وضع داكن
22-12-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 06 - الله لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

الحقيقة الأساسِيَّة في عِلْم التوحيد وعلم العقيدة أنَّ عَيْن الجهْل به عيْن العلم به:

 أيها الأخوة المؤمنون، نحن مع موضوع جديد أساسه قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: "لا تبْلغه الأوهام، ولا تُدْركه الأفْهام"، مِن حين لآخر أُكَلِّفُكم قِراءة النصوص، وأنا أُعَلِّق عليها، لكن أردْتُ من هذا الدرس إعْطاء بعض القواعد التي أنتم بِأَمَسِّ الحاجة إليها من حيث اللُّغة. قال تعالى:

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾

[ سورة طه: 110]

 أنت بِعَقْلِك تصِلُ إلى الله أم تُحيطُ به علماً؟ الوُصول شيء، والإحاطة شيء آخر، فأنت بِمَرْكبتك تسْتطيع أن تصل إلى البحر، وأن تراه، وتستمتع بجمال البحْر، وعمقه، وامْتِداده، أما أن تُحيط بالبحر فهذا مُسْتحيل، لذلك الحقيقة الأساسِيَّة في عِلْم التوحيد وعلم العقيدة أنَّ عَيْن الجهْل به عيْن العلم به، وأنّ عين العلم به عَيْن الجهْل به، فوَطِّنْ نفْسك أن تقول: لا أدْري، لأنَّه لا أحد يسْتطيع أن يُحيط بالله سبحانه، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة البقرة: 256]

 قال الإمام الطحاوي: قال في الصحاح تَوَهَّمْتُ الشيء ظَنَنْتُه، وفَهِمْتُ الشيء علمتُه، ومُراد الشيخ رحمه الله لا يملك بهواه، ولا يُحيط به علماً، أنا أتمنى على أخوتنا الكرام أنَّهُ إذا ذُكِر إمام جليل، أو عالم، أو فقيه أن تقول كما قال شارح هذا الكتاب رحمه الله تعالى، وأن تقْتصر في كلمة رضي الله عنه على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ووجَدْتُ أكثر العلماء يتَّجِهون هذا الاتِّجاه، فإذا ذُكِر الصحابي تَرَضَّوا عنه، وإذا ذُكِر العالم الجليل، أو الفقيه تَرَحَّموا عليه، فإذا ذكرتَ الإمام الغزالي قلت: رحمه الله تعالى، وإذا ذُكِر سيِّدنا معاذ بن جبل قلت: رضي الله عنه، إلا أنَّهُ على وَجْه التحقيق اليقيني ليس هناك من أهل الجنَّة إلا الذين بَشَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام، وما سِوى ذلك فرجاءً، وهذا من الأدب مع الله تعالى، بل إنّ هذا الأدب تَحَلَّى به النبي عليه الصلاة والسلام.

 

أن تعرف حقيقة الألوهيَّة هذا فوق طاقة البشر بما فيهم الأنبياء :

 عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ـ أيْ وقع في سهْمنا ـ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أَبَداً))

[البخاري عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ]

 معرفة المُسْتقبل ليس من صفات العبْد، بل هي من صِفات الرَبّ، فَمَن تألَّى على الله تعالى، وحَكَم عليه فقد تجاوَزَ حَدَّهُ، ولاحِظوا أهل العِلم إذا أثْنَوا على إنْسان، وتَحَدَّثوا عنه يقولون: ولا نُزَكِّي على الله أحداً، والشيء الثابت أنّ معرفة خبايا النفوس أمرٌ مَوْكول إلى الله عز وجل، فأنت كَدَاعِيَة إذا سئلتَ: هل فلان من أهل الجنَّة أم من أهل النار؟ فقلْ: هذا من شأن الله تعالى وليس من شأننا، توزيع الألقاب والمراتب من تقوى، وصلاح، وإيمان، وهذا منافق، وذاك كافر؛ كلُّ هذا لا يليق بالإنسان، قال تعالى:

﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 104]

 فكلما زاد عِلمك ازْداد أدبك لأنَّ مؤشِّر العِلْم يسير معه مؤشِّر الأدب، والحقيقة أنّ الذي يُفَرِّق العالم عن الجاهل هو الأدب الرفيع الذي يتحلّى به العالم، فلو سئلْتَ عن إنسان ورأيته يشْرب الخمْر أمامك، فلا تقل: لعلَّه يكون أحْسن منِّي، فهذا هراء، فالواجب أن تقول: هذه معْصِيَة إذا مات عليها فحالته خطيرة، أما إذا تاب إلى الله تعالى فلعلَّه يسْبقني بعد التوبة، وهذا الكلام كلامٌ عِلْمي يتماشى مع كتاب الله تعالى عز وجل.
 فالفهم هو ما يُحصِّله العاقل ويُحيط به، والله تعالى لا يحيط بكيفه إلا هو، حتى الأنبياء، وسيِّدُ الأنبياء يقول: لا يعلم الله إلا الله، أن تعرف حقيقة الألوهيَّة هذا فوق طاقة البشر، بما فيهم الأنبياء.

 

العِلْم من خصائِصه القطْع والواقع والدليل :

 تعلمون أيها الأخوة أنَّ الوهم، والشكّ، والظنّ، وغلبة الظنّ، واليقين، والقطْع، إذا أمكن أن نُعْطي لهذه المصطلحات أرْقاماً فالوَهم ثلاثون بالمئة إلى خمْسة عشر، والشكّ خمسون بالمئة، والظنّ سبعون أو ثمانون، وغلبة الظنّ عشرة زائدة، والقريب من القطع اليقين، أما القطْع فمئة بالمئة، فالعِلم هل يفيد القطْع أمْ الظنّ؟ العِلْم هو القطْع حقيقة، وعلاقة مقْطوع بها مُطابقة للواقِع يُؤَيِّدُها دليل، إذا أردْتَ التعريف الحقيقي للعِلْم؛ حقيقةٌ مَقْطوعٌ بها يُؤَكِّدُها الواقِع، أو مُطابقة للواقع، عليها دليل، فالآن اِحْذف الدليل، ماذا يبقى؟ التَّقْليد، اِحْذف الواقع؛ تُصبح هذه المَقولة جهلاً، فالمقولة إذا خالفت الواقع فهي جهْل وإذا افْتَقَرَتْ إلى الدليل فهي علم، أما إذا شُكَّ في مِصْداقِيَّتِها كأن تكون وهْماً أو شَكاً فليْست بِعِلْم، فالعِلْم من خصائِصه القطْع، والواقع، والدليل، ويا أيها الأخوة أنتم كدُعاة ما دُمْتَ مع الواقِع يُصْغي إليك وأنت مُحْتَرَم، أما إذا ابْتَعَدتَ عن الواقع فَقَدْتَ قيمة العِلْم، لأنَّ الواقِع خلْقُ الله، والقرآن كلامه، والفِطْرة مقْياس نفسي أوْدعَهُ الله فينا، والعقْل مِقياس عِلْمي أوْدَعَهُ الله فينا، فالحقّ يتوافق مع الواقع، والفِطْرة، والعقْل، ومع النَّقل فإذا أُلْغِيَ الواقع فنحن في الجهل، حقيقةٌ تعلمونها وهي أنَّ الجهل لا يعني افْتِقارك إلى المعلومات، لكنَّ الجهل أن تمْتَلِك معلومات كلَّها مغْلوطة! ألاَ يوجد من يتكلَّم ساعة في سهْرة من السهرات كلُّها فلسفة، ويقول: رأيي كذا وكذا، فالجاهل يتحرَّك بالوَهْم، ومعلوماته كلَّها مغْلوطة، أما العالم فهو الذي يمتلئ وِعاؤه حقائق، يَدْعمها العقل، والفطرة، والواقع، أما الذي لا يعلم شيئاً فهو الأمِّي، فالأمِّي شيء، والجاهل شيء آخر.

لا يمكن أن نعرف الله إلا من طريقين الأوَّل من خَلْقِهِ والثاني من كلامه عن نفسه:

 هناك نقطة مهمّة جداً أنتم في أَمَسِّ الحاجة إليها وهي أن تجد فلاناً من الناس يحمل دُكتوراه! فهذا ليس له علاقة، فكما أنَّك ـ وقد تكون طالب عِلم منذ عشرين عاماً ـ دَرَسْتَ القرآن، وحفظْته، وفهِمْته، وفسَّرْته، فلعلَّك في قِمَّة العِلم، ولو عُرِضَ عليك تَخْطيط قلب لم تفْقهْ منه شيئاً، فأنت أُمِّيٌّ أمام هذا التخطيط، ولعل الطبيب نفسه لا حظَّ له في علم الدين، فهذا الطبيب أمِّيٌّ في الدِّين، أما في الطب فهو عالم، فالنقطة الدقيقة التي ما رأيتْ أدَقَّ منها قول الإمام عليٍّ كرَّم الله وجْهه: نحن نعرِفُ الرِّجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرِّجال، فإذا قال إنسانٌ كذا فنحن عندنا منهج؛ كتاب وسنَّة، وعندنا قرآن، وكلام النبي العدنان، وآراء المُجْتهدين، فلا يكفي أن يقول فلان كذا حتى يكون كلامه حقاً، نحن نُقَيِّم الرجل من كلامه، وليس لنا أنْ نقيِّم الكلام من الرجل، فهذه نقطة دقيقة جداً، كلَّما نما عِلْمك لا تؤخذ بالأشخاص إنما بِالحقائق، وكلما قلَّ عِلْمُك تؤخذ بالأشْخاص، ولذلك الحق ـ انتبه لهذه الحقيقة ـ تصغر فيه الأشْخاص، وتكبر فيه المبادئ، والباطل تصغر فيه المبادئ، وتكبر فيه الأشْخاص، ففي حقل الباطل الأشخاص كُبراء، أما في حقْل الحق الأشْخاص صِغار، والمبادئ هي الكبيرة، فالمبادئ غير الأشْخاص، فأنت اِجْعل تعاملك في الدعوة إلى الله مع المبادئ، المبادئ ترفع الإنسان، أما إذا كان التسْليط على أشْخاص مُعَيَّنين، فإنَّه ينشأ من هذا التَّسْليط حزازات، وحسد، وغيرة، وانتِقاد.
إنما نعرفه سبحانه في صِفاته، ولم يكن له كفواً أحد؛ بما أنَّ الله سبحانه وتعالى لا ترقى إليه الأفهام، ولا تدركه الأبصار، ولا تُحيط به العقول، إذاً لا يمكن أن نعرفه إلا من طريقين: الأوَّل من خَلْقِهِ، والثاني: من كلامه عن نفسه، فالمعرفة المباشرة مُسْتحيلة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُحاط به، إلا أنَّنا قرأنا كلامه، فأخْبرنا عن ذاته أنَّهُ حيٌّ قَيُّوم، لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم؛ قال تعالى:

﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[ سورة الحشر: 23]

 وبالمناسبة، أذكر أنَّني قلتُ لكم قبل درْسين: إنَّ الشيء الذي يعْجز عقلك عن إدْراكه أخْبرك الله به، فَمِن هذه البُنود الكُبْرى التي يعْجز عقلك عن إدْراكها غَيْبُ الحاضِر، والماضي، والمُسْتقبل، كعالم الجنَّة، والملائكة، من المُغَيَّبات الكبرى التي يعجز عقْلك عن إدْراكها، والتي أخبرك الله تعالى بها هي ذات الله عز وجل، فالأمور إذا تَوَضّحَت زالت الأزْمة التي تنشأ بينك وبين المُناقِش، فالله عز وجل من أجل أنَّنا أضْعف من أنْ نُحيط به، ومن أن نعرِفَهُ معرِفَةً مُطْلقة، ولو كان نَبِيّاً فلا يعرف الله إلا الله، إذْ عُقولنا قاصرة، واللهُ تعالى أخبرنا عن ذاته بِكذا وكذا، وهناك أشْياء نعرفها عن الله تعالى من خلقه، فأنت يمكن أن تُلاحظ أفعال الله عز وجل وخلقه، فَتعرفه مِن خلقه وأفعاله، فإذا قرأت القرآن تعرفه من كلامه، وأكثر من ذلك أنه لم يُكَلِّفْك ما لا تُطيق.

 

التعليم بالصورة أبلغ في التعبير من آلاف الكلمات :

 قال رحمه الله تعالى: "ولا يُشبه الأنام"، فهو ردٌّ لِقول المُشَبِّهة الذين يُشَبِّهون الخالق سبحانه وتعالى بالمخلوق، قال عز وجل:

﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾

[ سورة الشورى: 11]

 ليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فَمِن كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الفقه الأكبر قوله: لا يُشبِهُ شيئاً من خلقه، ولا يُشبهه شيء من خلقه، وصفاته كلُّها بِخلاف صِفات المخلوقين، يعلم لا كَعِلْمنا، ويقدِرُ لا كَقُدرتنا، ويرى لا كَرُؤيتنا.
 هذا الموضوع يقودني إلى شيء، الكَلِمة في اللغة أيها الأخوة ليْسَت ذات معنى إلا إذا كان لها مُرْتَكَز، لأنَّ الكلمة في الأصْل تُثير خِبْرات سابِقَة، أو وِعاء تحتوي على خبرات، فإذا قلت كلمة: بحر، فهذه الكلمة أثارَت صُوَراً في ذِهْنِك الآن، لأنَّك تعرف البحر في سوريا، وهناك مَن ركبه، وهناك من سبح فيه، وهناك من رآه، وهناك من كاد أن يغْرق فيه، وهناك من ركب القارب، واسْتمْتع بِهدوئه، والنسيم العليل على سطْحه، وهناك من كاد يموت فيه، فَكَلِمَة بحْر إذا ذكرتها تُثير كُلَّ هذه الخِبْرات، الآن ربُّنا عز وجل إذا أراد أن يُحَدِّثنا عن الجَنَّة فلو أنَّ الأرْض كُلَّها صَحارى، ولا لون أخضر فيها، ولا مياه عذْبة، ولا جبال خضْراء، ولا أشْخاص في أبهى صورة، فالحديث عن الجنَّة ليس له معنى إطْلاقاً، تفْقِدُ اللغة مَدْلولها إن لم يكن للكلمة مَدْلول، لذلك أخطر تعليم هو التَّعْليم اللَّفْظي، فالآن نحن دَخَلْنا في موضوع تَرْبوي فأنا مثلاً عندما أريد أن أقول للطلاب أشياء كلّها كلام بِكَلام، واقِع الطالب بعيد، أما لو يرى الطالب تفاعل الماء مع الصوديوم؛ هذه الرؤيا لا ينساها حتى الموت، فإذا قلنا: صوديوم يتذَكَّر التفاعل، وإذا قلنا ماء يتذكَّر التفاعل، لذا التعليم بالصورة مُفيدٌ جداً، وأحْياناً قِصَّة واقِعِيَّة، أو مَشْهد، أو مُفارقة، أو صورة رائِعة هي أبلغ في التعبير من آلاف الكلمات.

 

الأَدَب من أرْقى الفنون وقِوامُه الكلمات :

 الصورة قالوا عنها: تحوي طاقة تَعْبيرِيَّة تُساوي ألف كلمة، لذلك صَوَّر الله عز وجل في القرآن مشاهِد، مثَلاً قال تعالى:

﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾

[ سورة الحج: 45 ]

 أيْ هذه صورة مُجتمع أهْلكه الله عز وجل، المرْفَق الأساسي مُعَطَّل، وهذه البئر والقرية كلها خاوية مدمرة، وصارت حطاماً، فهذه صورة من الصُّوَر، فالداعِيَة أحْياناً قد يحتاج أن تُعَبِّر بالصورة لا بالفِكْرة، ونحن عندنا قاعدة وهو تعبير مُباشر وتعبير غير مُباشر، فالتعبير غير المُباشر تعبير بالصورة:

بلاني الدَّهر بالأرزاء حتى  فؤادي في غِشاءٍ من نِــبال
فكنت إذا أصابَتْني سِهـامٌ  تَكَسَّرت النِّصال عن النِّصـال
* * *

 هذا تعبير بالصورة، أما لو قال الشاعِر: تكاثَرَت عليَّ المصائِب فهذا تعبير بالفِكْرة، فالتعبير بالصورة أجْمل، لذلك فالأدَب حينما يسْتخدِمُه الدعاة في توظيف الحقّ يُفْلِحون، فالأدَب فنّ، والفنّ هو التأثير في الآخرين عن طريق الكلِمَة، فالفنون الجميلة قِوامها الألْحان، وهذا الفنّ قِوامه الأحْجار، وهذا فنّ قِوامه الألوان، والأَدَب من أرْقى الفنون وقِوامُه الكلمات، فإذا قرأ الإنسان قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((...إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حُكْماً ))

[أبي داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 فللجملة معناها العميق والمؤثِّر.

 

العِلْم بالتَّعَلّم :

 الآن دخلنا في موضوع هو من أصول الدعوة، فلا يُعقل من داعِيَة ليس له أُسلوب أدبي، لذلك أتمنى على أخواننا الدعاة أنْ يكون عند كل واحدٍ دَفتر مُختارات، فإذا سَمِعْتَ شِعْراً، أو حكمة، أو قولاً، وأحياناً حَديثاً، فالإنسان كلَّما حَفِظ نُصوصاً رائِعَة فهذا يُعينه على الأداء، وقد يقول أحدكم: أنا أتَّصِل بالله تعالى، وعندها يكون التأثير، أليس في حديث رسول الله صُوَر، وأمْثال، وتعابير، وتوازن لفْظي، ومشاهِد، وقِصص، هذه كلّها أساليب أدَبِيَّة، فالذي أتمناه عليكم أنَّك إن قرأت كتاباً أدَبيّاً، أو إذا قرأْتَ القرآن، أو حديث النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي ألاّ تنصَرِف إلى الفِكرة وحْدها، بل إلى الصورة كذلك، تعَلَّم من الأساليب اللغوِيَّة الرفيعة، لذلك تحتاج إلى مختارات لا على أساس أنَّها مختارات الأفكار بل على أساس أنّها صُوَر، أنا أذْكر كلَّما عَثَرْت على عبارة أدَبِيَّة كنت أكْتبها في الدفتر، فمَعَ الكتابة والمُراجعة هَضَمْتها، وكنت أقول لكم دائِماً: إنَّ الإنسان له ذاكرتان؛ ذاكرة تَعَرُّفِيَّة، وذاكرة اسْتِرْجاعِيَّة، فَذاكِرَتُه التَّعَرفيَّة غَنِيَّة جداً، أما الاسْتِرْجاعِيَّة فَضَعيفة جداً، فليس كلّ شيء إذا عرفْته أو قرأتَهُ يمكنك أن تسْتَعيدَهُ، والدليل لو أمسَكْتَ كِتاباً أدَبِياً سَتَجِد عَشَرات الكلمات إذا رأيْتَها في سِياقها تعرِفُ معناها، لكن لو كَلَّفْناك كِتابة موضوع، فهذه الكلمات التي رأيْتها وعَرفتها لا تذكرها عند الكتابة، فما تفْسير ذلك؟ أنَّ هناك ذاكِرَتين تعَرُّفِيَّة واسْتِرْجاعِيَّة، وهذا الشيء واضِح باللغة الأجْنَبِيَّة أكثر، فأن تقرأ كلمة تقول: معناها كذا وكذا، لكن لو قيل لك: ما الكلمة التي تُقابل في الإنجليزيَّة هذه المُفردة العَرَبِيَّة؟ تقول: لا أعرف، أو لا أذْكر، فأنت حينما تقرأ النصّ قِراءة أسْلوبِيَّة تَقِف على الصُّوَر، والتَّشْبيهات، والاسْتِعارات، والكنايات، والتعليقات، والصور الوَصْفِيَّة، والمشاهِد، وإذا وَقَفْت عند هذه التعبيرات، ووضَعْتَ تحتها خطّاً أحْمر، فإنَّك تَمْتَلِكُها، وكأنَّك تنقلها من ذاكِرَتِك التَّعَرُّفِيَة إلى ذاكِرَتِك الاسْتِرْجاعِيَّة، وفي النِّهاية لا بدّ أن ينمو مخزونُك من الكلمات والعبارات الأسلوبية المتنوعة، والورقة ليْسَت معي، فهذا غير وارِد! فإذا لم يكن لك مَخزون من الصُّوَر الأدَبِيَّة والأساليب والأمْثال فالعطاء ضحل، ولا تنسَ أنَّ الأدَب سِلاحٌ خطير، يسْتخدِمُه الدعاة للحقّ، ولذلك أرْوَع ما تقرؤه هو أن تقرأ كلاماً ينطَوي على مضْمون عميق بِأُسْلوب أدَبي، فالعِلْم بالتَّعَلّم، وهذه حقيقة، وعلى هذا فلا تسْمح لنفسِك أن تقرأ كتاباً أدَبِيّاً دون أن تَقِف عند صُوَرِه الأدَبِيَّة؛ من تشْبيه، وبيان، واسْتِعارة، وكناية.

جمال أسلوب القرآن :

 هل مَرَّ معكم في القرآن صورٌ أَدَبِيَّة؟ كثيرة جداً، إذا قرأتَ القرآن فشيء رائِعٌ أن تقف عند صُوَرِه، وإذا قرأْت الحديث النَّبَوي فقِفْ عند صُوَرِه، فإنّ الله تعالى قال:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 هذه الكلمات الخمس:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 مُوَضَّحة في القرآن الكريم، فمثلاً سورة يوسف كلّها من أجل أن تعلم أنّه لا إله إلا الله، فإما أن تُعَبِّر تعبيراً تقْريرِياً، وإما أنْ تُعَبِّر تعبيراً تصْويرِياً، والتعبير التَّصْويري أجْمل بِكَثير، وقد ذَكَرْتُ لكم أنَّني أتمنى على من يقرأ القرآن أن ينصرف ذِهْنه إلى نظْمه وأسْلوبه بالإضافة إلى معانيه، قال تعالى:

﴿ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ﴾

[ سورة العاديات:4-5 ]

 هذا أُسْلوب موسيقي وفيه إيقاع، حتى هذا الإيقاع يُشْبه حركة الخَيْل، فالإنسان الذي يُحِبّ أن يتزَوَّد من هذه الموضوعات فإنَّ كتباً كثيرة جداً تتحَدَّث عن بلاغة القرآن، وعن التَّصْوير الفني في القرآن، ونحن بِحاجَة إلى أن نضَع يَدَنا على جمال أسلوب القرآن، وعلى جمال أُسْلوب الحديث، كي نقْتَبِسَ منهما أسْلوباً أدَبِيّاً في الدعوة إلى الله، فأنت في النِّهاية يجب أن تُسَخِّر فنَّ الأدب، والتعبير، والقِصَّة، والحِوارِيَّة، والمقال، والشِّعْر في توْضيح الحقّ، حتى لو كنتَ تتكَلَّم بِكَلامٍ عميقٍ جداً، وبِأُسْلوبٍ بسيط ساذج غير أدبي، وعلمي، وركيك، كمن يُقَدِّم أنْفس شراب لِصديق في قدح صدئة، لذلك تَعَلَّموا العربِيَّة فإنَّها من الدِّين، فأنت تتكَلَّم بها كلاماً دقيقاً، واضِحاً، ومؤثِّراً.

 

مذهبنا التكفير بالتجريد لا بالتحديد والتعيين :

 قال نعيم بن حمَّاد: من شَبَّه الله تعالى بِشيء مِن خلقه فقد كَفر، ومن أنكر ما وَصَف الله به نفْسه فقد كفر، وليْستْ لما وصَفَت به نفسه ولا رسوله تشْبيه، تعليقنا على هذا الكلام: أنت تقول: في الجنَّة بساتين، وأنّ في الأرض بساتين، فيها أزْهار، وأشْجار، واخْضِرار، وماء عذْب، فهذه صُوَر الأرض، إلا أنَّ جنات الآخرة ليس لها من جَنَّات الدنيا شبه إلا الاسْم، فالنبي عليه الصلاة والسلام بَشَر، فكلّ ما قاله عن الله عز وجل، وكلّ ما قاله الله عن ذاته بَوْن شاسِع، وهو أنَّ المَخلوق لا يُحيط بالخالق، وهذا جاء في الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ:

((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 وقال إسْحاق بن راهَوَيْه: من وَصَف الله فَشَبَّه صِفاته بأحد من خلْق الله فهو كافِرٌ بالله العظيم. ومِن هذا القول ظهرتْ لنا قاعِدَة: إياكم أيها الأخوة الدعاة، ثمَّ إياكم، ثمَّ إياكم أن تُكَفِّروا شخصاً بالتَّحْديد، لكم أن تُكَفِّروا من دون تَحْديد، كيف؟ تقول: من قال أنَّ الله يُشْبه أحداً من خلْقه فهو كافِر، من قال؟ لا نعرف من قال! أما أن تقول: فلان قال كذا فهو كافر؛ أعوذ بالله! أنت الآن دَخَلْت في الفِتَن، والعلماء الأجِلاء عَلَّمونا ألاّ نُكَفِّر بالتَّحْديد، كَفِّرْ مَقولة، أو فِكْرة، ولكن لا تكفِّرْ إنساناً! إياك أن تُكَفِّر المؤمن أو المسلم!! أنت عليك أن تقول: هذه الفكرة كُفْر أو بدْعة، أما أن تعزُوَها إلى أصْحابها فقد وَقَعْتَ في شَرٍّ كبير وفي فتْنة، ويصبح الداعية غارقاً في فتنةٍ، فأنت تقول مثلاً: من رَدَّ هذه الآية فهو كافِر، ومن أنكر عذاب النار فهو كافِر، دائِماً من أنكر! أما التكفير بالتحديد والتعيين فهو ليس من مذْهبنا، فنحن مذهبنا التكفير بالتجريد لا بالتحديد والتعيين، والذي أُضيفه أيضاً أن ليس كلّ من وقع في الكفرِ وقع عليه الكُفْرُ، فلو كان أخوك أمِّي أو جاهل أو ساذج في تفكيره، وكان بِسَاعة غفلة ثمّ قال كلاماً فيه نظر فليس من شأننا أن نُكَفِّره، ولكن نقول أخْطأ وغلط، فأنت ليس من شأنك تقييم العِباد وليس من شأن العِباد أن يُقَيِّموا بعضهم بعضاً.
قال رحمه الله: "علامة ابن جهْمٍ وأصْحابه دَعْواهم على أهل السنَّة والجماعة ما أولِعوا به من الكذب أنَّهم مُشَبِّهة بل هم المعطِّلة، فالذين ينفون صفات الله مُعَطِّلَة، والذين يُشَبِّهون الله مُشَبِّهة، وكلاهما فرقة ضالة، وكذلك قال خلقٌ كثير من السَّلف: علامة الجهْمِيّة تَسْميتهم أهل السنَّة مُشَبِّهَة، فإنَّه ما من أحد نفى شيئاً من الأسْماء والصفات إلا ويُسَمِّي المُثَبِّت لها مُشَبِّهاً، ولقد عرفْنا اليوم منكري الصفات، وهم المُعطِّلة، وتشْبيه الله بخلْقه، وهم المُشَبِّهة، وكلاهما فرقة ضالة، لأنَّهُ لا يُشْبه الأنام، وهم الخلق كلّهم، وكلّ ما سِوى الله.

أعزّ مكان في الدُّنَى سرْجُ سابِحٍ  وخير جليس في الأنام كتاب
* * *

 فالأنام كلمة واسعة جداً، بعضهم قال: بني البشر، وبعضهم قال: المخلوقات المتحرِّكة، وبعضهم قال: ما سِوى الله.

 

تساوي الأسماء لا يعني تساوي الذوات :

 قال رحمه الله: "فَمَن أنكر أسْماء الله بالكُلِيَّة من غُلاة الزنادِقَة كالقرامطة والفلاسفة وقال: إنَّ الله تعالى لا يُقال له: عالِم ولا قادِر ويزْعم من سَمَّاهُ بذلك أنَّهُ مُشَبِّه، لأنَّ الاشْتِراك في الاسم يوجب الاشْتِباه في معناه، ومن أثْبَتَ الاسم، وقال: هو مَجاز كَغالِيَة الجَهْمِيَّة يزْعم أنَّهُ من قال: إنَّ الله عالِمٌ حقيقة، وقادِر حقيقة فهو مُشَبِّه.
 هذه الفِكْرة مَبْنِيَّة على وَهْمٍ كبير، وهو أنَّك إذا قلتَ عن الله: إنه عالِم قيل لك: وفلان عالِم، تساوي الأسماء لا يعني تساوي الذوات، فالفِكْرة أساسها غلط، إذْ لما يتشابه شيئان في اسم واحِد فلا يعني أنَّهما مُتَشابِهان في المسمَّى، فهذه الدَّعوى باطِلة.
 قال رحمه الله: "ومن أنكر الصفات وقال: إنَّ الله ليس له علْمٌ ولا قدرة ولا كلام ولا مَحَبَّة ولا إرادة كمن قال لِمَن أثْبَتَ الصِّفات مُشَبِّه".
 قول المؤلِّف رحمه الله: إنَّ الله ليس له علْمٌ ولا قدرة ولا كلام ولا مَحَبَّة ولا إرادة، فماذا تُعربون هذه اللاءات؟! نحن عندنا قاعِدة في القرآن الكريم، فالله عز وجل قال:

﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴾

[ سورة القيامة: 31]

 فإذا قلنا نحن: فلا صَدَّق وصلى؛ فهل صَلَّى؟ ما صلى، فمعنى الآية الدقيق لم يُصلِّ، ولأنَّ المعْطوف على المَنْفي مَنْفِيّ مثله، ولكن لمّا فَهِمْتُم أنَّهُ صلى حدَثَ الْتِباس، جئنا بِحَرْف زائِد لتوكيد النفي، فَكُلّ هذه اللاءات زائِدَة لِتَأكيد النَّفي. فقولنا: إنَّ الله ليس له علْمٌ، ولا قدرة، ولا كلام، ولا مَحَبَّة، ولا إرادة، كَقَوْلِنا: إنَّ الله ليس له عِلْمٌ، وقدرة، ومحبَّة، وإرادة، ولكن لئلّا نفهم العَكْس جاءَت هذه اللاءات لِتَوْكيد النَّفْي.
 قال رحمه الله تعالى: من أثبت الصفات لله فهو مُشَبِّه، وإنَّهُ مُجَسِّم، ولهذا كتب نُفاة الصفات من الجهْمِيَّة والرافضة والمعتزلة ونحوهم كُلّها مَشْحونة بِتَسْميَة مُشَبِّهَة الصِّفات المُجَسِّمَة، ويقولون في كتبهم: إنَّ من جملة المُشَبِّهة قوماً يُقال لهم المالِكِيَّة يُنْسَبون إلى رجل يُقال له مالك بن أنس، وقوماً يقال لهم الشافِعِيَّة يُنسبون إلى رجل يُقال له محمّد بن إدريس، وحتى الذين يُفَسِّرون القرآن منهم كَعَبْدِ الجبار والزَّمَخْشَري، يُسَمُّون كلّ من أثْبت شيئاً مِن الصِّفات والرؤية مُشَبِّهَة.

 

الله

 تعالى يعلم لا كعِلْمِنا ويقدر لا كَقُدْرتنا ويرى لا كَرُؤْيَتِنا :

 

 أهل السنَّة والجماعة يُثبتون الرؤية يوم القيامة، لكنّ بعض الفِرَق الضالة تنفي رؤية الله تعالى، فإذا قلت لهم: ما تفعلون بقوله تعالى:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

[ سورة القيامة: 22-23 ]

 قال: منتظرة، أي تنتظر حِسابها، وهذا هو التأويل، قال رحمه الله: وهذا الاسْتِعمال قد غلب عند المتأخِّرين من غالب الطوائف، ولكن المشهور من اسْتِعمال هذا اللّفظ عند علماء السنَّة المشْهورين أنَّهم لا يريدون بِنَفي التَّشْبيه نَفْي الصِّفات عند كل من أثبت الصِّفات، بل مُرادهم أنَّه لا يُشبه المخلوق في أسْمائِه، وصِفاته، وأفعاله، كما تَقَدَّم من كلام أبي حنيفة رحمه الله: أنَّهُ تعالى يعلم لا كعِلْمِنا، ويقدر لا كَقُدْرتنا، ويرى لا كَرُؤْيَتِنا، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾

[ سورة الشورى: 11 ]

 مستلزماً لنفي الصِّفات. وهذا شيء جميل جداً، فليس كمثله شيء نَفَيْنا المُشابهة، وهو السميع البصير أثْبَتْنا الصِّفة، وهذه هي العقيدة الصحيحة.
 ثمّ قال رحمه الله: ومما يُوضِّح هذا أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسٍ تَمْثِيلِيٍّ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ ، وَلَا بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ يَسْتَوِي أَفْرَادُهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثَّلَ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ يَسْتَوِي أَفْرَادُهَا.
 هذه القَضِيَّة من أخْطر الأفكار، أحْياناً الإنسان بِسَذاجة وحتى يُوَضِّح شيئاً عن الله عز وجل يُشَبِّهُهُ بِمَخْلوقاتِه، فلا يسْتوي الإله مع المخلوقات ونحن عندنا آية مشْهورة بِكَثْرة، وهي قوله تعالى:

 

﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون﴾

[ سورة الأنبياء: 23]

 فهل معنى هذا أنَّهُ ظالم؟ لا، لماذا تَوَهَّمْتُم أنَّ نفي السؤال يعْني أنَّهُ ظالم؟! لكن ليس من شأن الإله أن يُسْأل، لا يجْسر من يسْأله، ولا يعني هذا أنَّهُ ظالم بل عادل، قال تعالى:

﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقيمٍ ﴾

[ سورة هود: 56]

الفرق بين صِفات القُدْرة وصِفات الكمال :

 إلا أنَّ بعض الناس لا يسْتطيع أن يُفَرِّق بين صِفات القُدْرة وصِفات الكمال، فيقول لك أحدهم: ألا يسْتطيع الله عز وجل أنْ يضع المُطيع في جَهَنَّم؟
 فالقُدْرة شيء، والكمال شيء آخر، فله قُدْرة يقدر على هذا، كحال من لم يكن له مولود ذكر، ثمَّ لما جاءه مولود ذكر قالوا: يقدِر هذا الأب أن يقتل هذا المولود! إلا أنَّه لا يقدِر أن يفعل هذا، فالنقطة في هذا الموضوع أنَّ هذا الأب من حيث العضلات يقْدِر، وربنا عز وجل لو نَفَيْتَ عنه القدرة فأنت غلطان، أما لو أثْبَتَّ له الكمال فأنت مُصيب، كأن تنفي عنه النقص وتثبت له الكمال، لذلك يجب التفريق بين صفات القدرة وبين صِفات الكمال، فلله عز وجل قُدْرةً لا يُسْأل عما يفعل، وليس من شأن الإله أن يُسْأل، وهنا معنى دقيق وهو أنَّ الله عز وجل ليس مقهور وضعيف حتى يستعين بالسبب، فأنا كإنسان مثلاً لا يمكنني أنْ أصل إلى مكان بعيد إلا بالسيارة أو غيرها، فأنا مُفتقِر لهذه الأداة حتى أُكَمِّل ضَعْفي، فاسْتِخدام الإنسان هذه الوسائل صالحة للتعبير عن ضعْف الإنسان، فالإنسان يُسأل لأنَّه مَقهور بالوسيلة، أما الله عز وجل فلا يُسأل عما يفْعل، وليس له وسيلة مقهور بها، ويُكَمِّل ضَعفه بها، وإنما كُنْ فَيَكون قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾

[ سورة يس: 82 ]

 فهذا المعنى الثاني من قوله تعالى لا يُسأل عما يفعل، فأوَّل معنى: ليس من شأنه أن يُسأل كَإله، والمعنى الثاني: لأنَّه إله فلا تليق به العلَّة الغائيَّة، والمعنى الثالث: لِفَرْط كماله لا يُسأل عما يفعل، فَعَدْله يُسكت الألْسِنَة فلا تُحاول أن تتعرَّف إلى الله تعالى عن طريق تَشْبيهه بِخَلْقِه، هناك عبارة نكرِّرها: إذا أراد الإنسان الكلام عن الله تعالى بالتَّشبيه، وهي أن يقول: ولله المثل الأعلى، فإذا كنت مُضطَرّاً لِتَوضيح فِكرة عن ذات الله عز وجل فقُل: ولله المَثَل الأعلى.

 

على الإنسان ألا يُحاول أن يُخضِع ما تَكَلَّم الله به عن ذاته لِمَقاييس العقل :

 ثم قال رحمه الله تعالى: ولهذا لما سلكت طوائف من المتكلِّمين تأولت مثل هذه الأقيِسَة.
 فهذه فكرة خطيرة جداً كذلك، لا تُحاول أن تُخضِع ما تَكَلَّم الله به عن ذاته لِمَقاييس العقل، فبالإسْراء والمِعراج، بماذا بدأ الله تعالى في الآية الكريمة؟ سبحان! هذا الذي سَأُحَدِّثكم به لا يخضع لِمَقاييسِكم، ولا لِمَقاييس الزمان أو المكان، لا تُحاوِل أن تقول: كيف أنَّه وصل إلى القدْس بِلَمْح البصر، وكيف وصل إلى السماء، فأنا دَرَسْتُ بالفيزْياء أنَّ هناك طبقة حرارتها خمْسون تحت الصِّفْر، وأخرى ألف، فكيف وصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى فوق؟! لا تُحاوِل أن تُخْضِع المُعْجزة إلى مقاييس الزمان والمكان والفيزياء والكيمياء والفلك والرياضِيات والحركة والسُّكون، فهذه كلّها اُتْركها للأوْضاع الطبيعِيَّة، فإذا قال لك الله تعالى: سبحان، فهذا خَرْقٌ للقوانين! فهو لا يخْضع لا للعقل، ولا لمقاييس الزمان والمكان، لذلك قد تجد مَقتولاً في الحرب لونه مروّع، كأن يكون لونه أزْرق، مَذْبوحاً، أو مجْروحاً، وأمْعاؤُه كلُّها خارج جسده، لكنه عند الله ليس كذلك، بل هو حيٌّ، وهذا ما صرَّحتْ به الآية التالية:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 169 ]

 فهذا دَخَل في عَالَم آخر غير عالَم المادَّة، فأنت لمّا تؤمن أنَّ لعالَم الدنيا قوانين، ولعالَم ما بعد البرْزَخ قوانين أخْرى ترْتاح، أما لو حاوَلْتَ أن تفْهم ما بعد الموت بِقَوانين ما قبل الموت فتدخل في حقل ما لا نِهاية، فإياك أن تُحاوِل أن تفْهم ما يجْري ما بعد الموت بِقَوانين ما قبل الموت، فَلِكُلِّ حياةٍ قوانين، والنَّفْس البَشَرِيَّة مَحْبوسَة في الجَسَد ولا تنطلق إلا عن طريقه، لكنَّ النفْس البَشَرِيَّة في الآخرة مَرْكزها الجَسَد لكنها تنطلِق انْطِلاقات واسِعَة جداً، بِشَيءٍ يبتَعِد عن قوانين الأرْض، قال تعالى:

 

﴿ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ*يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ* قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾

[سورة الصافات: 51-55]

 لو كان لك قريب ساكن بأمْريكا، ثمَّ سَمِعْتَ بِمَوتِه فلا تستغرب، أما في الآخرة فيكْفي أن يخْطر بِبَالِك كي تراه أمامك! إذاً لا تُحاوِل أن تنقل قوانين عالَم إلى عالَم آخر، وعلى الإنسان أن يعرِفَ حَدَّه كي يقِفَ عنده، فَمِن الأدِلَّة أنَّك تَجِد قانون الكتلة يختلف من الأرض إلى القمر، ونحن في الدنيا نجد هذه الاخْتِلافات فما بالك بالآخرة! فَوَزْنُ الإنسان في الأرْض ستون كيلو غراماً، وفي القمر عشْرة كيلو غراماً.

 

إذا أردْنا التشْبيه فيجب أن نقول ولله المثل الأعلى كي نرْتاح :

 ثمَّ قال رحمه الله: ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾

[سورة النحل: 60]

 مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ـ وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ـ فالواجب القديم أولى به.
 فهذا مثل بسيط: أحياناً يُعَبِّر الإنسان عن آخر يقول لك: نشاطه مثل الحِصان، هل في هذا شيء؟! فالحِصان له ذَنَب! فأنت بماذا تُشْبِهُ الحِصان؟ بالقوَّة، فأنت إذا أردْتَ التشْبيه قُلْ: ولله المثل الأعلى كي ترْتاح، وهي بعض آية قرآنِيَّة.
 ثمَّ قال رحمه الله: وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر ـ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره وهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات ـ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى، ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء ويقولون : واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا، ثم يقولون : أصل الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة "ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : تخلقوا بأخلاق الله."
 لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الحديث لا أصل له في السنَّة، ولا يجوز نسْبته للنبي عليه الصلاة والسلام، ودائِماً إن لم تكن مُتأكِّداً من الحديث فما عليك إلا أن تأتي به على صيغة التَّمريض التي ذَكَرها المُحَدِّثين في كتبهم؛ رُوِيَ، وورَدَ، وقيل، فإذاً نسبْته بالجزْم لا تَصِحّ! والحُلولِيَّة اتَّفقْنا عليها، وقلنا: وَحْدة الشهود شيء، ووَحْدة الوُجود شيء آخر.
 ثمَّ قال رحمه الله: ونفي مُشابهة شيء من مخلوقاته له مُستلْزِمٌ لنفي مُشابهته لشيءٍ من مخْلوقاته، لذلك اكْتفى الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: لا يُشْبِهُ الأنام، والأنام قيل: الخلق كلُّهم، أو كلِّ ذي روح، وقيل: الناس، وقيل: الثَّقَلان؛ الإنس والجانّ، وظاهر في قوله تعالى:

 

﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴾

[سورة الرحمن: 10]

 يشْهد للأوَّل أكثر من الباقي، والله أعلم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور