- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الكلمة الصادقة المخلصة تحتاج إلى جهاد النفس والهوى حتى تكون صادقة مخلصة :
أيها الأخوة الكرام, لا زلنا في موضوع الحكمة:
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء, فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء))
لأن الأنبياء جاؤوا بالحكمة, وقد قال الله عز وجل:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾
فكلمات صادقات, مخلصات, لها آثار لا تنتهي إلى يوم القيامة؛ ولكن هذه الكلمة الصادقة, المخلصة, تحتاج إلى جهاد النفس والهوى حتى تكون صادقة مخلصة, تفعل فعل السحر في نفوس الناس.
لذلك أجلّ شيء عند الشهيد دمه, وأقل شيء عند العالم مداده, وأقل شيء عند العالم يرجح على أكمل شيء عند الإنسان, وهو دمه, فما ظنك بأرفع حالات العالم؟
كل مؤمن ينبغي أن يكون ولياً لله عز وجل :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
لا يوجد في الإسلام كهنوت أبداً, كل مؤمن ينبغي أن يكون ولياً لله, والولي بتعريف جامع مانع بسيط:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾
كل إنسان آمن, واتقى, فهو ولي لله عز وجل.
جوهر الدين أن تصل إلى الله و تتصل به و تخلص له :
الشيء الآخر: الكلمة الطيبة لها آثار لا تنتهي, فالنبي صلى الله عليه و سلم جاء بكلمة طيبة, في أي مكان في العالم الإسلامي تقرأ الحديث, تتأثر, تطبق, تستقيم, تقبل, تسمع. فدماء الشهداء وسيلة من أجل أن يكون الحق منتشراً في الآفاق, فالهدف هو العلم الذي يُعرف بالله عز وجل.
لذلك رجح في الحديث الصحيح مداد العلماء على دماء الشهداء؛ لأن دم الشهيد وسيلة لنشر الحق, أما مداد العالم فهو الغاية؛ لأنك إذا أردت أن تعرف الله, فلا بد من أن تسلك طريق العلم, فإن أردت الدنيا فعليك بالعلم, وإن أردت الآخرة فعليك بالعلم, وإن أردتهما معاً فعليك بالعلم، والإنسان بالعلم يستقيم على أمر الله, بالعلم يتعرف إلى الله, بالعلم يسلك طريق السعادة, بالعلم يسلك طريق السلامة, بالعلم يصل إلى الجنة؛ فلذلك: العلم أثمن شيء في الإسلام
حتى إن آيات الله أكثر من ألف آية؛ آيات العقل والعلم وتوابع العقل والعلم, قد تصل إلى ألف آية في القرآن الكريم, القرآن تقريباً ستة آلاف آية, قد يكون الحديث عن العلم سدس القرآن الكريم، و قد قيل: كل مدينة ليس فيها فقيه فأهلها مرضى, وكل مدينة ليس فيها عالم فأهلها موتى.
وقال بعضهم: إن الله عز وجل غرس في قلب كل عبد مؤمن أشجاراً؛ شجرة الحكمة تسقى بماء الجوع, -المقصود بالجوع الاعتدال في ملذات الحياة الدنيا المشروعة-, وشجرة الإخلاص تسقى بماء الزهد, وشجرة التوبة تسقى بماء الندامة, وشجرة المحبة تسقى بماء الإنفاق, ولكل شجرة منها نوع من الثمار لا يمسه إلا المطهرون, وهذه الأشجار مغروسة في أرض الإيمان, وكل شجرة لا تثمر فالعيب ليس فيها؛ ولكن في الأرض, وما يعقلها إلا العالمون.
جوهر الدين أن تصل إلى الله, وأن تتصل به, وأن تخلص له, وأن يكون الله عز وجل كل همك, ومبلغ علمك, وأن تعمل له ليلاً ونهاراً.
الكلمة الطيبة هي كلمة الحق :
أيها الأخوة, الكلمة الطيبة هي كلمة الحق:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾
عندنا في الحياة حقائق ثابتة:
﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾
المؤمن ينطلق من حقيقة يقينية, كبيرة, أساسية:
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾
من أكرمه الله بهداية إنسان فأعمال هذا المهتدي في صحيفة الذي هداه إلى يوم القيامة :
الإنسان إذا أحيا نفساً بشرية فكأنما أحيا الناس جميعاً، فأنت إذا هديت إنساناً؛ زوجته تابعة له, أولاده تابعون له, أخوته يتبعونه, أولاد أخوته يتبعونه, جيرانه يتبعونه, زملاؤه يتبعونه؛ فكلما ساهمت في هداية إنسان, فالإنسان له من يتبعه, فأنت هديت كل من يتبع هذا الإنسان, هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾
الإنسان إذا أكرمه الله عز وجل بهداية إنسان, قد يموت هذا الذي دعا إلى الله؛ ولكن أعماله لا تنتهي, كل من دعاه إلى الله, الخير الذي جاءه منه إلى يوم القيامة في صحيفته، لذلك قال سيدنا رسول الله لسيدنا علي رضي الله عنه:
((فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى الله بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))
و :
(( خير له مما طلعت عليه الشمس ))
و :
(( خير لك من الدنيا وما فيها ))
الحق ثابت ومستمر والباطل طارئ وزاهق :
الآن: الكلمة الخبيثة:
﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾
الكلمة الخبيثة ليس لها قاعدة صلبة تستند إليها؛ لذلك الباطل:
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
لو الباطل عاش سبعين سنة, ينهار من داخله؛ أما الحق فثابت ومستمر, والباطل طارئ وزاهق:
﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾
أيضاً: الكلمة الخبيثة تنتشر, لكن لا بدّ من أن تنهار؛ لقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
شديد الزهوق, وزهوق: صيغة مبالغة؛ أي أكبر باطل لا بدّ من أن ينهار, وأكبر عدد من أنواع الباطل لا بدّ من أن ينهار, نوعاً, وكماً.
من يقرأ القرآن إنسان حيّ :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
القول الثابت القرآن الكريم, القرآن فيه آيات, فيه وعد, وفيه وعيد, وفيه أمر, وفيه نهي, وفيه ثواب, وفيه عقاب. فالإنسان حينما يقرأ القرآن والله عز وجل بشره، هذه البشرى حياة لقلبه, الله حذره هذا التحذير ردع له عن كل سيئة؛ فالذي يقرأ القرآن إنسان حي, والذي لا يقرؤه إنسان ميت, والله عز وجل قال:
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾
هذا الإنسان مقبور بشهوته, أما المؤمن فقلبه أصبح حياً, والحياة حياة القلوب:
ليس من مات فاستراح بميـ ــت إنما الميت ميت الأحياء
***
قال: يا بني! العلم خير من المال؛ لأن العلم يحرسك, وأنت تحرس المال, والمال تنقصه النفقة, والعلم يزكو على الإنفاق, يا بني! مات خزان المال وهم أحياء, والعلماء باقون ما بقي الدهر.
سرّ الشباب الذي يتمتع به المؤمن :
البارحة صار هناك نقاش حول موضوع أن المؤمن هل يشيخ؟ المؤمن لا يشيخ, المؤمن في شباب دائم, ما سرّ الشباب الذي يتمتع به المؤمن؟ أهل الدنيا لهم أهداف محدودة, فإذا بلغوها سئموا الحياة؛ هدفه البيت، اشترى بيتاً, وهدفه المال، جمع المال, وهدفه الزواج، تزوج, بعد أن تصل إلى كل أهدافك المادية المحدودة؛ يبدأ السام, والضجر, والملل, والانقباض, والشعور بالفراغ؛ فالإنسان يشيخ, أي يكبر حينما تنتهي أهدافه, وحينما يمل حياته, لماذا المؤمن لا يشيخ وهو في شباب دائم؟ لأن هدفه كبير جداً, مهما سعى في طريق هدفه المسافة طويلة.
فقد تجد إنساناً في سن متقدم جداً, نفسيته نفسية شباب, والإنسان متى يشيخ؟ إذا انتهت أهدافه؛ أما إذا أهدافه متجددة, وكبيرة جداً, ولا نهائية, فهو في شباب دائم, وهذا سر نشاط المؤمن, هدفه الله عز وجل؛ ومهما طلب العلم, هل من مزيد؟ مهما عمل الأعمال الصالحة, هل من مزيد؟
لذلك: المؤمن شاب دائماً, قد يضعف جسمه, وقد تضعف قواه, وقد يضعف بصره؛ ولكن نفسيته في شباب دائم, وهذا سر الإنسان المؤمن, صحيح الجسم؛ لأن جهازه المناعي قوي جداً, والجهاز المناعي يقوى بالأمن, والتفاؤل, والحب, يوجد عند المؤمن مشاعر غنية جداً, قربه من الله, ومحبته له, هذه المشاعر تورثه قوة في جهازه المناعي.
والله مرة زرت إنساناً بالخامسة والثمانين, قلت له: كيف الصحة؟ قال: الحمد لله, صحتي جيدة جداً بحسب سني, إنسان في التسعين تقريباً, نشيط, يذهب إلى عمله مشياً على قدميه!! هذا نشاط.
فالذي أتمنى أن يكون واضحاً عند الأخوة الكرام, الإنسان حينما يصل إلى الهدف الذي ينبغي أن يصل إليه, وأن يعرف الله, وأن يستقيم على أمره, وأن يعمل الأعمال الصالحة، يسلم بقدر طاعته لله, ويسعد بقدر قربه منه.
الدين كلمتان؛ إحسان واتصال :
الله عز وجل قال على لسان سيدنا عيسى:
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾
الإنسان له حركة نحو الله اتصالاً, وحركة نحو الخلق إحساناً؛ بقدر إحسانك نحو الخلق تتصل بالخالق, وبقدر اتصالك بالخالق تكون مهيئاً بالإحسان إلى الخلق, وأحياناً الإنسان بحاجة إلى المفاهيم المضغوطة.
الدين كلمتان: إحسان واتصال؛ إن لم تحسن لا تتصل, والإنسان المسيء مقطوع عن الله عز وجل, الآية الكريمة:
﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
لمجرد أن تعتدي على حق أخيك, الله عز وجل يبعدك عنه, لا يحبك:
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
فإذا دعوتموهم وأنتم معتدون لا يحبكم ولا يستجيب لكم.
أيها الأخوة, يمكن أن نقول في هذا الموضوع: إن الحكمة تتعلق بها حياة الإنسان الراقية, ومداد العلماء أقل ما عند العلماء, ودماء الشهداء أغلى ما عند الشهداء, ومع ذلك أقل ما عند العلماء يرجح على أعظم ما عند الشهداء.