وضع داكن
23-02-2025
Logo
الدرس : 94 - سورة البقرة - تفسير الأية 284 سنن الله في خلقه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

كلُّ ما في السماوات والأرض مِلكٌ لله عزَّ وجل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والتسعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين، بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾

[ سورة البقرة ]

كلُّ ما في السماوات والأرض مِلكٌ لله عزَّ وجل، بل إن السماوات والأرض مصطلحٌ قرآني يعني الكون، والكون ما سوى الله، الله عزَّ وجل واجب الوجود، وما سواه ممكن الوجود، فكل ما في السماوات والأرض.
تقريبٌ لأذهان الإخوة، العلماء حتى الآن يُقدِّرون أن في الكون مئة ألف مليون مجرَّة، وأن في المجرة الواحدة تقريباً مئة ألف مليون نجم، وأن مجرَّتنا درب التبانة مجرةٌ متوسطة، المجموعة الشمسية بأكملها لا تزيد عن نقطةٍ مضيئةٍ في جسمٍ مِغْزَلي، فهذه المجرات بعددٍ كبير وحجمٍ كبير، أي بيننا وبين القمر ثانية ضوئية، الضوء يقطع المسافة إلى الأرض بثانيةٍ واحدة، وبيننا وبين الشمس ثمانِي دقائق، وبيننا وبين أقرب نجمٍ ملتهبٍ أربع سنوات ضوئية، لو أن هناك طريقاً نسير فيه لاحتجنا إلى خمسين مليون سنة بمركبةٍ أرضية، هذا أقرب نجم ملتهب، وأن نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، وأن المرأة المُسَلْسَلةَ هذه مجرةٌ يزيد حجمها عن حجم مجرتنا ثمانٍ وعشرين مرَّة، تُرى من الأرض نجماً واحداً، بعدها عنا مليونا سنة ضوئية، وأن بعض المجرات تبعد عنا عشرين ألف بليون سنة ضوئية.
 

آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تدل على عظمة الله من خلال خَلْقه:


قال تعالى: 

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾

[  سورة الحاقة  ]

آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تدل على عظمة الله من خلال خَلْقه: 

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾

[ سورة يوسف ]

 

حقيقة الإيمان ألا ترى مع الله أحداً:


أيها الإخوة؛ ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا الكون العظيم مِلْكٌ لله عزَّ وجل، ملكٌ لله خلقاً؛ هو الذي خلقه، وتصرُّفاً، ومصيراً، أما تصرُّفاً لا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله، الإنسان لضعف إيمانه، ولقِصَر نظره، ولشبهاتٍ تراكمت على قلبه يظن أن في الأرض أقوياء، وأن أمرهم نافذ، ولكن الحقيقة أنه ليس في الكون إلا الله: 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)﴾

[ سورة التغابن ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾

[ سورة النحل ]

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

حقيقة الإيمان ألا ترى مع الله أحداً، أما المشرك فيرى آلهةً لا تُعدُّ ولا تحصى، كل إنسان قوي يظنه إلهاً يفعل ما يريد.
 

الأمن للمؤمن وحده لأنه يرى يد الله تعمل في الخفاء:


لذلك حياة المشرك حياةٌ متعبة جداً قال تعالى: 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

حياة المؤمن حياة مُسْعِدة، لأن علاقته مع جهةٍ واحدة، هذه الجهة هي الله عزَّ وجل، لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما من شيءٍ يتحرَّك إلا بأمره، فالتوحيد يُريح الإنسان، يملأ القلب أمناً وطمأنينة، قال تعالى: 

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[  سورة الأنعام  ]

الأمن للمؤمن وحده، لأنه يرى يد الله تعمل في الخفاء، لأنه لا يرى مع الله أحداً، ولأن الله أسماؤه حسنى وصفاته فضلى؛ سميعٌ، قريبٌ، مجيبٌ، رحيمٌ، ودودٌ، غنيّ، قويّ، فإذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان عليك فمَن معك؟ العِبرة أن تؤمن الإيمان الذي يملؤك سعادة، يملؤك طمأنينة، يملؤك قوةً، يملؤك اندفاعاً، حينما لا ترى مع الله أحداً لا تخشى أحداً إلا الله، ولا تطيع أحداً إلا الله، ولا ترجو أحداً إلا الله، ولا تخاف من أحد إلا الله، هذا هو الدين.
 

أكبر مرضٍ يصيب الناس هو مرض الشرك وهو ضعف التوحيد:


من أين يأتي النفاق؟ من ضعف التوحيد، أن تشتكي لإنسان، وأن تنهار أمامه، وأن تبذل ماء وجهك أمامه، هذا من ضعف التوحيد، لأنك إن آمنت بالله عزَّ وجل، الذي أعطاه يعطيك، والذي أكرمه يُكرمك، والذي رفعه يرفعك، لذلك قال العلماء: ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كل هذا الكون مِلْكٌ لله خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً: 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾

[ سورة الغاشية ]

هذا هو الإيمان، إن آمنت أنه لا يقع شيء، ولا يتحرَّك شيء، ولا يقف شيء إلا بإذن الله عزَّ وجل، هذا الإيمان ينعكس على سلوكك استقامةً على أمر الله، وجُرْأَةً في الحق، وينعكس عليك عزةً وكرامةً ووضوحاً، فأكبر مرضٍ يصيب الناس مرض الشرك، وهو ضعف التوحيد، أي يرى أن هناك أقوياء لابد من أن تنصاع لأمرهم وإلا دمَّروك، لابد من أن ترضيهم ولو على حساب دينك، هذا هو مرض المسلمين، ضعف توحيدهم أوقعهم في المعاصي والذنوب، وأوقعهم في الشرك والشبُهات. 
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لماذا خَلَقَنا؟ خلقنا ليسعدنا في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، خلقنا لمهمةٍ، خلقنا لتأدية رسالة: 

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

 

ضعف التوحيد وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً:


لذلك هو في الدنيا يُربيِّنا، فإذا استقمنا على أمره أكرمنا، وإذا انحرفنا عن الصراط المستقيم أدَّبنا، فالإنسان حينما يبتعد عن الله يُؤثر شهوته على طاعة ربه، وحينما يُؤثر شهوته لابد من أن يعتدي، لأنك لو تحرَّكت وفق منهج الله لا يمكن أن تعتدي على أحد، أما إذا اندفعت بدافع الشهوة من دون منهج الله عزَّ وجل لابد من أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى نسائهم، أو على أعراضهم، فلذلك ضعف التوحيد وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً، هذه إذا خرجت وانقلبت إلى واقع صار هناك مرض لابد من معالجة الإنسان.
الله عز وجل من بعض تفسيرات هذه الآية أن النفس إذا انطوت على مرض، المرض يعني شهوة محرمة، لأن الله عزَّ وجل يقول: 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

المعنى المخالف أو المعنى العكسي أن الذي يتبع هوى نفسه وفق منهج الله عزَّ وجل لا شيء عليه، أعطى كل ذي حقّ حقه، اشتهى المرأة فتزوَّج، اشتهى المال فكسب كسباً مشروعاً، إذاً الإنسان حينما يُعْرِض عن الله عزَّ وجل يتّبع هواه، ومع اتباع الهوى ظلمٌ وعدوان، فلابد من أن يُؤَدِّب الله هذا الإنسان، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ .
إخواننا الكرام؛ أمراض الجسم تنتهي عند الموت، ولو كانت عُضالة، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت، فلذلك الإنسان أولى له ألف مرة أن يُعَالجه الله ليموت طاهراً نقياً من أن يَدَعَه الله وشأنه حتى يستحق دخول النار.
 

الإنسان حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد عنده الشهوات المُحَرَّمة:


معنى ذلك أن الإنسان مخلوق للجنة، والجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، معنى ذلك أن الحياة الكريمة التي خُلِقْتَ من أجلها ليست في هذه الدنيا، هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
إذاً نحن في مرحلةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية، سمَّى الله الحياة هذه حياةً دنيا، وسمّى الحياة التي أعدّها لنا الدار الآخرة حياة عُليا، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثمن هذه الحياة العليا الدار الآخرة الجنة التي يبقى فيها الإنسان إلى أبد الآبدين، ثمن هذه الحياة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تضبط شهواتك وفق منهج الله.
أيها الإخوة؛ هذا الثمن بمقدور أي إنسان أن يدفعه، ما مِن شهوةٍ أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، ليس في الإسلام حرمان، فالإنسان خُلِقَ في الدنيا من أجل جنة عرضها السماوات والأرض، ثمن هذه الجنة أن يستقيم على أمر الله، أي أن يضبط أهواءه، ونزواته، وشهوته وفق منهج الله، فإذا حاد عن منهج الله قليلاً تولَّد في نفسه أمراض، أمراضٌ نفسيَّة تحتاج إلى معالجة؛ البخل مرض، العُجب مرض، الكِبر مرض، حُبّ الذات مرض، الاستعلاء مرض، الحقد مرض، الرغبة في العلو في الأرض مرض، حينما نبتعد عن الله قليلاً تتولد الأمراض النفسية، الإنسان شهوةٌ مندفعة، فالإنسان حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد هذه الشهوات المُحَرَّمة. 
 

هناك طريقان للشفاء طريقٌ سليم وطريقٌ مُتْعِب:


الآن: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من أمراض، ﴿أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ الإنسان يعاني مرضاً نفسيّاً، عنده حبّ للدنيا ولو على حساب دينه، عنده رغبةٌ أن يأخذ ما ليس له، عنده رغبةٌ أن يغتصب بيتاً ليس له، عنده رغبةٌ أن يعتدي على حقوق الآخرين، هذه كلها أمراض، فإن أظهرها الإنسان أو أخفاها لابد من أن يُحاسب عليها، لأن الله رب العالمين، ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ أمام طبيب قد تُخفي أعراض مرض خطير، والطبيب لا يعلم، أما لو أن الأب هو الطبيب فيرى أن هناك علامات مرض، فلا يسمح لابنه أن يكذب عليه، لابد من أن يعالجه، لأن الأب الطبيب يتمتَّع برحمةٍ وعلمٍ في آن واحد، برحمة الأب وعلم الطبيب، ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ .
أيها الإخوة؛ هناك طريقان للشفاء: طريقٌ سليم، وطريقٌ مُتْعِب، إنسان اشتهى شيئاً حراماً فأقبل على الله، واتصل بالله، واستغفر الله، حتى غفر الله له هذه الشهوة المحرَّمة، شفاه منها، طهَّر قلبه منها عن طريق الصلاة، الصلاة تُطهّر القلب من أدرانه، الصلاة طَهور، والصلاة نور، والصلاة حَبور، والصلاة ذكر، والصلاة مناجاة، والصلاة علم وعقل، إلى آخره، فإن انتبه إلى نفسه، وشعر أن في نفسه مرضاً خطيراً لابد من أن يشفى، فأقبل على الدين، اتصل بالله عزَّ وجل، دفع الصدقات، ذكر الله كثيراً، تلا كتاب الله، التحق بمسجد يظن أن هذا المسجد على حق، وأقبل على الله، الله عزَّ وجل شفاه من دون مصيبة.
أو يُكابِر بالمحسوس، يبقى على خطئه، يبقى مُصرّاً على ذنبه، ما الذي يحصل؟ يحتاج إلى تأديب الآن.
 

سنن الله في خلقه:


كلكم يعلم أيها الإخوة أن الله جلّ جلاله له في خلقه سُنَن: 

1 ـ الهدى البياني:

الله عزَّ وجل يبدأ بالهُدى البياني، يُبيِّن من خلال القُرآن، من خلال سنة النبي العدنان، من خلال الدعاة، من خلال الحوادث يبين، الهدى البياني، الدعوة البيانية، أنت معافى، صحيح، سليم، موفور الكرامة، يُسمعك الله الحق، أرقى إنسان هو الذي يستجيب لله بدعوته البيانية. 

2 ـ التأديب التربوي:

إن لم يستجب لابد من مرحلةٍ صعبةٍ التأديب التربوي؛ يؤدِّبه بنقصٍ في ماله، أو نقصٍ في صحته، أو نقصٍ في أهله، أو عدو مخيف، أو شبح مصيبة، الله عزَّ وجل عنده مصائب لا تُعَدًّ ولا تحصى؛ تبدأ من الهم، وتنتهي بأصعب الأمراض، المرحلة الثانية التأديب التربوي. 

3 ـ الإكرام الاستدراجي:

المرحلة الثالثة إن لم يتب الإكرام الاستدراجي كما هي الحال عند أهل الدنيا الذين شردوا عن الله عزَّ وجل، دنيا عريضة، أموالٌ وفيرة، شهواتٌ مستعرة، يفعلون كل شيء وهم أقوياء، متغطرسون، متسلِّطون، هذا اسمه: الإكرام الاستدراجي، وبعدها القصم. 

4 ـ القصم:

أنت بين الهدى البياني، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، ثم القصم، هنيئاً لمن استجاب لله بدعوته البيانية، كلام ربنا واضح وضوح الشمس، كلام النبي عليه الصلاة والسلام واضح وضوح الشمس، هناك دعاةٌ إلى الله صادقون، أصغِ إلى قولهم، استمعْ إلى دعوتهم، استجب، طبِّق، ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لا تستجب، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ .
 

المصائب أربعة أنواع:


إما أن تستجيب له فتسلم من مصائب الدنيا، طبعاً يبقى هناك مصائب رفع درجات، مصائب امتحان، أما مصائب العقاب نجوت منها، المصائب أربعة أنواع: مصيبة قصمٍ، أو مصيبة ردعٍ، وهاتان المصيبتان للكفار، مصيبة دفعٍ، ومصيبة رفعٍ، وهاتان المصيبتان للمؤمنين، ثم هناك مصائب الأنبياء مصائب كشفٍ، أي ينطوي على كمال لا يظهر إلا بحالةٍ صعبة، فبين القصم والردع، وبين الدفع والرفع، وبين الكشف، هذه المصائب، فالإنسان إذا استجاب لله عزَّ وجل، وانتبه إلى أمراضه، واستغفر الله منها، وأقبل على الله، وطهر الله قلبه من هذه الأمراض، أي يجب أن نؤمن، هناك مقولة عند العوام يقول لك: "فالج لا تعالج"، إذا لم يكن هناك أمل الإنسان يتطور لا جدوى من بعثة الأنبياء، هذا كلام غير صحيح، قد يكون الإنسان حاقداً، وقد يكون لئيماً، وقد يكون مستعلياً، ومتكبراً، ومحباً لذاته، فإذا اصطلح مع الله وأقبل عليه طَهُرت نفسه فصار كريماً، وصار متواضعاً، وصار حليماً، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خُلقاً حسناً، أي الصلاة فيها شفاء:

(( قال صلى الله عليه وسلّم: مفتاح الصلاة الطهور. ))

[ الترمذي وابن ماجه عن علي ]

تطهر النفس من أدرانها، لا يمكن أن يكون المصلي حَقوداً، ولا أن يكون المصلي لئيماً، ولا بخيلاً، ولا شحيحاً، ولا جباناً، ولا منافقاً، الصلاة تُطهِّر الإنسان، تسمو به، إذاً العبرة أن نسمو إلى الله، أن تطهر نفوسنا من كل درن.
 

الله عزَّ وجل يهدينا طريقاً نسلم في نهايته ونصل إلى الجنة عن طريقه:


هناك طريقان، إنسان يقول له الطبيب: والله إذا اعتنيت بطعامك وحركتك لا تحتاج إلى عملية، كلام واضح، وإذا أهملت تحتاج إلى عملية، إما أن تُعَالج بالأدوية من دون شَق، وإما أن تُعَالج بعملية جراحية قد تكون خطيرة: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية أيها الإخوة مؤدَّاها أن ننتبه إلى أنفسنا، هناك طريق إلى الشفاء سليم، وهناك طريق مُتْعِب، والطريق المتعب قد لا ننجح فيه، الطريق السليم أن نتوب، وأن نُقْبِل، وأن نصلي، وأن نذكر، حتى يشفي الله قلوبنا من أمراضها.
الطريق الثاني ننتظر المصيبة فإذا جاءت لجأنا إلى الله عزَّ وجل، كلام واضح كالشمس، أي إما أن نتوب طائعين، أو أن يحملنا الله على التوبة مُكْرَهين، دققوا: إما أن نتوب طائعين، أو أن يحملنا الله على التوبة مُكْرَهين لأنه يحبنا، ولأنه يحبّ أن يسعدنا، يحبّ أن يتوب علينا، يحبّ أن نصل إلى الجنة سالمين وغانمين، فهذا كلامٌ دقيقٌ واضحٌ وضوح الشمس، ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ لأن الله يعلم السر وأخفى، أما قد تقول للطبيب: لا أشعر بألم إطلاقاً، وأنت على خلاف ذلك، فيسكت الطبيب، إذا أخفيت أعراض الأمراض عن الطبيب، الطبيب لا يعلم، أما إن أخفيت أعراض الأمراض القلبية عن الله عزَّ وجل فهو يعلم؛ سواءٌ عليك أظهرتها أم أخفيتها فالله لابد من أن يحاسبك عليها تطهيراً، وترقيةً، ووصولاً إلى طريق السلامة، الله عزَّ وجل يقول: 

﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾

[ سورة المائدة ]

أي الله عزَّ وجل يهدينا طريقاً نسلم في نهايته ونصل إلى الجنة عن طريقه.
 

إما أن تأتي الله طائعاً وإما أن يأتي بك مُكرهاً:


آيةٌ مهمة جداً ودقيقة جداً: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من أراد الطريق السليم بالتوبة الذاتية، والإقبال، والاتصال بالله، وذكر الله عزَّ وجل، وطاعة الله يشفى من مرضه، وأنت معافىً سليم موفور الكرامة، والإنسان حينما لا يقبل الطريق السليم، ويركب رأسه، ويُصرّ على معصيته، لابد من أن ينتظر التأديب من الله عزَّ وجل. 
الطريق الثاني صعب ومتعب، وقد يكون فيه ذلّ وإهانة، وقد يكون فيه فقر مدقِع، وقد يكون فيه إراقة ماء وجه، وقد يكون فيه أسر حرية، قد يفقد حريته، أو يفقد أحد مقوِّمات سعادته، على كل بالنهاية لابد من أن يؤدِّبنا الله بإحدى الطريقتين.
مرة سألني شخص: ما ملخَّص هذه الدعوة؟ قلت له كلمتان أي بالتعبير الدارج: إما أن تأتيه ركضاً، أو يأتي بك ركضاً، اختر واحدة منهما، إما أن تأتيه طائعاً برغبةٍ منك، بمبادرةٍ منك، بإقبالٍ منك عليه، وإما أن يسوق لك من الشدائد ما يحملك على التوبة، قال تعالى: 

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

إذا جاءت توبة الله بعد توبتك فالمعنى قبول توبتك، أما إن جاءت توبة الله قبل توبتك؛ تاب الله عليهم ليتوبوا أي ساق لهم من الشدة ما حملهم على التوبة، فإما أن تأتيه طائعاً، وإما أن يأتي بك مُكرهاً،

(( عَن أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذا الكلام لنا وأنا معكم، أنا مدعوٌ معكم إلى هذه الدعوة، ائتِ الله عزَّ وجل طائعاً بمحض اختيارك، وأنت صحيح معافى، وأنت موفور الصحة والكرامة، انتبه، وإلا فرحمة الله تقتضي أن يأتي بك مقهوراً.
 

الله عزَّ وجل يدعونا إلى حياةٍ حقيقية تليق بنا أما الإنسان فيريد الحياة الدنيا:


قال تعالى: 

﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾

[ سورة الأنعام ]

الإنسان المريض أيّ مكانٍ يناسبه؟ المستشفى، والعملية الجراحية، والسيروم، وفتح الصدر أو فتح البطن، والدماء تنزف، والآلام لا تُحتمل، والتخدير، المريض هكذا، والصحيح يناسبه نزهةٌ جميلة، وطعام طيِّب، فإما أن نأتيه طائعين فيُكرمنا، وإما أن يأتي بنا مكرهين ويؤدِّبنا وبعدها يُكرمنا، لابد من أن يُكرمنا.
بعضهم قال -طبعاً الكلام متعلق بالمؤمنين-: أنت لك عند الله مكان، إما أن تبلغه بعباداتك، وخدمتك للخلق، وإقبالك على الله، وذكرك له، وإما أن تبلغه بصبرك على بعض المصائب، لابد من أن تصل إلى هنا إما بطريقٍ سليم، وإما بطريقٍ مُتعب، ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يستجيب لله عزَّ وجل، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

الله عزَّ وجل يدعونا إلى حياةٍ حقيقية، حياةٍ تليق بنا، حياة تناسب مكانتنا عنده، حياةٍ أبديةٍ لا نَصَبَ فيها ولا تَعب، أما الإنسان فيريد الحياة الدنيا، إن هؤلاء يحبون الحياة الدنيا، يؤثرون عليها كل شيء.
أيها الإخوة الكرام؛ الحياة الدنيا حياةٌ دنيا مؤقَّتة: 

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)﴾

[ سورة الإسراء ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور