- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠2العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
التوحيد مرْحلتان؛ مرحلة في الإثبات والمعرفة والثانية توحيد في الطلب والقصْد :
أيها الأخوة المؤمنون، لا زلنا في موضوع التوحيد؛ توحيد الألوهِيَّة، وبعد أن تحَدَّثنا في دروس سابقة عن توحيد الربوبيَّة، وقد اتَّضَح لكم أنَّ توحيد الربوبيَّة ليس مُشكلةً على مُسْتوى الناس جميعاً، لأنَّه ما من واحِدٍ حتى لو كان يعْبَدَ صَنَماً إلاّ ويقول: لا نعْبدهم إلا لِيُقَرِّبونا إلى الله زُلْفى، قال تعالى:
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾
فَنَحن في توحيد الألوهِيَّة نُعاني من الشِّرْك الخفيّ، حينما تشْعر أنَّ جِهَةً بِإمْكانها أن تنْفعك أو تضرَّك فقد وَقَعْتَ في الشِّرْك الخفي، وفي شِرْك الألوهِيَّة.
ثم إن توحيد الألوهِيَّة يقْتضي شيئين: الشيء الأول أن تُوَحِدَّ الله سبحانه وتعالى مَعْرِفَةً وإثْباتاً، وأن تُوَحِّدَهُ طَلَباً وقصْداً، فأنت أمام مرْحَلَتَيْن هما: مرحلة المعرفة، ومرْحلة التَّوَجّه، فلو أنَّ الإنسان اكْتفى بالمعرفة لما اسْتفاد شيئاً من علمه، قال تعالى :
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾
أكبر مُنْزَلَق لِطالب العِلْم أن يتَوَهَّم أنّ العِلْم مَقْصودٌ بِذاته، لكنَّ الحقيقة أنّ العِلْم مقْصودٌ لغيره، فهو وسيلة، وليس غاية، لو وَحَّدْتَ الخالق، ولم تُوَحِّد الوِجْهة إليه، ونِيَّتَك له، فما وَحَّدْته، لذلك التوحيد مرْحلتان: مرحلة في الإثبات والمعرفة، والثانية توحيد في الطلب والقصْد.
الآيات التي دَعَت إلى التوحيد في القرآن الكريم :
مؤلِّف الكتاب يقول: نوع التوحيد في المعْرفة ظهر في أوَّل سورة الحديد، وفي أوَّل سورة طه، وآخر سورة الحشْر، وأوَّل السَّجدة، وفي أوَّل آل عمران، وفي سورة الإخلاص، فَنَرْجو منكم أن تعودوا إلى هذه السُّوَر كما جاء في متْن هذا الكتاب، وأن تكْتَشِفوا هذه الآيات التي دَعَت إلى التوحيد في الإثبات والمعْرفة، قال تعالى:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
والثاني التوحيد في الطلب والقصْد، وقد أتى على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى :
﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾
وقوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾
القرآن الكريم كلَّهُ توحيد :
النقطة الدقيقة جداً أن ينقلك التوحيد الأوَّل إلى التوحيد الثاني، وعلى هامِش هذا الموضوع التَّفَكّر في آيات الكون، في الحقيقة هي جِسْرٌ ينبغي أن تنْقلك إلى الله تعالى، فكلُّ آيةٍ في جسْمك، أو طعامك، أو في الآفاق قد تنقُلُك إلى الله، فالعِبْرة، والمُعَوَّل عليه أن تصِلَ إلى الله تعالى، فلذلك: الطرائق إلى الخلائق بِعَدد أنْفاس الخلائِق، فالعِبْرة إذًا الوُصول، تَصَوّر أنَّ الوسائِل جِسْر، فالعاقل لا يبقى على الجِسْر، بل ينتقل من الجِسْر إلى الشطْر الثاني.
مُؤَلِّف الكتاب يرى أنَّ القرآن الكريم كلَّهُ توحيد؛ كيف؟ قال: إذا أخبر الله عن ذاته، وعن أسمائه، وصِفاته، وأفعاله، فهذا هو التوحيد العِلْمي، أما إذا دعا إلى عِبادته، وطاعته، وإخْلاص الوِجْهة له، والقصْد له، فهذا هو التوحيد العمَلي، وهناك توحيدٌ ثالث: هو التوحيد الإرادي، والطلبي، وهو أمْرٌ، ونَهْيٌ، وإلْزامٌ بِطاعَتِهِ، فهذا من لوازم التوحيد العملي؛ أن تأتَمِر بما أمَرَ، وتنْتهي عما نهى عنه وزجَر، وأن تُقيمَ شَرْع الله في كُلّ شؤون حياتك، وهذا التوحيد من لوازم التوحيد العملي، فإذا حَدَّثَك عن أهل الجنَّة ونعيمها، فهذه نتائِجُ التوحيد، توحيد علمي، وتوحيد عملي، ونتائج التوحيد، ولوازمه، فلو قرأتَ القرآن كلَّه فإنَّك لا تقرأُ آية تخرج عن هذا، أما إذا حَدَّثَك عن مصير الكفار في النار، فهذا من نتائِج عدم التَّوحيد، إذاً لا يخلو كتاب الله على إجْماله من آيات تُخْبرنا عن التوحيد العلمي، وأخرى تأمرنا بالتوحيد العملي، ولوازم التوحيد من أمْر ونَهْي، والنواهي هي التي تُبْعِدُ الإنسان عن التوحيد، ونتائِج المُوَحِّدين في الجنَّة، ونتائج المُشْركين في النار، لذلك القرآن كلُّه توحيد، ولهذا يتَّضِح قَوْل الأنبياء عليهم صلوات الله تعالى أنَّهم جاؤوا بالمَقولة الثابِتَة التي جاء بها الأنبياء جميعاً قال تعالى:
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
ثم يأتي على هذا بِمَثَل فقال: الحمد لله رب العالمين توْحيدٌ، الرحمن الرحيم توحيد، مالك يوم الدِّين إخبار، إياك نعبد، وإياك نسْتعين توحيد عملي، اهدنا الصِّراط المستقيم، توحيدٌ مُتَضَمِّنٌ سؤالَ الهدايةِ إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعمْت عليهم، هؤلاء الذين وَحَّدوا، وغير المغْضوب عليهم، ولا الضالين هؤلاء الذين فارقوا التوحيد، إذاً فنحن مع آياتٍ عن التوحيد العلمي، وأخرى تأمرنا بالتوحيد العملي، ولوازم التوحيد مِن أمْرٍ ونَهْيٍ.
الحياة الطيِّبة التي يحْياها المؤمن هي شهادة الله له أنَّ هذا القرآن كلامه :
الله جلّ جلاله يشْهد لِنَفْسِه أنَّهُ إلهٌ واحِد، والدليل قول الله عز وجل:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
ذكرْتُ لكم مرَّةً أنَّ الله سبحانه وتعالى كيْفَ يشْهد لِهؤلاء الناس أنَّ هذا القرآن كلامه، الإنسان إذا شَهِد تَكَلَّم، وقال: أشْهد لك أنَّك فعلْتَ كذا وكذا، لكِنَّ خالق السماوات والأرض كيف يشْهد للناس أنَّ هذا كلامه ؟! ذَكَرْتُ وقْتها أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيي المؤمن والمُسْتقيم على أمْرِهِ حياةً طَيِّبَة، وهذه الحياة الطَّيِّبَة التي يذوقها المؤمن هي مِصْداقٌ لِقوله تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
فالحياة الطيِّبة التي يحْياها المؤمن هي شهادة الله له أنَّ هذا القرآن كلامه، لأنَّهُ وَعَد المؤمن بِهذه الحياة الطَّيِّبَة، وها هو ذا قد ذاقها! والحياة الضَّنْك والمعيشة الضَّنْك التي يعيشها المُعْرِض هي شهادة الله لِهذا الإنسان أنّ هذا القرآن حق، فهذه المعيشة الضَّنْك التي يذوقها المُعْرِض تُؤَكِّد أنَّ هذا القرآن كلام الله عز وجل، وقد أذاقه ما وعده به، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
الله عز وجل دائِماً يشْهد للإنسان أنَّهُ إلهٌ واحد :
يا أيها الأخوة الكرام، ينبغي أن تقِفوا قليلاً عندما يقول الله عز وجل : "شَهِدَ الله "، فالله تعالى لا تُدْركه الأبصار، فكيف يشْهد لنا أنَّهُ إلهٌ واحِد؟ هذا سؤال؛ قال بعض العارفين: عرفتُ الله من نقْض العزائِم، فالإنسان يُدَبِّر، ويُخَطِّط، ويُهَيِّئ الأسباب، ولأهون الأسباب تتحَطَّمُ كلّ خِططه وآماله، فالله عز وجل فضْلاً على أنّهُ ذَكَّرنا بالقرآن الكريم أنَّه كتابه، وفضْلاً على أنَّهُ قال: فاعلم أنَّه لا إله إلا الله، لو نَظَرْتَ إلى أفعال الله لوجدتَ أنَّها تشْهد كلَّها أنَّهُ إلهٌ واحد، فما من إنسان يعْتدّ بِنَفْسه، ويعْزو القوَّة لذاته إلا نَقَضَ الله عزيمته، والشواهد كثيرة جداً، فهذه المَرْكَبَة التي أطْلَقوها إلى الفضاء وسَمَّوْها المُتَحَدّي، بعد سبعين ثانِيَة فقط أصْبحَتْ كتْلة من اللَّهَب! وتلك الباخرة التي قالوا عنها: إنَّ القَدَر لا يسْتطيعُ أن يُغْرِقَها، في أوَّل رحْلَةٍ لها غَرِقَت، وهي من أعْظم البواخر التي صُنِعَتْ وقْتها، فالله عز وجل دائِماً يشْهد لنا أنَّهُ إلهٌ واحد، وأقرب مثلٍ نفْسك، كلَّما قلْتَ: الله تولاك بالرِّعاية، فإذا قلتَ: أنا تَخَلَّى عنك لأنّ الأمر بِيَدِه، أحياناً هذا الإنسان القويّ يتساهل بلا سَبب! وينتقِم بلا سبب، فالله هو الآمرُ، كما في حديثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم:
((كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَفَّانُ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ إِنَّكَ تُكْثِرُ أَنْ تَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ قَالَ وَمَا يُؤْمِنُنِي وَإِنَّمَا قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ قَلَّبَهُ ))
شهادة الله عز وجل تعني العِلْمَ والمعْرفة والتَّكلّم والإعلام والإلْزام :
ثم دَعْكَ من التوحيد في القرآن الكريم، ولننتقل إلى أفعال الله سبحانه، فلو تأمَّلْتَ أفعال الله عز وجل لرأيْتَ أنَّها كلَّها تنْطق بالتوحيد، وهذا معنى قول الله تعالى :
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
فالأسباب أحْياناً تتخَلَّف، وتقع الأشياء بلا أسباب، أو دون أسباب تقع الأشياء، فقد تجد نتيجة من دون سبب، وقد تجد سبباً ولا نتيجة له، ماذا يعني هذا؟! أنَّ الأمْر بِيَدِ الله، إلا أنَّنا نحن بِنَظْرةٍ قاصِرَة نجد أنَّ هذا الشيء سبب لِهذا الشيء، فالسَّبب والمُسَبِّب ترافقا، وكان أحدهما قبل الآخر فَسَمَّيْنا نحن اصْطِلاحاً: الأوَّل سبب، والثاني نتيجة، لكنَّ الأسباب وحْدها لا تسْتطيع أن تخلق النتائج، ولذلك قال علماء التوحيد: عندها لا بها! أي عند مشيئة الله لا بالقدرة التي أودِعَتْ في الأشْياء، فالنقْطة واضِحَة؛ كيف أنَّ الله تعالى يشْهد بأفعاله أنَّه لا إله إلا هو، والمؤلِّف يرى أنَّ شهادة الله عز وجل تعني العِلْمَ، والمعْرفة، وتعني التَّكلّم، والإعلام، وتعني الإلْزام، فإذا قرأتَ القرآن الكريم، وقرأتَ الآيات المُتَعَلِّقة بالتوحيد لَوَجَدْتَ بعضها أنَّ الله تعالى يشْهد، وبعضها أنّ الله تعالى يقول، وبعضها أنَّ الله يُخْبرنا، ويأمرنا.
الإعلام نوعان؛ إعلام بالقول و إعلام بالفعل :
والإعلام كما تعلمون هو إعْلامٌ بالقول، وإعلام بالفِعْل، أحياناً يتكلَّم بشيء يُقرّه دون أن يسأله أحد، فالإنسان يتكلَّم، ويٌقِرّ، ويعتقد، ويُعْلِم، ويأمر، فأنت قد تُعْلم دون إلزام، لكنَّك إن ألْزَمت فقد أمرْتَ، ما الفرق بين القاضي والمُفْتي؟ الفرق الدقيق أنّ القاضي يحْكم والمُفتي يحْكم إلا أنَّ القاضي أمْرُهُ مُلْزِم، وأما المُفتي فأَمْره غير مُلْزِم، وعليه فهناك عِلْمٌ، وهناك إقْرار، وهناك إعلام، وهناك أمْرٌ، قال تعالى:
﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾
هذه مرْتبة التَّكَلّم، فالإنسان بعدما يُعْلم يتكلَّم إلا أنَّهُ لا يلزم، والإعلام كما قلت قبل قليل: إعْلام بالقَوْل، وإعْلامٌ بالفِعْل، لو فرضْنا أنَّكم رأيْتُم على هذه السبورة أنَّهُ ستكون في الدَّرْس التالي مذاكرة، وكتبتُ ذلك على السبورة، ثمّ في الدرْس الثاني ما تَكَلَّمْتُ ولا كلمة، ووزَّعْتُ الأوْراق، ولم أقل مُذاكرة! فهذا أمرٌ بالفِعْل، وربُّنا عز وجل يُعْلِمُنا في كتابه الكريم، وحينما يُهْلِكُ الأقوام التي كفرَت، والذين أرادوا إطْفاء نور الله عز وجل، فهذا هو الإعلام بالفِعْل.
العلم و الإقرار و الإلزام :
لدينا شيءٌ آخر، وهو أنَّ الأمْر ـ كما قلتُ قبل قليل ـ قد تأمر، ولا تُلْزِم، وقد تأمر وتُلْزِم، قال تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾
معنى قضى أيْ حَكَم، إلا أنَّه مع الحكم نَهْيُ عن عبادةِ غيره، وهذا أمْرٌ ضِمْني أن تعْبده وحْده، قال تعالى:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
إذاً هناك عِلْمٌ، وهناك إقرار، وهناك إقرارٌ قوْلاً وفِعْلاً، وهناك إلزامٌ، وكُلُّ هذه المعاني ورَدَت فيها آيات كريمة تُؤَكِّدها .
النقل و العقل :
الشيخ الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: لا ندْخل في ذلك مُتأوِّلين بِآرائِنا، ولا مُتَوَهِّمين بأهوائنا، فإنَّه ما سَلِمَ في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولِرَسوله، فالإنسان أحْياناً يتأوَّل بِرَأيِه، وهو أخطر شيء في الدِّين، أنْ تجعل رأْيَكَ هو الدِّين، فإن كنت كذلك فلسْتَ من المؤمنين، ولكنك من أهْل الرأي، ومَن هم أهل الرأْي؟ هم الذين اعْتَقدوا رأياً، وبدؤوا يبْحثون عن المُؤيِّدات، فالنَّص الذي يُؤَيِّدُ قولهم يقْبَلونه، ولو كان ضعيفاً، والنَّص الذي ينقض رأيهم يرْفضونه ولو كان صحيحاً، فَدِينهم رأْيُهم، فالنَّص إمّا أن يكون هو الأصْل، وأنت تأخذ عقيدتك عندئذٍ من هذا النَّص الصحيح، وإمّا أن تسْتَخْدِم النَّص لتأييد رَأْيِك، عندَئذٍ تختار ما يوافق هواك، فأخْطر شيء كما يقول الفلاسفة الفلْسفةُ الانتِقائِيَّة! أنت لك رأي مُصِرّ عليه فتَبْحَثُ في الآراء عن رأي يُؤَيِّدُك وترْفض الذي لا يُؤَيِّدُك، فالنَّقْل هو الأصْل.
قلتُ لكم سابِقاً: إنَّ هناك علاقة كبيرة جداً بين النّقْل والعَقْل، فالحقيقة أنَّ النَّقْل ما جاءَنا عن الله عز وجل وَحْياً مَتْلُوًّاً، وما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم غير مَتْلوّ، فالنَّقْل هو القرآن، وما صحَّ من سنَّة النبي عليه الصلاة والسلام، أما العقْل فهو مِقْياس أوْدعه الله فينا، والواقع خلْق الله عز وجل، والفِطْرة بُنْيَة نفْسِيَّة تكْتشف الخطأ بها، ومن البَديهي أن يتوافق النَّقْل مع العقْل، وأن تتوافق الفطرة مع الواقع، وأن يتوافق الجميع، ولكن نبْدأ بِعَلاقة العقْل والنَّقْل فالعَقْل في الأصل لِفهْم النَّقْل، وله دَوْران: دَوْرٌ قبل النَّقل، ودَوْر بعد النَّقْل، أما الذي قبل النَّقل فالتَّحقُّقُ مِن صِحَّة النقل، أنت بِعَقلك تُمَحِّص الأحاديث، وتختار الصحيح، وتقف مَوْقفاً مترَدِّداً من الضعيف، وتقبل الحَسَن في الأحكام الشَّرْعِيَّة، وتجعل المتواتر في العقائِد الفِكْرِيَّة، فأنت اسْتَخْدَمْتَ عقْلك، فهو للتأكد من صِحَّة النَّقْل، ولفَهْم النَّقْل، أما أنْ يُسْمَحَ للعقل أنْ يتحَكَّم بالنَّقْل، فَيَقْبل بعضه ويرفض بعضه الآخر، فأنت هنا جعلْت العقل هو الأصل، والنَّقل هو الفرع! وهذا مُخالفٌ لما عليه جُمْهور العلماء، لذلك لا يُحْتَكَمُ إلى العَقْل، بل يُحْتَكَمُ إلى النَّقْل، لأنّ العقل قاصِر، وقد يفْشل، وقد ذَكَرْتُ لكم أنّ الأمر الإلهي كلَّما ازْداد وُضوحاً وطَبَّقْتَهُ ضَعُفَتِ العبادة في هذا التَّصْديق، وكلَّما كان غامِضاً، وبادَرْتَ إلى تصْديقهِ، ازْدادَتْ عُبوديَّتك لله تعالى، فأنت حينما تُنَفِّذ أمْراً، وأنت أمام آمِرٍ وأمْرٍ، فإذا كان الآمر عظيماً جداً، وذا كمالٍ مُطْلق، عندها تُبادِرُ إلى تَطْبيقه، ولو لم تجد في الأمْر الحِكْمة التي تبْحث عنها، وهذا يُمَثِّلُه مَوْقف سيّدنا إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه؛ وهناك مواقف عِدَّة لا تُعَدُّ، ولا تُحْصى، كُلّها وَفْق العقْل، والمنطِق، والواقع، والفِطْرة، فأنت إذا صدَقْتَ تكْتسِبُ محامِد كثيرة، أما إذا قيل لك: اِذْبَح ابْنك، وابنك نَبِيّ يسْعى معك، قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾
فهذا الأمر لا يُمكن أن يُقبل بِالعقل، ولا بالواقع، ولا بالفِطْرة، إلا أنَّ سيِّدنا إبراهيم لما قَبِل الأمْر أعْلنَ بِفِعْله هذا أنّه على أعلى مُسْتوى في العُبودِيَّة.
كُلّ شيء أراده الله تعالى وقع وكلّ شيء وقع أراده الله تعالى حُكْماً :
الله تعالى أحْياناً يمْتَحِنُ الإنسان؛ يمْتَحِنُ عَقْلانِيَّتَهُ، وعُبودِيَّتَهُ، لو كان مُسْتقيماً اسْتِقامة تامَّة، وأتَتْهُ مُشْكلة بِحَسَب الآيات، والأحاديث، وعقلُك يرى أنه لا ينبغي أنْ تأتي، فأنت هنا تمتحن للعبودِيَّة، فهل أنت موقِن أنَّ هذا الفِعْل فِعْلُ الله؟! وهل هناك مَخْلوقٌ يسْتطيع أن يفعل شيئاً ما أراده الله تعالى؟! طبْعاً، لا يُمْكن أن يفعل مَخْلوقٌ شيئاً ما أراده الله تعالى، ومعلومٌ عندكم أنَّ كُلَّ شيء أراده الله تعالى وقع، وكلّ شيء وقع أراده الله تعالى حُكْماً، فأنت إذا رأيْتَ شيئاً وقع فالله تعالى أراده، لأنَّهُ وقع فقد أراده، وإذا أراده وقع حَتْماً، ألا تعلمون أنَّ مشيئة الله وقدرته مُتَعَلِّقة بالحِكْمة المُطْلقة؟! ألا تعلمون أنَّ حكمته المُطْلقة مُتَعَلِّقة بالخير المُطْلق؟ لذلك فالإنسان حينما يُوَحِّد يسْتريح، فما دام هذا الشيء وقع فالله تعالى أراده، ولذلك فالتوْحيدُ يُعطيك طُمأنينة ما بعدها طُمأنينة، والإيمان بالقدَر نِظامُ التَّوحيد، وهو يُذْهِبُ الهمّ والحَزَن، فحينما تُبادِر إلى تطبيق أمْر الله عز وجل قبل أن تعْرف حِكْمته فهذا ارْتِفاعٌ في مُسْتوى عُبودِيَّتِك، وحينما تُعَلِّق التطبيق على فهْم حِكْمة الأمر، فهذا ضَعْفٌ في عُبوديَّتِك، والأمثلة كثيرة على ذلك، بل إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما وَقَّع صُلْح الحُدَيبِيَة، فيا ترى كيف وَقَّعَهُ؟ بأمْرٍ من الله تعالى، فالظاهِر من هذا الصلح شُروط مُهينة، وسيِّدنا عمر احْتار في أمْره، وغَلَتْ في نَفْسِهِ الحَمِيَّة والغيرة على الدِّين، وسيِّدنا الصِدِّيق كان أعلمَ منه، فقال له: اِلْزم غِرْزه، فإنَّهُ عبْد الله تعالى ورسوله، لذلك أيها الأخوة قد يأتي الشيء على غير المُراد، وهو معنى قوْل النبي الكريم لما دخل إلى بيْت أبي السائِب وقالتْ امْرأةٌ : هنيئا لك أبا السائب، فقد أكرمك الله ! فقال: وما أدراكِ أنّ الله تعالى أكْرَمَهُ؟ قولي: أرْجو الله تعالى أن يُكْرِمَهُ، وأنا نبيٌّ مرْسَل، لا أدْري ما يُفْعَل بي ولا بكم، هذا من عُبودِيَّة النبي عليه الصلاة والسلام، فلو قال الإنسان: أنا مُسْتقيم، ولا يُمْكن أن يُصيبني شيء يسوؤني فهذا فيه سوءُ أدَبٍ مع الله عز وجل، فما دُمْتَ عَبْداً لله فأنت في قبْضة الله، وعليك أن تُطيعَهُ، أما أن تُلْزِمَهُ فهذا ليس من شأن العَبْد المُطيع لله عز وجل .
معنى اسم المؤمن :
أردتُ بهذا الدرْس أن نكْتشف أنَّ الله سبحانه وتعالى من أسْمائِه المؤمن، هل الله تعالى مؤمن؟ الإنسان مؤمن، أما الله تعالى من أسْمائِه المؤمن، قال بعض العلماء: إنَّ معنى هذا الاسم يعني أنَّ الله تعالى إذا أرْسَلَ أنبياءه ورسله يسوق الحوادِث التي تَحْمِلُ الناس على الإيمان به، فهو يُؤَكِّد بأفعاله أقوالَه، فأفعاله حينما تؤكِّد فحْوى دَعْوة رسله فكأنَّهُ بهذا التوضيح حمل الناس على الإيمان بِدَعْوتِه، هذا من معاني مؤمن، لأنَّك أحياناً تجد من يُنفق من ماله، واللهُ تعالى يُضاعفه له أضْعافاً كثيرة، وتقرأ في القرآن الكريم:
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
لكنّك حينما ترى زَيْداً أو عُبيداً يُبارك لهم الله في الحلال تشْعر بالتطبيق العملي، قال تعالى في القرآن:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
وترى ذلك المحق فيمن أرْبى، فالله تعالى من أسمائِه المؤمن وهو تعالى حَمَلَك بِما رأيته للإيمان به تعالى، هذا معنى اسم المؤمن.
الإنسان لا يشعر بِحَلاوة الإيمان إلا بِتَوْحيد الألوِهيّة :
مِحْور الدرْس اليوم أنَّ الله سبحانه وتعالى فضْلاً عن شهادته بالقرآن أنَّهُ لا إله إلا الله، يشْهد لك بأفعاله أنَّهُ لا إله إلا الله، فأفْعالهُ تدلّ على وَحْدانِيَّتِه، فلو قال الطبيب للمريض: لا فرار مِن مرضك، فهو حَسَمَ المسألة، ثمَّ شفاه الله تعالى، فَلِسَبب أو لآخر نمَّى الله عنصر الشّفاء حتى نهض من مرضه .
من هم المُوَحِّدون، أو الذين يتبوؤن قِمَم التوحيد؟ هم الأنبياء، ومَن هم أشدّ منهم توْحيداً؟ الرسل، ومن أشدّ مِن هؤلاء توحيداً؟ أولو العزْم من الرسل، ومن أشدّ من هؤلاء توحيداً؟ النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، والدليل قوله تعالى :
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
فالعلماء يقولون الخليلان: خليل الله سيّدنا إبراهيم، والخليل الثاني هو محمّد بن عبد الله، هما في قِمم التوحيد، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه ))
إنّ توحيد الألوهِيَّة ضعيف عند بعض الناس، وإنّ توحيد الربوبِيَّة قاسِم مُشْترك، لذلك يؤمن الإنسان أنَّ لهذا الكون خالِقاً، لكنه معذّب في حياته، فهو يرْجو فلانًا، ويخاف عِلانًا، ويحْسب حساباً لِفلان، إلا أنَّك لا تشْعر أيها الأخ الكريم بِحَلاوة الإيمان إلا بِتَوْحيد الألوِهيّة، ولا تشْعر بالطمأنينة إلا حينما ترى أنَّ لِهذا الكون إلهاً واحِداً، وهو الذي يفْعل ما يشاء، فمشاعر المُوحِّد لا توصف، أوَّلاً: شُعور بالأمن، أمّا الخوف والقلق والحرمان فكلّ هذا أنت مُعافى منه، والاتِّجاه مَرَّة لِزَيْد، وأخرى لِعُبَيْد مُعافى منه، أمْرك كلّه بِيَدِ الله عز وجل .
شارَفْنا على الانتِهاء من توحيد الألوهِيَّة، وسننتقل في الدرْس القادم إن شاء الله إلى موضوع : "ولا شيء مثله"، وإن شاء الله تعالى سنورِد الأدِلَّة والتفاصيل على هذه المَقولة .