- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (032)سورة السجدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الرابع من سورة السجدة، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ(7)﴾
الصنعة تدلُّ على الصانع:
مِن الثابت أيها الإخوة أن الصنعة تدلُّ على الصانع، وأن النظام يدل على المنظِّم، وأن الكون يدل على المكوِّن، وأن الخلق يدل على الخالق، فإذا أردت أن تعرف الله عزَّ وجل فدونك الكون، فانظر إلى الكون..
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ
الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
ففي الخلق إحكام دقيق، وأيُّ شيءٍ خلقه الله كاملٌ في الخلق، كاملٌ في الصفات، قال ربنا عزَّ وجل:
مِن تفصيلات هذه الآية:
1 – العين:
فالعين مثلاً:
2 – الأُذن واللسان:
فكِّر في الأذن، فكِّر في اللسان، كُلُّ حرفٍ قد تُسهِم فيه سبع عشرة عضلة، هذه الحروف التي ننطق بها يسهم في تكوينها عضلاتٌ كثيرة، فحينما تلقي كلمة، أو تلقي الخُطبة كل حرفٍ يحتاج إلى عددٍ كبير من العضلات انبساطاً وانقباضاً، في تشكيله:
3 – العظام:
هذه العظام التي خُلقت فيها خلايا تنمو، فإذا بلغت النمو المطلوب توقفت عن النمو وهجعت، فإذا كُسِر العظم بعد ثلاثين عاماً مثلاً تستيقظ هذه الخلايا، وتُعيد بناء العظام من جديد:
فحركة اليد، ما طبيعة الحركة؟ كيف تتقلَّص العضلة؟ كيف تأتمر؟ من يأمرها؟ من ينفِّذ هذا الأمر؟ كيف يتلقَّى الإنسان أو الدماغ المعلومات من المحيط عن طريق الحواس؟ فكل شيء له نظام خاص به. كيف يتوازن الإنسان على قدمين لطيفتين؟ لمَ لا يقع؟ لمَ إذا مات وقع؟..
﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8)﴾
أقوال العلماء في معنى: السُلاَلَة
ماذا تعني كلمة ( سُلالة ).
﴿
نطفة أمشاج، أي أن هذه النطفة عليها معلومات، خمسة آلاف مليون معلومة، وهذه البويضة عليها معلومات خمسة آلاف مليون معلومة، وقد جعل الله البويضة كبيرةً لتكون هدفاً للحوين، ولحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل، جعل البويضات التي يُطلقها مبيض المرأة محدودةً، أي أن هذه البويضات تنتهي في سن اليأس، لو أن البويضات شأنها كشأن الحوينات تنطلق إلى آخر العمر لكان الحمل في سن الثمانين، وفي السبعين، وفي التسعين، وفي الخامسة والتسعين، لكن حكمة الله عزَّ وجل جعلت عدد البيوض في المرأة محدوداً، فإذا انتهى عدد البيوض التي أودعها الله في مبيض المرأة جاء سن اليأس، وتوقَّف الحمل، بينما الحوين الذي يُفْرِزه الرجل يستمر في الخروج حتى نهاية الحياة، هذه حكمةٌ بالغة من حكم الله سبحانه وتعالى، إذاً بَدْءُ خلق الإنسان من طين، وأما نسل بني آدم:
معنى: مَاءٍ مَهِينٍ:
ومعنى ماءٍ مهين كما قال بعض المفسرين: هو الماء الضعيف، معنى ضعيف، أيْ أنَّ أيَّ عَرَضٍ يصيبه يجعل هذا الحوين ميتاً، فهو يحتاج إلى وسط معين، يحتاج إلى سيولة معيَّنة، إلى غذاء معين، فحينما يخرج هذا الماء من مكانه، وينتقل عبر القنوات يصل إلى نقطة، أو إلى مكان، أو إلى منعطف هو منعطف البروستات، هذه الغدة التي تفرز مادة مطهرة، ومادة معطِّرة، ومادة مغذية تسبح فيها الحوينات، هذا صنع من؟ البروستات تُغلق مجرى البول حينما يخرج ماء الحياة، وتغلق مجرى ماء الحياة حينما يخرج البول، إذا خرج البول ليسير في الطريق الذي خُصِص له تفرز البروستات مادة قلوية تتعادل مع المادة الحامضية، فإذا خرج ماء الحياة.. الطريق فيه بول.. تفرز البروستات مادة مطهرة، وبعدها مادة معطِّرة، وبعدها مادة مغذية، وهذه الغدة تعمل ثمانين عاماً أو أكثر من دون كللٍ أو ملل، فإذا كان هناك إفراطٌ أو تفريطٌ تتضخم وتلتهب، هذا صنع من؟
(( بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتا وطغى ونسي المبتدا والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، بئس العبد عبد رغب يذله. ))
نسي الرب الكريم.
﴿
تسوية الله للإنسان:
التسوية دقيقة جداً، التسوية أوضحتها بمثل: أن الإنسان لو أراد أن يضع مركبته في مرآب (كراج) بالتعبير الشائع.. يجب أن يكون حجمه مسوّى مع حجم المركبة، أكبر بقليل، أعلى بقليل، أطول بقليل، فلو لم تكن هناك تناسبات بين حجم هذه الغرفة، وبين حجم المركبة لَما كان هذا المكان صالحاً لمبيت هذه السيارة، إذاً ليس مسوّى، التسوية هي التناسب، فالإنسان جعل الله له يدين، اليد من حيث طولها، ومن حيث مفاصلها، ومن حيث رسغها، ومن حيث الأصابع، وطول الأصابع، ومن حيث الكف، باطن الكف وظاهر الكف، هذه التجاعيد، وهذه الأطوال المختلفة، وهذه السُلاميات، وهذا المكان الذي لا شعر فيه، وهذه الخطوط على رؤوس الأنامل، هذه كلها تسوية، وهذه المفاصل ذات الاتجاه الداخلي.
والرِجل لها تركيبٌ آخر، عظام الفخذ، وعُنق الفخذ، وعلاقتها بالحوض، والركبة، وطبيعة الركبة، ومِشط الرجل، هذه التسوية، أي نظامٌ بديع يتوافق مع أحدث أو مع أدق النظريات الميكانيكية:
ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه
إذا دبَّت فيه الحياة، وتحرَّك، ونبض قلبه:
الحكمة مِن خلق الحواس في الإنسان:
طبعاً السمع والأبصار والأفئدة كما قال بعض المفسرين: إنما هي حواس أودعها الله في الإنسان ليتعرَّف بها إلى خالق الأكوان، فبالعين ترى الكون، وبالأذن تستمع إلى الحق، وبالفؤاد الذي إذا جاء مع السمع والبصر يعدُّ الفِكر الذي أودعه الله في الإنسان، فهذه العين وهذه الأذن، وهذا الفكر مناط التكليف:
لكن تأمَّلْ: قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ
﴿
أي إذا آمنت، وشكرت فقد حققت المُراد، فإن لم تشكر فمعناها لم تؤمن، لا تشكر إلا إذا آمنت، إذا آمنت فعلاً شكرت ومن لوازم الإيمان الشكر، والآن مقولة الكفار:
﴿
مقولة باطلة في إنكار البعث: أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ
أي إذا متنا، ودُفِنا تحت الأرض، وأصبحنا تراباً، واختلط جسمنا البالي بتراب الأرض:
لذلك كما يقولون:
الكفر نوعان: جليٌّ وخفيٌّ:
لذلك فالكفر أيها الإخوة نوعان، كفر جلي وكفر خفي:
الكفر الخفي:
فإن لم تجد في عمل الإنسان اليومي ما يؤكِّد إيمانه باليوم الآخر فهو كافرٌ باليوم الآخر كُفراً خفيّاً، أضرب على هذا مثلاً: لو أنَّك زرت طبيباً، وعالجك علاجاً جيداً، وكتب لك وصفة، قد تصافح الطبيب، وقد تشكره على عنايته بك، ولكن لمجرَّد أنك لا تشتري هذا الدواء فلست إذاً واثقاً من علم هذا الطبيب، فعدم شراء الدواء تكذيبٌ لعلمه، ولو أثنيت على علمه، فالتكذيب نوعان تكذيبٌ جليّ، وتكذيبٌ خفي مُبطَّن، فإذا قلت: أنا مؤمن بالجنة والنار، أنا مؤمنٌ باليوم الآخر، ولم تعمل لليوم الآخر، ولم نجد في حركتك اليومية ما يدل على خوفك من النار، ولا طمعك في الجنة، فنقول: إنك تكذِّب باليوم الآخر تكذيباً عملياً، لا تكذيباً قولياً، فلذلك:
الكفر الجلي:
وإما أن يكون الكفر جلياً، فإما أن يقول الإنسان: أنا لست قانعاً باليوم الآخر، وهذا كفرٌ به جلي، وإما أن تعلن بلسانك أنك مؤمنٌ باليوم الآخر، وليس في العمل ما يؤَكِّد ذلك، وهذا كفرٌ خفي، فالتكذيب جليٌ وخفي:
﴿
كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
الليل مهـما طال فلابدَّ مـن طـلوع الـفجر
والعمر مهما طال فلا بدَّ من نزول القــبر
***
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
فإذا حملت إلى القـبور جنازةً فاعلم بأنك بعـدهـا محمول
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾
عندئذٍ يقول:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
عندئذٍ يندم بعد فوات الأوان
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)﴾
العمل مهما بدا لك صغيراً فستُحاسَب عليه.
مشاهد من يوم القيامة: صورة من ذل المجرمين:
الآن ربنا عزّ وجل ينقُلنا إلى مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة:
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ(12)﴾
لو تشاهد يا محمد هؤلاء المكذِّبين، هؤلاء المُعاندين، هؤلاء المستكبرين، هؤلاء المكذبين، لو تشاهدهم يوم القيامة، وهم ناكسو رؤوسهم؛ خجلاً، وخزياً، وشعوراً بالعار..
(( إنَّ العَرقَ ليلزمُ المرءَ في الموقِفِ؛ حتَّى يقولَ: يا ربِّ إرْسالُك بي إلى النَّارِ أَهوَنُ عليَّ مِمَّا أجدُ وَهوَ يعلمُ ما فيها من شدَّةِ العذابِ. ))
فهذا الذي يقول لك: أنا لا أصدق، أيُعقَل أن يكون الإنسان تراباً، ثم يُخلَق من جديد ؟!! يا أخي من الذي مات ورجع وقال: هناك دار آخرة؟ هذه كلمات الجُهَّال، كلمات العوام، كلمات المُعاندين، كلمات الماديّين، هذه الكلمات التي يتبجحون بها في حياتهم، وفي أوج قوتهم، وصحتهم، وجبروتهم، لو رأيت هؤلاء وهم ناكسو رؤوسهم عند ربهم.
في الدنيا تقريباً هناك بعض العصابات، هذه العصابات، وهي قبل أن يُلقَى القبض عليها تجد أن لها مظاهر القوة، ورئيس العصابة يهدِّد أتباعه، فإذا أُلقي القبض عليهم جميعاً، وأُودِعوا في السجن، وجاء من يصوِّرهم لتحقيقٍ صحفي تراهم ناكسي رؤوسهم وأبصارهم في الأرض لشعور الخزي والعار، وهذه صورة نراها كل يوم، أحياناً حينما يُصَّور مجرم في الجريدة ترى رأسه منخفضاً، وبصره ناكساً، لماذا؟ لأنه تلَبَّس بالخزي والعار، فالمعنى هكذا: ولو ترى يا محمد إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم..
البطولة أن تعرف الحق قبل فوات الأوان:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)﴾
حينما أدركه الغرقُ آمن، وكلُّ إنسانٍ مكابرٍ، معاندٍ، مكذّبٍ لابدَّ من أن يؤمن عندما يلقى الله عزّ وجل.
(( اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. ))
والحديث الذي تعرفونه:
(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))
الإيمان عملية واعية:
بالمناسبة، الإيمان ليس شيئاً يأتيك عفوَ الخاطر، أي ينمو هكذا، وأنت لا تدري، لا، الإيمان عملية واعية، عملية تفكُّر وبحث، عملية استماع وتَبَنٍّ، عملية عقل، فالإنسان إن لم يكن عنده وقتٌ ليؤمن لا يؤمن، أي إن هذا الذي تستغرقه أعماله، هذا الذي ليس عنده وقتٌ ليحضر مجلس علم، ولا ليقرأ القرآن، ولا ليُصغي إلى موعظة، ولا نصيحة، هذا متى يؤمن؟ لابدَّ أن تخصصُ وقتاً من زُبْدَة وقتك كي تؤمن، وحضورك مجالس العلم هو مساهمةٌ في بناءِ إيمانك، استماعك إلى الحق مساهمةٌ في بناء إيمانك، تلاوتك القُرآن، وتدبُّرك له مساهمةٌ في بناء إيمانك.
بعد فوات الأوان:
﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
الآن هناك آيةٌ من أدَقِّ الآيات:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نفْسٍ هُدَاهَا
مفهوم مغلوط للآية:
طبعاً ظاهر هذه الآية أنّ الإنسان إذا قرأها من دون تبَصُّر، ولم يسأل أهل الذكر عنها فقد يتوهَّم أن الله عزَّ وجل كان من الممكن أن يهدي الناس جميعاً، ولكنه لم يشأ ذلك.
المعنى الصحيح للآية: اختيار العبد:
حينما أقدم للطالب ورقة الإجابة، وقد كُتبتْ عليها الإجابة من قِبلي، وأقول لهذا الطالب: اكتب اسمك ورقمك، وهذه مئة من مئة، ما قيمة هذا النجاح؟ أُلغي النجاح، وسقطت قيمة النجاح، وليس هذا النجاح مقبولاً، ولا مرغوباً، ولا مطلوباً، لا عند الطلاب، ولا عند الأساتذة، ولا عند الناس جميعاً.
نفي مفهوم الجبرية:
إذاً لمجرد أن يجبر الله الناس على الهدى سقطت قيمة الهدى، وانتهى الهدى، وضاعت ثمرته، فقد يسأل سائل لماذا لم يجبرنا الله على طاعته وانتهى الأمر؟ هكذا تقول الآية:
﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ
لو كنت مجبركم على شيء لأجبرتكم على الهدى، ولو شئنا أن نجبركم، وأن نلغي اختياركم، وأن نلغي تكليفكم، وأن نلغي حرية كسبكم، لو أردنا ذلك لأجبرناكم على الهدى فقط:
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
هذا كذب، وهذا خَرَص، وهذا إِفك، وهذا افتراء، أيُعقل أن الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا للهدى، وخلقنا للرحمة أن يجبرنا على معصيته؟ لذلك هذا الذي يقول: لو نظرت إلى العُصاة بعين الشريعة لعنَّفتهم، ولو نظرت إليهم بعين الحقيقة لعذرتهم، هذا كلام لا يقف على قدمين، كلامٌ باطل.
ولو شئنا أن نأخُذ منكم اختياركم، لو شئنا أن نلغي تكليفكم، لو شئنا أن نجبركم لأجبرناكم على الهُدى، أما أن نجبركم على معصيةٍ فهذا مستحيل، لو أن الله أجبرنا على شيء لأجبرنا على الهُدى فقط، لكن حتى لو أجبرنا على الهدى لا قيمة لهذا الهدى، ولا نرقى بهذا الهدى، ولا نسعد بهذا الهدى، ولن يكون هذا الهدى القسري ثمناً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، لكن الهدى الاختياري أن تأتيه طائعاً، أن تأتيه مختاراً، أن تُقْبِل عليه وبإمكانك ألّا تقبل، أن تُحسِن وبإمكانك ألا تحسن، أن تستقيم وبإمكانك ألا تستقيم، أن تجلس في مجلس علم، وبإمكانك أن تجلس في دار لهوٍ، أن تَغُضَّ بصرك عن محارم الله، وبإمكانك أن تطلق البصر، أن تخاف من أن تأكل مالاً حراماً، وبإمكانك أن تأكُله، هذا الذي يرفعك عند الله، وهذا الذي يقربك منه، أن تأتيه مختاراً، إنكم تدّعون أنني أجبرتكم على هذه المعاصي، لو أنني أجبركم على شيء لأجبرتكم على الهدى.
أيها الإخوة الأكارم، في القرآن آياتٌ محكمات، وهي كثيرةٌ جداً، بل هي أكثر ما في القرآن، وفي القرآن بعض الآيات المتشابهات التي إذا قرأتها من دون علمٍ، ومن دون نورٍ، ومن دون خبرةٍ، أو تدَبُّرٍ، أو سؤالٍ، أو استنارةٍ قد تقع في سوء ظنٍ بالله عزَّ وجل، وحسن الظن بالله ثمن الجنة.
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ
أي قد تظنُ بالله ظناً غير صحيح، حسن الظن بالله ثمن الجنة، أي أن تعتقد أن الله أجبر الكفار على معصيته، ولا خيار لهم في ذلك، ولا حيلة لهم أبداً، وأنهم استحقوا جهنم إلى الأبد، وهم مجبرون؟ هذا سوءُ ظنٍ بالله عزّ وجل، فقيمة عملك أنك مخير، وما دمت مخيراً فلعملك قيمة، لعملك ثمن به ترقى، أي لا ترقى إلا إذا كنت مختاراً، فأيُّها العباد، إذا ظننتم أنني أجبركم على المعاصي فهذا سوء ظنٍ بالله عزَّ وجل، هذا ظن الجاهلية، هذا الذي يظن أن الله سبحانه وتعالى أجبر عباده على معصيته، ثم أدخلهم النار إلى الأبد، لأنه أجبرهم على معصيته، هذا هو الظن غير الحق
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ
﴿
كلُّ الآيات التي تتحدَّث عن اليوم الآخر فيها إشارةٌ إلى ندم العصاة، ندمهم، وخزيهم، وعارهم، لو أنهم أجبروا على المعصية لمَا ندموا، ندمهم علامة اختيارهم.
مجرَّد الأمر والنهي دالٌّ على أنَّ الإنسان مخير:
شيءٌ آخر: قال بعض العلماء:
﴿
أي غلبت علينا شهواتنا.
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
﴿
الجهة بيدكم، فاستبقوا الخيرات.. فلا يخافَنّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجوَّنّ إلا ربه.
إذاً هذه الآية من الآيات التي إذا قرأتها من دون علمٍ أو تدبرٍ، أو من دون أن تسأل أهل الذكر كما قال الله عزّ وجل:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ
ربما وقعت في سوء ظنٍ بالله، قد تقرؤها هكذا على ظاهرها:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)﴾
هكذا على ظاهرها من دون تدبُّر، من دون تحقق، من دون فهم تقع في سوء ظنٍ بالله، أي نحن بنينا سجناً، ويجب أن نملأه، أقمنا حاجزاً على الطريق، وأخذنا الناس، مطيعهم وعاصيهم لملء السجن، يا أخي، بنيناه وكلفنا كثيراً، هذا كلامٌ لا يقف على قدمين، لا يستقيم هذا الكلام، فإذا ادعيتم أيها العباد أنني أجبرتكم على معصية فهذا سوء ظنٍ منكم، ولو شئت أن أجبركم لأجبرتكم على الهدى، ولكن حتى لو أجبرتكم على الهدى فإن هذا الهدى القسري لا قيمة له إطلاقاً، ولا يرقى بكم، ولن يسعدكم، ولن تكونوا أهلاً به لدخول الجنة، أما الجنة ثمنها أن تأتي الله طائعاً، أن تطيعه، وبإمكانك أن تعصيه، أن تحسن، وبإمكانك أن تُسيء، أن تستقيم، وبإمكانك أن تنحرف، أن تؤمن، وبإمكانك أن تكفر، أن تعمل الصالحات، وبإمكانك أن تعمل السيِّئات، ما دام بإمكانك أن تُسيء، فإن إحسانك له قيمة، ولكن لماذا جعل الله النبي ضعيفاً؟ في أول الأمر بإمكانك أن تكذِّبه، وأن تنام مطمئن البال، بإمكانك أن تسخر منه، وتنام مطمئن البال، لذلك هذا الذي يؤمن به، الإيمان به شيءٌ عظيمٌ جداً، أما القوي فإنك تطيعه، ولا أجر لك، لأنك تخاف بطشه، تطيعه لا عن حبٍ، بل عن خوف، فلذلك ما جعل الله الأنبياء في أول عهدهم بالنبوة إلا ضعافاً؛ ليكون الإيمان بهم ثميناً، أنت تؤمن، ولو لم تؤمن لكان أقرب إلى مصالحك، إذاً جعل الله الإيمان له ثمن، هذه الآية أتمنى أن تُفهَم على هذا النحو الذي يليق بحضرة الله عزّ وجل، يليق بأسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى..
الأعمال السيئة باختيار العبد وهو محاسَب عليها:
﴿
هؤلاء الذين قالوا:
مصيبة الناس في نسيان اليوم الآخر:
فلاحظ الناس الآن، عامة الناس يحسبون حساباً لكل شيء، إلا اليوم الآخر، فيخططون لكل شيء، إلا ساعة وقوفهم بين يدي ربهم، يأخذون الأموال بلا تحفُّظ، يُعدُّون أخذ المال الحرام شطارةً، وذكاءً، وحنكةً، وحيويةً، يقول لك: هذا شاطر، هؤلاء الذين نسوا لقاء يومهم هذا هم الأغبياء، هم الأشقياء الذين سوف يدفعون ثمن إغفالهم، أو غفلتهم ثمناً باهظاً
حقائق ثلاث لا بد منها: الإيمان بالله، والإيمان بعلمه، والإيمان بحتمية الحساب:
لذلك أيها الإخوة الأكارم، أقول لكم: لن يستقيم الإنسان على أمر الله إلا إذا آمن بوجوده، وآمن بأنه يعلم، ولا تَخْفى عليه خافية، وآمن بحتمية الحساب، آمنت بوجود الله، وبأنه يعلم، وبأنه سيحاسب، إذا تحقَّقت من هذه الحقائق الثلاث فمن النتائج الطبيعية والحتمية أن تستقيم على أمر الله، إذاً حاول أن تؤمن بوجوده إيماناً حقيقياً لا إيماناً ساذَجاً، أو إيمان تَبَرُّكٍ، بل ليكن إيماناً حقيقياً، إيمانك بوجود الله ظاهرٌ في سلوكك؟ تقول: هذه لا أفعلها، إني أخاف الله رب العالمين؟ هل تقف عند حدود الله؟ هذا المبلغ لا آخُذُه، هذا اللقاء لن يكون، هذا العمل لا أفعله، يجب أن يظهر إيمانك في سلوكك، هذا الذي عناه الله عزّ وجل.
سمكات ثلاث: قصة وعبرة:
هذه قصة أرويها كثيراً، وهي رمزية: صيادان مرَّا بغدير سمك فيه سمكاتٌ ثلاث، كيِّسَةٌ، وأكيَس منها، وعاجزة، الكيّسة العاقلة، وأكيس منها، أي أرجح عقلاً، والعاجزة، أي الغبية، فرأى الصيادان ما في الغدير من السمك، فتواعدا أن يرجعا، ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت، وتخوفت، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، وهذه كلمةٌ دقيقة: المؤمن العاقل يحتاط لليوم الآخر قبل مجيئه، يحتاط للموت قبل نزوله، يحتاط للشيخوخة قبل أن يصل إليها، يستقيم في شبابه "حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر"، "من عاش تقياً عاش قوياً"، "من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت"، المؤمن لا يخرف أبداً، ولا يشيخ، يشيخ جسمه، وتبقى نفسه شابةً بمعرفة الله عزّ وجل. أما أكيسهن فإنها ارتابت، وتخوَّفت، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، ولم تَعْرُج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت، هذا العاقل، العاقل يعيش المستقبل دائماً، والأقل عقلاً يعيش الحاضر، والغبي يعيش الماضي يقول لك: كنت وكنت، الأقلّ ذكاء يعيش حاضره، يُفاجَأ بحادث فيأخذ تدابيره، لكن قد ينجح، أو قد لا ينجح، أما العاقل هو الذي يعيش مستقبله، وهو في شبابه يعيش ساعة الموت، كيف سأُحاسب؟ فالمشكلة أن الإنسان حينما يأتيه الموت يفقد كل شيء، ويدفع ثمن كل شيء، ويُحاسَب عن كل شيء.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
فهذه السمكة العاقلة جداً قبل أن يعود الصيادان أصبحت خارج الغدير، وارتاحت أعصابها، وأما الكيِّسة فمكثت في مكانها حتى عاد الصيادان، هذه تعيش وقتها، فوجئت، رجع الصيادان ومعهما الشبكة، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها، فإذا بالمكان قد سُد، الصيادان سدّوه فقالت: فَرَّطْتُ، وهذه عاقبة التفريط، هذا جزاء عملي، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، فتظاهرت أنها ميتة، ثم إنها تماوتت، فطفت على وجه الماء، فأخذها أحد الصيادين.. أمسكها بيده.. ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، لكن هذه غامرت وقامرت، كان من الممكن ألا تنجو، فلو وضعها في مكانٍ بعيد لماتت، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت، إذاً العاجز دائماً يعيش ماضيه أولاً، ويستهلك وقته استهلاكاً رخيصاً، فيأتيه الموت فجأةً، وهو ليس مستعداً له.
فلذلك نقلنا ربنا عزّ وجل نقلة، نقلنا إلى مشهد من مشاهد يوم القيمة، قال لك:
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ(12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(14)﴾
والحمد لله رب العالمين.