- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من إحسانه عليه السلام محبته للصغار :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس العاشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عنوان ملاطفته صلى الله عليه وسلَّم للصبيان ، وملاعبته لهم , فليس عجباً أن تكون هناك علاقةٌ بين عظمة الإنسان , وبين لطفه وإيناسه للضعفاء والصغار .
فقد روى الإمام أحمد بإسنادٍ حسن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ :
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُفُّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ ـ أي يصف الصبيان على نَسق ـ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
على عظمة النبي ، وعلى علو مكانته كان ينفق وقتاً في ملاعبة الصبيان ، يصفُّهم على نسق ويقول لهم :
(( مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
من علو شأن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان مؤنساً للصغار . يصفُّ عبد الله ، وعُبيد الله ، وكثيّر بني العباس ثم يقول :
(( مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
vوفي زوائد ابن حبان عن أنسٍ رضي الله عنه قال :
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزور الأنصار ))
هناك من يتوهَّم أنك إذا زرت عامة الناس قلَّت قيمتك ، الأمر عكس ذلك ، إذا زرت علية القوم كان هذا من الدنيا ، لقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
إذا زار الإنسان الأقوياء والأغنياء ، وأكل من الطعام ما لذَّ وطاب ، واستمع إلى أحاديثهم ، وشعر أنه قريبٌ منهم هذا من الدنيا ، لكنك إذا زرت الضعاف الفقراء ، وملأت قلوبهم فرحاً هذا من العمل الصالح .
فعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ :
(( لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ ))
وروى البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
(( رأيت بعينيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أخذ بيديه جميعاً ، بكفي الحسن أو الحسين ـ أمسكه من كفيه ـ وقدميه على قدم رسول الله ـ جعل قدمي الحسن أو الحسين على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ارق ـ أي اصعد ـ قال : فرقي الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قبَّله النبي عليه الصلاة والسلام وقال: اللهمَّ أحبّه فإني أحبه ))
يمسك النبي بكلتا يديه الحسن أو الحسين ، ويضع قدمي الحسن أو الحسين على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وينهضه ويقول : ارقَ ، فيرقى إلى أن يضع قدميه على صدره صلى الله عليه وسلَّم ، فيقبله النبي عليه الصلاة والسلام ويقول :
(( اللهمَّ أحبَّه فإني أحبه ))
إخواننا الكرام ؛ أقول لكم هذه الحقيقة : الأب المسلم ، المؤمن ، الصادق إذا دخل إلى البيت يكون عند أولاده عيد ، العيد بدخوله لا بخروجه ، الأب الظالم ، القاسي ، البخيل العيد عند خروجه ، إذا خرج من البيت تنفَّس أولاده الصُعَدَاء ، إذا سافر كانوا أسعد الناس ، أما المؤمن فوجوده في البيت مُسعد .
فكرة أخرى نحتاجها : الأب المؤمن لا ينتظر أولاده وفاته ، لكن الأب البخيل القاسي ينتظر أولاده وفاته بفارغ الصبر ، بل إنه من المُفارقات أنه إذا أصابه مرض وجيِء بالطبيب ، وسُئل الطبيب عن صحة أبيهم ، فإذا قال الطبيب : حالته جيدة ، ليس ثمة خطر ، تجدهم يتألَّمون ، هم لا يريدون هذا ، فأنت كأب بيدك أن تجعل وجودك مٌسعداً في البيت ؛ بلطفك ، وإيناسك ، وحلمك ، وصبرك ، ورقَّة كلامك ، وإنفاقك ، واللهُ الرزَّاق ، ما من إنسان ينفق نفقة على أهل بيته ، وعلى أولاده بنيّة التقرُّب إلى الله ، و بنية تأليف القلوب ، و بنية تمتين العلاقات إلا ويعوضها الله عليه .
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال :
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا قَدِم من سفرٍ تلقي بالصبيان من أهل بيته ، وإنه قدم مرَّةً من سفره فسبق بي إليه ، فحملني بين يديه ، ثم جيْءَ بأحد ابني فاطمة رضي الله عنها إما الحسن وإما الحسين فأردفه خلفه ، فدخلنا المدينة ثلاثةً على دابَّة ))
النبي إذا كان في أهله فهو واحدٌ منهم ؛ تواضع ، إيناس ، لطف ، قُرب ، مداعبة ، مباسطة ، هكذا كان النبي .
أيها الإخوة ؛ وما الغاية من تقرير هذه الحقائق ، وإيراد هذه النصوص إلا أن تترجم في حياتكم البيتية ، كل واحد منكم بإمكانه أن يجعل بيته قطعةً من الجنَّة إذا قلَّد النبي فقط تقليداً ، فقلِّدْ النبي يكن بيتك قطعةً من الجنة ، ادخل سلِّم ، ابتسم ، صافح ، قبِّل أولادك واحداً وَاحداً ، احملهم إذا كانوا صغاراً ، اسألهم عن أحوالهم ، أطعمهم بيدك ، فالإنسان عبد الإحسان .
و قبل أن ننتقل إلى الموضوع الآخر تذكَّرت أن النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا قُدِّمت له فاكهةٌ لأول مرَّة ـ في موسمها ـ كان يقبِّلها شكراً لله عزَّ وجل ، وكان يعطيها لأصغر طفلٍ في المجلس ، لأن الطفل يحب الفاكهة , ولا يعرف أنها غالية الثمن ، يريد أن يأكل هذه الفاكهة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت إذا قدمت له فاكهةٌ لأول مرَّة في موسمها قبَّلها وقدَّمها لأصغر صبي .
إعدل بين أطفالك :
ويا أيها الإخوة الكرام ؛ أحياناً يكون بين أولادك طفل أجمل من إخوته ، وقد يكون أذكى ، وقد يكون أشد حكمة من إخوته ، هل تظن أن بطولتك أن تأخذ هذا الطفل الجميل ، أو هذا الطفل الذكي فتحمله وتقبِّله ؟ لا والله ، البطولة أن تعامل الجميع كما تعامل هذا ، هذه تحتاج إلى إرادة ، فأحياناً الأب ينسى ، و يهتم بواحد أو باثنين ، فتكون محبته ، وملاطفته ، وإكرامه ، وعطاؤه لواحد أو لاثنين ، لأنه قد يكون أذكى ، أو قد يكون أقرب لقلب أبيه ، أو قد يكون طليق اللسان أكثر من إخوته ، لكن هذا الذي أقل درجة من أخيه يُهمل ، فإذا أُهمل انعقد في قلبه الحقد على أخيه .
فأحياناً بطولتك كمؤمن لا أن تحمل الطفل الجميل الصغير تقبله وتداعبه ، بل عليك أن تعامل الإخوة الآخرين مثله تماماً ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نعدل بين أولادنا حتى في القُبَل ، فكيف بالحاجات ؟ إذا اشتريت حاجات فلتوزعها بالتساوي تماماً ، إذا أكرمتهم فبالتساوي تماماً ، والأكمل إذا كبر أولادك أن تعطيهم بالتساوي ، أحياناً ، أكثر الأسر يسمحون لأكبر ولد أو أكبر فتاة تأخذ كل ما عند أهلها ، أمَّن له أبوه بيتاً , وعملاً , وما زال هناك أربعة أولاد ، هذا عمل ليس فيه عدل ، يجب أن تعطي بالتساوي ، و اعلم أنك لا ترقى عند الله إلا إذا ساويت بين أولادك .
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا قَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))
أروع ما في الإيمان العدل بين أولادك وبين بناتك ، والله كَمْ من فترة اتصلت بي امرأةٌ على الهاتف ، واشتكت لي أن أباها خصَّ كل أخٍ من إخوتها ببيت ، أو دُكَّان ولم يخُصَّها بشيء، فهي متألِّمةٌ من أبيها أشدَّ الألم .
أقول لكم : إذا كان بعض الإخوة الكرام من المسلمين يعدلون بين أولادهم ويهملون بناتهم فهؤلاء وقعوا في الظلم ، وكلكم يعلم أن الإنسان يعبد الله ستين عاماً ثم لا يعدل بين أولاده في الوصيَّة ، أو يحرم ولا يحرم ، ويغيِّر شرع الله عزَّ وجل إلا وجبت له النار ، فأنا أدعوكم و القضية خطيرة ، وهذا توجيه النبي، و منهج الدين ، أدعوكم إلى العدل التام بين الأولاد وبين البنات وفق منهج الله عزَّ وجل ، ما دمت ستحاسب حتى في القُبَل ، فما قولك ببيتٍ خصصته لفلان ، وحرمت منه فلاناً ؟ في القُبل ستحاسب ، و الأبوَّة مسؤوليَّة .
كن صبوراً ومعلم لأهل بيتك :
ننتقل إلى كمال لطفه صلى الله عليه وسلَّم ، وشدة اهتمامه لمن يسأله عن أمور الدين من الرجال والنساء .
روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال :
(( بينما نحن جلوسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلَّم في المسجد دخل رجلٌ على جملٍ ، فأناخه في المسجد ، ثم عقله ثم قال لهم ))
الآن أيها الإخوة ؛ استنبطوا ما شاء لكم أن تستنبطوا ـ
(( قال : أيكم محمد ))
النبي سيد الخلق ، حبيب الحق ، الذي يوحى إليه ، سيد ولد آدم مع أصحابه والداخل عليهم لم يعرفه من هو ، معنى هذا ليس له كرسي خاص ، ولا جلسة خاصَّة ، ولا متكأ خاص ـ
(( قال : أيُّكم محمد ؟ ))
والنبي صلى الله عليه وسلَّم بين ظهرانيهم ، معهم ـ
(( فقلنا لهذا الرجل : هذا الرجل الأبيض , فقال له الرجل : ابن عبد المطلب أنت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : قد أجبتك نعم . فقال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام : إني سائلك فمشددٌ عليك في المسألة ، فلا تجد عليّ في نفسك ـ أي لا تغضب بل تحمل ـ وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم يحفُّه بلطفه وقال له : سل عما بدا لك ، فقال : أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلِّهم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اللهمَّ نعم ))
وفي رواية مسلم :
(( قال الرجل : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب الجبال وجعل فيها ما جعل آلله أرسلك ؟ قال : اللهمَّ نعم ))
في رواية البخاري :
(( قال الرجل : أُنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي ـ أو أن نصلي ، في رواية أخرى ـ الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال : اللهمَّ نعم . قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال : اللهمَّ نعم . قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ قال : اللهمَّ نعم ))
وفي رواية مسلم وسأله عن الحج أيضاً ، ثم قال الرجل :
(( آمنت بما جئت به ، وأنا رسول مَن ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ))
برقَّةٍ ، و حلم ، و سَعَة صدر ، و تلطُّف ، و رحمة ، قال له :
(( إني سائلك ومشدِّدٌ عليك ))
قال له :
(( سل ما بدا لك ))
فالداعية لا ينبغي أن يضيق ذرعاً بمن يسأله ، وطِّن نفسك على أن تُسأل أي سؤال ، إن كنت عالماً حقاً يجب أن تصبر على السائل .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( تواضعوا لمن تعلِّمون ))
وقصَّةٌ أخرى تؤكد سَعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم و صبره ، أسماء بنت يزيد رضي الله عنها وصفت بأنها كانت من ذوات العقل والدين ، هذه القصة تؤكد أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف وفي التشريف ، هذه المرأة ذات العقل والدين ، روي عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت :
(( إني رسول مَن ورائي من جماعة نساء المسلمين ، كلهن يقُلن بقولي ، وعلى مثل رأيي ـ أي أنها تمثل جماعة المسلمات ـ إن الله بعثك للرجال والنساء ، فآمنا بك واتبعناك ، ونحن معشر النساء مقصوراتٌ مخدرات ـ مقصورات أي محجبات في البيوت ، مخدرات في الخدر ـ نحن محجبات ، قواعد بيوت ، وإن الرجال فضلوا بالجمعات ، وشهود الجنائز والجهاد ، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وربَّينا أولادهم ، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ ـ أُعيد : أنت أرسلت إلى الرجال والنساء ، ونحن آمنا بك واتبعناك ، الرجال فضلوا علينا بشهود الجُمع والجماعات والجنائز والجهاد ، إذا خرجوا للجهاد حفظنا أموالهم وربينا أولادهم ، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ ـ فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه فقال : هل سمعتم مقالة امرأةٍ أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ فقالوا : بلى يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : انصرفي يا أسماء ، وأعلمي من ورائكِ من النساء أن حُسن تبعُّل إحداكن لزوجها ، وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرتِ للرجال ))
لا ينطق عن الهوى ، فالإنسان أحياناً يجامل ، فإذا سئل إنسان سؤالاً من قبل امرأة يجاملها ، لعله يقول : أنتِ أفضل من الرجال . أما النبي فهو مشرِّع . فمجاملة ، و مبالغة ، و إرضاء ، و محاباة ، هذه كلها لا تليق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، أسمعوا هذا لزوجاتكم :
(( انصرفي يا أسماء وأعلمي مَن وراءكٍ من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ـ أي أن تكون زوجةً صالحةً تقوم على شؤون زوجها وأولادها - وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته ، يعدل كل ما ذكرت للرجال - فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر ، استبشاراً بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
لا زلنا في الموضوع نفسه ، وقد روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال :
(( جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك ، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال ، فإن يصيبوا أجروا ، وإن قتلوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون ، ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فمالنا من ذلك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أبلغي من لقيتِ من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ـ لكن الشيء المؤلم أنه قال ـ : وقليلٌ منكن من يفعله ))
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لو تعلم المرأة حق الزوج ما قعدت ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه ))
فالمؤمن يربي ابنته على هذه الأخلاق ، فإذا زوَّجها كانت زوجةً صالحةً .
وروى البزار هكذا مختصراً والطبراني من حديثٍ فقال في آخره :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
(( ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت : إني رسول النساء إليك ، وما منهن علمت أو لم تعلم إلا وهي تهوى مخرجي إليك ، الله رب الرجال والنساء وإلههن ، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء ، كتب الله الجهاد على الرجال فإن أصابوا أجروا ، وإن استشهدوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون ، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : طاعة أزواجهن والمعرفة بحقوقهن ، وقليلٌ منكن من يفعله ))
فاللهَ نسأل أن يلهمنا جميعاً أن نربي بناتنا على هذه الأخلاق ، عندما تشرب البنت من أمها وأبيها وأهلها هذه التوجيهات ، فإذا زوِّجت كانت امرأةً صالحة ، ولا يوجد أي مانع إطلاقاً أن تنقل هذا الدرس لزوجتك ، أو أن تنقل لها شريطه ، لأنه إذا عرفت المرأة أن جهادها في خدمة زوجها وأولادها ، وأن هذا العمل يعدل الجهاد في سبيل الله ، انطلقت إلى خدمة زوجها وأولادها من منطلقٍ كبير ، هي لا تُرضي زوجها فقط ، بل ترضي ربها من خلال خدمة زوجها .
أحسن لمن أحسن لك :
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم .
روى البيهقي في الدلائل وابن إسحاق عن أبي قتادة أنه قال :
(( وفَد وفدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه ، فقال له أصحابه : يا رسول الله نكفيك ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم ))
فأحياناً عندما تقدم خدمات بنفسك لإنسان له فضلٌ عليك ، فهذا الشيء رائع جداً ، زرت إنساناً في بلد وبالغ في إكرامك ، فلما جاء ينبغي أن يراك في المطار ، ينبغي أن تأخذه إلى بيتك ، ينبغي أن تحمل أمتعته بنفسك ، هذا من كرم الضيافة ، ومن حسن الاستقبال ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخدم وفد النجاشي بنفسه ، فلما قال أصحابه : يا رسول الله نحن نكفيك ـ أي نكفيك القيام بضيافتهم ـ قال عليه الصلاة والسلام إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم .
ومن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، من شمائله العظيمة مقابلته للإحسان بأجمل الإحسان .
إخواننا الكرام ؛ وطِّن نفسك على أن إنساناً ما إذا قدم لك خدمةً ينبغي أن تراه ديناً عليك إلى الأبد وألا تنسى فضله ما حييت ، ووطن نفسك أيضاً على أنك إذا أسديت إلى إنسانٍ معروفاً يجب أن تنساه ، تحتاج إلى ذاكرتين ، ذاكرةً نسَّاءة ، وذاكرة ذاكرة ، فأعمالك الطيبة يجب أن تنساها ، لكنها عند الله محفوظة و لا تخف ، محفوظة وسوف يضاعفها لك أضعافاً كثيرة ، أما إذا أُسدي إليك معروفٌ ينبغي ألا تنساه أبداً .
ورد عن عمر بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال :
(( استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي طلب ماءً ليشرب منه ـ فأتيته بقدحٍ فيه ماء كانت فيه شعرةٌ فأخذتها ـ أي أزلتها من القدح ، ما هذا المعروف ؟ قدم له كأس ماء فوجد فيه شعرة ، أزاحها من القدح ـ فقال عليه الصلاة والسلام مقابلاً لصنعه الجميل : اللهم جَمِّله ))
قال الرواي : فرأيت عُمَراً وهو ابن تسعين سنة وليس في لحيته شعرةٌ بيضاء ، سحب شعرةً من كأس ماءٍ قدَّمها للنبي ، فقال :
(( اللهم جَمِّله ))
أحياناً تقدم خدمات تلو الخدمات ، تقدم معونات تلو المعونات ، ثم يُجحد هذا كله ، ويُنسى ، وكما قال الشاعر :
أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
وقد علمته نظم القواف ي فلما قال قافيةً هجانـي
أعلِّمه الفتوة كل حيـن فلما طرَّ شاربه جفاني
* * *
هذا من اللؤم ، و المؤمن لا ينسى الجميل الذي يسدى إليه ، لا ينساه طوال العمر .
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال :
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، فسقطت على لحيته ريشة ، فابتدر أبو أيوب فأخذها ، فقال عليه الصلاة والسلام : نزع الله عنك ما تكره ))
لم ينس إنساناً التقط ريشة ، و الحقيقة أنا أذكر لكم أعمالاً بسيطة جداً، ومثالُها : واحد نزع ريشة عن لحية النبي ، فأحياناً تجد خيطاً فانزعه من على صديقك أو أخيك المؤمن ، وهو يجب أن يقول لك : شكراً جزاك الله خيراً ، وأحياناً يكون على الكتف شيء من الغبار فيميطه ، فقل له : تفضَّلت جزاك الله خيراً . فما قولك فيما فوق ذلك ؟
الموضوع ريشة وشعرة فما قولك فيما فوق ذلك ؟ اعتنيت بإنسان ، وأمضيت معه الساعات الطويلة ، استقبلته في بيتك أياماً عديدة ، قدمت له مساعدة ، خدمته ، و زوجته ، أكرمته ، اعتنيت به ، هذا المعروف أينسى ؟
" البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، اعمل ما شئت كما تدين تدان " .
روى مسلمٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ :
(( كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ـ أي ماء وضوئه ـ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))
أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ، ماذا رأى النبي خدمة هذا الصحابي له ؟ رآها ضريبةً عليه أن يؤديها ، أو ديناً عليه أن يفيه ؟ فإذا كان إنسان واحد بالأرض يُخدم بلا مقابل ، فهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك رأى خدمته ديناً يجب أن يؤدى ، وكلٌّ منا إنسان عادي ، فإذا إنسان خدمك ، عاونك ، يسَّر لك عملك ، بذل وقتاً من أجلك ، شد رجليه معك ، قدم لك هدية ، قدم لك حاجة ، اعتنى بابنك ، يسَّر لك أمرك ، ألا ينبغي أن تكافئه على صنيعه هذا ؟
(( سَلْ ))
أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ـ فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : أو غير ذلك ـ أحياناً تخدم إنساناً خدمة يسلفك مبلغاً من المال كبيراً ، يقول لك الشخص : ادع لي ، أي الله يوفقك ، مجرد كلمة ، مقابل أن سلفك مالاً فلا تقتصر على الدعاء له فقط ، بل قدم له خدمة أيضاً ، أول كلمة : الله يجزيك الخير ، الله يوفقك ، روح الله يوفقك ، هل هذا هو الشيء المناسب ؟ لا ترضى أن تدعو له فقط ، و لكن ما دام قد قدم لك شيئاً ثميناً ، فيجب عليك أن تقدم له شيئاً ثميناً . هل عندكم دليل على ذلك في السنة ؟
عن الحكم بن عمير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( فإن لم تجدوا فادعوا له ))
هذا إذا لم تقدر .
أما إذا قدرت :
(( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه ))
فإن لم تجدوا فادعوا له ، أشخاص كثيرون يقول أحدهم لك : لا أريد شيئاً ادعُ لي فقط . هذا كلام طيِّب لكن لا تقبل أن تكتفي بالدعاء له ، فقال النبي : أو غير ذلك , أي اسأل عن غير ذلك . فقال ربيعة هو ذاك يا رسول الله ، لا أسألك غيره ، عندئذٍ قال عليه الصلاة والسلام فأعني على نفسك بكثرة السجود .
أذكر لكم مثلاً يقرِّب هذا المعنى ، ملك له ابن , قال ابنه : أريد سيارة ، فأعطاها له ، أريد يختًا ، هذا يخت ، طائرة خاصة ، هذه طائرة ، أريد قصراً ، هذا قصر . ملك عنده ويعطي ، أما إذا طلب منه : ضعني رئيس جامعة ، فهذه لا ، فهذه بحسب اجتهادك ، هذا الطلب يحتاج جهداً منك ، ائتني بدكتوراه لأجعلك رئيس هذه الجامعة ، أيُّ طلب مادي يقدمه له أبوه ، لكن ربيعة طلب مرافقته في الجنة ، فماذا قال له النبي : أهِّل نفسك ، أعني على ذلك بكثرة السجود لله عزَّ وجل " ، فالإنسان لا يرقى عند الله إلا بجهدٍ حقيقي .
في رواية أخرى عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ :
(( كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ أَقُولُ لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةٌ - من شدة محبته ، من شدة تعلُّقه بالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد النبي أن يصرفه يبقى على عتبة باب بيت النبي ، يتسمع ماذا يقول النبي في الليل ، من صلوات ، وتهجُّد ، ودعاء - فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حَتَّى أَمَلَّ فَأَرْجِعَ أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي - والنبي يتهجد ويدعو ، ويسبح ـ ويستغفر ـ فَأَرْقُدَ قَالَ فَقَالَ لِي يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ قَالَ فَقُلْتُ أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ قَالَ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي قَالَ فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ قَالَ فَجِئْتُ فَقَالَ مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ فَيُعْتِقَنِي مِنْ النَّارِ قَالَ فَقَالَ مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ سَلْنِي أُعْطِكَ وَكُنْتَ مِنْ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي قَالَ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ لِي إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))
المقامات العُليا عند الله لا تنال بالوسائط ؛ بل تنال بالأعمال ، تنال بالجهود ، تنال بالجهاد ، تنال بالعزائم ، تنال بالإنفاق .
من سنة رسول الله أن تسأل عن أخيك :
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الترمذي وغيره عن هند بن أبي هالة في حديثه يصف النبي صلى الله عليه وسلم وفيه :
(( كان عليه الصلاة والسلام يتفقَّد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ))
معنى يسأل الناس عما في الناس : أي يسألهم عن أحوالهم كلها ، عن أحوالهم المعيشية ، عن الأمطار في بلدهم ، عن المواسم الزراعية ، فإذا أنت التقيت بأخيك ، اسأله عن أولاده ، فمن الأدب ، من المحبة أن تسأل عن أولاده ، وعن أهله ، وعن عمله ، وعن تجارته ، وعن صحته، وعن أحواله كلها .
و هذه ملاحظة أحب أن أذكرها لكم ، قبل أسبوعين أو أكثر أخٌ كريم يسكن في طرف المدينة ، غاب عن الدروس شهرين تقريباً ، لما رأيته سألته عن أحواله ؟ فقال لي : والله كنت مريضاً . فقلت له : والله ما كان عندي علم ، ولو علمت لأتيتك زائراً عائداً ، فقال لي : والله يا أستاذ ما زارني أحد ، أنا تألَّمت أشد الألم ، وأنا أقول لكم دائماً أتمنى على الله أن يؤاخي كل منكم واحداً ، ألا تستطيع أن تختار من بين إخوانك في المسجد واحداً ، تتفقده ويتفقدك ، تسأل عنه ويسأل عنك ، تتفقد أحواله المعيشية ، ويتفقد أحوالك كذلك ، تسأل عن غيابه ، ويسأل عن غيابك ، تسأله عن أحواله النفسية مع الله ، و هو يفعل كذلك أيضاً .
ألا تستطيع أن تؤاخي واحداً والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتآخى اثنين اثنين ؟ ألا تريد أن تكون وفق سنة النبي ؟ ألا تريد أن تكون أخاً مؤمناً ؟ فما أجملها أن يأتيني أخو هذا الأخ الكريم ، أخوه في الله ، ويقول لي : فلان مريض ، أنا والله لا أقصر ، إذا ذهبت إليه زائراً ، وقدمت له هديةً متواضعة ، فماذا تفعل هذه الهدية وتلك الزيارة في نفسه أمام زوجته و أمام أولاده ؟ إنها شيء ثمين جداً .
أخوك مرض ، أخوك سافر ، له مشكلة ، عليه قضية ، يعاني من أزمة مالية ، تفقده فقط ، اسأل عنه ، بصراحة صعب على الإنسان أن يحفظ ثلاثة آلاف شخص أو أربعة آلاف ، شيء فوق طاقة البشر ، لماذا فلان لم يأت اليوم ؟ لكنّ واحداً لواحد أمر سهل ، فمن الصعب علي أن أحفظ ثلاثة آلاف ، وأسأل عن فلان أتى لم يأت اليوم وأتفقده ، هذا شيء فوق طاقتي ، لكن هناك أشخاص لشدة اهتمامهم بالدرس ، وتواجدهم الشديد فلو غاب أحدهم عن درس أو درسين أشعر بغيابه ، لكن بقية الإخوة الكرام ، ينبغي أن يتآخوا اثنين اثنين ، وأنا أطلب منكم ذلك .
سألت رجلا : من أخوك في الله ؟ والله لو قال لي : لم أؤاخ أحداً فهذا سآلم منه ، لأنها سنة ، هذا الذي قال لي : والله يا أستاذ شهرين ما طرق بابي أحد ، وأنا مريض ، وهذا له زملاء ، و له جيران من إخوان المسجد لم يبلغوني ، ولم يعرفوا بمرضه ، ولم يزوروه فهذا يحزّ في نفسي.
طلب رسمي : أطلب إليكم على كل واحد منكم أن يختار أخاً يؤاخيه يتفقده ، و يزوره ، يسأل عنه ، عن صحته ، عن أولاده ، عن دوامه ، عن أهله ، فأحياناً يعاني الإنسان من مشكلة كبيرة جداً ، وهذه تحل بمبلغ بسيط لا يملكه ، فماذا يفعل ؟ فهل يلجأ إلى الغرباء أم إلى المقربين؟
لذلك روى أبو يعلى بإسنادٍ فيه ضعفٍ عن أنسٍ رضي الله عنه :
(( أن النبي صلى الله عله وسلم كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيامٍ سأل عنه ))
أخ زارني ذات مرة في فترة العيد ، فلم يجدني ، وضع بطاقة ، أنا أعرفه بالشكل و لا أعرف اسمه , فلما أعلمني أنه زارني ووضع بطاقة ، ربطت بين الاسم وبين الشكل ، بعد حين افتقدته ، البطاقة عندي في البيت فيها رقم هاتفِهِ ، اتصلت به ، صدقوني أيها الإخوة ؛ قال لي : " والله لن أنسى هذا الاتصال ما حييت ، وبعد هذا الاتصال لن أغيب عن درسٍ واحد ، كان الاتصال كبيراً جداً عندي ، ماذا كلفني ذلك ؟ مجرد اتصال ، الحياة أساسها تعاون ، محبة ، أنت لما تتفقد إخوانك ، فقد أصبحت عنصراً بأسرة ، لم يعد موضوع جماعة ، فأصبحنا جميعاً أسرة ، هذا الذي أريده منكم .
فأتألم عندما واحد منكم يمرض ، ويمضى شهر أو شهران ، ولم يزره أحد ، فهذا خلاف السنة .
(( مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ ))
(( يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ))
أنا والله لا أقصر ، وبحسب الإمكانات فلا يمرض أخ إلا أبادر إلى زيارته ، وأحاول آخذ أن معي هدية ولو كانت متواضعة ، عوِّد نفسك أن تزور إخوانك ، أن تتفقدهم ، أن تقدِّم لهم الهدايا ، هذا مما يمتِّن العلاقات ، إذا كان الشيخ له دور في إلقاء العلم ، فأنت لك دور في تثبيت هذا الأخ ، دورك من نوع آخر ، دورك دور مثبِّت ، أحياناً للملابس صباغ ، ولها مثبت للصباغ ، فالأخ الكريم دوره مع إخوانه دور مثبت .
(( كان عليه الصلاة والسلام إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيامٍ سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده ))
هذه السُنَّة .
مرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام , أعتقد في غزوة تبوك , عن بعض أصحابه , فأحدهم غمز أنه شغله بستانه ، فقال صحابيٌ آخر :
(( لا والله يا رسول الله لا نعلم عليه إلا خيراً ، لقد تخلَّف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك ))
فإذا غاب أخ ، فلا نلومه بقولنا : لا يسأل عن الدروس ، لا تقل هذا الكلام ، أحسن الظن بأخيك ، وإذا سألنا عن أخ : فلان لم نره الجمعة , فلا تكن إجابتك :
" عامل سيران يا سيدي ".
هذا سوء ظن ، لعله مريض .
قال :
(( واللهِ ما علمنا عنه إلا خيراً ، لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ، ما تخلفوا عنك ))
من صفاته عليه السلام حفظه للود :
ننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حفظه للود واحتفاظه بالعهد .
أخرج البخاري في صحيحه في باب حسن العهد من الإيمان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
(( مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ - ماتت - قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا - أي يثني عليها خيراً - وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ ))
لا يفتأ يذكر خديجة ، وقد ماتت خديجة ، فالآن إذا تزوج أحد امرأة بعد زوجته وذكرها فيقال : الله أراحنا منها ، هكذا يقول بعض الأزواج ، لكن حسن العهد من الإيمان .
وروى الحاكم والبيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(( جاءت عجوزٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : كيف أنت ؟ كيف حالكم ؟ كيف أصبحتم ؟ قالت : بخير ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله تُقْبِلُ على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : يا عائشة إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، إكراماً لخديجة ، وأن حسن العهد من الإيمان ))
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي الطفيل قال :
(( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة ، وأنا يومئذ غلامٌ أحمل عضو البعير ، فأتته امرأةٌ فبسط لها رداءه ، قلت : من هذه ؟ قيل : هذه أمه التي أرضعته ))
أي هي حليمة السعدية رضي الله عنها ، مد لها رداءه .
وروى أبو داود عَنْ عُمَرَ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ :
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ - أي زوج حليمة السعدية ، أبوه من الرضاعة - فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ))
فأصبح لا فراغ عنده ، أمه ، وأبوه ، وأخوه ، وكان يُجلّهم رسول الله بعد أن جاءه الوحي و حمل الرسالة .
ومن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور أصحابه ، كما قلت قبل قليل ، وقد يتوهم المتوهم أن زيارة الكبير لمن هو دونه مما يقلل شأنه , لا بل العكس هو الصحيح ، كان عليه الصلاة والسلام يكثر زيارة الأنصار خاصةً وعامةً ، كان إذا زار خاصةً أتى الرجل في منزله ، وإذا زار عامةً أتى المسجد .
وروى الترمذي والنسائي ، عن أنسٍ رضي الله عنه قال :
(( كان عليه الصلاة والسلام يزور الأنصار ، ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ))
وجاء في الأدب المفرد للبخاري ، في باب من زار قوماً فطعم عندهم ، ثم أسند إلى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيتٍ من الأنصار فطعم عندهم طعاماً ، فلما خرج أمر بمكانٍ من البيت ، فنضح له على بساط فصلى عليه ودعا لهم .
فإذا زرت أشخاصاً وأطعموك فادع لهم و قل : اللهم بارك هذا البيت وبارك أهله ، وزد فيه الخير ، وقل أكل طعامكم الأبرار وصلَّت عليكم الملائكة الأخيار ، وذكركم الله فيمن عنده ، شيء جميل جداً ، أن تدعو لأهل البيت بالبركة وبالخير.
وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ :
(( زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ , قَالَ فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا - بصوت منخفض - فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَوُضِعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ أَوْ قَالَ نَاوَلُوهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ وَوَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ ثُمَّ أَصَابَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ قَالَ فَانْصَرَفْتُ ))
وعند أبي داود عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ :
(( زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا قَالَ قَيْسٌ فَقُلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَرْهُ يُكْثِرُ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ ثُمَّ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ قَالَ فَانْصَرَفْتُ))
أحياناً يكون الإنسان قد أتي من السفر ، يستقبله صاحبه ، شيء جميل جداً ثم يدعوه إلى حمام ، و الإنسان إذا اغتسل يتنشط على أثر تعب ، الصحابي الجليل أمر بغسل ليتبرد النبي ، إذا إنسان دعا آخر و استضافه ، يجب أن يدعوه إلى حمام ، إلى استلقاء ، إلى تغيير ثيابه ، هذه مبالغة بالإكرام ، فسيدنا سعد أعد للنبي ماءً ليغتسل فيه ويتبرد .
(( فاغتسل النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم ناوله ملحفةً مصبوغةً بزعفران وورس ، فاشتمل بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ))
إخواننا الكرام ؛ من أكرم أخاه فكأنما أكرم ربه ، ولا سيما المسافر ، فالإنسان في حضرِهِ له بيت ، له غرفة نوم ، له مطبخ ، حمام ، يتكئ ، يرتاح ، يغير ثيابه ، يستلقي ، لكن إذا سافر فهو في أمس الحاجة إلى إكرام ، إلى بمبالغة بالإكرام ، هكذا فعل سيدنا سعد بن عبادة .
(( ثم أصاب من الطعام ، فلما أراد النبي عليه الصلاة والسلام الانصراف قرَّب إليه سعد حماراً ))
دابة ـ
تجد أحياناً شخصاً يزور شخصاً آخر ، ويملك سيارتين أو ثلاثاً أمام الباب ، والدنيا مطر وبرد يقول له : مع السلامة ، لا يا أخي ، بل أوصِلْه إذا كان ضيفك غاليًا عزيزاً عليك ، أوصِله ، هذه تحسب عند الله ، لك أجر كبير ـ
(( قرَّب إليه الدابة ، وضع عليها قطيفةً ، فقال سعد : يا قيس ـ يخاطب ابنه ـ اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قيس : قال لي النبي الكريم : اركب ، فأبيت ، فقال : إما أن تركب وإما أن تنصرف ))
ليس هناك حاجة ، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يستهلك جهد الآخرين بلا سبب ، أو بلا فائدة ، الوقت ثمين ـ
(( قال له : اركب معي ، فإن لم تركب فانصرف ، قال : فانصرفت ))
وفي رواية أخرى :
(( أرسل سعد ابنه قيساً مع رسول الله ليرد الحمار . فقال عليه الصلاة والسلام : احمله ـ أي ضعه على الدابة ، أي أمامي على الدابة ـ فقال : سعد سبحان الله أتحمله أمامك ؟ فقال : نعم هو أحق بصدر الدابة ، فقال سعد : هو لك يا رسول الله قال : إذاً احمله خلفي ))
قال : فانظر إلى كمال لطفه صلى الله عليه وسلم ، وحسن معاشرته ، ورعايته للحقوق ، وإعطائه كل ذي حقٍ حقه .
و نرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادم .