الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث من سورة نوح، ومع الآية الخامسة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً(15)﴾
علاقة هذه الآية بالتي قبلها:
وعلاقة هذه الآية بالتي قبلها وهي قوله تعالى:
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13)﴾
أي: مالكم لا ترجون رحمته ولا تخشون عذابه! الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ (56)﴾
أي: أهلٌ أن تَتّقِيَه، وأهلٌ أن ترجوه، أهلٌ أن تخطب وده، وأهلٌ أن تُفني عمرك من أجله، وأهلٌ أن يكون شبابك في سبيله، وأهلٌ أن يكون مالك في سبيله؛ مالك ووقتك وصحَّتك وجهدك وأولادك وتجارتك وخبرتك واختصاصك فهذه كلها يجب أن تبذلها في سبيل الله لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)﴾
حظوظ الدنيا ابتلاءات حيادية:
أيها الإخوة الكرام، إيَّاكم أن تتوهموا أنّ حظوظ الدنيا التي يتكرَّم الله بها على الإنسان هي نِعَم، هي حيادية، فهي ليست نِعَماً ولا نِقَمَاً ولكنها ابتلاء، فإذا وُظِّفت في الحق انقلبت إلى نِعَم، أما إذا وُظِّفَت في الباطل انقلبت إلى نِقَمْ، فالمال مثلاً سُلَّمٌ ترقى به أو دركاتٌ تهوي بها، والقوة سُلَّمٌ ترقى به أو دركاتٌ تهوي بها، والعلم إما أن يقودك إلى الله فتسعد بقربه، وإما أن يقودك إلى الكبر والاستعلاء والاعتداد بالنفس فيكون دركات يهوي بها إلى النار، فكل حظوظ الدنيا ليست نِعَماً ولا نِقَمَاً إنما هي ابتلاءات حياديةٌ موقوفة على نوع استخدامها.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ مالكم لا ترجون رحمته ببذل حظوظكم في سبيله، ومالكم لا تخافون عذابه باتقاء معصيته، والدليل:
﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً(14)﴾
انظر إلى خلق الإنسان، إن الأشياء المألوفة -أيها الإخوة- قد تُفرَّغُ من مضمونها، فهذا الطفل الذي بين يديك وهو ابنك، وأنت تعلم بالضبط كيف تمّ خلقه؛ من نقطةٍ من ماء دخلت إلى بويضة لَقَّحتها فانقسمت فزُرِعت في الرحم، إلى أن أصبحت جنيناً له دماغٌ وأجهزةٌ؛ جهاز هضمٍ، وجهاز دورانٍ، وجهاز إفرازٍ، وجهاز تنفسٍ، وعضلات، وأعصاب، وغدد صمَّاء وغير صماء، ثم يخرج هذا الطفل إلى حيِّز الدنيا، فينمو شيئاً فشيئاً، وتنمو مداركه وعضلاته، وتنمو عظامه ليصبح إنساناً سوياً.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ إن التفكر في خلق الإنسان -أيها الإخوة- جزءٌ من الدين، بل هو الدين نفسه، لأن المؤمن الصادق يتعرَّف إلى الله من خلال خلقه، فالكون بسماواته وأرضه بجباله وصحاريه، والأرض بجبالها وصحاريها، وسهولها، ووديانها، ونباتاتها، وأطيارها، وأسماكها، والبحار وما فيها، كلها آياتٌ دالةٌ على عظمة الله عزَّ وجل، فيمكن أن نقول: إن الكون أوسع بابٍ ندخل من خلاله إلى الله، وإن الكون أقصر طريقٍ إلى الله.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً*أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً﴾ المراد هنا هذه السماوات التي فوقنا، قال بعض العلماء: كلمة (سبعة) في اللغة تفيد التكثير لا العدد؛ أي: ما أكثر طبقات السماء التي فوقنا! فهناك سماء دنيا وسماء عُليا وسماء القمر وسماء الشمس وسماء السُحُب الفضائية، وسماوات لا يعلم عددها إلا الله، وأنتم -على كلٍ- تستمعون وتقرؤون عن إرسال مركبةً إلى القمر، وقد قطعت هذه المركبة ثلاثمائة وستين ألف كيلو متراً، ووصلت بعد ثلاثة أيامٍ، وقد كلَّفت أربعة وعشرين ألف مليون دولار، فماذا قطعنا في الفضاء الخارجي؟ لقد قطعنا ثانية ضوئية واحدة، فهناك ثانية ضوئية واحدة بين الأرض والقمر بالمسافات الضوئية، وبين الأرض والشمس هناك ثمانية دقائق،
والمجموعة الشمسية قطرها ثلاث عشرة ساعة، وهناك مجرة تبعد عنا أربع سنوات ضوئية وأقرب نجم ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، وهناك مجرة تبعد مليون سنة ضوئية، وأخرى تبعد أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، وثالثة بعدها ثلاثمائة ألف بليون سنة ضوئية، هذه السماوات.
بعض هذه المجَرَّات يسير بسرعةٍ قريبةٍ من سرعة الضوء؛ وهي مائتان وأربعون ألف كيلو متر في الساعة، وبعض العلماء يقول: الكون فيه مليون مليون مجرة تقريباً، والمجرة الواحدة فيها مليون مليون نجم، وما المجموعة الشمسية إلا نقطةٌ صغيرةٌ جداً على شكلٍ مِغْزَلي هو درب التبابنة،
ودرب التبابنة هو المجرة التي نوجد فيها، وهي مجرةٌ متواضعةٌ جداً.
قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً﴾ فأنت أيها الإنسان لم تُكلّف بمعرفة دقائق الكون بالتحديد والتفصيل، ولكنها لفتة من الله عزَّ وجل ينبِّهُك فيها إلى عظمة هذا الكون الذي فوقك، يقال عن مذنَّب هالي: إن هذا المذنب يعود إلى مكان انطلاقه كل اثنين وسبعين سنة،
ويمر إلى جانب الأرض، فحركات النجوم والمذنَّبات تجري بدقةٍ متناهية، فنظرة إلى السماء.
﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
هذه العين لا ترى من نجوم السماء إلا عشرة آلاف نجم تقريباً، بينما يوجد في الكون مليون مليون مجرة، والمجرة الواحدة فيها مليون مليون نجم؛ أي: مليون مليون ضرب مليون مليون، فهناك ستة أصفار في ستة في ستة في ستة، أي: أربعة وعشرين صفراً تقريباً.
﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً(16)﴾
الشمس والقمر من آيات الله الدالة على عظمته، وهذه الشمس المُتَّقدة التي مضى على اتقادها كما يقول بعض العلماء: خمسة آلاف مليون سنة، ويقولون أيضاً: إنها لن تنطفئ في تقديرهم قبل خمسة آلاف مليون سنة تقريباً، فمن أين تأتي الطاقة لهذه الشمس؟ كل شيءٍ يحتاج إلى طاقة، فمن أودع في الشمس هذه الطاقات؟ ومن جعل هذه الشمس بحجمٍ يزيد عن حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة؟ ومن جعل ألسنة اللهب على سطح الشمس تزيد على مليون كيلو متر؟ إن لسان اللَّهَب في أثناء الكسوف الكامل يغيّب قرص الشمس، وتبقى ألسنة اللهب على الجوانب، وهذه يتراوح طولها من نصف مليون كيلو متر إلى مليون كيلو متر،
وقد قَدَّر بعض العلماء أن حرارة الشمس على سطحها ستة آلاف درجة، بينما في وسطها عشرين مليون درجة، فلو أُلقيت الأرض في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة.
والشمس تتسع لمليون وثلاثمائة ألف أرض،
قال تعالى:
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ فلولا الشمس لمَا كان هناك حياة إطلاقاً، ولو أن الأرض سارت بعيدةً عن الشمس لدخلت في التجمُّد العام، فتصبح حرارتها ثلاثمائة وخمسين درجة تحت الصفر فتنتهي الحياة على سطح الأرض لذلك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾
ولو أن الأرض زالت عن مسارها حول الشمس، واتجهت مستقيمةً بعيدةً عن الشمس، لدخلت الأرض في التجَمُّد الكامل ولانتهت الحياة من على سطحها، فما الذي يشدها إلى الشمس؟ إنه جاذبية الشمس لها، وما جاذبية الشمس لها؟ إنها قدرة الله أودعها في الكون، فلو تفلَّتت الأرض من قرص الشمس وأردنا أن نعيدها نظرياً، لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، قطر الحبل خمسة أمتار، وقوة شد الحبل اثنين مليون طن، فالأرض مربوطة بالشمس بقوة تساوي مليون مليون ضرب (×) اثنين مليون، فلو زرعنا هذه الحبال على سطح الأرض المقابل للشمس لكان بين الحبلين مسافة حبلٍ واحد، فنصبح أمام غابة من الحبال تعيق الحركة والبناء والزراعة والتنقُّل وما إلى ذلك.
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلْآيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾
إذاً، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً﴾ قوة إضاءة القمر هي واحد على ثمانية عشر جزءاً من مائة من أشعة الشمس،
ففي أيام الليالي المقمرة تكون الطرقات واضحة تماماً، فالله جعل القمر نوراً،
﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ وضَّاءً.
﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً(17)﴾
انظر إلى طفل يزن ثلاثة كيلو يشرب حليباً، وبعد حين يأكل بعض الفواكه والبقول، وبعض أنواع الطعام، فيصير وزنه أربعة كيلو، خمسة كيلو، ستة، سبعة.. إلى ستين ثم سبعين ثم ثمانين، لقد جاء إلى الدنيا بثلاثة كيلو، فصار ثمانين، فمن أين جاءت سبعة وسبعين الكيلو هذه؟ لقد جاءت من نبات الأرض والطعام الذي يأكله نبات، والنبات يبدأ صغيراً، ثم يكبر ويكبر ويكبر، فماذا تفعل أنت؟ إنك تسقي هذا النبات بالماء، وهذا الماء تذوب فيه المعادن التي في التربة، فيمدُّ النبات بالغذاء وبالمعادن فينمو النبات،
وكأن في الكون وحدة كاملة بين أنواع المخلوقات، فالحيوان ينبُت، والإنسان ينبت، والنبات ينبت، إلا أن الجماد، يشغل حيزاً ولا يتحرَّك ولا ينمو، بينما يشغل النبات حيزاً وينمو، ويشغل الحيوان حيزاً وينمو ويتحرَّك، والإنسان يشغل حيزاً وينمو ويتحرَّك ويفكِّر، فأسمى شيء في الإنسان هو هذه القوة الإدراكية التي أودعها الله فيه، فإذا عطَّلها عَطَّل إنسانيته وعاد إلى مستوى البهيمة، والإنسان من دون علم كالبهيمة تماماً، وقد كرَّم الله عزَّ وجل الإنسان بالقوة الإدراكية، وكرَّمه بالبيان..
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾
فالقوة الإدراكية من أجل أن يعرف الله، والبيان من أجل أن يعرِّف الناس بالله عزَّ وجل، فحينما يتعرَّف إلى الله ويعرِّف الناس بالله عزَّ وجل فقد حقق الهدف الأمثل من خلق هذه القوة الإدراكية، ومن خلق هذا البيان الفصيح.
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً﴾ والحقيقة أن تطوّر الإنسان شيء عجيب، فالطفل يولد، ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد تفضَّل على الإنسان بما يسميه العلماء: (منعكس المَصْ) لمات الإنسان، و(المنعكس): مصطلح علمي،
فالإنسان أحياناً تصيب يده دخينةٌ (شرارة) فيسحبها سريعاً قبل أن يعرف ما الذي أحرق يده، وقال علماء التشريح: هذا المؤثِّر قد وصل إلى النخاع الشوكي، والنخاع الشوكي أعطى أمراً بسحب اليد مباشرةً دون أن يصل الأمر إلى الدماغ، فأسرع استجابة هي استجابة المنعكس الشرطي،
وهذا من رحمة الله بالإنسان، وضماناً لسلامته، فأحياناً يحتاج الإنسان إلى أن يتحرَّك قبل أن يدرك، فلو أن إنساناً مَسَّت يده طرف مدفأةٍ مشتعلة فإنه يسحبها قبل أن يفكِّر في أسرع من لمح البصر، لأن العلماء قالوا: حينما يأتي هذا الأثر الحراري الذي يصل عن طريق الحس إلى الدماغ ، وإلى أن يصل إلى الدماغ وإلى أن يفكِّر الدماغ ما هذا الذي أحرق اليد؟ ثم يعطي أمراً بسحب اليد تكون اليد قد احترقت، لذلك جَهَّز الله الإنسان بآليةٍ دقيقةٍ جداً سريعةٍ جداً،
آلية إسعافية ، فإذا جاء أثر خطر إلى الجسم، فالنخاع الشوكي هو الذي يَرُدُّ على هذا الأثر باستجابةٍ عضلية، فالإنسان يسحب يده قبل أن يعرف ما الذي أحرق يده.
مَهَّدت هذا التمهيد لأصل معكم إلى هذا الطفل الذي ولد الآن، فهل تستطيع أن تعلِّم هذا الوليد لتوِّه كيف يَمُصُّ الحليب من ثدي أمه؟ قل له: يا بني يا حبيبي ضع شفتيك على حلمة ثدي أمك وأغلقهما تماماً ثم اسحب الهواء، هل بإمكانك أن تعلِّمه؟ لولا هذا المنعكس الذي خلقه الله في الإنسان لما كنا في هذا المسجد، ولمَا رأيت على ظهر الأرض إنساناً، فالإنسان مُجَهَّز، فتراه يضع شفتيه على ثدي أمه منذ أن يولد، ثم يحكم إغلاقهما ويسحب الهواء فيأتي معه الحليب، هذا المنعكس سماه علماء نفس الطفل: (منعكس المص) ، لولا هذا المنعكس لما عاش إنسان على وجه الأرض.
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾
النجدان هما الثديان، فطعامه معقَّم، ساخن في الشتاء، بارد في الصيف، وفيه كل مناعة الأم، كما يوجد فيه مواد مضادة للجراثيم، ومواد مضادة للتعفنات المعوية، ومواد تسرِّع الهضم، وحليب الأم لا يبقى في المعدة أكثر من ساعة أو أقل، بينما يبقى حليب القوارير ثلاث ساعات، فالله عزَّ وجل خلق الإنسان وخلق له طعامه المعقَّم،
فالأم التي تطعم وليدها من حليب القوارير تحتاج إلى أن تعقِّم الحليب عن طريق الغليان، ثم تبرِّده كي يطيقه جسمه، وبينما تفعل ذلك يموت الطفل من شدة البكاء، لكن حليب الأم جاهزٌ في تعقيمه، وحرارته، بل إن العلماء اكتشفوا الآن أن حليب الأم تتبدَّل نسبه في أثناء الرضعة الواحدة، فنسبة الماء في أوَّل الإرضاع ستون في المائة، وحينما ينتهي من الرضاع تكون نسبة الماء أربعين بالمائة، يزداد تركيزه، فتتبدل نسبه في الرضعة الواحدة، فكيف في اليوم الواحد؟ في كل يوم له نِسَب خاصة
﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً*وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً* وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً﴾ .
الطفل لا يستطيع الأكل، فليس في فمه أسنان، ولو كان في فمه أسنان ولا يعرف ما معنى القطع، فعضّ على ثدي أمه لقطع حلمة الثدي، ولكن رحمة الله جعلت هذا الطفل بلا أسنان، ثم ينبت الله له أسنان لبنية تتناسب مع بنيته اللطيفة،
فإذا كَبُر نبتت له أسنان أساسية، فمن رَتَّب هذا الترتيب؟
إن الطفل يمشي ويتحرك، فهو في أول الأمر لا يستطيع أن يمشي، فينشأ له جهاز التوازن، ولو وضعت على ركبتك طفلاً عمره ثلاثة أشهر فما دون لمَالَ ووقع، لكنه إن مال بعد ثلاثة أشهرٍ قليلاً فإنه يعدِّل جلسته، فقد عمل جهاز التوازن عملاً دقيقاً جداً..
﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً(17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً(18)﴾
ففي بيت يولد مولود، وفي بيت يموت إنسان، فالمَيِّت يذهبون به إلى القبر، والمولود يطعمونه ويسقونه حتى يكبر، فكأن هذا النبات نما، فلما كبر يبس وعاد إلى الأرض وتحلل مع تراب الأرض..
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ جاء بكم إلى الدنيا ليمتحنكم، ثم يعيدكم فيها ليحاسبكم، ويخرجكم في النهاية إخراجاً لتَلْقَوا نتيجة أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فالله عزَّ وجل قال: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ وقد بيّن لك من هو الله؟ فهو الذي ﴿خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً﴾ ، وهو الذي ﴿جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ ، وهو الذي ﴿أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً﴾ ، وهو الذي يعيدكم فيها، وهو الذي يميتكم ويخرجكم إخراجاً، وهو الذي:
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً(19)﴾
فالأرض مستوية ومستقرة..
الأرض مستقرة وهي متحركة !!
﴿ أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنْهَٰرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61) ﴾
لو أنها ليست مستقرة لما قام بناءٌ على وجه الأرض، فالأرض تدور حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، فإذا مضى علينا عشر ثوان تكون الشمس قد دارت ثلاثمائة كيلو متر، فإذا مضى علينا دقيقة؛ أي: ستون ضرب ثلاثين، فالناتج يساوي ألفاً وثمانمائة كيلو متراً في الدقيقة، والناتج في عشر دقائق هو ثمانية عشر ألف كيلو متر، فإذا كنا قد بدأنا الدرس قبل عشر دقائق فقد قطعنا في الفضاء الخارجي ثمانية عشر ألف كيلو متر، ونحن بدأنا من ثلث ساعة، أو من نصف ساعة،، فمعنى هذا أننا قطعنا ما يعادل مائتين وأربعين ألف كيلو متر، وذلك من قول: (بسم الله الرحمن الرحيم)، حتى الآن، ومع ذلك فإن الأرض مستقرة، والآن لا توجد مركبة في الأرض إلا وتهتز، فالطائرة تهتز، والسيارة والقطار، وكل شيءٍ يتحرك يهتز، لكن صنعة ربنا عزَّ وجل..
﴿ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ ۚ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)﴾
والأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، وأعلى طائرة وهي النفاثة تطير بسرعة تسعمائة كيلو متر، وقد ركبت طائرات كثيرة، فيها ثمانمائة وسبعمائة وخمسين، ستمائة وتسعمائة، وهي حالة نادرة جداً، وهي ترتفع إلى أعالي الجو، وأسرع طائرة يركبها الإنسان تبلغ سرعتها تسعمائة كيلو متر في الساعة، والأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر، والهواء مُتمِّم لها، يدور معها، فلو كان الهواء ثابتاً لنشأ من دورتها حول نفسها أعاصير لا تبقي شيئاً على سطحها، فالأعاصير المدمرة الآن التي تقتلع المدينة من جذورها سرعتها في الساعة تسعمائة، ولو كنا على سرعة مائتين وخمسين لانهدمت الأبنية، والهواء على سرعة مائتين وخمسين كيلو متر يهدم أبنية وجدران ويقلع أشجار، وعلى مائة وخمسة وعشرين فيه أذى، فعلى سرعة مائة وخمسة وعشرين يحدث انهدام للبيوت والجدران، واقتلاع للأشجار، فكيف يكون الحال على سرعة تسعمائة؟ وكيف هو على سرعة ألف وستمائة؟ ولو كان الهواء ثابتاً والأرض تدور، لنشأ من دورتها وثبات الهواء رياحٌ عاتية لا تبقي ولا تذر، فالأرض تدور، وهي مع دورتها حول نفسها ومع دورتها حول الشمس مستقرة ثابتة.
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾ مستقرة وهي متحركة، وهذا شيء عظيم جداً، ومع ذلك تنجذب الأجسام إليها، ولا تستقر إلا عليها، وهذه من نِعَمِ الله العظمى، بينما روّاد القمر حينما يصلون إلى مكانٍ بين الأرض والقمر تنعدم فيه الجاذبية، والحياة هناك لا تُطاق؛ فيستيقظ أحدهم فيرى نفسه في سقف المركبة، لأنه ليس له وزن، فيمسك الأداة فتطير منه، وحياة روَّاد الفضاء في مكان انعدام الجاذبية لا تحتمل،
أما الشيء الذي له وزن فإنك تضعه فيستقر، وهذه نعمةٌ عظمى لا يعرفها إلا مَن فقدها، وهي نعمة استقرار الأشياء على سطح الأرض، إذاً:
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً﴾ مُمهَّدة، لو كانت الجبال حادة فهل يمكننا أن نعيش عليها؟ لكن هناك سهول وجبال انحدارها معقول، يمكن أن تصير مدرجات، وهناك وديان وصحارى وأغوار، أما لو كان في الأرض صخور بازلتية مُسنَّنة حادة فكيف نعيش عليها؟ وكيف نأكل منها؟ من مهَّدها؟ لقد جعل الله الجبال والوديان والسهول والممرات بين الجبال والقنوات والترع والبحار والأنهار.
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً﴾ أي: مبسوطة أمامكم، وهي كروية لكنك تراها مُنْبَسِطَة.
﴿ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً(20)﴾
أي: جعل ممرات، فبين الجبلَين تجد وادياً، والوادي له ممر إلى سهل، والسهل يساير البحر، ومن حين لآخر ينحسم الجبل فينشأ طريق بين الساحل البحري والداخل، فمَن صمّم هذه الطرق، وهذه الجبال، وهذه الوديان؟
﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21)﴾
كل هذه الآيات هي تعقيب على قوله تعالى:
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ أي: هذا الذي يدعوكم نوحٌ إلى عبادته هل تعرفونه من هو؟ هو الذي
﴿خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً﴾ ، وهو الذي
﴿جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ وهو الذي
﴿أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً﴾ ، وهو الذي سيميتكم ثم يحيكم، هو الذي جعل هذه الأرض ممهدة، فلو أن الأرض خُلِقت كما هي بلا ماء فكيف نعيش عليها؟ إنك لن تجد تجمعاً سكانياً إلا وفيه نبع، وفي إندونيسيا أربعة آلاف جزيرة، لكل جزيرةٍ نبع ماء، وماذا يعني أن يكون في الجزيرة نبع ماء؟ أي: إن هناك تمديدات من تحت سطح البحر، وهناك مستودعات في الجبال في اليابسة، فلا يمكن أن يُفَسَّر النبع في الجزيرة إلا بهذه الحقيقة،
وهناك مستودعات للمياه في قمم الجبال، وهناك تمديدات من تحت سطح البحر إلى هذه الجزيرة، فربنا عزَّ وجل يَسَّر الهواء في كل مكان، ويسَّر الماء في مُعْظَم الأمكنة، وجعل التربة تنبت، فالعبرة في أن الله هو الذي صمم الهواء، وصمم الماء، والتربة، والبذور، والنباتات، والمعادن، وأشباه المعادن، والحيوانات، والأسماك، والأطيار.
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ لقد اتبعوا الأغنياء واتبعوا الأقوياء وهذا شأن الغافلين، بينما يتبع المؤمنون العلماء الذين يدلونهم على الله عزَّ وجل.
﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا (28)﴾
بالمقابل ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ فالإنسان المؤمن لا يصاحب إلا مؤمناً، ولا يستشير إلا مؤمناً، ولا يستنصح إلا مؤمناً، ولا يقبل نصيحةً إلا بالدليل، فما حُكم الشرع في هذا؟ وما الدليل؟ وما الآية؟ وما الحديث؟ (إن هذا العِلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) .
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ كما قلت في بداية الدرس: إن المال يزيد الإنسان رفعةً عند الله إذا أُنْفِقَ في طاعة الله، ويزيد الإنسان خسارةً يوم القيامة إذا أنفق في معصية الله، فإذا أنجبت مولوداً فإن هذا المولود يزيدك رفعةً عند الله إذا دلَلْته على الله، ويزيدك خسارةً عند الله إذا أطلقته إلى المعاصي والآثام، فالمال والبنون إمَّا أن ترقى بنا، وإما أن تهوي بنا، لأن الكافر يربِّي ابنه على الكفر، والعاصي يربِّيه على المعصية، والمُنْحَرِفْ يربيه على الانحراف، لذلك الكافر كما قال سيدنا نوح:
﴿ إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارًا (27)﴾
قال تعالى:
﴿ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱلْبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)﴾
إلا أن المال والبنين إذا استعملا في طاعة الله كانا سُلَّماً لك إلى الله، أما إذا استُعمِلا في معصية الله فهما وقود للإنسان في النار.
﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ المعنى الآخر لهذه الآية، ينبغي إذا كان معك مال أن يزيدك المال رفعةً عند الله، وينبغي إن كان لك ولد أن يزيدك هذا الولد رفعةً عند الله، فالمال بإنفاقه والولد بتربيته، والمال بتوظيفه في الحق، والولد بتربيته التربية الإسلامية الصحيحة، وعوام الناس- أيها الإخوة -يُؤخَذون بالمال والقوة والجمال، بينما يُؤخَذ المؤمنون بالعلم والعمل، وفي القرآن قِيَم، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)﴾
وفي القرآن قيم أخرى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾
فالقيم التي اعتمدها القرآن كَمُرَجِّحات بين خلقه هي قيم العلم والعمل، والدليل واضح ﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أما الناس فهم يعظِّمون أصحاب الأموال، وأصحاب السلطان، ويعظمون من آتاه الله شكلاً بارعاً جميلاً، لكن المؤمن يتَّقي الله عزَّ وجل فلا يوالي إلا المؤمن.
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ هذه الآية لها تطبيق عملي، فأنت -أيها الأخ الكريم- ما الذي يستهويك؟ هل يستهويك رجل علم يعلِّمُكَ مما علمه الله؛ يعلمك الآداب والأحكام والقرآن وسِيرة النبي العدنان، أم يستهويك إنسان يعلمك السقوط، والانحراف، والانغماس في الملذات والشهوات؟ والإنسان يُغَذَّى، فانظر ما الذي يغَذِّيك؟ فهذه الأوعية التي يستعملها الناس للماء لها فتحةٌ علوية ولها صنبور سُفلي، فالذي يوضَع فيها من فتحتها العلوية تجده في الصنبور السُفلي، فلو ملأتها ماءً قُراحاً، أخذت منها الماء القُراح، ولو ملأتها ماءً ملوَّثاً أخذت منها الماء الملوَّث، ولو ملأتها شراباً طَيباً أخذت منها الشراب الطَيِّب، فالإنسان ينظر من أين أتغذَّى ثقافياً؟ هذا الذي يتغذَّى عن طريق أجهزة اللهو، وعن طريق أخبار الساقطين والساقطات الأحياء منهم والأموات، هذا الإنسان يغذِّي نفسه تغذيةً رديئة، فماذا يتكلم إذا أراد الكلام؟ أما إذا كان التغذية تغذية إيمان وقرآن وسنة وفضيلة وبطولات، فهذا الإنسان يخرج منه البطولات، فإذا التفتنا إلى أهل الدنيا وإلى انغماسهم في الملذَّات وقلَّدناهم هلكنا.
﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ فإذا سمحنا لأعمال فنية ساقطة أن تربي أولادنا فماذا يوجد في العمل الفني الساقط؟ هناك خيانة زوجية وتفلُّت وشرب خمر واختلاط واحتيال وكذب وسقوط ودناءة.
﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً(21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً(22)﴾
﴿ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾
الكافر دائماً يهيّئ خِططاً لإطفاء نور الله، ولإبطال الحق، إنه لا يستطيع ذلك، ولكن الله عزَّ وجل يعطيه فرصةً ليكشف عن مَكْنونه، ليعبِّر عن ذاته، ليأخذ أبعاده، لكن الله سبحانه وتعالى يُفْشِلُ عمله، وقد قال الله عزَّ وجل:
﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ(12)﴾
وقال:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
﴿وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً﴾ لا تقلق على دين الله عزَّ وجل إنه دينه، ولكن اقلق هل سمح الله لك أن تنصره أم لم يسمح؟ هل منحك الله شرف نصر دينه أم لم يُعْطِكَ هذا الشرف؟ فقط.
﴿ وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً(22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23)﴾
هذه الأصنام التي كانوا يعبدُها الجاهليون، هي خشبة أو تمر، إنها صنم من تمر لما جاعوا أكلوه، أو حجر، إنها أسماء ما أنزل الله بها من سُلطان، قال بعض المفسِّرين: إنهم رجالٌ صالحون لمّا ماتوا نصبوا لهم تماثيل، وبعد حين عبدوها من دون الله، وحينما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى وقف الصديق رضي الله عنه، وما على وجه الأرض أحدٌ يحبُّ رسول الله كَحُبِّ الصديق، ومع ذلك قال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت" . فالخطر أن نتخذ الأولياء آلهة نعبدهم من دون الله، فكل تعظيم للأشخاص يُفْضي إلى عبادتهم وإلى تقديسهم كما يُقَدَّس الإله هذا طريق إلى الشرك، لذلك حسم سيدنا الصديق الموقف وقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت" فهذه أسماء الأصنام التي كانت تُعبَد في الجاهلية من دون الله، لها قصصٌ طويلة قد لا تغنينا شيئاً، إلا أن الذي نستفيده منها فيما يروي بعض المفسرين، وفيما ورد في الأثر، أنهم كانوا رجالاً صالحين لما ماتوا أراد قومهم أن يذكروهم دائماً، فصنعوا لهم تماثيل، بعد حين ضاع العِلم فظنوهم آلهة فعبدوهم من دون الله.
﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً(24)﴾
وسيدنا نوح لما أبلغه ربنا عزَّ وجل قال له:
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)﴾
وبعد هذا الإعلام من الله عزَّ وجل.
﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26)﴾
الآية التي قبلها:
﴿ مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمۡ أُغۡرِقُواْ فَأُدۡخِلُواْ نَارٗا فَلَمۡ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارًا (25)﴾
أي بسبب خطيئاتهم أُغرِقوا ﴿فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً﴾ وكل إنسان يقع في الخطأ ويعصي، ويجحد، ويجهل، ويقترف الآثام، ويموت كافراً فهو من حياةٍ كلها شقاء إلى موتٍ حاسم إلى جهنم وبئس المصير، هكذا.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً*وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ طبعاً لكي نفهم الآية لا بد أن نعلم أن الله أعلمه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، إذاً يا ربي حياتهم لا تجدي.
﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً(26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27)﴾
أي: إن الكفار الله عزَّ وجل وصفهم في آية، فقال:
﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)﴾
وقد رأيتم وسمعتم قبل أسبوع عن وفاة إنسانة غارقة في الفساد والفسق والفجور والعصيان والزنى، وقد سار في جنازتها سبعة ملايين إنسان، وعظتَّمها كل دول العالم، وأرسلت وفوداً لتشييع الجنازة، وهي تعترف بمؤتمر صحفي أنها زنت مع فلان، ومع فلان، ومع فلان، ومع فلان، سبع حالات، هذا هو مجتمع الغرب، مجتمع الكفر والفسق والفجور.
﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً(24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً(25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً(26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27)﴾
أي: إن ثقافتهم ثقافة زنى، ثقافة فُحْش، ثقافة إباحيَّة، ثقافة أمراض، ثقافة شذوذ، هذه ثقافتهم، وطرحُهم الفكري لا يوجد فيه إلا الدنيا، فيقال لك: هذا عِلماني لا يؤمن إلا بالمادة ولا يؤمن إلا بهذه الحياة فقط، ولا يؤمن إلا بالشهوة، ولا يؤمن إلا بالمال، ويَكْسِبُ المال من أي طريق، وينغمس في أية شهوة، ولا يعبأ بشيء.
﴿ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً(27) رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا(28)﴾
طبعاً والداه كانا مؤمنَين كما يقولُ المفسرون ﴿وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا﴾ أي: خساراً.
يا أيها الإخوة، هذه ليست قِصَّة هذه موعظة، هذه حقيقة تتكرر، إن كل مجتمع فسق، وفجر، وانحرف، وكفر، يُهْلَكْ ويشقى وهو إلى جهنم وبئس المصير.
﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً(58)﴾
إذا لم يستقم الإنسان أصبحت أمامه مشكلة كبيرة، وقد كنت أضرب مثلاً فأقول: نحن في مسرح، فهناك مقاعد للمشاهدين وخشبة مسرح، وكل إنسان مستقيم له مكانٌ مع المشاهدين، والمستقيم يستمع إلى قصص غريبة ونادرة وصحيحة وكاذبة، قد تُصدَّق وقد لا تصدق، أما إن لم يكن مستقيماً فلا بدَّ من أن يُجَرَّ إلى خشبة المسرح، ولا بدَّ من أن تنزل به نازلة، ولا بدَّ من أن يصبح قصةً هو نفسه، فهذه قصة أمامنا، كيف أهلك الله قوم نوح، وعندنا هلاك جزئي، فقد تجد إنساناً فسق وفجر وأسس ملهى وأحضر كل الساقطات للملهى، وبعد افتتاحه بأسبوع مات.
﴿فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾ الذين يبنون رزقهم على المعاصي والآثام، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، الذين يبنون مجدهم على أنقاض الناس، هؤلاء جميعاً يموتون، وسبحان من قهر عباده بالموت ثم يدخلون إلى النار وبئس المصير، هذه ليس قصة، بل هي حقيقة متكررة، فالإنسان عليه أن ينتبه، وعليه أن يعرف الله وأن يعرف منهجه، وأن يستقيم على أمره لئلا يكون كما قال الله عن قوم نوح، هؤلاء الذين عصَوا، وطغَوا، وعتَوا، وفجروا ثم أهلكهم الله عزَّ وجل وصاروا إلى النار وبئس المصير.
الملف مدقق