الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة نوح، ومع الآية الكريمة الخامسة وهي قوله تعالى:
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5)﴾
الدعوة إلى الله مهمة كل مؤمن:
أيها الإخوة الكرام، إنّ الأنبياء والرسل مُكلَّفون بالدعوة إلى الله، وقد أعطاهم الله المُعْجِزات، فمهمَّتهم الأولى الدعوة إلى الله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً(46)﴾
ولكن الأنبياء دعاةٌ إلى الله، وقد أُعطوا المعجزات، وأُمِروا أن يتحدَّوا بها أقوامهم، ولكن ما حال المؤمن في الدعوة إلى الله؟ إنه كلامٌ دقيقٌ جداً، سأضع بين أيديكم الآيات وأنتم تكشِفون الحقيقة بأنفسكم، قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
إن الإنسان -أي إنسان- خاسرٌ خسارةً محقَّقة لا محالة، ولا ينجو من هذه الخسارة إلا بأربعة أشياء؛ أن يؤمن بالله، وأن يطيعه في أمره ونهيه، وأن يدعو إليه، وأن يصبر على معالجته، فمَن طبَّق هذه الأربعة نجا، ومن لم يطبِّقها هلَكَ، فرُبْع النجاة في التواصّي بالحق، لكن لماذا جعل الله هذه الأمة التي نرجو الله أن نكون منها خير أمَّة؟ قال:
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(110)﴾
علَّة هذه الخيرية: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ لو أنّ الإنسان أعرضَ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لانتمى إلى أمةٍ ثانية، وهي أمة التبليغ لا إلى أمة الاستجابة، فلا يحقُّ لك أن تقول: أنا من أمة محمدٍ، وأن تفتخر بهذا الانتماء، وأن تتوهَّم أنك من أمةٍ خيِّرَةٍ بل هي خير أمة أُخرِجت للناس إلا بسببٍ واحد هو: الاستجابة لله ورسوله إذا دعانا لما يحينا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
إن الحياة التي أرادها الله والتي خُلِقنا من أجلها، والتي صمِّمت من أجلنا، والتي تليق بنا، والتي تليق بإنسانيَّتنا هي الحياة في طاعة الله ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ نحن إن استجبنا لله وللرسول كنَّا من أمة محمدٍ الخَيِّرة التي هي خير أمةٍ أُخرِجت للناس، فإن لم نستجب فنحن من أمة التبليغ وليس لنا عند الله أية ميّزة..
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
أي: ليس لكم عند الله شيئاً، وحينما أرى المسلمين يعانون ما يعانون أقول: هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، فإن أردت أن تكون عند الله مُكرَّماً فليكن أمر الله عندك مُكرَّماً.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾
إن أردت أن تكون عند الله مُكرَّماً فأطِع الله يرفعْ من شأنك ويُعلي قدرك ويمنعك من عدوِّك.
أيها الإخوة الكرام، إننا لا ننجو من الخسارة المحقَّقة إلا بالإيمان بالله وطاعته، والتواصي بالحق، فلو أهملنا هذا كنَّا في خسارةٍ محقَّقة.
فقد أرسل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلَّم شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله، والمؤمن من أجل أن ينجو من الهلاك المحقَّق، ومن الخسارة المُحقَّقة يجب أن يتواصى بالحق ، كما يجب عليه أن يتواصى بالصبر، وهذه واحدة..
الشيء الثاني:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31)﴾
ربنا عزَّ وجل لم يرضَ منّا أن ندَّعي محبَّته إلا إذا قدَّمنا الدليل، والدليل هو طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ .
الدعوة إلى الله دليل محبته:
الآن دقق..
﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
والله -أيها الإخوة -هذه الآية وحدها تقصِم الظهر: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ واضحة، جليّة، قال عليه السلام:
(( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك. ))
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ بالدليل، بالتعليل، بالكتاب والسنة ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فالذي لا يدعو إلى الله ليس مُتَّبِعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، وما دام ليس مُتَّبِعاً للنبي فإنه لا يحب الله عزَّ وجل.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ الشيء خطير هو أنك إن لم تدعُ إلى الله على بصيرة فأنت لست متَّبعاً لرسول الله، وإن لم تكن متَّبعاً للنبي عليه الصلاة والسلام فأنت لست محبَّاً لله، وإن دعوت إلى الله على غير بصيرة وبلا دليل؛ بخرافة، بكرامة، بمنام، بشطحة، فهل تعد داعية إلى الله؟ لا، لأنك دعوت إلى ذاتك بدعوةٍ مغلَّفةٍ بدعوةٍ إلى الله، وأيضاً لن تنجو من الله عزَّ وجل.
إن الدعوة إلى الله لا تُقبَل إلا بشرطين؛ أن تكون خالصةً لله عزَّ وجل، وأن تكون موافقةً لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، خالصة: ما ابتغي بها وجه الله عزَّ وجل، وصواباً: ما وافقت السُنَّة.
إذاً هناك ثلاث آيات:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ علامة محبَّته اتباع نبيه، من اتباع نبيه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فالدعوة ينبغي أن تكون على بصيرة، ومعنى ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ ؛ أي: وفق الدليل، ووفق التعليل، ووفق السند الصحيح، ووفق النصّ الذي جاء من عند الله عزَّ وجل، بدعوة علمية منهجية مستندة إلى صخرة راسخة وإلى أرضيةٍ راسخة وإلى حقيقة.
أيها الإخوة الكرام، قال صلى الله عليه وسلم:
(( ذُرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . ))
[ مسند أحمد: عن معاذ بن جبل ]
أي: أعلى شيء في الإسلام هو الجهاد، والجهاد غير القتال، بل كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ فَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًا كَبِيرًا(52)﴾
أي: بالقرآن بتعلُّمه وتعليمه ﴿جِهَاداً كَبِيراً﴾ وسمَّى الله الجهاد جهاد تعليم القرآن الكريم جهاداً كبيراً، وهذا جهادٌ متاحٌ لنا جميعاً، فهل يمنعك أحدٌ من أن تقرأ القرآن؟ بالعكس هناك من يشجِّعك إذا تعلَّمت القرآن وعلَّمته، أليس هذا متاحاً لنا؟ هذا جهادٌ كبير، والجهاد ذروة سنام الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق. ))
فأي واحد يحضر مجالس العلم لكنه لا يفكِّر أبداً أن ينصح الناس، ولا أن يُلقي العلم على الناس، ولا أن يأخذ بيد الناس إلى الله، ولا أن ينصح أخاه أو صديقه أو جاره أو ابنه أو أباه أو أقرب الناس إليه، فلم يدعُ إلى الله، ولم يحدث نفسه في الدعوة إلى الله فإنه إن مات مات على ثلمةٍ من النفاق.
الدعوة الشاملة فرض كفاية:
لكن الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية إذا قام به البعض سقطت عن الكل، هي الدعوة إلى الله الشاملة والواسعة، والقادرة على أن ترّد على كل الشُّبَه وأن تأتي بكل التفاصيل والأدلّة، فهذه الدعوة إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، وذلك كحال إنسان متخصص بالفكر الغربي وما فيه من شُبهات ضدَّ الإسلام، وعنده ردودٌ على كل هذه الشبهات، فهذا فرض كفاية، لكن المؤمن مُكلف بالدعوة في حدود ما يعلم وهذا فرض عين، ولا تنسَ الآيتين، الأولى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ وفيها ربع النجاة، ولا تنس الآية الثانية: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فعلامة محبتك لله اتباعك لرسول الله، ومن أَجَلِّ أنواع الاتباع أن تدعو إلى الله على بصيرة في حدود ما تعلم، ومع مَن تعرف؛ خاصَّة نفسك؛ أي: أهلك، أقرباؤك، جيرانك بالسكن وجيرانك بالعمل، فلو دعا كل إنسان إلى الله في حدود خاصَّة نفسه لما وجدت مشكلة، لأن هؤلاء يعرفهم ويعرفوه، فإذا كان لك أخ كريم، أو ابن عم، أو صديق، أو صهر، أو جار أو زميل عمل فبيَّنت له آية أو حديث، أو بينت له علّة وجودنا، وغاية وجودنا، ودعوته إلى الله بلطف وأدب و بالموعظة الحسنة، فاستقام على أمر الله وسار في طريق الحق فقد انطبق على هذا الشخص حديث:
(( أنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))
فهذه صَنعة الأنبياء، وهذا العمل لا يُقدَّر بثمن؛ لأنك تسعد به إلى أبد الآبدين، ودقق دائماً في هذه القاعدة: مات إنسان وغُسِّل وكُفِّن ومشَت جنازته وأُدخِل في قبره، فماذا ينفعه في القبر؟ إذا كان بيته مثلاً أربعمائة متر، فهل ينفعه؟ لا، وإذا كان يسكن في كوخ فهل يضرَّه؟ لا، فكوخ أربعين متر أو قصر أربعمائة متر، هما في القبر سواء، فإذا كان الإنسان من أكبر الأغنياء أو من أفقر الفقراء فهل يرفعه غناه في القبر أو يخفضه فقره في القبر؟ لا، فما الذي ينفعك في القبر؟ وما الذي تلقى الله به؟ ما الذي تقابل الله به؟ وما الذي يبيِّض وجهك وأنت بين يدي الله عزَّ وجل؟ طاعته ومحبَّته وخدمة عباده والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلُّم كتابه وتعليم كتابه، وتفقُّد المساكين والعطف على الفقراء، ودفع المال في سبيل الله، فهذا الذي ينفعك وأنت في القبر، فشفير القبر هو الحد الفاصل، فكل عملٍ يستمرّ معك إلى ما بعد الموت هو العمل العظيم الذي ينبغي أن تعضَّ عليه بالنواجِذ، أما العمل الذي لا يذهب معك إلى القبر فوقته وقيمته خسارة وإن كان مباحاً، أما إن كان محرَّماً فهو بلاءٌ كبير وسبب الهلاك لهذا الإنسان.
إذاً أيها الأخ الكريم، لست مُعْفَى من الدعوة إلى الله؛ لأن أحد أركان النجاة التواصي بالحق، ولست معفى من الدعوة إلى الله لأن علامة محبَّتك لله عزَّ جل اتباعك لرسول الله، ولأن من أبرز أنواع اتباعِك للنبي الدعوة إلى الله على بصيرة، والدعوة إلى الله فرض عينٍ وفرض كفاية، لكن الدعوة الكبيرة جداً، الواسعة التي فيها اختصاص عميق وأساليب بارعة هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، أما الدعوة إلى الله التي هي فرض عين فهي أن تبلّغ عن الله ولو آية..
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً. ))
(( فرُبَّ مبلَّغٍ أوْعَى من سامِعٍ ))
وهذه نقطةٌ دقيقةٌ جداً، فالإنسان الذي لا يحدّث نفسه أبداً ولا يفكّر في هداية أحد من أقرب الناس إليه، كزميله، أو جاره، أو ابنه، أو أخيه فهو ليس متبعاً لرسول الله، وبالتالي فهو لا يحبُّ الله، فإن كان كذلك فقد وقع في الهلاك؛ لأن الدعوة إلى الله أحد أركان النجاة.
الدعوة إلى الله في كل الأحوال:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ ما معنى ﴿لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ ؟ أي: دائماً، في الصباح، في الظهيرة، في المساء، في لقاء، على طعام، في سهرة، في نُزهة، في وليمة، في دعوة، في عقد قِران، في مَولد، في محاسبة، في مجاورة، في لقاء عابر ﴿لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ وهذا من خصائص المؤمن، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)﴾
الأمر مُنْصَبٌّ على الذكر الكثير، ومن صفات المنافقين:
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً(5) فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارًا(6)﴾
لأن الإنسان له اختيار، فلو كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الخلق وحبيب الحق، وهو سيد ولد آدم، وأكمل الخلق، وهو الرحيم، وهو اللطيف، وهو الكريم إذا كان مع قمة البشرية ولم يكن هذا الإنسان يبتغي وجه الله، ولا يرجو الله والدار الآخرة فإنه لا يستفيد شيئاً، والدليل:
﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
ولكن، لكم جميعاً؟ لا: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ إذاً حينما لا يستجيب الإنسان فمعنى هذا أن له طلباً آخر.
إن لم تكن مع الحق فأنت مع الباطل !
بالمناسبة، يوجد شيء خطير أريد أن أقوله لكم: هناك خطِّان وطريقان ومنهجان إن لم تكن على أحدهما فأنت على الآخر حتماً، والله هذا كلام خطير.
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾
إن لم تكن مع الحق فأنت مع الباطل، وإن لم مستقيماً فأنت منحرف، وإن لم تستجب لرسول الله فأنت مع الهوى، فلا يوجد حل ثان.
﴿فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارًا﴾ فطالب الحق يبحث عنه، وطالب الشهوة يفرُّ من الحق مهما دعوته، فأقول لكم هذه الحقيقة: هناك قرار داخلي، إن اتخذ أحدكم قراراً بطلب الحقيقة فأي شيءٍ يدلُّه عليها، أما إن كان قد أراد الدُنيا فإنه لو التقى بنبيٍّ مرسل فإنه لا يستفيد شيئاً، و لو رأى الأموات خرجوا من قبورهم فإنه لا يستفيد شيئاً، فماذا رأى بنو إسرائيل؟ لقد رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً، ورأوا أن نبيهم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ضَرَبَ البحر بعصاه فإذا هو طريقٌ كبير، فلما رأَوا بقرةً قالوا:
﴿ وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍۢ يَعْكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصْنَامٍۢ لَّهُمْ ۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَآ إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)﴾
لم يستفيدوا شيئاً، وقوم صالح قد رأوا الناقة خرجت من الجبل، فإذا أردت الحقيقة فإنك تبحث عنها وتجدها في كأس ماء، وتجدها في طائر، وتجدها في ابنك الذي من صلبك، وتجدها في الليل والنهار والشمس والقمر، في خلق السماوات والأرض، تجدها في كل في لقمةٍ تأكلها، تجدها في عينك، في أذنك، تجدها في القرآن الكريم، إن أردت الحقيقة تجدها في أي مكان، أما إن أردت الشهوة وأعرضت عن الحقيقة فإنك لو التقيت بالأنبياء جميعاً واحداً واحداً فإنك لا تستفيد.
الأصل أنت !!
فمرَّة سألني أخ عن رجل له دعوة إلى الله، فقلت له: ليس شأني أن أقيّم الناس لأن تقييم البشر من اختصاص خالق البشر، ولكن أقول لك: لو أُتيح لك أن تلتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن تجلس معه، وأن تستمع إليه، وأن تُكَحِّل عينك بمرآه، ولم تطبِّق مبدأه ولا سنَّته فإنك لا تستفيد منه شيئاً وتهلك، ولو التقيت بإنسانٍ قال لك آيةً أو حديثاً وهو لا يطبِّقها، فصدَّقته وطبَّقت هذه الآية فإنك تسعد بها وتنجو أنت وحدك، هو قد لا ينجو بل أنت تنجو، هذا كلام دقيق أقوله: الأصل أنت؛ فلو أُتيح لك أن تلتقي بنبي ولم تطع أمره، ولم تطبق سنته فإنك لا تنجو من عذاب الله، ولو أُتيح لك أن تلتقي بإنسان يفعل ما لا يقول، أو يقول ما لا يفعل فصدَّقته وأخذت كلامه وطبَّقته، وقطفت ثماره نجوت وسعدت في الدنيا والآخرة، فالاصل أنت، المُعَوَّل عليك أنت، وهناك متكلّم ومستمع، فالمتكلِّم له حساب، والمستمِع له حساب، فحساب المتكلم: هل أنت مطبقٌ لما تقول؟ له عند الله حساب خاص، والمستمع له حساب من نوع ثان، الحساب: هل طبَّقت ما استمعت إليه؟ فكلٌ من المتكلم والمستمع له حساب عند الله عزَّ وجل، لذلك لا ينفعنا تَقْييمُنا ولكن تنفعنا طاعتنا لله عزَّ وجل.
مثل آخر: لو أنك التقيت بالنبي عليه الصلاة والسلام، أو احتكمت إليه في موضوع أنت وصديق لك، واستطعت أن تنتزع من فمه الشريف حكماً لصالحك، ولم تكن محقاً في هذا الحكم فإنك لا تنجو من عذاب الله:
(( إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))
إذاً المُعوَّل عليك أنت، المعوَّل عليك، لك عند الله حسابٌ خاص، هل طبَّقت ما استمعت إليه؟ ماذا فعلت؟
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارًا(7)﴾
أي: دعوتهم ليؤمنوا بك، ثم ليطيعوك، فتغفر لهم، فالمغفرة لها ثمن، دعوتهم إلى الإيمان بك ودعوتهم إلى طاعتك ليكون الإيمان بك وطاعتك ثمناً لمغفرتك.
﴿جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ﴾ وأصرَّوا على كفرهم ومعصيتهم واستكبروا على أن يطيعوا الله عزَّ وجل استكباراً، فالإنسان مخيّر..
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(148)﴾
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(17)﴾
هؤلاء دعاهم نبيٌّ كريم، وجاء بالمعجزات والبيّنات، وكان في دعوته صادقاً، وفي أخلاقه كاملاً، ومع ذلك لم يُصغوا إلى هذه الدعوة لأنهم أرادوا الدنيا، قال بعض الحكماء: "لم أجد أشدَّ صمماً من الذي يريد أن لا يسمع" . فالذي يُعرِض عن الشيء لا يفهم منه شيئاً، فمتى يستفيد الإنسان؟ إذا كان هناك شخص يمشي في الطريق وفي ذهنه أن يشتري حاجة معينة، فإنه يقف عند أي محل ويفتِّش: هل هذه الحاجة موجودة؟ فهو يبحث عنها، أما إذا كان هناك حاجة لا يحتاج إليها، ولا يهتم بها فإنه لو رآها أمام عينه فهو لا يراها، فالعبرة أن تكون أنت طالباً للحق، فهؤلاء دعاهم نبيٌّ كريم..
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارًا﴾ هناك من الناس من تتكلم معه كلمة حق واحدة، فتجده يتثاءب، أو يقول لك: عندي موعد، فيعتذر ويقوم، فحدِّثه في أمرٍ من أمور الدنيا تجده يجلس أربع ساعات وينسى مواعيده كلَّها، وينسى أنه متعب، لقد قال قبل أربع ساعات: أنا مستعجل وعندي موعد، تروى قصة عن الحَجَّاج أنه قد مرَّ في السوق فرأى رجلاً له دكان وكان يصلي قاعداً، وهو بائع أواني، ودكانه عالية وفيها سُلّم، فقال له: أريد هذا الإناء الذي تضعه في أعلى مكان، فوضع السلم وصعد إليه، فقال له: أصلحك الله إنني أريد الذي إلى جانبه، فصعد مرة ثانية وأتى بالذي طلبه، فقال له: إنك لم تفهم علي إلى جانبه من الطرف الأيسر، فصعد مرة ثالثة، فجعله يصعد وينزل أربعين مرة، وبعد هذه علاه وضربه وقال: تصلي قاعداً! ومن أجل أنة تبيع هذا الإناء صعدت ونزلت عشرات المرات؟ فالإنسان حينما يبتغي شيئاً يضع كل طاقته فيه.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ﴾ الإصرار على الخطأ مرض في الإنسان، والاستكبار مرض أشد، وتجد الكافر عنده إصرار وتعنُّت، وجمود وتكبّر.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي: ليؤمنوا بك ويطيعوك فيستحقوا المغفرة.
﴿جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ﴾ تعبيراً عن صدِّهم عن طريق الحق، فهم لا يريدون أن يستمعوا.
مرَّة حدَّثت إنساناً أجنبياً بكلمة عن الله عزَّ وجل فلم أتمّ كلمتي حتى قال لي: هذه الموضوعات لا تعنيني، ولا أهتم بها، ولا ألقي لها بالاً، أنا يعنيني في الحياة ثلاثة أشياء؛ امرأةٌ جميلة، وبيتٌ واسع، وسيارةٌ فارهة، وانتهى الأمر.
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ﴾ دليل الصدود ﴿وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ﴾ دليل العداوة ﴿وَأَصَرُّوا﴾ على معاصيهم، وعلى كفرهم ﴿وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارًا﴾ .
﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8)﴾
أحياناً يكون هناك دعوة بينك وبين أخ أو صديق أو جار أو قريب، وأحياناً تكون الدعوة على الملأ، فمن أنواع الدعوة؛ الدعوة العامة، خطيب يخطب، أو محاضِر يتكلَّم.
﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9)﴾
نوَّعت بين الإعلان والإسرار.
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10)﴾
معنى غَفَّار؛ أي: صيغة مبالغة، وصِيَغ المبالغة إذا نُسِبت إلى الله جلَّ جلاله تعني شيئين: تعني مبالغةً في الكم، ومبالغةً في النوع، أي: إن أكبر ذنب مهما تصوَّرته كبيراً يغفره الله عزَّ وجل.
تنويع أساليب الدعوة إلى الله:
على كلٍ هذه الآيات تعطي معانٍ، منها أن الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون مستمرَّة ليلاً ونهاراً، وتعطي أن الإنسان مخيَّر، فقد يستجيب وقد لا يستجيب، وما على الرسول إلا البلاغ فقط، عليه أن يبلغ لأن الله عزَّ وجل يقول له:
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)﴾
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ۗ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍۢ (41)﴾
﴿ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍۢ (86)﴾
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21 (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)﴾
فتَعلّمنا من هذه الآيات أن تكون الدعوة مستمرَّة، وتعلمنا منها أيضاً أن هذه الدعوة ينبغي أن تكون مُنوَّعة، أي: إنه دعاهم سرَّاً، ودعاهم جهراً، والإنسان أحياناً يحب أن تكلمه على انفراد، فلا يوجد مانع، وهناك إنسان يحب أن يجلس جلسة عامة، فيشعر بأُنس، كأن يكون لك سهرة، أو لك جلسة مثلاً، وهذه طِباع، فادعُ إلى الله على أنواع كثيرة؛ سراً، وجهراً، ومتلطِّفاً، ومقرِّعاً، ومخاطباً للعقل تارةً، والعاطفة تارةً، آتياً بالدليل والتعليل.
﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارًا(7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10)﴾
مهما يكن الذنب كبيراً يغفره الله، ومهما تكن الذنوب كثيرةً يغفرها الله، مليون ذنب يُغْفَر، وأكبر ذنب يُغْفَر، والدليل:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
[ سورة الزمر ]
فتصوَّر أنّ حياتك وعلاقتك مع الله لا توجد فيها مغفرة، أو لا توجد توبة، لكن ربنا عزَّ وجل ينتظرك أن تستغفره، لذلك نحن في بحبوحتين؛ بحبوحة طاعة الله، وبحبوحة الاستغفار، والدليل:
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33)﴾
أي ما دامت سُنَّتَكَ مطبقةً في حياتهم فهم في بحبوحةٍ من عذاب الله: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أوضح مثلاً يوضِّح هذه الآية: لو أن هناك أباً مثقَّفاً بثقافة عالية، وعنده ابن يعلِّق آمالاً كبيرة على تحصيله العلمي، فجاء هذا الابن بالجلاء وقد نال صفراً في الرياضيات، والأب يعلق آمالاً كبيرة جداً على تقدم ابنه العلمي، فأراد الأب أن يؤدِّبه تأديباً شديداً، ولكنه نظر إلى ابنه فرآه مصفَّر اللون، فدعاه إلى الطعام فلم يأكل، وكان مع الابن مبلغ جمَّعه في الأعياد فبحث عن أستاذ للرياضيات لكي يدرِّسه دروساً خاصَّة، فلما رأى الأب ابنه مهموماً وخائفاً ومتألماً ألماً شديداً، فإنه سوف يضحي بكل مدَّخراته المالية لكي يأخذ عدداً من الدروس الخاصة، وهذه الوضع بالابن يمنع الأب من أن يعاقبه. فأنت في بحبوحتين؛ بحبوحة طاعة الله، وبحبوحة الاستغفار، فلا سمح الله لو أن إنسان عصى لوجد عنده بحبوحة ثانية، وهي أن يستغفر، أي: إما أنَّك مطيع، أو أنك عاصٍ لا سمح الله، فإذا كنت مطيعاً فليس هناك مشكلة.
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)﴾
﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ (17)﴾
إذا: بالطاعة لا توجد مشكلة، ولكن ماذا يجب عليك أن تفعل حال المعصية ؟ أن تستغفر ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ فأنت في بحبوحتين؛ بحبوحة الطاعة، وبحبوحة الاستغفار، وحينما تستغفر تؤجِّل العِقاب، لذلك كان الاستغفار من الأذْكار، تقول بعض الأحاديث: علم عبدي أنني أغفر الذنوب فاستغفرني.
(( عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فِيما يَحْكِي عن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قالَ عبدُ الأعْلَى: لا أَدْرِي أَقالَ في الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: اعْمَلْ ما شِئْتَ. ))
فلا تيأس، والأكمل أن تكون في طاعة الله دائماً، ولو أخطأت فإن باب الاستغفار مفتوحٌ على مِصراعيه ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾
ورد في الآثار: (لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطَّعت أوصالهم من حبِّي ولماتوا شوقاً إليّ، يا داود هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين!)
لا تقنطْ من رحمة الله، استغفِرْ.
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11)﴾
هذه نتائج الاستغفار، فإذا كان هناك نقص شديد في الغذاء أو الدخل فهذا دليل على ضعف في الاستغفار، دخل على الإمام الحسن البصري رجل فقال: يا إمام إني أشكو الفقر، فقال: استغفر الله، فدخل عليه قوم آخرون فقالوا: يا إمام نشكو شُحَّ السماء، قال: استغفروا الله، ودخل عليه رجل وقال: إن امرأتي لا تنجب، قال: استغفر الله، وكان شخص جالس في المجلس فقال: ما هذا الشيخ؟، فقال له: أو كلما دخل عليك رجل تقول له: استغفر الله؟ فقال له: أما قرأت قوله تعالى:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(12)﴾
فالآية واضحة، فالذي أراد أن يُنجِب يستغفر الله، والذي أراد المال فليستغفر الله، والذي أراد أن تمطر السماء فليستغفر الله، هناك مشكلة، وأقول هذا كثيراً: قد يقنِّن الله عزَّ وجل على الإنسان، فيقول لك: لا يوجد شغل، لا يوجد مال، لا يوجد دخل، فهل معنى هذا أن الله تعالى ليس معه؟ أريد كلاماً دقيقاً، فالله عز وجل حينما يقنن جل جلاله يقنن تأديباً لا يُقنِّن عجزاً، قال تعالى:
﴿ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٍۢ مَّعْلُومٍۢ(21)﴾
أي: إن الخيرات في الأرض لا تُعد ولا تُحصى، لكن يوجد تقنين تأديب، والحل أن نستقيم على أمر الله ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ فما قولك في أن الله سبحانه وتعالى غَنيٌّ عن تعذيبنا، وغنيٌّ عن إفقارنا، وغنيٌّ عن مرضنا، وغنيٌّ عن خوفنا وعن همنا، لماذا نهتمّ؟ لماذا نمرض، لماذا نفتقر؟ لماذا نخاف؟ لأنه يؤدِّبُنا، (كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك) .
ورد في الأثر القدسي: (أنت تريد وأنا أريد، فإذا سَلَّمت لي في ما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسِّلِم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد) .
أي: اصطلح مع الله وافهم عليه، فهو يريدك تائباً، والدنيا تأتي بشكلٍ عجيب، إن اصطلحت مع الله، ولم يكن هناك خطر عليك من الدنيا تأتيك وهي راغمة.
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ أي: إن هذا دافع من دوافع الطاعة لله عزَّ وجل. وقد قيل لأحد الصحابة -وأظنه سيدنا أبا الدرداء -: احترق محلّك، فقال: لا، إنه لم يحترق، يا أخي احترق ونحن رأيناه بأعيننا، قال: ما كان الله ليفعل، إنه واثق من طاعته لله عزَّ وجل، وواثق من دفع الزكاة، فلما ذهبوا ليتأكَّدوا فرأوه كما قال فعلاً، إنه ليس محله، فبشَّروه فقال: أعلم ذلك، أعلم أن محلي لم يحترق. فإذا كنت مع الله عزَّ وجل فإن الله يلقي في قلبك الطمأنينة والأمن ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ الآية الأخيرة أيها الإخوة في هذا الدرس هي قوله تعالى:
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13)﴾
أوجَهُ تفسير لهذه الآية: ما لكم لا تطمعون برحمة الله ولا تخافون من عذابه؟ فقد تجد شخصاً قوياً، وهو من بني جِلْدَتِك من بني جنسك لكنه أقوى منك ولا تقدر أن تسترحمه فتطيعه.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ كيف تزهدون فيما عند الله من نعيمٍ أبدي؟ معنى ذلك: أنَّكم ﴿لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ ، وكيف لا تخافون ناره؟ معنى ذلك أنكم ﴿لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ .
إخواننا الكرام، إذا كان هناك شخص قوي وله عندك وقار، ترجو ما عنده وتخشى ما عنده، إنسان ولكن أنت موقن بأنه قوي، وبيده شيء ثمين، وهو يقدر أن يعطيك أو أن يمنعك، فإذا كان هذا حالك مع إنسان ترجوه فكيف حالك مع الواحد الديَّان؟ خالق الأكوان لا ترجو جنَّته؟ ولا تخاف عذابه؟ لا يليق بك أن تقرأ كلامه وأن تفهمه؟
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ الوقار: لمَ لا ترجو جنَّته ولمَ لا تخاف ناره؟ لمَ لا تخشى وعيده ولمَ لا ترجو وعده؟ لمَ لا تطمع في رحمته؟ لمَ لا تخشى من عقابه؟ ومعظم الناس الغافلين يحسبون ألف حساب لإنسان ولا يحسبون لله حساباً واحداً، فترى أحدهم يخاف على سمعته وعلى حرِّيته وعلى ماله وتجارته، ومكانته، فيُرضى هذا، ويُرضي ذاك، ويدعو هذا، ويبارك لهذا ويهنِّئ هذا، يزور هذا، إنه يحرص على سمعته.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ الله الذي خلقك، إذا قدَّم إنسان لك شيئاً فإنك تشكره مئات المرَّات، والله عزَّ وجل منحك نعمة الوجود، ومنحك نعمة الإمداد ونعمة الهُدى والرشاد ألا يستأهل أن تشكره؟ ألا يستأهل أن ترجو رحمته وأن تخشى عذابه؟ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ فقد تجد شخصاً ما حوله أشخاص كثيرون، وهو شخص مهم جداً، فلو اتصل بأحدهم لأجاب: حاضر، فيقول: تعال إلي بعد ربع ساعة فإنه يكون عنده، له وقار، ولو كلَّفه بتكليف فإنه ينفذ التكليف بحذافيره، بعد نصف ساعة يأتيه بجواب سؤاله، لاحِظ نفسك إذا كلَّفك احدهم وأنت غير مهتم به كثيراً فقد تنسى، يقول لك: هل سألت لي؟ فتقول: والله نسيت لا تؤاخذني، يقول: أمنتها لي؟ فتقول: والله نسيت، فإذا كلَّفك شخص وليس له قيمة عندك فإنك تنسى على الفور، فلا تنفِّذ شيئاً مما يقول، ولكن الله يأمرك، ويوعدك، ويخوفك.
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً(14)﴾
لقد كنت حوَيْناً لا يُرى بالعين، والخمسمائة مليون حوين يبلغون سنتيمتراً مكعباً، فمن حوين إلى بويضة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى جنين، إلى طفل صغير لا يتكلَّم، وبعد هذا تطور من حال إلى حال، لاحظ الآباء والأمهات يقولون عن الطفل الصغير: طلعت أسنانه، فيحدث ضجَّة في البيت، وبعد هذا يقال لك: مشى ولم يكن يمشي، وبعدها نظِفَ، وبعد هذا صار يتكلم أي صار اجتماعياً؛ يشكر، يحترم ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ وبعد هذا دخل إلى المدرسة، ثم حفظ الفاتحة، وحفظ بعض الأناشيد، وبعد هذا كتب الألف مائلة، والباء طالعة، وهذه نازلة، يقول لك: كتب، انظر هذا خط ابني، وبعد هذا يأخذ ابنه الشهادة، ثم يكبر ويغلظ صوته، ثم أبلغ، ويريد أن يعمل ويتزوج، وبعد هذا ينجب أولاداً، ثم يربِّي أولاده، ثم يريد أن يزوجهم، وبعد هذا يلتفت إلى صحته، فقد صار يحتاج إلى خمسين نوعاً من الدواء، وبعد هذا تعلَّق نعوته على الجدران.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ من طور، إلى طور، إلى طور، تنظر إلى إنسان في الخامسة عشر يصعد كل خمس درجات معاً، وبالنزلة كل عشرة معاً، فإذا كان هناك درابزين فإنه ينزلق عليه وينزل على الفور، وانظر إليه وهو في الثمانين تجده يضع رجله على الدرجة ويسحب الثانية، درجة درجة، أليس كذلك؟
﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ أي: إن كل سن له ترتيب وكل سن له اهتمامات وله هموم، قبل الزواج يبحث عن زوجة، دخلَ في متاهة البحث عن زوجة، هذه متاهة، فإذا تزوج تجده يقول خلال السنتين الأوليين: قصيرة، لا طويلة، يا ترى غلطت، لا لم أغلط، وبعد هذا يُنسَخ الموضوع من تفكيره، ثم جاء موضوع الأولاد، هل درسوا، لم يدرسوا، تعلموا، لم يتعلموا، تزوجوا، لم يتزوجوا، فكل سن له ترتيبات، هذه أطوار، فالإنسان يمشي في هذا الطريق الإجباري وآخر محطة الموت.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ ألا ترجو رحمته؟ ألا تخاف عذابه؟ قد يكون هناك إنسان يخيفك، فإن أرسل في طلبك فإنك لا تنام الليل طوال خمسة أيام، وهو إنسان ولست مرتكباً لشيءٍ مخالف، فالواحد الديّان يقول:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
فهل هذه قليلة؟ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ وفي درس آخر إن شاء الله نتابع الحديث عن هذه الآيات.
الملف مدقق