- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (052)سورة الطور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التوازن أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الطور، ومع الآية السابعة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)﴾
ومن حكمة الله جلّ جلاله في كتابه الكريم أنه إذا تحدث عن أهل النار تحدث عن أهل الجنة، من أجل ماذا؟ من أجل التوازن، أي أنذر وبشر، خوِّف واحمل المدعو على التفاؤل، يسر ولا تعسر، رغِّب ولا تُرهِّب، سدد وقارب، هذا أسلوب في الدعوة إلى الله، التوازن، إن وصفت أهل النار فصِف أهل الجنة، من أجل أن يندفع الإنسان إلى السعي للجنة كما يندفع في البعد عن النار، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(16)﴾
صورة مخيفة من حال أهل النار.
المتقي من حرص على مرضاة الله ودخول الجنة:
الإنسان الذي يحرص على اتصاله بالله يحرص على طاعته:
أكبر خطر أن ينتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة وهو لا يعرف الله:
أكبر خطر أن تخسر نفسك يوم القيامة، أكبر خطر أن يأتيك الموت وأنت صفر اليدين من العمل الصالح، أكبر خطر أن تنتقل من الدنيا إلى الآخرة وأنت لا تعرف الله، أكبر خطر أن تصل إلى الحياة الأبدية وليس معك ثمنها.
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
فإنّ المتقي الذي يتقي أن يعصي الله، الذي يتقي أن يسخط الله، الذي يتقي غضب الله، الذي يتقي البعد عن الله، الذي يتقي النار التي توعّد الله بها العصاة المذنبين، كلمة جامعة مانعة، إما أن تكون حريصاً على طاعة الله فأنت من المتقين، أو لا تعبأ لا بطاعته ولا بمعصيته هناك نماذج، شاردة عن الله، ليست حريصة على مرضاة الله، لا ترجو الله واليوم الآخر، ترجو الدنيا، ترجو مالها، ترجو شهواتها.
أكبر شيء في الجنة رضوان الله والنظر إلى وجهه الكريم:
﴿
فهذه جنات، جنات منوعة، أي كلما استغرقت في جنة رأيت جنة أخرى أجمل منها، كلما تأملت في جنة واستمتعت بها رأيت نعيماً آخر.
قضية الدين قضية مصيرية إما إلى جنة أو إلى نار:
إخواننا الكرام؛ من أيقن يقيناً قطعياً بما أعد الله للعصاة من عذاب مقيم، لم يعصِه أحد، ولو أيقن الناس ما أعد الله للطائعين لأقبل الناس جميعاً على طاعة الله عز وجل، قضية يقين، أنت حينما تعلم علم اليقين أنك إذا تفوهت بكلمة تحاسب عليها، سوف تلقى عذابًا لا يحتمل، لذلك تتقيه تضبط لسانك، أحد أسباب ضبط اللسان اليقين أن هذه الكلمة لها حساب عسير، إذا أيقنت أن إرسال هذا المال إلى بلد آخر يوجب عقوبة مؤلمة ضاغطة قد تدوم عشرين عامًا يقلع الناس عن مخالفة القوانين، لأنهم أيقنواَ أن هناك عقاباً أليماً لمن يعصي هذه القوانين، أنت مع مخلوق تتقي أن تعصيه، فكيف مع خالق الكون؟ وعقاب الإنسان يكون أو لا يكون، وإذا كان ففي وقت محدود، لكن عقاب الله عز وجل جهنم إلى أبد الآبدين، فقضية الدين قضية مصيرية:
﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)﴾
قضية الدين أكبر بكثير من أننا سمعنا الدرس والله، لطيف، دقيق، واضح، عميق، القضية أكبر من هذا بكثير، قضية مصيرك الأبدي إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفذ عذابها.
العاقل من تقيد بمنهج الله ونفذ أوامره:
الوَرِع هو الإنسان الذي يقف عند الشبهات:
الإنسان في الجنة مسرور من الداخل والخارج:
وصف ربنا عز وجل دقيق: ﴿في جنات﴾ هذه الجنات جاءت جمعاً لأنّ فيها مناظر جميلة، فيها أنهار، فيها أشجار، فيها رياحين، فيها أطيار، فيها ولدان مخلدون، فيها حور عين، فيها فواكه وهم مكرمون، والله عز وجل وصف أوصافًا مختصرةً، وهناك جنة القرب من الله، وهناك جنة مشاهدة وجهِ الله الكريم، هذه جنات جاءت جمعاً:
أحيانًا لو وضعت الإنسان في مكان جميل، ومعه خبرٌ سيئ، لا ينسى، لا يبتسم أبداً، ضعه في أجمل مكان، في أجمل إطلالة على منظر جميل، أطعمه أطيب الطعام، إذا كان ابنه مريضًا، تسمعه يقول: لستُ مبسوطاً، فربنا عز وجل وصف الوصف الكامل:
الكمال أن تكون من الداخل مسروراً ومن الخارج محاط بالجنات:
قد يكون الإنسان ساكنًا في بيت صغير، طعامه خشن، لكنه مسرور بالله عز وجل، وقد يكون الإنسان ساكنًا في بيت ثمنه أربعون مليونًا، لكنّ البيت قطعة من الجحيم، أما أن يجمع بينهما فيكون في أجمل بيت، وفي أجمل حالة نفسية، هذا حال أهل الجنة:
في الجنة غلمان مخلدون وحور عين:
أحياناً طفل صغير في البيت يملأ البيت فرحة، يملؤه أنساً، تتخاطفه الأيدي، لأنّ الطفل بريء، واللهُ عز وجل يُصبغ عليه من اسمه الجميل فتجده لطيفًا، وديعًا، ذكياً، ليس عنده خبث، وليس لديه احتيال، سريع الرضا، سريع الغضب، فالطفل من متع الحياة الدنيا:
أي إذا كان شخص مثلاً زواجه وسط، عنده متاعب، هذه القضية مؤقتة، إذا كان مؤمنًا إيمانًا كاملاً، ومستقيمًا استقامة كاملة، ويسعى لمرضاة الله، له عند الله المرأة التي وعده بها، الإنسان الذي تزوج زوجة وقد أحسن اختيارها، يقول لك: كبرت، لكن الحور العين لا تكبر في الجنة:
فاكهين لها عدة معان منها:
1 ـ هم الذين يأكلون الفاكهة ويتفكهون بها:
﴿
جاء في التفاسير:
2 ـ فرحون وسعداء:
بعضهم قالوا والمعنى أقرب: ﴿فاكهين﴾ بمعنى فرحين، أي سعداء، فلان فكه أي مرح، أحياناً تجلس مع إنسان ذي دعابة، طيب النفس، مبتسم الوجه، عذب اللسان، يملأ المجلس أُنساً بمرحه، ودعابته، ولطفه، وتواضعه، وإيناسه، وبشاشة وجهه، الإنسان متى يُؤنس ومتى يُسعد؟ ومتى تنطلق سريرته وتكون كعلانيته؟ متى تشعر بالقرب منه؟ إذا هو بالأساس سعيد، هؤلاء قال:
أكبر نجاح يحققه الإنسان أن يصل إلى الجنة:
تصور أنّ إنسانًا نجا من عذاب النار، واستحق جنة ربه، هذا أكبر نجاح على الإطلاق، أكبر نجاح يحققه إنسان أن يصل إلى الجنة:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قد يقول لك: أنا اشتريت هذا البيت بثلاثين ألفاً والآن ثمنه ثمانية ملايين، يعطيها نغمة خاصة، فرح، هذه الأرض تضاعفت مئة ضعف، أنا وكيل حصري للشركة الفلانية، باب البيع على مصراعيه، يوجد نجاح في الدنيا، نجاح في التجارة، في الصناعة، في الزراعة، في ارتقاء المناصب، في نيل الشاهدات، نجاح في الصحة، ذو شكل، وقوة، وبنية، نجاح في الزواج أحياناً، نجاح في اختيار بيت مناسب، له إطلالة جميلة واسع، مرتب، كل هذه النجاحات سوف تفقدها عند الموت، أليس كذلك؟ هل هناك نجاح يدوم إلا أن تعرف الله؟ إلا أن تكون طائعاً له؟ إلى أن تكون مستقيماً على أمره؟ لا تبتعد كثيراً، كم نعوة في دمشق يومياً؟ أكثر من خمسين نعوة، تقريباً، هؤلاء الذين أصبحوا في القبور، أين كانوا البارحة؟ في البيوت، أليس لهم أسرّة نظيفة؟ غرف استقبال، غرف طعام، غرف لاستقبال الضيوف، أليس لهم مركبات؟ ألم يذهبوا إلى الأماكن الجميلة؟ ألم يأكلوا أطيب الطعام؟ ألم يسهروا؟ ألم يسافروا؟ أين هذا كله؟ هم الآن تحت أطباق الثرى، فلذلك لا يمكن أن يسمى عطاء الدنيا عطاءً لأنه لا يدوم، أبداً.
(( عن سهل بن سعد أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد
حظوظ الدنيا ليست عطاءً إنما هي ابتلاء:
من الغباء، والسخف، وضيق الأفق أن تظن أن الدنيا عطاء، لذلك الله عز وجل كما يقول علماء اللغة ردَعَ هذا الذي يقول:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾
لا، قال له ربه: كلا، ليس هذا إكراماً، إنه ابتلاء، فإن أنفقت هذا المال في طاعة الله كان نعمة، أما إذا أنفقته في المعاصي والآثام فهو نقمة، وهذا المال الذي ظننته عطاءً، وإكراماً هو ابتلاء وسبب الشقاء الأبدي، حظوظ الدنيا ليست عطاءً، إنما هي ابتلاء، كيف توظفها؟ إذا كان المرءُ ذكيًا هذا الذكاء كيف وظَّفه؟ في نشر الحق أم في ترويج الباطل؟ ممكن، هذه القوة التي منحك الله إياها كيف تستغلها؟ في نصرة الضعيف أم في تثبيت مركزك ولو على حساب أنقاض الآخرين؟ القوة ابتلاء، الوسامة ابتلاء، المال ابتلاء، الغنى ابتلاء.
عطاء الله للإنسان حيادي:
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)﴾
نعمة، أي نقمة ما سماها نعمة.
الفوز العظيم أن تفوز بمرضاة الله:
﴿
أي هم سعداء بهذا العطاء الأبدي السرمدي، هذا هو العطاء، لذلك:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
بهذا افرح، افرح بطاعة، افرح بعلم حصّلته، افرح بقرب من الله، افرح إذا أويت إلى فراشك وخالقُ السماوات والأرض راضٍ عنك، لهذا افرح، هذا هو الكسب الحقيقي، هذا هُوَ الإنجاز العظيم، هذا هو الفوز العظيم، قل لي ما الذي يفرحك أقلْ لك من أنت، قل لي ما الذي تعده فوزاً أقلْ لك من أنت، الفوز العظيم أن تفوز بمرضاة الله رب العالمين.
فرح الإنسان في الجنة لا يزول:
السعادة سعادتان؛ إيجابية وسلبية:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إخواننا الكرام؛ يجب أن تكون الآخرة أمام أعينكم ماثلةً، يجب أن نعمل لها، أعيد هذه القصة كثيراً، سألوا طالبًا أحرز الدرجة الأولى في امتحان الشهادة الثانوية، بمَ نلت هذا المجموع العالي؟ قال هذا الطالب كلمة دقيقة جداً، قال: لأنّ لحظة الامتحان لم تغادر مخيلتي إطلاقاً، ونحن إن شاء الله لا نفوز إلا إذا بقيت الآخرة أمام أعيننا، قبل أن تعطي، قبل أن تأخذ، قبل أن تنظر، قبل أن تملأ عينك من محاسن هذه المرأة، قبل أن تأكل مالاً لا يحق لك أن تأكله، قبل أن تتلفظ بكلمة لا يحق لك أن تقولها، دقق كيف سيكون موقفك من الله يوم القيامة، عندئذٍ تكون من المتقين.
هَنِيئًا: كلمة لها عدة معان منها:
1 ـ عدم وجود الحزن والقلق في الجنة:
﴿
معنى:
2 ـ حلالاً طيباً:
المعنى الثاني: ﴿هنيئا﴾ أي حلالاً طيباً، إذا الإنسان استمتع بشيء حرام في أعماقه نغص، وقلق.
3 ـ عدم تحول أو زوال الإنسان والأشياء التي حوله في الجنة:
المعنى الثالث هو أقوى المعاني:
عيشة الإنسان في الجنة راضية لا يفارقها ولا تفارقه:
اللهُ قال:
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)﴾
بحسب اللغة ينبغي كما نتوهم أن تكون العيشة مرضية، الإنسان راض عنها، في القرآن بالعكس، قال:
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾
معنى راضية أيْ أنّ الإنسان إذا كان في بحبوحة، أو في صحة طيبة، أو مع أهله على ما يرام، أولاده أبرار، هذه عيشة مرضيٌّ عنها، لكنها حينما تزول، هذا المعنى أنها لم ترضَ عنك فتركتْكَ، زوالها يعني أنها ليست راضية عنك لذلك تركتْكَ، فإذا الإنسان ضمن عيشة مرضية عنها ربما يقلق لأنها سوف تزول عنه، أما هذه العيشة راضية عنك بمعنى أنها لا تفارقك، فربنا عبر عن نعيم أهل الجنة:
حساب الله للإنسان في الآخرة حساب دقيق جداً:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
هي بالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، بإنفاق المال، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بتربية الأولاد، أن تأخذ بيد أهلك إلى الله ورسوله، أن تدعو إلى الله، أن تصبر على بلاء الله، أن تصبر عن الشهوات، أن تصبر على قضاء الله وقدره، أن ترجو الله والدار الآخرة:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ(20)﴾
الدنيا أساسها العمل، والجنة أساسها الإكرام.
أساس الدنيا العمل وأساس الآخرة الإكرام:
قد تكون عند الإنسان أعمال كثيرة، عنده متجر، عنده مكتب، عنده تجارة، عنده وظيفة، عنده دراسة، تجده منهمكاً، يقرأ، يدرس، يبحث، يذهب، ينطلق، أساس الحياة هو الكسب، والتعب، والكدح، والكد، أراد أن يقوم بنزهة مدة أسبوع، الأصل في النزهة الراحة، لا يعمل شيئاً، ينام، ويأكل، ويستمتع بالمناظر، ويسبح، و يلعب، الأصل في الاستجمام الاستمتاع بالدنيا، والأصل في الأعمال بذل الجهد، الآن بشكل مكبر الآخرة كلها الأصل فيها الإكرام، لذلك لهم ما يشاؤون، أي شيء خطر في بالك تجده أمامك.
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
فأنت الآن في دنيا أساسها العمل، أساسها الكدح، أساسها بذل الجهد، أساسها الصبر، أساسها التحمل، أساسها بذل جهد كبير لنيل مكسب صغير، الآخرة بالعكس، الحياة الآخرة كلها أساسها النعيم المقيم، أساسها الإكرام، أساسها أن كل متاعب الدنيا منزهةٌ عنها الآخرة.
أحياناً الإنسان يكبر بالسن، يقول لك كبرت، قال لي شخص: سبحان الله! أنا قبل خمسين سنة كنتُ أنشط من الآن، قلت له: طبعاً، تضعف قوته، يضعف بصره، يضعف سمعه أحياناً، يشعر بوهن بجسمه، همته تضعف، إذاً يوجد قلق التقدم بالسن، يوجد قلق انهيار الدخل، يوجد قلق تفرُّق الأهل، يوجد قلق المرض، في الآخرة لا يوجَد شيء من هذا، كل أنواع القلق مبرأ منها الإنسان في الآخرة.
الجمال في الآخرة جمال مطلق:
أكبر كسب للإنسان أعمال ذريته الصالحة إلى يوم القيامة:
أما هذه الآية، الآية الحادية والعشرين.
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
هذه الآية إخواننا الكرام: أكبر كسب على الإطلاق تناله في الدنيا أن تنشئ أولادك تنشئة إيمانية، إنك إن ربيت أولادك على طاعة الله ومحبته، وعلى طاعة رسول الله ومحبته، وعلى حبّ آل بيت رسول الله، وعلى قراءة القرآن، وعلى ضبط الجوارح، والأعضاء، وعلى أكل المال الحلال، وعلى العمل الصالح، إن هؤلاء الذرية الذين ربيتهم هذه التربية كل أعمالهم إلى يوم القيامة في صحيفتك:
ما من عمل على وجه الأرض أربح من أن تُخلّف ذرية صالحة:
أنا أقول لكم كلاماً دقيقاً، والله أيها الأخوة: ما من عمل على وجه الأرض أخطر، وأربح، وأنجح، وأثمن، من أن تخلف ذرية صالحة شباباً وشابات، لأن هذه الذرية أعمالها كلها في صحيفتك إلى يوم القيامة،
الإنسان رهين عمله:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾
قال له: يا قييس إن لك قريناً تدفن معه وهو حي، ويدفن معك وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، و إن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك، أنت رهين عملك.
الحجاب بين المرء وربه لا يهتك إلا بالعمل الصالح والتوبة:
مرة كنت عند صديق وهو قاضي تحقيق، كان يحقق مع شخص يُتاجر بالمخدرات، كان هذا الإنسان وهو يجيب عن أسئلة القاضي نظره في الأرض، دخل شاب طليق الوجه، مبتسم، قلت: هذا الذي دخل ليس متهماً، طلاقته تدلُ عليه، فإذا هو قريب للقاضي، فإذا دخل أحدهم طليقًا ليس مذنباً تجده جريئًا، مرحاً، وجهه متألق، أما إذا كان مذنبًا تجده:
﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)﴾
الوجه صفحة النفس، إذاً:
نعيم الجنة باق لا ينفد:
﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)﴾
أحيانًا الطعام لا يكفي، أما في الجنة فكُلْ ما شئت، مائدة مفتوحة بالتعبير المعاصر، كلْ ما شئت.
﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)﴾
خمرةُ الدنيا إذا شربها الإنسان يفقد عقله، يتكلم كلمات غير معقول أن يتكلمها وهو في صحوه، الإنسان إذا شرب الخمرة يصبح أحمقَ في كلامه، ينشر فضائح، يتكلم من عقله الباطن، إنسان له مكانة رفيعة في المجتمع، يعمل موجهاً لمادة معينة، فلما شرب الخمر تكلم بكلمات لا يعقل أن تصدر منه، فهذا هو اللغو، والتأثيم عندما يشرب الإنسان الخمر قد يقع في المحرمات وقد يقع على من يلوذ به،
﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)﴾
من جمالهم.
حال أهل الجنة وهم في الجنة يتنعمون:
﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)﴾
أهل الجنة يتحدثون، يتحدثون عن الدنيا، كيف تعبوا في معرفة الله، كيف جاهدوا أنفسهم وأهواءهم، كيف التقوا مع من يحبون، كيف اهتدوا إلى الله:
حديث المؤمن عن خوفه من عذاب ربه:
قال تعالى:
﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)﴾
نحن كنا خائفين، هناك قلق، مثلاً لو أنّ طالبًا شكا همه لصديق، قال له: أنا عندي وظائف، الأساتذة قساة، الواجبات كبيرة جداً، عليّ أنْ أكتب موضوعًا، وأؤلف أطروحة، وأقدم فحوصاً شفهية، وأدرس الدروس وأحضِّرها، هذا شيء لا يحتمل، فيقول له صديقه: أنا ليس لديّ مشكلة، أنا أنام إلى الظهر، هذا خارج الجامعة، هذا خارج الاهتمام، لما شكا الأول الصعوبات التي يلاقيها في حياته الدراسية، الثاني من أولاد الأزقة، قال له: أنا لا أحس بأيّ تعب من هذا، أنا أنام حتى أشبع النوم، آكل ما أشتهي، أذهب إلى أي مكان أشتهيه، بينما أنت تحرم نفسك، لا! هذا خارج الجامعة، هذا ليس له مكان في المجتمع، أما هذا يُعد ليكون إنسانًا متألقًا بالحياة، قال:
﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(28)﴾
جزاء المتقين يوم القيامة:
الله عز وجل حدثنا عن المتقين:
﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾
يوجد دعاء، يوجد التجاء، يوجد طلب من الله، يوجد مناجاة، يوجد استرحام، يوجد استغفار، يوجد تسبيح، يوجد تحميد، يوجد تكبير، يوجد ليال، تجد برمضان ساعة ونصف التراويح، وبعدها يوجد درس، وهناك صلاة الفجر وبعدها يوجد درس، وفي النهار صائم، يغض بصره، يصلي، ويذكر الله، ويحمده، هذا المؤمن، من عمل إلى عمل، من مسجد إلى مسجد، من خدمة إلى خدمة، من فهم إلى تطبيق، من إنفاق إلى إنفاق.
﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ(29)﴾
هذه الآية والتي بعدها نرجئها إلى الدرس القادم إن شاء الله.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين