- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
التعبير غير المباشر عن طريق القصة فيه موعظة كبيرة :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني والخمسين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الرابعة والسبعين وهي قوله تعالى:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(74)﴾
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية تشير إلى قصة وقعت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أثناء غزوة تبوك، أحداث القصة دقيقة جداً، بل يمكن أن نستنبط منها حقائق كثيرة.
أحياناً يستخدم القرآن التعبير المباشر، وهذا له خصائصه، وأحياناً يستخدم القرآن التعبير غير المباشر عن طريق القصة، وهذا الأسلوب له خصائصه، على كلٍّ التعبير غير المباشر عن طريق القصة فيه موعظة كبيرة، لأن القصة حقيقة مع البرهان عليها، حقيقة مُجسَّدة بأشخاص يتحركون، يتحاورون، يتواصلون، والإنسان لأنه أخو الإنسان فإذا قرأ قصة عن إنسان آخر فلابد من أن يتعظ موعظة كبيرة، لذلك قال تعالى:
﴿
قصة الجلاس بن سويد مع النبي صلى الله عليه و سلم :
أيها الإخوة، تروي كتب السيرة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما أراد أن يغزو الروم، وهذه الغزوة هي غزوة تبوك، هذه الغزوة وقعت أحداثها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما أراد أن يغزو الروم، وكانت هذه الوقعة أول وقعة بين المسلمين وبين غير العرب، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الغزوة في فترة شديدة الحر، كل واحد في هذه الفترة يفضل الجلوس في بيته، في الأخياف، تحت النخيل، تحت الشجر، في جو رطب، ولا يرغبون في القيام من الظل، في هذه الفترة الحرجة الحارة حراً شديداً دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة لبلاد الروم هي غزوة تبوك.
وعندما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد في سبيل الله، والذهاب لقتال الروم، الآن المنافقون تلمسوا أعذاراً كاذبة، حتى لا يذهبوا إلى الجهاد، فظل القرآن ينزل في هؤلاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة شهرين كاملين، فقال رجل اسمه الجُلَّاس بن سويد: والله إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحُمُر، فهو بهذا الكلام تكلم بكلمة الكفر، إن كان صادقاً، فإن لم يكن صادقاً فنحن في غنى عن هذه الغزوة، فهذه الكلمة بحق النبي الكريم المعصوم الذي أرسله الله بهذا القرآن وبهذه الدعوة العظيمة، هذا الكلام بحق النبي يعد كفراً، هنا قال له أحدهم: لقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنتم شرٌّ من الحُمُر، وأنت يا جلاس شر من الحمار.
وهنا قام بعض المنافقين ليفتكوا بعامر بن قيس الأنصاري، لأن الجُلاس بن سويد كان من سادة قومه الذي قال: لو أن محمداً صادق فيما يقول لكنا شر من الحمر، هذا الكلام قاله سيد في قومه.
وذهب عامر بن قيس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما حدث، فاستدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن سويد وسأله عن الخبر- دققوا الآن- ابن سويد حينما استُدعي من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عن هذا الخبر حلف بالله أن كل ما قاله عامر بن قيس لم يحدث إطلاقاً، أي أنكر، وكذب، وحينما حلف أن هذا الذي نقله لك فلان لم يقع إطلاقاً تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه حلف بالله، وهنا رفع عامر بن قيس يده إلى السماء وقال: " يا رب إني أسألك أن تنزل على عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- تصديق ما قلت، وتكذيب الكاذب"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: آمين، ولم ينتهوا من الدعاء حتى نزل الوحي بقول الحق جل جلاله:
وهكذا حسمت هذه الآية هذا الموقف، وأظهرت من هو الصادق ومن هو الكاذب، فيما رواه عامر بن قيس، وأنكره الجلاس.
الله تعالى أراد أن يَعلم المنافقون أنه يخبر نبيه بما يخفونه :
ولكن الآية الكريمة تجاوزت ما عرف من الحادثة إلى ما لم يبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال سبحانه:
وقيل: إنهم تآمروا على قتل عامر بن قيس لأنه أبلغ رسول الله ما قاله الجُلَّاس بن سويد ولكنهم لم يتمكنوا.
الحوادث التي وقعت في عهد رسول الله وقعت لحكمة لتكون منهجاً لكل إنسان :
أيها الإخوة الكرام، هذه القصة تبين أن الذي ابتعد عن الله يتحرك حركة شريرة، أرادوا أن يقتلوا النبي -عليه الصلاة والسلام-، لماذا؟ لأنه جاء لهم بهذا الدين العظيم، بهذا الهدى القويم، بهذا القرآن الكريم، فالمؤمن يتحرك وفق منهج الله، لكن الآخر غير المؤمن يتحرك وفق هوى نفسه.
على كلٍّ هذه القصة لها عدة حقائق دقيقة جداً ينبغي أن نعرفها، لأن كل شيء وقع أراده الله، معنى أراده أي سمح به، لم يأمر، ولم يرضَ، لكن سمح بها لحكمة بالغة بالغة، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
ويبدو أن الأحداث التي وقعت في عهد رسول الله هذه الأحداث تعبّر عن حقائق كثيرة جداً، وحقائق تنبع من واقع، تنبع من معاينة، تنبع من تجربة، فحينما تنبع الحقيقة من واقع ومن خبرة ومن تجربة تكون أبلغ في النفوس مما لو أُلقيت بلا تمهيد وبلا وقائع تدعمها.
إذاً أكثر الآيات التي تشير إلى وقائع وقعت في عهد النبي الكريم إنما هي حقائق لكنها استُنبطت من حوادث، بل إن الحوادث التي وقعت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقعت لحكمة بالغةٍ بالغة كي يكون بمجموع هذه الحوادث منهج كامل لهذا الإنسان، فقد يقول العلماء أن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- هي أقواله، أقواله سنة، فهو:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
إنه معصوم من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، فأقواله سنة، وأفعاله سنة، وإقراره سنة، هذه السنة تفسير، وتوضيح لآيات القرآن الكريم، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-:
(( تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما: كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ ))
علم الله علم مطلق :
هؤلاء:
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ
يعلم ما تُبطن، ويعلم ما تخفى عنك، لذلك سيدنا علي -كرم الله وجهه- له قول رائع: "علم ما كان، وعلم ما سيكون، وعلم ما كان في الماضي، وعلم ما يكون في الحاضر، وعلم ما سيكون في المستقبل، - أما الرابعة- وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون"، إذاً: علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
علم الله علم مطلق، فلذلك الإنسان حينما يعلم أن الله يعلم يستقيم على أمر الله -عز وجل-:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً(12) ﴾
اختار الله من أسمائه القدير والعليم، معنى ذلك أن هذين الاسمين وحدهما يكفيان كي تستقيم على أمر الله، هو يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب.
نحن من حياتنا اليومية أنت حينما تركب مركبة والإشارة حمراء، والشرطي واقف، ودفتر الضبوط بيده، وأنت مواطن عادي، شيء طبيعي جداً أن تلتزم بهذه الإشارة، إن تجاوزتها كُتب الضبط، ودفعت مبلغاً كبيراً، فما دمت موقناً أن هذا الشرطي يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب، لن تعصي أمره، لن تعصي أمر شرطي فكيف بخالق السموات والأرض الذي يعلم وسيحاسب وسيعاقب؟ والدليل:
المعركة بين الحق و الباطل معركة أزلية أبدية :
الله -عز وجل- يضيف في قرآنه الكريم:
الفرق الكبير بين مقام الألوهية ومقام البشرية :
لذلك هذا الذي حصل في عهد النبي الكريم في هذه الغزوة يعد درساً بليغاً لنا نحن من بعده، هذه الوقائع التي وقعت في عهد النبي منهج حركي لنا، والذين قالوا: إن سنة النبي هي أقواله وأفعاله أصابوا الحقيقة، أقواله وأفعاله وإقراره، فالنبي معصوم من أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره، من عصمه؟ الله -عز وجل-، هو كماله مطلق لكن عصمته أيضاً مؤكدة بالقرآن الكريم، إلا أن -كتعليق لطيف- إلا أن الله -سبحانه وتعالى- ترك لهذا النبي الكريم هامشاً ضيقاً جداً، هامشاً اجتهادياً، فإذا اجتهد النبي الكريم من أجل أن يؤكد الله لأمته من بعده أنه بشر، فإذا اجتهد من خلال هذا الهامش الذي تُرك له، وهو ضيق جداً، ولم يكن اجتهاده كما ينبغي فيأتي الوحي ليصحح له اجتهاده، معنى ذلك أن هناك فرق كبير بين مقام الألوهية ومقام البشرية، هو بشر وقد قال عن نفسه:
(( إنما أنا بشر، أرضى كما يرْضى البشر، وأغْضَبُ كما يغضب البشر ))
الآية الكريمة:
المنافق كافر عاش في جو إيماني فأظهر الإيمان وأخفى الكفر والعصيان :
وقد قال بعض المفسرين: وقبل أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان الذين كرهوا مجيء رسول الله إلى المدينة فقراء لا يملكون شيئاً، ولكنهم لما نافقوا ودخلوا في الإسلام أخذوا من الغنائم وأغناهم الله، بل إن الجُلّاس بن سُويد هذا الذي أراد هذه الفتنة، لما قُتل له غلام دفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- اثني عشرة ألف درهم دية له، إذاً فقد جاء على يد رسول الله الغنى للجميع، حتى المنافقين، فهل هذا أمر تكرهونه؟ طبعاً لا، ولكنه دليل على فساد طباعهم، وعدم إنصافهم في الحكم، وما دام الله -سبحانه وتعالى- قد أغناهم بمجيء رسوله ما كان يصح أن يُعاب ذلك على النبي الكريم، بل كان يجب أن يُمدح به وأن يتفانوا بالإيمان بعد ذلك، هذا المنافق يأتيه الخير في الدنيا ومع ذلك يعادي أهل الحق، الحقيقة أن المنافق كافر، لكنه عاش في جو إيماني أراد أن يكسب مكاسب إيمانية، فأظهر الإيمان، وأخفى الكفر والعصيان.
باب التوبة مفتوح على مصارعه لكل إنسان :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ
النبي معه رسالة، أما حينما تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ
طبعاً قد يُقتل النبي بعد أداء الرسالة، لكن ما دام يؤدي الرسالة الله -عز وجل- يعصمه من الناس حتى يؤدي الرسالة.
﴿
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ
وفي الأثر القدسي
(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي ))
شيء دقيق جداً، الله -عز وجل- حبيب، أو طبيب، إن أطعته فهو الحبيب، وإن عصيته فهو الطبيب.
(( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ ))
الدين أن تتعاون مع جهة واحدة هي الله عز وجل :
إذاً الآية الكريمة:
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16) ﴾
لكن الإنسان لا يسمح الله له بفعل إلا لحكمة بالغة، فقد يريد أشياء كثيرة، لكن هذه الأشياء بعضها يُحقَّق لحكمة بالغة وبعضها لا يُحقَّق، الإنسان حينما يؤمن بالتوحيد، والدين هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، ما التوحيد؟ ألا ترى مع الله أحداً، التوحيد أن ترى يد الله وحدها تعمل، التوحيد أن ترى أنه لا رافع إلا الله ولا خافض إلا الله، ولا معز إلا الله ولا مذل إلا الله، ولا معطي إلا الله ولا مانع إلا الله، هذا التوحيد يجعلك تتوجه إلى الله وحده، والدين توحيد، والدين أن تتعامل مع جهة واحدة هي الله، إنه يعلم، لا يحتاج إلى إيصال، ولا إلى قسم، الله يعلم، يعلم كل ما يخطر في بالك، يعلم حركاتك وسكناتك، يعلم سرك وعلانيتك، يعلم ما تُبطنه وما تظهره، فحينما تتعامل مع الله على أنه يعلم لابد من أن تنضبط، لذلك:
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) ﴾
مع أنّ إرادة الله -عز وجل- تعمل وحدها في الكون، فإذا كنت مع القوي فأنت قوي، أخذت قوتك من قوته، إذا كنت مع الغني أنت تستغني عن الناس، إذا كنت مع العزيز أنت تُعزّ نفسك، لا تذلها، وقد ورد أنه:
(( لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلّ نفسَهُ ))
عظمة هذا الدين أنه يقوم على الوازع الداخلي :
لذلك عظمة هذا الدين أن الإنسان باتصاله بالله يشتق الكمال من الله -عز وجل- والآية الكريمة:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
هذا نهي الوازع لا نهي الرادع، نهي ذاتي، عظمة هذا الدين أنه يقوم على الوازع الداخلي.
قال: يا أيها الراعي بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال له: ليست لي- لسيدنا عمر، أو لابن سيدنا عمر في بعض الروايات- قال له: قل لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ولكن أين الله؟.
هذا الراعي وضع يده على حقيقة الدين، وأنت في اللحظة التي تقول فيها أين الله؟ لا أفعل هذا، أنت مؤمن ورب الكعبة، أما هذا الذي يفعل كل شيء في الخفاء ويبدو أمام الناس في أحلى مظهر ديني فهو إنسان لا يعرف الله إطلاقاً، والمؤمن الحقيقي ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، سره كعلانيته، وعلانيته كسره، لا يوجد عنده شيء مخفي، لا يوجد عنده موقف مزدوج، لا يوجد عنده موقف مُعلَن وموقف مُستهلَك، لا يوجد عنده شيء إطلاقاً، عنده موقف واحد، فلذلك كما قال النبي الكريم:
(( لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك ))
الإنسان بلحظة واحدة ينتقل من عالم إلى عالم :
إذاً نعود لهذه الآية:
أنت حينما تعرف الله الدنيا كلها فُتحت لك، أنت حينما تعرف الله، الله -عز وجل- يوظفك عنده بأعمال كبيرة جداً.
فهذا الرجل كان مشركاً، وسيموت مشركاً، وسيدخل جهنم إلى أبد الآبدين، لحظة تفكير منطقي، واقعي، عقلاني، لماذا جئت إلى هنا؟ من أجل أن تحارب هذا الرجل؟ ماذا فعل هذا الرجل؟ هو دعا إلى الله، دعا إلى الفضيلة، دعا إلى الصدق، إلى الأمانة، إلى الإخلاص، فآمن.
فلذلك الإنسان بلحظة واحدة ينتقل من عالم إلى عالم.
الله عز وجل ينتظرنا أن نتوب إليه ويحبنا إذا تبنا إليه :
إذاً الله -عز وجل- يقول لهؤلاء الذين ائتمروا على النبي وأرادوا قتله:
فهذا الرجل الذي تحدثت عنه نُعيم بن مسعود، فكر تفكيراً صحيحاً، بلحظة تفكير صائبة، واقعية، ناصعة، بيضاء، آمن برسول الله، كان مشركاً فصار من كبار الصحابة، وقد أجرى الله الخير على يديه، وكانت هذه المعركة معركة الخندق قد انتهت بانتصار المسلمين، وهو عنصر فعال في هذا النصر.
البشر عند الله زمرتان لا ثالث لهما :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة، هذا الإيمان، هذا التصديق دفعه إلى أن يتجنب معصية الله، اتقى أن يعصيه، وهذا التصديق أنك مخلوق للجنة دفعك إلى أن تتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، هذه زمرة،
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) ﴾
كذب أنه مخلوق للجنة، بل آمن أنه مخلوق للدنيا فقط، فاستغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، لذلك الهرم البشري يقع على رأسه زمرتان، زمرة الأقوياء والأنبياء، الأقوياء: أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء: أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء: عاش الناس لهم، والأنبياء: عاشوا للناس، الأقوياء: ملكوا الرقاب، والأنبياء: ملكوا القلوب، وشتان بين أن تملك رقبة الإنسان أو أن تملك قلبه، الأنبياء: ملكوا القلوب، والأقوياء: ملكوا الرقاب، الأنبياء: يُمدحون في غيبتهم، بعد ألف وأربعمئة عام تمدح النبي، والأقوياء: في حضرتهم فقط، بل في غيبتهم قد تذمهم، والبطولة في الأقوياء أن يتخلقوا بأخلاق الأنبياء حتى يحبهم الناس.
فلذلك أنا أتمنى من الإخوة المشاهدين أن يكونوا أتباع نبيّ، لأن أتباع الأنبياء يتخلقون بأخلاق الأنبياء، هناك صدق، وأمانة، ورحمة، وتواضع، وإنصاف، هذه الأخلاق التي جاء بها النبي الكريم، النجاشي سأل أحد أصحاب النبي سيدنا جعفر عن الإسلام فقال له:
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ))
وهذا هو المنهج الأخلاقي لهذا الدين العظيم، هذه العبادة التعاملية فضلاً عن العبادة الشعائرية.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.