وضع داكن
21-11-2024
Logo
علم القلوب - الدرس : 21 - الحكمة 17 - أدعية وأقوال في الحكمة - الحكمة دقة فهم القرآن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الحكمة هي العطاء الإلهي للمؤمن :

لا زلنا -أيها الأخوة الكرام- في موضوع الحكمة انطلاقاً من قوله تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية:269]

لعل الحكمة هي العطاء الإلهي للمؤمن، وكما قلت سابقاً: بالحكمة تنال كل شيء, ومن غير الحكمة تفقد كل شيء, بالحكمة تعرف الله وتسعد به, ومن غير الحكمة قد تكون هذه العلوم بين يديك دون أن تسعد بها.

 

أربعة أدعية ينخلع القلب لها :

أيها الأخوة الكرام, وقع تحت يدي كتاب, صُدّر بأربعة أدعية, هذه الأدعية دقيقة جداً.
الدعاء الأول:

((اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني منه))

مصيبة المصائب أن تُعلّم الناس شيئاً, وأن يستفيدوا, وأن يسعدوا بهذا العلم, و أنت لا تطبق هذا العلم فتشقى به.
الدعاء الثاني:

((اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك))

يمكن أن تتكلم بالحكمة؛ لك ذاكرة قوية, و اطلاع واسع, و ثقافة عميقة, وتتزين بالحكمة أمام الناس, لكن تلتمس بها غير الله.
الدعاء الثالث:

((اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك))

من ضعف الإخلاص تكون في مظهر أمام الناس, ومظهر آخر فيما بينك وبين الله؛ إذا كان هناك ازدواجية, ومسافة بين جلوتك وخلوتك, بين سرك وعلانيتك, بين ما أنت عليه وفيما يبدو للناس, فعليك أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك.
والدعاء الرابع:

((اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك))

ألا أكون قصة، أحياناً الإنسان يخطئ فيؤدبه الله, يصبح قصة يتعظ بها الناس.

 

للإنسان قلب واحد فإذا امتلأ بحب الآخرة أصبحت الدنيا في يده لا في قلبه :

فالحكمة فيما أوحي إلى داود: "حرام على كل قلب يحب الدنيا أن يذوق طعم الحكمة"، ومصداقية هذا في قوله تعالى:

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾

[ سورة الأحزاب الآية:4]

الإنسان له قلب واحد, فإذا امتلأ القلب حباً بالآخرة, وحباً بالله ورسوله, أصبحت الدنيا في اليد, وفرق كبير بين أن تكون الدنيا في اليد, وبين أن تكون في القلب, إنها إن كانت في القلب أعمت, وحبك الشيء يعمي ويصم.
كلنا نرى بعض الناس عمياناً, يرتكبون المعصية, يأخذون ما ليس لهم, يرتكبون حماقة كبيرة, وقد يكونون على درجة عالية من التحصيل العلمي؛ ولكن حينما ينقطعون عن الله عز وجل يصبحون عمياناً, قال تعالى:

﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾

[سورة الحج الآية:46]

الهدى أكبر نعمة أنعم الله بها على المؤمن :

أكاد أقول: أكبر نعمة أنعم الله بها على المؤمن الهدى؛ بصيرته صحيحة, رؤيته صحيحة, هدفه واضح, وسائله مشروعة, يسير على منهج الله, لا تأخذه في الله لومة لائم, رزقه الله الحكمة, هذا أكبر عطاء, يأتي بعد هذا العطاء الصحة, وبعد هذه الصحة الهداية، فمن كان مهتدياً, مقيماً أمر الله عز وجل, لا يشكو من مرض عضال, عنده قوت يومه, فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها, ويمكن أن تكون من ملوك الدنيا إن عرفت الله, وإن أقبلت عليه, ويمكن أن تكون من سعداء الدنيا, حينما تعمل عملاً صالحاً.
فيما أوحي إلى داود: "حرام على كل قلب يحب الدنيا أن يذوق طعم الحكمة".
وقال بعض العارفين بالله: "يخرج العارف من الدنيا, ولم يقض وطره من أربعة أشياء: من استماع الحكمة و....".
أخواننا الكرام, لا تستهينوا بسماع تفسير كلام الله, بسماع سيرة رسول الله, بسماع حديث رسول الله, هذه كلها حكم تتراكم, ومع التراكم تجد بعد حين أن سيرك مستقيم, القناعات تترسخ, والأحوال تتألق، فالإنسان حينما يستمر على الشحن الروحي, وسماع الحكمة, في النهاية قلّما يخطئ، وهذه نقطة مهمة، أحياناً الإنسان في البدايات يرتكب كل أسبوع خطأ أو أكثر، كلما نصح, كلما تقرب من الله, كلما حسن صلته بالله عز وجل, يمضي أسبوع, أسبوعان، ثلاثة أسابيع, لم يخطىء, لم يرتكب خطأ؛ لا باللسان, ولا بالحواس, ولا بالأجهزة, فالقناعات تترسخ.

أرقى أنواع البكاء أن تبكي شوقاً إلى الله وخشوعاً له وهذا بكاء المتفوقين :


الله عز وجل جعل خطبة الجمعة شحناً أسبوعياً, الإنسان بحاجة إلى شحن يومي في الصلوات, وشحن أسبوعي في خطبة الجمعة, وشحن سنوي في صوم رمضان, وشحن نوبي في الحج؛ فالحج شحنة روحية كبيرة جداً, تفرغ كامل, والصيام شحنة روحية, وخطبة الجمعة, والصلوات الخمس, فهذا الشحن اليومي والشحن الأسبوعي ينتهي بالحكمة.
قيل: "يخرج العارف بالله من الدنيا, ولم يقض وطره من أربعة أشياء: استماع الحكمة, والفرح بالله, والتلذذ بقراءة القرآن, والاستشفاء من البكاء".
البكاء ضروري, الإنسان أحياناً يتأثر تأثراً كبيراً فيبكي, هذا أرقى أنواع البكاء؛ أن تبكي شوقاً إلى الله, أن تبكي خشوعاً لله, هذا بكاء المتفوقين.
يقولون: إذا الإنسان بكى في الصلاة على شيء فاته من الدنيا فقد بطلت صلاته؛ مثلاً احترق محله في الصلاة فبكى, أو طلق زوجته, أو خسر شيئاً, أو خسر مبلغاً ضخماً, أو جعلوا عليه ضريبة عالية, هذا البكاء يبطل صلاته, أما حينما تبكي شوقاً لله, وخشوعاً لله, فهذا البكاء بكاء راق جداً.

 

دقة فهم الآيات من فضل الله عز و جل :

قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى:

﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾

[سورة الأنبياء الآية:79]

دقة الفهم من فضل الله عز وجل.
أنت أمام نص قرآني أحياناً قد يفهمه الناس فهماً معكوساً فيشقى، مثلاً: إذا فهمت قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾

[سورة الشمس الآية:7]

﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[سورة الشمس الآية:8]

إذا فهمت أن الله خلق فيها الفجور, وخلق فيها التقوى, آمنت بالجبر, انشلت حركتك, انتهيت, أما إذا فهمت أن الله جبلك جبلة عالية, بحيث إذا أخطأت شعرت بخطئك, فهذا فهم راق جداً, إذا فهمت أن الشيطان ألقى في أمنية النبي, معنى هذا أن النبي وهو أعلى إنسان, و هو قمة البشر, غير محصن من الشيطان:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه﴾

[سورة الحج الآية:52]

إذا فهمت الآية بهذا الشكل, فالمشكلة كبيرة جداً, أما إذا فهمتها أن النبي يريد هداية الخلق, ويتمنى الشيطان في نفسه إضلاله, لا يوجد مشكلة, وضحت الآية.

 

من فهم الآيات فهماً معكوساً شقي بهذا الفهم :

أحياناً تفهم بقوله تعالى:

﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

[سورة الأعراف الآية:16]

أي الله عز وجل لا يغوي, لكن هنا معنى الآية: الإنسان إذا أصر على شيء, وتمناه, وصار أعمى, أصماً, لا يرى غير هذا الشيء؛ فلحكمة بالغة بالغة الله عز وجل يطلقه لهذا الشيء, كي ينتهي من بغضه, وبعدئذ يعالجه.
فأكثر الآيات لو فهمها الإنسان فهماً معكوساً لشقي بهذا الفهم, أما لو فهمها فهماً صحيحاً لسعد بهذا الفهم، لذلك:

﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾

[سورة الأنبياء الآية:79]

الله عز وجل قال:

﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾

[سورة يوسف الآية:21]

هذا إكرام من الله كبير جداً, أن تتقن فهم النصوص, فهم النص دقيق جداً, النص بين أيدي الناس جميعاً.

 

ما كل ما يُعلم يُقال وما كل ما يُقال له رجال :

الآن مثلاً:

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾

[سورة الكهف الآية:28]

إذا كان الإنسان ضعيفاً في اللغة, يفهم أن الله عز وجل خلق فيه الغفلة, ما ذنبه إذا خلق الله فيه الغفلة؟ أما حينما أعلم أن أغفل بمعنى وجده غافلاً, اختلف الوضع.
وقد قيل: عاشرت القوم فما أجبنتهم -ما وجدتهم جبناء-, وعاشرتهم فما أبخلتهم -ما وجدتهم بخلاء-:

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا﴾

[سورة الكهف الآية:28]

قال بعض السلف: "سبعة أشياء في سبعة مواضع هن ضائعات: حكيم بين الجهال, لا يستمعون حكمته, ولا يحفظون حرمته, وسراج في ضوء الشمس, وطعام طيب يُقدم إلى سكران, وصاحب صوت حسن, يغني بين أهل المقابر، وكلام لين تُكلم به صاحب حقد وحسد, أشياء ضائعة في أشياء".
قيل لبعض العارفين: "من الحكيم؟ قال: من يضع المرهم على موضع الجرح والألم, ويشد موضع الكسر, ولا يسقي الشربة إلا لمن نظف بطنه واحتمى، وللحكيم نور يمشي بين جنبيه, فإذا ما أجاب عن كل ما يُسأل, ذهب كل نوره".
هناك ندوة أقيمت في محطة فضائية عن العلاقات الزوجية, بلغت الإساءة بها حداً غير معقول, انطلاقاً من هذه الحكمة الرائعة: "ما كل ما يُعلم يُقال"، أشياء دقيقة جداً, تفاصيل دقيقة جداً جداً بثت على الفضاء, وسمعها الناس جميعاً؛ وصار هناك هجوم شديد على الإسلام، و نقد شديد، كل شيء يُقال هكذا؟!
"ما كل ما يُعلم يُقال, وما كل ما يُقال له رجال, ولا إذا وجد الرجال آن الأوان".
أي هناك شيء لا يقال أبداً, و هناك شيء يقال؛ ولكن لغته محدودة.

 

الانضباط هو أكبر نشاط للإنسان :

يأتي الآن سؤال يتعلق بالعلاقة الزوجية, هل يعقل أن تجيب عنه أمام ألفي شخص نصفهم غير متزوج؟ نصفهم صغار؟ نصفهم كبار؟! مستحيل, أما لو سألك سؤالاً: تجيبه: "ما كل ما يُعلم يُقال, وما كل ما يُقال له رجال".
وهذا الذي يقال لفئة محددة لا يقال في كل الأوقات, في وقت معين, وفي ظرف معين، فحينما يلقى كل شيء هكذا على الهواء, فهذه مشكلة كبيرة جداً.
هناك مجلة في مصر ذات ميول إلحادية, تناولت هذه الندوة بنقد, وصل النقد إلى الإسلام, والحق معهم, هل يعقل أمور تفصيلية, حماقات, أشياء مستحيل أن تقرأها أنت أساساً, مستحيل أن تسمعها من شخص, بثت هكذا!؟ سمعها ملايين مملينة.
فقضية الحكمة أن تعرف ماذا يُقال, ومع من يقال, وبالقدر الذي ينبغي, وفي الوقت الذي ينبغي, والإنسان أكبر نشاط له هو الانضباط:

(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاًً ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

أي أن تعيش مع مؤمن سنوات, وسنوات, وسنوات, لا تسمع منه كلمة خاطئة, كلمة فاحشة, تعليق ساخر, هذا كله من نتائج الإيمان, صار هناك ضبط.
الآن: تجد المجتمعات كلها مفككة على مستوى الأسر, على مستوى الأحياء, على مستوى الأقارب, هناك كلام غير منضبط على مستوى الأسرة الواحدة؛ خصومات بين الزوجين لا تنتهي من عدم الانضباط, كلمة قاسية, تهكم على أهلها, ردت عليه بكلمتين قاسيتين, صار هناك مشكلة، فالإنسان حينما يضبط لسانه كما قال عليه الصلاة والسلام:

((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك]

الحكمة عطاء مستمر :

لعلنا أطلنا عليكم في موضوع الحكمة, هذا آخر درس في موضوع الحكمة, يجب أن تعتقد أن أثمن عطاء تناله من الله عز وجل أن ترزق الحكمة.
مثلاً: إنسان يقدم لك باقة ورد, بعد يومين ذبلت, وضعتها في سلة المهملات, إنسان يقدم لك قطعة أثاث, يقدم لك شيئاً, أما لو قدم لك شيكاً مفتوحاً بالمال, تشتري كل شيء؛ تشتري بيتاً, وسيارة, وأثاثاً, وطعاماً, وشراباً, وثياباً, وتسافر, هذا المال قيمة مطلقة, والشيك مطلق, مُوقّع, لكن هذا العطاء رأيت قصراً, ثمنه مئتا مليون, معك شيك مفتوح فتشتريه, وجدت سيارة لا يوجد مثلها في العالم, تشتريها رأساً, أنت معك شيك مفتوح, هذه الحكمة.
لعلك تعطيه باقة ورد, بعد يومين تذبل, يضعها في سلة المهملات, تعطيه مثلاً قميصاً يلبسه, فيهترئ بعد فترة من الزمن, فأي عطاء آخر غير الحكمة له أمد, إلا الحكمة عطاء مستمر, هذا عطاء الأنبياء:

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾

[سورة يوسف الآية:22]

فتجد الإنسان سعيداً في أي وضع.
تكلمت البارحة في درس الجمعة: قد تسعد بأخشن طعام, وقد تسعد بأضيق مكان, وقد تسعد ومعك أمراض, وقد تشقى و أنت تأكل أطيب الطعام, وتشقى و أنت ساكن في قصر منيف, و تشقى وأنت يتمتع بكل القوة والشباب، فالشقاء والسعادة متعلق بالقرب من الله عز وجل, هذا معنى قوله تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية:269]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور