- التربية الإسلامية
- /
- ٠6علم القلوب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
حبّ الدنيا رأس كل خطيئة :
لا زلنا أيها الأخوة في الحكمة؛ لأنه: من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
اليوم في طريق الوصول إلى الحكمة, قال بعض السلف: من ترك الحرام وصل إلى الحكمة, ومن ترك الدنيا وصل إلى الحكمة.
لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة, وحبك الشيء يعمي ويصم, ولن تكون حكيماً إلا إذا نقلت اهتماماتك إلى الدار الآخرة؛ لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
قضية إرادة الآخرة, والإنسان حينما يريد الآخرة, تنقلب موازينه رأساً على عقب.
ائت برجلين؛ رجل أراد الدنيا, ورحل أراد الآخرة, ووازن بين أفعالهما، تجد العجب العجاب؛ الذي أراد الدنيا يرى الذكاء, والفلاح, والتفوق, والفوز في الأخذ, والذي أراد الآخرة يرى النجاح, والفلاح في العطاء, الأول يرى الزهد حمقاً, الثاني يرى الزهد مغنماً.
لذلك أيها الأخوة: أركان الإسلام خمسة, ما من ركنين تلازما في القرآن, كركني الإيمان بالله واليوم الآخر.
بعد أن تؤمن بالله, الركن الثاني بعد هذا الإيمان أن تؤمن أن هناك يوماً آخر؛ هو الهدف, وفيه تسوى الحسابات, وبه تسعد إلى الأبد.
المؤمن الحق الدنيا بيديه وقلبه معلق بالله تعالى :
طريق الحكمة ترك الدنيا, ليس معنى ترك الدنيا أن تدع العمل, أن تدع الزواج, لا, أن تُنزع من قلبك وأن تبقى في يديك, القضية دقيقة جداً؛ لأن:
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير ))
إذا وازنا بين مؤمن فقير, وكافر غني, المؤمن الفقير أفضل ألف مرة من الكافر الغني, إذا وازنا بين مؤمن ضعيف, وكافر قوي, المؤمن الضعيف أفضل ألف مرة من الكافر القوي, أما إذا وازنا بين مؤمن ضعيف, ومؤمن قوي, المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف, هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
مؤمن قوي أي عادل, قوي, مؤمن بالمعنى السائد بين الناس، كيف نوفق بين الزهد في الدنيا وبين أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف؟
التفريق بينهما أن المؤمن الحق الدنيا بيديه, وقلبه معلق بالله تعالى, والدليل لو أن الدنيا أقبلت, أو أدبرت, لا تتحرك شعرة في يده, إذا لم يستوِ التبر والتراب عند المؤمن لا يعد مؤمناً بالآخرة، والدليل: المؤمن الصادق يركل بقدمه ملايين مملينة فيها شبهة, وقد يقبل على عمل يهد الجبال ابتغاء وجه الله.
انتقال الدنيا من القلب إلى اليدين هذا من شان المؤمن وحده :
هناك نقطة مهمة جداً: أن المؤمن داعية شاء أم أبى, ولو بقي ساكتاً؛ لأنه يقبل على عمل يهد الجبال بلا مقابل, ويرفض دخلاً كبيراً فيه شبهة, وهو في أمس الحاجة إليه؛ فانحيازه للحق, وولاؤه للحق, وورعه, هو بحدِّ ذاته دعوة إلى الله عز وجل.
لذلك أيها الأخوة: انتقال الدنيا من القلب إلى اليدين, هذا من شان المؤمن, تنتقل الدنيا من قلبه إلى يديه؛ لأنه يتعامل معها, لأن الدنيا مطية الآخرة, لأن الدنيا فيها ثمن الآخرة, تجد هناك أناس كثر قدموا من أموالهم, أو من جهدهم, أو من خبرتهم, حينما يمضي الإنسان ساعات طويلة في عمل صالح, لا يبتغي به الدنيا, يبتغي به الدار الآخرة, معنى ذلك: هو بين يدي الدنيا.
هذا المفهوم قاله علماء كثيرون: أن الدنيا انتقلت إلى اليدين لا في القلب.
وقد تجد إنساناً يدعي الزهد, وليس له من حطام الدنيا شيء, وهو متعلق بها أشد التعلق, يدعي الزهد, ولا يملك من الدنيا شيء, وتجده متعلقاً بالدنيا, وقد تجد إنساناً آخر, الدنيا بين يديه, وهمه الأول أن يرضي الله عز وجل.
نقلوا عن سيدنا عمر بن عبد العزيز أنه قال: تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة.
وسيدنا عمر بن عبد العزيز مشهود له: أنه خامس الخلفاء الراشدين, وهو في أعلى درجة في الدنيا, كان زاهداً في الدنيا, وكان حريصاً على مرضاة الله عز وجل.
المؤمن المتفوق مؤمن متعلق بالآخرة :
أخواننا الكرام؛ طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً, والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً: "أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه, ومن خدمك فاستخدميه, و إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها, وأشقاهم فيها أرغبهم فيها" وقد ورد:
((إياك عبد الله والتنعم, فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين))
أي إياك أن تقصد التنعم لذاته, الله عز وجل يسرك, ويريحك, وتمر أيام أنت من أسعد الناس, ولكن إياك أن تكون الدنيا جل همك, ومبلغ علمك, ومحط رحالك، والله عز وجل أثبت للكفار أنهم:
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾
أي ما وجدت مؤمناً متفوقاً إلا بتعلقه بالآخرة, دائماً المؤمن بكل موقف عنده سؤال: ماذا سأجيب الله يوم القيامة عن هذا العمل؟ يهمه أن يجيب الله إجابة صحيحة.
سيدنا عمر بن عبد العزيز, يروى أنه دخلت عليه فاطمة زوجته, فقالت: ما لك تبكي؟ فقال: دعيني وشأني, قالت له ثانية: ما لك تبكي؟ فقال: دعيني وشاني, فلما ألحت عليه, قال: يا فلانة, تأملت في الفقير الضائع, وفي العيال الكثير والدخل القليل, وفي ابن السبيل, وفي الشرك الكبير, وفي الأرملة والمسكين, والطفل الصغير, واليتيم..... ذكر أصنافاً عديدة جداً, قال: فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً, وأن خصمي دونهم رسول الله, فخفت ألا تثبت حجتي, فلذلك أبكي.
سيدنا عمر سمع من سيدنا رسول الله بشارة بالجنة, يسأل حذيفة بن اليمان: بربك يا حذيفة اسمي بين المنافقين؟ ما تفسير ذلك؟ من شدة خوفه من الله نسي بشارة رسول الله, وخاف أن يكون منافقاً.
فإذا كان عملاق الإسلام يخاف أن يكون منافقاً, فهذا المطمئن ما شأنه؟ كيف تطمئن؟ وكلما بالغت في اتهام نفسك فهذا علامة إيمانك, وكلما تركت ما هو مباح, خوفاً من أن تقع في الحرام, فهذا علامة إيمانك, وكلما تقلبت في أحوال اليوم الواحد, أحوالاً عديدة جداً، قيل: المؤمن يتقلب في اليوم الواحد إلى أربعين حالاً, بينما المنافق يستقر على حال واحدة أربعين سنة.
يتقلب في اليوم الواحد؛ تارة مطمئن, تارة خائف, تارة يشك في هذا العمل, لعله شبهة, من شدة حرصه على طاعة الله, وخوفه من سخط الله, يتقلب في اليوم الواحد بعشرات الأحوال.
علامة المؤمن أنه قلق من ألا يكون في المستوى المطلوب للإيمان :
قضيتك مع الله قضية كبيرة, علامة المؤمن أنه قلق, عنده قلق دائم, هذا قلق مقدس, أما بعد أن عرف الله, فيقلقه ألا يكون في المستوى المطلوب.
يقولون: سيدنا رسول الله حجب عنه الوحي أسبوعين تقريباً, فقال: يا عائشة, لعلها تمرة أكلتها من تمر الصدقة.
مرة رأى على السرير تمرة أكلها, يبدو أنه كان جائعاً, حجب عنه الوحي أسبوعين, فقال: يا عائشة, لعلها تمرة أكلتها من تمر الصدقة.
تجد المؤمن مستحيل أن يدخل عليه قرشاً حراماً؛ ورعه مذهل, ورعه يفوق حدّ الخيال, وهذا فيما بينه وبين الله, لا يدعي هذا الورع أمام الناس, ولا يظهره لئلا يقع في الرياء, لكن فعلاً أمانة ما بعدها أمانة، انظر الآن إلى حياتنا لو كنا نتعامل مع بعضنا بعضاً بهذه الأمانة, لانعدمت المشاكل؛ و لأصبحت الأمور كلها دقيقة ومنضبطة, وليس هناك شيء يذهب جزافاً, وكلما ضعف الإيمان؛ دخلنا في الشك, ودخلنا في المحاسبة, ودخلنا في أكل المال الباطل, ودخلنا في شبهات ما بعدها شبهات.
من ترك الحرام وزهد في الدنيا وصل إلى الحكمة الحقيقية:
أيها الأخوة, من ترك الحرام, وزهد في الدنيا, وصل إلى الحكمة الحقيقية, الذي يحجبك عن الحكمة الدنيا, فإذا نزعتها من قلبك, وبقيت في يديك، فقد كسبت الدنيا و الآخرة.
أنا لا أقبل, ولا أرى في القرآن والسنة, أن تترك الدنيا كلياً, وأن تكون عالة على الآخرين, وأن تكون عبئاً على الآخرين, وأن تكون عبئاً على من حولك, وأن تعيش متكففاً, لا, اليد العليا خير من اليد السفلى؛ ولكن لو شخص سألني عن الضابط, لقلت له: نسمي هذا يحب الدنيا, هذا يحب الآخرة.
حينما تحملك الدنيا على ترك واجب ديني, أو ترك فريضة, أو ترك طلب علم, أو ترك عمل صالح, فهذا من الدنيا, وحينما توفق بين طاعة الله عز وجل, وبين أداء فرائضه, وبين القيام بواجبات هذا الدين العظيم, وأنت في عملك, فهذا انضباط, فالجمع بين واجبات الدنيا ومتطلبات الآخرة دليل أن الدين بيديك, أما حينما تحملك الدنيا على معصية, أو على ترك فريضة, أو على ترك واجب, فقد استحوذت على القلب, وانتقلت من اليد إلى القلب.
الآية الكريمة التالية دقيقة جداً في هذا؛ ممكن أن تكون تاجراً موفقاً جداً, ممكن أن تكون تاجراً كبيراً, لكن الضابط:
﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾
من علامات الذي يجمع بين الزهد في الدنيا وأن تكون الدنيا في يديه, من علامات هذا الإنسان هو أن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار, وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل.
الإنسان الحق يعطي كل ذي حقٍّ حقه :
ذكرت في خطبة الجمعة أن الإنسان له مقام, وله ظرف, وله زمن يظله, فالإنسان الحق يعبد الله فيما أقامه, في الظرف الذي وضعه فيه, وفي الزمن الذي يظله.من غير المعقول أن يغسل الإنسان سيارته عند الفجر، الفجر للعبادة, فوقت الفجر والسحر للصلاة والذكر.
من غير المعقول الإنسان وهو مع أهله يذكر الله، هم ينتظرونك؛ يجب أن تؤنسهم, أن تحادثهم، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار, وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل.
أيها الأخوة الكرام, أعط كل ذي حق حقه, واعبد الله العبادة المطلقة لا المقيدة.
الأشياء التي يتمتع بها أصحاب الحكمة :
قال: لا تكونوا من أصحاب الحكمة, إلا بثلاثة أشياء: ألا تحب الدنيا, لأنها ليست داراً للمؤمنين, -دقق في هذه الآية-:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً﴾
الشيء الأول: ألا تحب الدنيا؛ لأنها ليست داراً للمؤمنين, وألا تصاحب أهل الدنيا, فإنهم ليسوا برفقاء المؤمنين, وألا تؤذي المؤمنين, أي:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾