُضاً بيِّنًا، فَنَحْنُ عندنا ممكن وعندنا واقِع، أما لم يَزَل ممكنًا فهذه لا مشكلة فيها، فَكُل شيء وَقَع فالله تعالى قادِر على إيقاعه متى شاء.
المَقصود أنَّ الذي دلَّ عليه العقل والشَّرع أنَّ كلّ ما سوى الله تعالى مُحْدَثٌ كائِنٌ بعد أن لم يكن.
وموضوع لم يزَل ممكنًا أوْسَع من موضوع لم يزل واقِعاً، وهو موضوع الدَّرس كلِّه، فالله تعالى قادِر على كلّ ممكن، أما أفعاله التي هي حوادث، وقد سبقها عدَم، وتنتهي بِعَدم، فالإمكان أوْسَع من الحُدوث.
وأمَّا كَوْنُ الربّ تعالى لم يَزَل مُعَطَّلاً عن الفِعْل، ثمَّ فَعَل، فليس في الشَّرْع ولا في العَقْل ما يُثْبِتُه، بل كلاهما يدلّ على نقيضِه، وهذه الفِكْرة من أعْقَد أفكار الكتاب.