الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تحدثنا في درس سابق عن المحنة الأولى والابتلاء الأول والامتحان الأول الذي مرّ به هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام ، ومهدت في الدرس الماضي إلى أنه بعد أن نقله الله عز وجل من البئر إلى القصر ، ومن الوحشة إلى الأُنس ، كان قد تحقق بعض ما في رؤياه ، والآن إلى ابتلاء آخر وامتحان آخر .
بعضهم قال : في الخامسة والعشرين .
بعضهم قال : في الثالثة والثلاثين .
بعضهم قال : إذا كان خط الإنسان البياني في صعود فقبل أن يهبط هو أَشُدّ الإنسان ، أي في أوج فتوته ، في أوج شبابه ، في أوج صحته .
بعضهم قال : حينما ينبت شعر ذقنه .
بعضهم قال : حينما يحتلم .
بعضهم قال : حينما يبلغ سن الرشد .
هي أقوال كثيرة ، ولكنّ المضمون واحد ، حينما بلغ هذا النبي الكريم سن الرشد ، وأوج شبابه وقوته وفتوته عندئذ جاء الابتلاء ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ .
هناك شيء آخر ؛ بالمناسبة علماء النفس يفرقون بين أعمار الإنسان ، هناك عُمرٌ زمني ، افتح بطاقتك الشخصية ، واطرح سنة الولادة من السنة الحالية تحصل على رقم هو عمرك الزمني ، وقال معظم العلماء : إنّه أتفه أعمار الإنسان لماذا ؟ هناك عُمر عقلي ، قد ترى إنساناً ناضجاً ، تصرفاته حكيمة ، فهذا العمر العقلي أخطر من عمر الإنسان الزمني ، وهناك عمر انفعالي ، انفعالاته منضبطة ، متوازن ، لا ينهار بسرعة ، هذا عمر انفعالي ، وهناك عمر اجتماعي ، علاقاته الاجتماعية جيدة جداً ، الناس جميعاً يحبونه ، هذا عمر اجتماعي ، وهناك عمر تحصيلي ، أي تناسب عمره الزمني مع صفه الدراسي ، وكما قلت قبل قليل : العمر الزمني أتفه هذه الأعمار كلها ، لأنّ العالِمَ شيخٌ ولو كان حدثاً ، والجاهل حَدَثٌ أي صغير ولو كان شيخاً ، على كل في هذه الآية إشارة إلى أنّ هناك فرقاً بين بلوغ الأشد وبين النضج العقلي ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، بلغ أشده تنصرف إلى القوة العضلية ، إلى فتوته ، إلى شبابه ، أما استوى إلى نضجه الانفعالي ، ونضجه العقلي ، ونضجه الاجتماعي ، وما إلى ذلك .
ما قيمة الكون وعظمته من دون ميزان تعرف عظمة الخالق من خلاله ؟ ما قيمة الميزان من دون كون ؟ الكون والعقل متكاملان ، بالعقل تعرف عظمة الخالق من خلال خلقه ، وبالكون يتبدى للعقل عظمة الخالق ، لابد من صنعةٍ مُعجزة ، ولابد من جهاز يدرك هذا الإعجاز .
المعنى الثالث ؛ الحُكم هو الرؤية الصحيحة ، الإنسان أحياناً يدمر ذاته من رؤية مغلوطة :
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾
إذا امتلك الإنسان رؤية صحيحة فقد امتلك كل شيء ، أحياناً يرى الإنسان أن المغنم في كسب المال الحرام ، هذا أعمى القلب ، والمؤمن يرى أنّ الغنيمة في كسب المال الحلال ، أحياناً يرى الإنسان أنّ الغنيمة في العدوان على أعراض الناس ، وقد يرى المؤمن أن الغنيمة في قناعته بما آتاه الله ، إذاً الفرق بين السعيد والشقي ، الفرق الجوهري بين أن تكون في الأوج وبين أن تكون في الحضيض ، هذه الرؤية الصحيحة ، فمن معاني الحُكم أنّ الحُكْمَ إصابة الحُكْمِ ، الحُكم على الأشياء ، قد تحكم على إنسان كسب مالاً حراماً بأنه ذكي ، هذا هو العمى بعينه ، وقد تحكم على إنسان كسب مالاً حراماً بأنه غبي ، هذا هو الحكم الصحيح ، الحكم أن تصيب الحكم الصحيح ، الحكم على الأشياء ، أي أن تكون تقديراتك صحيحة ، أن تأتي تقديراتك مطابقة للواقع ، هذا هو المعنى الثالث ، الحكم من القدرة على إصابة الحكم الموضوعي .
المعنى الرابع : الحكم هو الحكمة ، وهو أن تكون متعلماً علماً ومطبقه في الوقت نفسه ، أي العالِم الذي يعمل بعلمه هو الحكيم ، أما إذا تعلم المرء علماً ولم يطبِّقه في حياته فليس بحكيم ، العلم حجة عليه ، لا يكون العلم حجة له إلا إذا طبّقه .
المعنى الأخير للحكم من الحكمة، أي أن تضع كل شيء في موضعه ، أن تكون قاسياً في موطن القسوة ، وأن تكون متسامحاً في موطن التسامح ، أن تكون رحيماً في موطن الرحمة ، أن تكون متشدداً في موطن الشدة ، أن تكون كريماً في موطن الكرم ، وأن تكون حريصاً في موطن الحرص ، الأحمق حيث يجب أن يكون كريماً يبدو بخيلاً ، وحيث يجب أن يبخل يتكارم ، حيث يجب أن يعفو ينتقم ، وحيث يجب أن ينتقم يعفو ، فالحكمة أن تضع كل شيء في موضعه الصحيح ، أن تكون لك مواقف حكيمة .
إعادة للمعاني المستنبطة من كلمة الحكم :
نعيد على أسماعكم المعاني العدة المستنبطة من كلمة الحكم :
الحكم أولاً أن تكون حاكماً ، ولما بلغ أشده واستوى جعلناه عزيز مصر ، والحكم يحتاج إلى علم ، لأن الحاكم عقل الأمة ، دماغها المفكر ، أي علمناه كيف يحكم أو جعلناه حاكماً لأنه كان عالماً ، هذا هو المعنى الأول .
والمعنى الثاني : الحكم بمعنى أن تكون عالماً عاملاً مطبّقاً ، كل الناس هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون ، والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم .
والمعنى الثالث : الحكم إمكانية الفهم ، هذا الذي آتاه الله قدرة فائقة على الفهم السريع ، والإدراك الخاطف ، والإدراك العميق ، والإدراك الدقيق ، والإدراك الصحيح ، هذه نعمة كبرى ينعم الله بها على بعض عباده .
شيء آخر ؛ الحكمة أن تضع كل شيء في موضعه ، تعرف متى تبتسم ، متى تُقَطِّب ، متى تسمح ، متى تحاسب ، متى تعفو ، متى تصفح ، متى يجب أن تكون قوياً ، متى يجب أن تكون ضعيفاً أو أن تبدو ضعيفاً ، متى يجب أن تُظهر أنك غبي .
ليس الغبي سيداً في قومه لكنّ سيد قومه المتغابي
***
من الذكاء البارع أن تبدو في بعض المواقف الحرجة أنك غبي ، من الذكاء اللامع أن تبدو وكأنك مسكين في بعض الحالات ، فحينما تضع لكل شيء موضعه ، حينما تسلك السبيل الصحيح فأنت حكيم .
أرقى العلوم جميعاً أن تكون عارفاً بالله سبحانه وتعالى :
الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ والعلم واسع جداً ، إنّ الله عالِمٌ يحب كل عالم ، العلم بالله وعلامته خشيته ، والعلم بالله من أرقى العلوم ، والعلم يشرف لشرف موضوعه ، فأي علم تعلمته ؟ فلان تعلّم الفيزياء ، الموضوع الطاقة والمادة وتحولاتهما ، متعلم علم كيمياء ، أي هناك صفات كيميائية تطرأ على العنصر تعلمِها وتعلُم قوانينها علم كيمياء ، هناك عالِم بالطب ، هناك عالِم بالفلك ، هناك عالِمٌ بالرياضيات ، هناك عالِمٌ بالشرع ، وهناك عالِم بالله ، فإذا كان العلم يشرف لشرف موضوعه فأرقى العلوم جميعاً أن تكون عارفاً بالله سبحانه وتعالى ، هذا هو أرقى العلوم قاطبة ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ علماً بنا ، علماً بشرعنا ، وعلماً بتفسير الرؤى ، وعلماً بأمور الدنيا ، ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ فكأن كلمة علم هنا شملت العلم بالله ، والعلم بأمر الله ، والعلم بمخلوقات الله ، أو العلم بالحياة .
عطاء الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا وفق أسس ثابتة :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ لو أن الله سبحانه وتعالى أنهى الآية عند هذه الكلمة ، إذاً ليس هذا الكلام كلام الله ، لماذا ؟ لماذا آتيته علماً وحكماً يا رب ؟ لماذا آتيته حكماً وعلماً ؟ لكن ربنا عز وجل قال : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ بيّن الله سبحانه وتعالى أن عطاءه وفق أسس ثابتة ، أنّ عطاءه يجري مجرى القانون ، عطاء الله سبحانه وتعالى ليس جزافاً ، ملك الملوك إذا وهب بعضهم يقول : لا تسألنّ عن السبب ، ليس هناك قاعدة ، هذا كلام مغلوط ، عدّلت هذا البيت تعديلاً طفيفاً :
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألنّ عن السبب
الله يـعطي من يشاء فقف على حــــــدِّ الأدب
***
عطاء الله سبحانه وتعالى وفق أسس ثابتة ، كيف تمنح الدولة منحاً للموظفين ؟ يوجد أسس ، من كان راتبه كذا وكذا يأخذ على المئة الأولى كذا ، والمئة الثانية كذا ، والمئة الثالثة كذا ، وعلى كل ولد كذا ، هذا عطاء إنسان هكذا ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا - العطاء سببه - وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ إنّ هذا العطاء لم يكن جزافاً ، إنما كان وفق أسس عادلة صحيحة ، هذا المعنى الأول .
والمعنى الثاني : ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ قلَبَ هذه القصة إلى قانون ثابت ، والعلماء يقولون : إنّ كلمة ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ تصنف في كتاب الله تحت عنوان : كلمات الله ، أي نواميسه في خلقه ، الأسس الكبرى التي يعامل بها عباده .
معاملة الله عز وجل كل إنسان بما يستحق :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ وهذه لنا ، وهذا أهم شيء ، أي أنت أيها الإنسان ، يا فلان الفلاني ، يا من تعيش في عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين – لو قلنا عاماً نقول ستة وثمانين ، وإن قلنا سنة نقول : ستاً وثمانين- يا من تعيش في هذا العام إن الذي انطبق على سيدنا يوسف ينطبق عليك ، كن محسناً ، وانظر كيف يعاملك الله سبحانه وتعالى ، أي لا أجد آيات في كتاب الله أشفى للغليل من هذه الآية :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
[ سورة الجاثية ]
هذا من خامس المستحيلات ﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾ أي بيت هذا كبيت هذا ؟ لا والله ، زوجة هذا كزوجة هذا ؟ لا والله ، دخل هذا كدخل هذا ؟ لا والله ، أولاد هذا كأولاد هذا ؟ مكانة هذا كمكانة هذا ؟ مستحيل :
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
[ سورة السجدة ]
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾
[ سورة ص ]
فلذلك هذه بشرى للمؤمنين ، كما أن هذا النبي الكريم بلغ ما بلغ بإحسانه ، وصل إلى ما وصل إليه باستقامته ، رفعه الله مكاناً علياً بعفته ، الباب مفتوح ، والطريق سالك ، والإله موجود ، والله هو هوَ ، ومعاملته هي هيَ ، وقوانينه هي هيَ ، لا تتبدل ، ولا تتغير ، ولا تعدّل ، ولا تجمد ، ولا توقف ، ولا يضاف عليها ، ولا يحذف منها ، أبشروا ، كن له كما يريد يكن لك كما تريد ، سلِّم له فيما يريد يجعل حياتك كما تريد ، لذلك : ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ هكذا نجزيهم على مرّ الأيام ، على مرّ العصور ، في كل الأصقاع ، في كل الأقاليم ، في كل البلاد ، في البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة ، في شرق الأرض وفي غربها ، في شمالها وفي جنوبها ، على البر وعلى البحر وفي الجو ، قد تحترق طائرة ، ولا ينجو منها إلا واحد ، ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
[ سورة الطور ]
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾
[ سورة الحج ]
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
[ سورة الروم ]
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾
[ سورة مريم ]
هكذا هذه الآية يجب أن تكون في قلوبكم جميعاً ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
إذا استرذله ، رآه رذيلاً ، تافهاً ، سخيفاً ، شهوانياً ، أنانياً ، مستعلياً ، دنيء النفس ، شهواني السلوك ، ماذا يفعل معه ؟ يبقيه غنياً ، يبقيه قوياً ، يعطيه الدنيا كما يشتهي ، يفتح له أبواب الدنيا كلها :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
[ سورة الأنعام ]
ولكنه يحظر عليه شيئين فقط ؛ العلم والأدب : ((ما استرذل الله عبداً إلا حظر عليه العلم والأدب فإذا أحبه آتاه حكماً وعلماً )) ، إنّ الله أعطى فرعون المُلك وهو لا يحبه ، وأعطى قارون المال وهو لا يحبه ، وأعطى الأنبياء العلم والحكمة وهو يحبهم ، فانظر عطاؤك أيها المؤمن من أي نوع ؟ علم وحكمة ؟ علم وأدب أم مال وجاه ؟ ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أحد العلماء قال : من أحسن عبادة الله في شبيبته - أي في شبابه ، الشبيبة تعني الشباب - آتاه الله الحكمة في اكتهاله ، إذا صار كهلاً تجده وقوراً ، حليماً ، حكيماً .
دعوة امرأة العزيز يوسف عليه السلام لارتكاب المعصية معها :
الآن دخلنا إلى عقدة القصة ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ راودته امرأة العزيز ، وبعض العلماء يقولون : إنّ هناك نظرات وإغراءات وأخذاً وردّاً من امرأة العزيز ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى اكتفى بالموقف الأخير لأنه أشد المواقف جرأة ، وأشدها وقاحة ، وأشدها حسماً ، ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ ومعنى راودته : بمعنى دعته دعوة رقيقة هادئة ، دعته ، دعته إلى نفسها ، ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ دعته إلى أن يكون كزوجها ، ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ ﴾ لمَ لمْ يقل الله سبحانه وتعالى : غَلَقت ، غَلّقت فيها مبالغة ، قال العلماء : وزن فعّل يفيد التكثير ، إما تكثير الأبواب أو المبالغة ، أي إذا كان لهذا المسجد سبعة أبواب ، أو خمسة أبواب نقول للقيِّم عليه : أغَلّقت الأبواب ، لا نقول له : غَلَقت الأبواب ، لأن الأبواب كثيرة ، أغلّقتها ؟ وإذا كان باب الصندوق الحديدي وفيه ثروة طائلة نقول له : أغَلّقته ، أي أرتجته ، أقفلته ، إما وزن فعّل في الإغلاق يعني المبالغة ، الإرتاج ، وإما يعني كثرة الأبواب .
يروى أنّ رجلاً راود امرأة عن نفسها ، وغلّق الأبواب كلها ، فقالت له كلمة جعلته يقع مغشياً عليه ، قالت : انظر ، هناك باب واحد لا تستطيع أن تغلقه ، لو غلّقت كل هذه الأبواب هناك باب واحد لا تستطيع أن تغلقه إنّه باب السماء ، عندئذ وقع مغشياً عليه ، وأدركته الخشية ، وترفّع عن هذا العمل .
امرأة العزيز غلّقت الأبواب ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ دَعته إلى المعصية الكبيرة ، دعته إلى خيانة زوجها ، ﴿ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَك ﴾ هناك سبع قراءات لـ ( هيت ) ، قالت : هَيْتَ لك ، أي تعال أقبل ، وهِيْت لك ، وهَيْتِ لك ، وهِئْتُ لك ، أي تهيأت لك ، إما تعال أقبل ، أو تهيأت لك ، هِئْتَ لك ، وهِئْتُ لك ، وهِئْتِ ، وهَيْتَ ، وهَيْتِ ، كل هذه دعوة صريحة إلى أن يرتكب المعصية معها ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ أعوذ بالله أن أفعل هذا ، هذا موقف الأنبياء ، هذا موقف المؤمنين ، فما قولكم بالأنبياء ؟
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)﴾
[ سورة الفرقان ]
هذه ليست ( لا ) الناهية ، لم يقل الله عز وجل : ولا تزنوا ، قال : ﴿ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ ، ينفي عنهم الزنى ، أي مستحيل في حقهم أن يزنوا ، لكن بعض المفسرين سامحهم الله أورد روايات ما أنزل الله بها من سلطان ، أنه بلغ منها مبلغ الرجال ، وكان على وشك أن تقع الفاحشة ، لولا أنّ الله سبحانه وتعالى أخرج له أباه من الجدار ، وعضّ على إصبعه ، لولا أنّ ملَكاً نزل من السماء ، ودفعه في صدره فخرجت الشهوة من أنامله ، لولا أنّه حينما استلقى رأى آيات القرآن مكتوبة على السقف ، أي روايات إسرائيلية ما أنزل الله بها من سلطان .
أي إذا عرضت على أحد ما مبلغاً من المال كرشوة ، قال لك : أعطني إياه ، عدّه ، وضعه في جيبه ، وبعد ساعة ، أو بعد نصف ساعة قال لك : لا والله لا آخذه ، هذا نقص كبير لمجرد أنّه تردد في الأمر ، لمجرد أنّه همّ أن يأخذه ، لمجرد أنّه قَبِلَ أن يأخذه مبدئياً فقد وقع في نصف الذنب ، فإذا قلنا : إنّ هذا النبي العظيم أغرته ، وهمّ أن يواقعها ، وبلغ منها مبلغ الرجال ، وتفصيلات ما أنزل الله بها من سلطان ، إلى أن رأى أباه في الحائط يعض على إصبعه ، إلى أن رأى السقف قد كُتِب آيات قرآنية ، إلى أن جاء ملَك ، ودفعه في صدره فأخرج من نفسه الشهوة من أنامله ، لا والله ما هذا ، ما أنزل الله بهذا من سلطان ، ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ أعوذ بالله أن أفعل هذا ، مستحيل أن أفعل هذا ، هذا لا يليق بي .
تفسير قوله تعالى : إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ :
﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ هذه لها تفسيران :
رب العزة الذي نقلني من البئر إلى القصر ، من الوحشة إلى الأنس ، من الجوع إلى الشبع ، من العطش إلى الري ، من الضياع إلى العناية ، أنا أعصيه ؟! أتجاوز أمره ؟ أفعل ما نهاني عنه ؟ معاذ الله .
أما التفسير الثاني : ربي أي سيدي ، أي زوجك الذي رباني وأنشأني في هذا القصر وأكرمني أخونه في زوجته ؟! معاذ الله ، إنه ربي أحسن مثواي أكرمني وأخونه ؟ أهذا هو الكرم أن أرد على الإحسان بالإساءة ؟ ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ الإحسان عفة عن المحارم عفة عن المطامع .
الفرق بين اللذة والسعادة :
العلماء فرّقوا بين اللذة والسعادة ، اللذة تأتي من ممارسة الشهوة ، ولكنّ السعادة تأتي من ترك الشهوة ، إذا تركت شهوة لا ترضي الله عز وجل تسعد إلى الأبد ، ألا يا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً ، ألا يا رُبّ أكلة منعت أكلات ، قال لي أحدهم : والله محروق قلبي ، قلت له : لماذا ؟ قال : سافرنا إلى جهة وأسأنا ، صار معي أمراض بقي هذا المرض أعاني منه عشر سنين ، لم أترك طبيباً ، لم أترك مستشفى ، وأنا أستحي من أهلي أن يكشفوا هذا المرض معي ، ألا يا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً .
الزنى ظلم للزاني وظلم للمزني بها وظلم للمجتمع :
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ الزنى ظلم ، ظلمٌ للنفس قبل كل شيء ، لأن الزاني محجوب عن الله عز وجل ، مقطوع ، سيدنا عثمان كان على المنبر فقال : << أيدخل أحدكم وأثَرُ الزنى بين عينيه ؟ فقيل : يا خليفة رسول الله ، أَوَحيٌ بعد رسول الله ؟ قال : لا ، اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله >> المستقيم استقامته في وجهه ، سيماهم في وجوههم ، لو أنّ الوجه الحسن رجلٌ لكان رجلاً صالحاً ، العفيف في وجهه ، البريء في وجهه ، الصافي في وجهه ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ الزنى ظلم ، ظلم للإنسان ، والزنى ظلم للمزنيِّ بها ، هذه التي زنيت بها لا سمح الله لو جاءتك يوم القيامة وقالت لك : أنا أختك في الإنسانية ، إنك بهذا العمل مرّغتني في الوحل ، جعلتني مومساً ، جعلتني أشقى نساء الأرض ، حينما زوى جمالي نبذني الناس إلى قارعة الطريق ، صرت متسولة ، أهذا يرضيك ؟ لو كنت الآن زوجة لخمسة شباب بعضهم أطباء ، بعضهم صيادلة ، بعضهم تجار ، هذا جاءني لعندي وقال : يا أمي ، هل لك حاجة ؟ ولي بنات زوجتهم ، كنت سيدة أسرة كبيرة ، اعمل موازنة .
قال لي شخص : طرق الباب الساعة الرابعة فجراً فتحت فلم أجد أحداً ، فلما وقعت عيني على الأرض رأيت محفظة كبيرة ، فتحتها – لا يوجد متفجرات - فوجدت غلاماً ، طفل مولود لتوه ، قلت : سبحان الله ! حينما يتم زواج شرعي ، وتحمل المرأة الأهل يفرحون ، يُعدّ لهذا المولود ، يجهز له مهاده ، تجهز له ملابسه ، تعيش الزوجة في حلم الولد تسعة أشهر والأب كذلك ، يأتي المولود ، يأتي الناس مهنئين ، تأتي الهدايا ، يفرح الناس ، هذا هو الطريق المشروع ، فإذا كان الزنى فقد يوضع هذا الغلام في حاوية القمامة ، وقد يوضع على قارعة الطريق ، وقد يوضع في الحديقة العامة ، والحدائق العامة في أوروبا يجمع منها اللقطاء بالعشرات والمئات والألوف كل عام ، وقال بعضهم : ثلث بعض الشعوب في أوروبا من أولاد الزنى ، هذا ما ذاق حنان الأب ، ما ذاق حنان الأم ، هؤلاء الذين يديرون حروباً طاحنة يعيشون على أنقاض البشرية ، يقتلون في المستعمرات الألوف المؤلفة ، هؤلاء قد يكونون ما ذاقوا حنان الأب ، ولا حنان الأم ، ولا العطف ، فلذلك : ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ الزنى ظلم للزاني ، وظلم للمزني بها ، وظلم للمجتمع .
في قلب كل نبي نور يهديه إلى الطريق المستقيم :
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ همت به أي همت بجذبه ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ، سامح الله بعض المفسرين الذين توهموا أن هَمّهُ بها كهمِّها به ، إذا رأيت في الغرفة أفعى هي تهم أن تلدغ إنساناً ، وهو يهم أن يقتلها ، يا تُرى همه كهمها ؟ إذا رأيت أفعى في غرفة ، نقول لك : لقد هممت بها وهمت بك ، ماذا تفهم من هذا ؟ همت باللدغ ، صحيح ، أما هممت أن تلدغها أم هممت أن تقتلها ؟ لابد من يكون همك غير همها ، ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ أغرته ، جذبته ، تهيأت له ، ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ همّ بدفعها ، أو همّ بالهروب منها ، هذا التفسير الوحيد الذي يليق بهذا النبي الكريم ، نبي ، ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ لم يهم بها همّ فعل ، ولم يهم بها همّ نفسٍ ، ولم يهمّ بها همّ الرجل بزوجته ، ولكنه همّ بها همّ رد ، وهم دفعٍ ، بل وهم ضرب ، لشدة حرجه ، هذا المعنى الذي يليق بهذا النبي الكريم .
﴿ وَلقَد وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ أي لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، لو أتيت بمئة رجل وضعتهم في ظرف سيدنا يوسف ، كم منهم مَن يقول : معاذ الله ؟ لا تعرف كم واحد ، ربما واحد أو اثنان ، لماذا ؟ لأنهم لم يروا برهان ربهم ، ما كان في قلبهم نور يهديهم إلى الطريق الصحيح ، هذا هو النور ، الصلاة نور ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، الكافر يرى الحق باطلاً ويرى الباطل حقاً ، وإذا رأى الحق حقاً لا يستطيع أن يتبعه ، وإذا رأى الباطل باطلاً لا يستطيع أن يجتنبه ، أما الدعاء النبوي الشريف : " اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه " .
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ هذا التفسير مقبول ، أي لولا أنك جئتني لجئتك ، لولا أنك جئتني لجئتك في البيت ، أنا هل أتيتك إلى البيت ؟ لا ، لأنك أتيتني ، هذا هو المعنى الدقيق ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ يوجد تقديم وتأخير ، أي : ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، هذه ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، لولا المطر لهلك الزرع ، امتنع هلاك الزرع لوجود المطر .
الفرق بين السوء والفحشاء :
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ السوء ما يسوءه في نفسه ، والفحشاء ما يفضحه بين الخلق ، السوء داخلي ، والفحشاء خارجي ، إذا ورد إلى خاطر الإنسان خواطر سيئة هذه تسوءه إذا تصور نفسه في معصية ، هذا الخاطر يسوءه ، لكنه إذا فعل هذا الخاطر هذه فحشاء ، هذه تفضحه ، هناك شيء يسوءك ، وهناك شيء يفضحك ، الخواطر السيئة تسوء ، لكنّ المعاصي تفضح ، ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ كنت أظنّ أنها المخلِصين فإذا هي المخلَصين بالفتح ، أي أخلَص لله فصار مُخْلَصاً من كل شائبة ، مخلِص اسم فاعل ، ومخلَص اسم مفعول ، أخلص لله فأخلصه الله من كل شائبة ، جعله نقياً طاهراً ، قال بعضهم : المؤمن طفل كبير بل ذاتي صافٍ لكنه عاقل وناضج ، أي إذا أردت أن تجمع بين ميزات الطفولة ببراءتها و صفائها وميزات الرجولة برجاحة عقلها فهي في المؤمن ، المؤمن يجمع بين الصفاء والبراءة ، والطهر والعفاف ، والحكمة والنضج ، والعقل والفهم ، لست بالخب - لست من الغباء ، لست من الخبث بحيث أكون خباً أي خادعاً لك ، ولست من الغباء بحيث أكون مخدوعاً- ولا الخب يخدعني .
من كان مخلِصاً فصار مخلَصاً صرف الله عنه السوء والفحشاء :
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ﴾ صار الآن نصرف عنه ، ليس هذا التصرف خاصاً بهذا النبي ، هذا قانون أيضاً ، كل من كان مخلِصاً فصار مخلَصاً صرف الله عنه السوء والفحشاء ، ما يسوءه في نفسه وما يفضحه بين خلقه أبداً ، قاعدة عامة ، كل من كان مخلِصاً صار مخلَصاً ، ثم صرف الله عنه السوء والفحشاء ، ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾ حينما شعر أن الموقف حرج جداً ، وأنها مصرِّة ، ما كان منه إلا أن استبق الباب ، واستبقا وليس استبق ، استبقا مثنى ، تسابقا هو وهي إلى الباب ؛ هو لينجو ، وهي لتقبض عليه لتحمله على الزنى ، أيضاً الاستباق مختلف ، لو أن الاستباق في سباق ، الهدف واحد وهو بلوغ الهدف ، أما هنا فله معنى آخر ، هو أراد بهذا الركض أن ينجو من الباب ، وهي أرادت أن تبقيه في الغرفة ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ﴾ طبعاً أدركته ، أمسكته من قميصه من خلفه فانجذب منها عنيفاً فتمزق القميص ، ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾ ومن غرائب الصدف أنّ زوجها جاء إليهما عن غير قصد ، ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ﴾ الله عز وجل قال :
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)﴾
[ سورة النساء ]
وقال : ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ .
الرفعة التي حصّلها يوسف عليه السلام بفضل موقفه الأخلاقي :
﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ﴾ هناك علماء استنبطوا أنها لا تحبه ، فرقوا بين الشهوة الجنسية وبين الحب الشريف ، لو أنها أحبته ما أوقعته في هذه الورطة الكبيرة ، إنها لا تحبه لنفسيته ، تحبه لشكله ، هذا حب شهواني ، هناك حب روحي ، وهناك حب شهواني ، والدليل أنه حينما امتنع منها أرادت أن تسحقه ، أن تجعله أمام زوجها خائناً ، أن يبدو لزوجها وقد خانه ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ :
﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) ﴾
[ سورة النساء ]
إلا في حالة واحدة ما هي ؟ ﴿ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ ، قال : ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ أنا بريء ، فإذا ظُلم أحد فلا ينبغي عليه أن يسكت ، وإلا يكون أحمق ، فلان فعل كذا ، ولست أنا ، إذا اتهمت أنك فعلت كذا وكذا ، ولم تفعل شيئاً فلان فعله ، قل : فلان ، أخي أنا لا أريد أن أغتابه ، هذه ليست غيبة ، إذا اتهمك أحدٌ تهمة باطلة ، وأنت بريء منها ، وفعلها إنسان آخر قل له : فلان فعلها ، قل له : لم أفعلها أنا ، فإن قال لك : لا أنت بالذات ، قل : فلان فعلها ، قال: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ يقولون : إنّ عزيز مصر ، هذه الطبقة الأرستقراطية الراقية عندها برود ، لا يوجد عندها غيرة ، قال لي : ماذا أفعل وجدت عندها شخصاً لا حول ولا قوة إلا بالله ، ما معنى لا حول الله ؟ أي برودة هذا ، هذا تلبد الحس ، يقول لك : خنزر فلان ، يبدو أنه يأكل لحم خنزير حتى خنزر ، تعجب العزيز ، هو أم هي ؟ استشار أحد المخلِصين له ، وكان قريباً لها ، ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا – انظروا إلى التحقيق الجنائي - إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ﴾ أي أقبل عليها فدفعته ﴿ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي هرب منها فتبعته فأمسكته فَقُدَّ قميصه من دبر ﴿ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ ﴾ هذا تحقيق ، الله علمنا التحقيق الجنائي ، ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ ما الذي فعله ؟ لا شيء ، أبقاها ، انزعج قليلاً من هذه الخيانة الزوجية ، ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28)يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ ﴾ أعرض عن هذا ، أي استرنا ، لا تتكلم بأي كلمة ، كل هذه الرفعة التي حصّلها هذا النبي الكريم بفضل هذا الموقف الأخلاقي ، كل هذه الرفعة بفضل هذه العفة ، شيء ثمين جداً أن تكون عفيفاً ، من السهل جداً أن يكون المرء دنيئاً ، ومن البطولة أن يكون عفيفاً ، لو أنه فعل ما دعته إليه ما كان سيدنا يوسف أساساً .
قال لي شخص قد حجّ في سن مبكرة ، فتح مكتبة بأحد أحياء دمشق أمام المكتبة ثانوية بنات ، قال لي : يظهر أنه يوجد بنت فاسقة جداً ، لا أهل لها ، معدومة التربية ، وقفت على المكتبة ضحك وابتسام ، وكلام وغزل ، وغمزته وغمزها ، فأغلق المحل ولحق بها ، قال لي في الطريق – القصة في المهاجرين ، كان هناك الترام - قلت لنفسي : أنا قد حججت أين سأذهب ؟ تذهب حجتك بعد ذلك ، يظهر أنه قد غلب عليه الورع ، وتصور حجته ، وكان هناك الترام ينزل ببطء فركب به ورجع ، هذا الإنسان أقسم بالله العظيم أنه في اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي فقال له : يا بني ، هل أنت متزوج ؟ فأجابه : لا ، فقال له : لك عندي فتاة تناسبك ، قال لي : ظننت أنّ عنده ابنة سوداء عوراء كتعاء عرجاء ، وقال لي : أرسل أهلك ليروها يا بني ، أرسل أهله فإذا هي قمة في الكمال والجمال ، في اليوم الثالث زاره مرة أخرى قال له : كيف وجدوها ؟ فقال له : والله يا سيدي على العين والرأس ، ولكن ليس معي أي شيء ، فقال له : هذا ليس عملك ، الرجل كان مليئاً ، ميسور الحال ، زوجه هذه الفتاة وشاركه في العمل ، وبعض معلوماتي الحديثة لا يزال حياً يرزق ، وهو أحد تجار الزيت الآن ، بفضل أنه قد ركب ( الترام) وعاد إلى المحل .
أحد الطلبة الكرام قال لي : مضي على تخرجي من الجامعة أربع أو خمس سنوات ، ولم يتمكن من الزواج ، فضاقت نفسه ، والزواج حاجة طبيعية ، ليس هناك بيوت ، ودخله محدود ، وقال لي : كنت في حماة أؤدي الخدمة الإلزامية – القصة قديمة - ولا يوجد باص للشام ، فركبت إلى حمص ، من حمص وجدت ميكرو باص فركبت به ، جلس بجانبي رجل ما عرفته ، بعد حوالي نصف ساعة من السير قال لي : ما اسمك الكريم ؟ قلت له : فلان ، سألني ماذا أعمل ؟ فأجبته بأني مُدَرّس ، فقال لي : هل أنت متزوج يا بني ؟ فقلت له : لا ، فقال له : أنا عندي بيت وزوجة لك ، شيء غريب ، قال لي : كان الدعاء بحماة ، بعد ساعة من الدعاء الله عز وجل استجاب لي ، أي إذا كان الإنسان عفيفاً عن محارم الله مع الله لا تضيع هذه العفة ، سوف تجد شيئاً يسعدك طوال الحياة ، تأتيك زوجة تسرك إذا نظرت إليها ، وتحفظك إذا غبت عنها ، وتطيعك إذا أمرتها ، وإذا شخص زلت قدمه يكون لا أخلاقي بعد ذلك ، يصبح وراء الناس ، هناك جارية عندما رأت سيدنا يوسف عزيز مصر ، وكانت تعرفه عندما كان عبداً هي كبيرة في السن ، قالت مقولتها الشهيرة : سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته ، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته .
هذه القصة ليست للمتعة ، لكنها للتطبيق ، كن عفيفاً ، غض بصرك عن محارم الله:
﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[ سورة الحجر ]
لا تنظر ، الله سبحانه وتعالى يكرمك ، ويجبرك ، ويسعدك إذا كففت عن محارمه. والحمد لله رب العالمين
المؤمن عفيف حيي :
هناك قول لا أعرف مدى صحته لكنه مكتوب في كتب التفاسير ، قالت له امرأة العزيز : ما أحسن صورة وجهك ! فقال يوسف عليه السلام : في الرحم صورني ربي ، قالت : ما أحسن شعرك ! قال : هو أول شيء يبلى مني في قبري ، قالت : ما أحسن عينيك ! قال : بهما أنظر إلى ربي ، قالت : ارفع بصرك وانظر في وجهي – معنى هذا أنه كان يغض بصره - قال : إني أخاف العمى في آخرتي ، قالت : أدنو منك وتبتعد مني ، قال : أريد بذلك القرب من ربي ، قالت : القيطون فرشته - أي السرير - قال : القيطون لا يسترني من ربي ، قالت : الفراش من حرير ، قال : يذهب بنصيبي من الجنة ، أي المؤمن الله أغلى عليه من كل شيء ، يحس بسعادة من عفته لا توصف والله ، ولا يعرفها إلا من ذاقها ، أما الشهواني ، العوام يعبرون عنه أنّ نفسه خضراء ، تجده دنيء النفس ، محتَقَراً ، تافهاً ، أما المؤمن فعفيف ، حيي ، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ، هكذا كان النبي الكريم.
الملف مدقق
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ