- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (028) سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، وصَلنا في قِصَّة سيِّدنا موسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام مع فرْعون وملأه إلى قول الله تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾
أمرَها تعالى بِأمْرين ونهاها عن شيئين وبشَّرَها بِبِشارَتين، ثمَّ قال الله عز وجل:
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) ﴾
ولا يُعْقل في المنطق البشَري أن يلْتقط إنسانٌ غلامًا لِيَكون له عَدُوًّا وحزنًا، ولكنَّ الذي حصَل أنَّ هذا الغلام الذي الْتُقِط، والذي رُبِّيَ في قَصْر فرعون حينما كبر، وجاءَتْهُ الرِّسالة ودعا فرعون إلى أن يخْضَعَ إلى أمْر الله عز وجل، فلمَّا أبى والقِصَّة معروفة لدَيْكم ؛ أتْبَعَهُ فرعون بِجُنودهِ فَغَشِيَهُم مِنَ اليَمِّ ما غَشِيَهُم، وانتهى فرعون، لذلك قال علماء النَّحْو هذا اللام هي لامُ المآل، قال تعالى
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) ﴾
يُسْتنبط من هذه الآية أنَّ الإنسان مهما كان ذَكِيًّا، ومهما كان قَوِيًّا فإنَّ الله تعالى كما قال:
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)﴾
وإذا أراد ربُّك إنفاذ أمْر أخَذَ من كُلّ ذي لُبٍّ لُبَّهُ، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(182)﴾
فالله عز وجل إذا أراد ربُّك إنفاذ أمْر أخَذَ من كُلّ ذي لُبٍّ لُبَّهُ، ثمّ نفَّذ الأمر، فالله تعالى لا ينْفع معه الذَّكاء والعقل والكِياسَة، ولا أن تسدَّ الغلطات وتُغطِّي الاحْتِمالات، لا ينفَعُكَ مع الله إلا أن تُطيعَهُ ولا تنْجُوَ من عقابِهِ إلا بالإقبال عليه.
فرعون وما أدراكم ما فرعون ؛ قُوَّةٌ وجبروت وسَيْطَرة وادِّعاء الألوهِيَّة، ومع ذلك طفْل صغير الْتُقِط وربَّاهُ في قَصْرِهِ لِتَكون ِنهايةُ ملكِهِ على يدي هذا الطِّفل الصغير، قال تعالى:
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) ﴾
وهذا هو معنى قول الله تعالى:
﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)﴾
فالله ليس كائِدًا ولكن يرُدُّ على تَدبير الكُفَّار بِتَدْبير مُحْكَمٍ ينْفَعُ المؤمنين ثمَّ قال تعالى:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾
لماذا ذكر الله فرعون مع هامان ؟ ومع هامان الجنود ؟ لأنَّهُ مَن أعان ظالمًا كان شريكَهُ في الإثْم، ومَن أعانَ ظالمًا سلَّطَهُ الله عليه، ومن أعان ظالمًا ولو بِشَطْر كلمة جاء يوم القيامة مَكْتوب على جبينه: آيِسٌ مِن رحمة الله ! فلا تُعِنْ ظالمًا ولو بِهَزِّ رأسٍ، ولا بِتَقْديم قلمٍ للتَّوقيع ولا بابْتِسامَةٍ، ولا بإقرار ولا بموافقَة، وإلا كنتَ أحد ضحاياه، قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)﴾
يريدُ هذا الظالم أن يُنْفِذَ أمْرًا مُجْحِفًا بِحَقِّ بريء، فإذا قال لك: ما رأيُك ؟! فَهَزَزْتَ رأْسَك كُنْتَ مِمَّن أعان على الظُّلم، مَن أعانَ ظالمًا سلَّطَهُ الله عليه، ومن أعان ظالمًا ولو بِشَطْر كلمة جاء يوم القيامة مَكْتوب على جبينه: آيِسٌ مِن رحمة الله ! لذلك ورد في هذه القِصص كثيرًا قوله تعالى:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾
لأنَّ هامان والجنود نالهم من فرعون الشيء الكثير، والغرْم بالغرم فحينما يُحاسَبُ فرعون فينْبغي أن يُحاسَبَ مَن أعانَهُ على الظُّلْم ومَن كان عَوْنًا له على السَّيْطَرة.
قال تعالى:
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلَّم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَفَّانُ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ إِنَّكَ تُكْثِرُ أَنْ تَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ قَالَ وَمَا يُؤْمِنُنِي وَإِنَّمَا قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ قَلَّبَهُ قَالَ عَفَّانُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
فقد يُلْقي في قلب هذا الإنسان الحبّ لِفُلان، وقد يُلْقي البغْض، والقَسْوَة فقُلُوب العباد بين أُصْبعين من أصابِع الرحمن يُقَلِّبُها كيف يشاء، أنت إذا وقَفْتَ أمام إنسانٍ قَوِيٍّ ورأيْتَ أنَّهُ قسى عليه فلأنّ الله جعل قلبَهُ هكذا، وإذا رأيْتَهُ أنَّهُ رَحِمَك ألْقى في قلبِهِ حبَّك والعَطْف عليك فعلاقتُكَ مع الله، وهذا هو التَّوحيد، قال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي(55)﴾
الأقْوِياء ينبغي أن لا تخاف منهم، والخوف من الذي بِيَدِهِ زِمامهم ؛ هو الله، قال تعالى:
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾
لذا وردَ أنْ لا يخافنَّ العَبْدُ إلا ذَنْبَه ولا يرْجُوَنَّ إلا ربَّه، فلا تَخَفْ قَوِيًّا ولا تَخَف مرضًا، ولا تخَف مُصيبَةً، إنَّما خَف مِن ذَنْب يسْتدعي كُلَّ ذلك قال تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾
فإذا وقَعْتَ في مُشْكِلَةٍ فلا ترْجُونَّ إلا الله، فلا ترْجو أن تُزاحَ عنك هذه المُصيبة بالمال، ولا بِفُلان ولا بِعِلاَّن، ولا بِمَكانَتِك وسَطْوَتِك، لا يخافنَّ العبْد إلا ذَنْبه ولا يرْجُوَنَّ إلا ربَّه، امرأةُ فرعون قد يسأل بعضكم ؛ ما الحِكمة في أن تكون صِدِّيقة ؟
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ﴾
ما الحكمة في أن تكون هذه الصِّديقة تحت ظالمٍ ؟ أراد الله عز وجل أن يُبَيِّن للناس فضْلاً عن تَقْريرهِ المُباشِر، أراد أن يُبَيِّن من خِلال الحوادِث أنَّ المرأة مُسْتَقِلَّةٌُ في إيمانها، وفي مَسْؤولِيَّتها، وفي دينها عن زَوْجِها، فأيَّةُ امرأةٍ تقول: هكذا يُريد زَوجي، ولو كان زوْجُها أحدُ جبابرة الأرض، ومع ذلك لا يستطيع أن يَحْمِلَها على الكُفْر، وهذا درْسٌ مِن أبْلَغ الدُّروس، الله عز وجل جعل تحت أكبر طاغِيَةٍ في الأرض صدِّيقَةً، بِكُلِّ جَبَروتِهِ وسَطْوتِهِ لم يسْتطع أن يَحْمِلَها على الكفر، قال تعالى:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11)﴾
لذلك هذه القِصَّة لِكُلّ امرأة، فلا تقل: هكذا يريد زَوْجي، وأنا لا دَخل لي، فمهما كان زَوْجُك طاغيَة فلن يبْلغ طغيان فِرْعَون، ومع ذلك المرأة مُسْتقِلَّة في إيمانها وطاعَتِها في مَسْؤولِيَّتِها عن زوْجِها، اتَّصَلَتْ بي امرأة وقالتْ لي: زوْجي يُريد أن يأخذني إلى البَحْر وأن أسْبَحَ أمام زُملائهِ، وهدَّدني إن لم أفْعَل فسَيُطَلِّقُني ! فقلتُ لها: لا طاعة لِمَخلوق في مَعْصِيَة الخالق، ولْيُطَلِّقْك!! لكِنَّه لم يُطَلِّقْها، إنَّما اسْتَعْمَلَ معها أُسْلوب التَّخْويف، ماذا قال سَحَرة فرعون ؟ قال تعالى:
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123)﴾
أُمُّ سيِّدنا سعْد ابن أبي وقَّاص قالتْ له: يا بُنيّ، إما أن تكْفر بِمُحَمَّد، وإما أن أدَعَ الطَّعام والشَّراب حتَّى أموت ! قال: يا أُمِّي، لو أنَّ لكِ مائة نفْسٍ فَخَرَجَت واحِدَةً واحِدَة ما كَفَرْتُ بِمُحَمَّد فَكُلِي إن شئْتِ أو لا تأكُلي، فالإنسان ليِّن إلى أقْصى المواقف، ولكن هناك مواقف إن لم يَكُن صلْبًا ينتهي والمؤمن عندهُ كلمة ؛ لا يقولها بملء فَمِهِ، لا أفْعل هذا، هذا لا يرْضاهُ الله، فهناك منْ عندهُ حياء شَيْطاني، يسْتحي فإذا به يأكل الحرام، ويسْتحي فإذا به يَعْصي الله، ويسْتحي فيَقُرّ بالمَعْصِيَة، يجب أن تقول كلمة بِمِلء فَمِكَ أحْيانًا، ولْيَكُن ما يَكُن خاطَبوا أحد جبابرة الأرض، وخاطبوا إنسانًا يقتل العباد كما يقتل الذُّباب ! قال تعالى:
﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)﴾
أيها الإخوة، يجب أن نعلم جميعًا أنَّ هذه القِصص، والله الذي لا إله إلا هو ما أرادها الله تعالى قِصَصًا أبدًا، ولكن حقائِق على شَكْل قِصص، لذلك قال تعالى:
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾
مَن ألقى حُبّ موسى في قلب امرأة فرعون ؟ الله جل جلاله، وفي المرة القادِمَة نُتابع هذه القصَّة.