الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والخمسين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾
أول نقطة: مطلق الألم، أيُّ شيءٍ يؤلمك، نقصٌ في المال، نقصٌ في الصحة، ذريةٌ لا كما ترضى، زوجةٌ لا كما ترضى، دخلٌ قليل، وضعٌ مهين، أي شيءٍ يؤلمك، أي شيءٍ يزعجك، أي شيءٍ تتحسَّر من أجله؟ لمَ هذه الآلام؟ لمَ لا تكون الحياة كلها أموالاً وكلها جمالاً وكلها راحة وكلها أمناً؟ لمَ الخوف؟ لمَ الفقر؟ لمَ المرض؟ لمَ الموت؟ لمَ الهم؟ لمَ الحزن؟ سؤال كبير في العقيدة سأوضحه قليلاً: السيارة لمَ صُنِعَتْ؟ من أجل أن تسير، أليس فيها مكابح؟ مكابحها تتناقض مع سبب صنعها، صُنِعت لتسير وفيها مكابح تمنع سيرها، هل المكابح شرّ أم خير؟ خير، المكابح من أجل سلامتها، وسلامة أصحابها، واستمرار عملها.
فإذا فهمنا الألم، مطلق الألم، أي شيءٍ يؤلمك، أية مصيبةٍ تزعجك، أي همّ يسيطر على قلبك، أيّ خوفٍ، أيّ فقرٍ، أيّ فقد حريةٍ، أيّ بيتٍ مُتْعِب، أية زوجةٍ متعبة، أيّ ولدٍ متعب، أيّ خوفٍ ممن هو أعلى منك، مُجمَل الآلام التي يعاني منها الإنسان هي مكابح في مركبة، لولا هذه المكابح ما سَلِمت لا هي ولا صاحبها، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾
﴿ظَاهِرَةً﴾ سير السيارة، ﴿وَبَاطِنَةً﴾ مكابحها من أجل سلامتها.
مثل آخر، طفلٌ صغير، كلّ سعادته مع أمه، كلّ شبعه مع أمه، كلّ ريِّه مع أمه، كلّ أمنه مع أمه، كلّ نظافته مع أمه، كلّ ثيابه النظيفة مع أمه، كلّ شعوره بالسعادة إذا كان مع أمه، فإذا ترك يد أمه وشرد عنها، لابد من كلبٍ ينبح عليه حتى يعيده إلى أمه، هذه حالة ثانية، هذه المصائب.
المصيبة جزء أساسي من العقيدة:
قضية المصيبة جزء أساسي من العقيدة، إن لم تفهمها كما أرادها الله أسأت الظن بالله عزَّ وجل، وسوء الظن بالله من الكبائر، وقد تحدثت أن الكبائر نوعان، كبائر ظاهرة، وكبائر باطنة، الكبائر الظاهرة مثلاً شرب الخمر، السرقة، التّولي من الزحف، الغيبة، النميمة، هذه كبائر ظاهرة، لكن لأنها ظاهرة يمكن أن تتخلَّص منها، واضحة، أما الكبائر الباطنة سوء الظن بالله، الأمنُ من مكر الله، اليأس من روح الله، هذه كبائر باطنة، خطيرة جداً، فسوء الظن بالله سببه ألا تفهم المصيبة على ما أرادها الله.
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
العذاب الأكبر في جهنم، والعذاب الأدنى في الدنيا، السجن عذاب أدنى، الضرب عذاب أدنى، الذل عذاب أدنى، فالعذاب الأكبر في جهنم، والعذاب الأدنى في الدنيا، فإذا كان عذاباً أدنى ملطَّف، مخفَّف، قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)﴾
العذاب الأدنى في الدنيا أما العذاب الأكبر فهو في الآخرة:
ماذا تفعل حينما تريد أن تمتحن حرارة المكواة؟ ماذا تفعل؟ تضع لُعاباً على أصبعك، وتضع أصبعك على المكواة لأقل وقت، أقل من ثانية، ولأقل مساحة، أقل مساحة، وأقل وقت، ومع لعاب، هذا المَس: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ تأتي آلام، يقول لك: كريزة، لكن الآلام ليست مستمرة، آلام متقطِّعة، فالعذاب الأدنى في الدنيا، أما العذاب الأكبر فهو في الآخرة: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ من أجل أن يرجعوا، من أجل أن يسعدوا، من أجل أن يَسْلَموا، من أجل أن يدخلوا جنةً عرضها السماوات والأرض، وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبّ أن أرحمه، إلا ابتليته بكل سيئة كان عَمِلها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شدّدت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.
مثل ثالث؛ طفل في الصف الرابع، قال لأبيه مرةً واحدة: لا أحبّ المدرسة، قال: دعها يا بني، لأول كلمة ترك المدرسة، نام إلى الظهر، وارتاح، لا يوجد وظائف، ولا يوجد دوام، ولا يوجد أي شيء، لعب مع رفاقه، كل يوم من محل إلى محل، من مسبح إلى مسبح، من سينما إلى سينما، كبر، متخلف عن أصدقائه، لا عمل، ولا حرفة، ولا مهنة، ولا زواج، ولا بيت، شريد في الطرقات، فقير، جائع، قليل الشأن، نَقَم على والده قال له: يا أبت لمَ وافقتني حينما طلبت منك أن أدع الدراسة؟ لمَ لمْ تضربني؟ لمَ لم تشدِّد علي؟ لمَ لم تزجرني؟
المصائب تهدي الناس إلى طريق الصواب:
لو ترك الله عزَّ وجل الناس على هواهم بلا مصائب!! يقول لك: أخي لا يوجد مياه، صح، المكاسب قليلة والمطالب كثيرة، صح، هناك في حياة المؤمن أحياناً مليون مشكلة، لكن لو لم يكن هناك ولا مشكلة، واسترسل في الدنيا، ونَسِي الله، وغفل عنه، إلى أن قادته غفلته إلى جهنم، هذا أفضل أم أن يسوق الله لهذا الإنسان بعض المصائب؟ أنا أضرب بعض الأمثلة، عندي قصص كثيرة جداً وكلها واقعيَّة، لكن بعض هذه القصص، رجل له عمل، وظيفة، وآتاه الله عزَّ وجل شكلاً جميلاً، وله زوجة تروق له، ودخل كافٍ، وهو في ريعان الشباب، وبعيد عن الدين بُعد الأرض عن السماء، وله فتاة بنتٌ يكاد عقله يذهب بها، من شدة تعلُّقه بها، طبعاً كان بعيداً عن الدين بعداً غير معقول، كان يسخر أحياناً من أحاديث رسول الله، أصيبت ابنته بمرضٍ خبيث في دمها، ما ترك طبيباً إلا وقابله، وعَرَض عليه ابنته، قال لي: فحصها ستة وثلاثون طبيباً، ثم باع بيته، وسافر بها إلى بريطانيا، لا يوجد أمل، بذل من أجلها كل ما يملك، ورم خبيث في الدم، قال لي: ثم خطر في بالي خاطر لعلَّه ملائكي، لو أنك تبت إلى الله أنت وزوجتك، وحجَّبت زوجتك وصليتما معاً، لعل الله يشفيها، خاطر ملائكي، قال لي: استجبت لهذا الخاطر، وتبت إلى الله، واصطلحت معه، وحجَّبت زوجتي، وسِرت في طريقٍ آخر، طريق الرحمن، تراجع هذا المرض شيئاً فشيئاً، بعد حين زارني في المكتب قال لي: أدعوك لعقد قِران ابنتي، لم أنتبه أية ابنة له، لبَّيت هذه الدعوة وألقيت كلمة، وأنا أخرج من المكان سألته: هي هي؟ قال لي: هي هي، شفاها الله وزوَّجها، ماذا فعل هذا المرض؟ ضيف جاء حمل الأب والأم على الطاعة، والتوبة، والصلح مع الله ثم غادر، أصحاب الجنة:
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
لولا المصائب لاستحق الغافلون النار:
بساتين، يقول لك: أنا لا أضمّنها بثلاثة ملايين. ثمار يانعة، حان قِطافها، أسعارها غالية جداً، لكن: ﴿أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾ لا يعطون أحداً من الفقراء شيئاً، لو تركهم ربنا على ما هم عليه لاستحقوا النار، ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُون﴾ صقيع، أحياناً يكون الصقيع لمدة دقيقة، أعرف صقيعاً استمر أقل من دقيقة، نصف دقيقة، أتلف كل المحاصيل:
﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)﴾
فلما رأوها صعقوا:
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)﴾
هذا ليس بستاننا، فلما تأكدوا أنه بستانهم قالوا:
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾
المصائب رحمة مبطنة من الله:
الآن دقِّق، دقِّق في هاتين الكلمتين:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
أي أيُّ عذابٍ أسوقه لعبادي من أي نوعٍ، عذاب مادي، عذاب معنوي، فقر، قهر، مرض، حرب أهليَّة، اجتياح، أيُّ عذابٍ أسوقه لعبادي من أي نوع، من أي جنس، في أي مكان، في أي زمان كهذا العذاب، قال: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ المصيبة رحمةٌ من الله، ولكنها رحمةٌ مُبَطَّنة، النعم الظاهرة؛ الصحة، والمال، والجمال، والزوجة، والأولاد، والمسكن الواسع، والمركب الوطيء، والرزق في بلدك، هذه النعم الظاهرة، أما النعم الباطنة، مرض قد يقودك إلى باب الله، فقر قد يقودك إلى باب الله، حجز حرية قد تقودك إلى باب الله، مرض ابن قد يقودك إلى باب الله، هكذا، يجب أن نفهم حكمة المصائب.
مثل خامس: أنت مدير مؤسسة، وأردت أن تضع ابنك في المؤسَّسة، لو عيَّنت إنساناً غريباً تقول له: تجريب ستة أشهر، تجريب وتدريب واختبار، فإما أن أقول لك: استمر، أو ليس لنا مصلحة أن تكون بيننا، فهذا الغريب كلما أخطأ المدير سجّل خطأ، كلَّما أخطأ سجَّل، إلى أن تراكمت هذه الأخطاء فصرفه، لا يناسبنا، لو أن هذا المدير له ابن، وكان معه في العمل، كلَّما أخطأ خطأ يسجله عليه أم يحاسبه عليه؟ يحاسبه، هذا غلط افعل كذا، لأنه يوجد رحمة، رحمة الأب تقتضي ألا يدع ابنه بلا توجيه، كلما أخطأ يوجِّهه إلى الصواب.
فالله عزَّ وجل ممكن نصب الكون يدلّ عليه، وأرسل النبي ليبلغنا الرسالة، وأنزل كتاباً منهجاً لنا، انتهت المهمة، افعل ما تشاء، افعل ما تشاء، لو أن الناس شردوا عن الله واستحقوا النار، أهذا أفضل أم أن يعاقبهم الله عزَّ وجل كلَّما أخطؤوا؟ وكلَّما أخطؤوا ساق لهم بعض المصائب كي يتوبوا، أيهما أفضل؟!
أيها الإخوة؛ هناك معانٍ كثيرة في المصائب، على كلّ الله عزَّ وجل رب، والرب هو الذي يُحيط المُربَّى بالعناية والتربية، فالله عزَّ وجل كما أنه يُربي أجسامنا، يسوق لنا الأمطار، يسوق لنا الخيرات، يُنبت الزرع، يُمِدَّنا بالهواء، بالماء، بالطعام، بالشراب، هذه تربية أجسام، وهو أيضاً يربي نفوسنا.
أحد إخواننا يملك معملاً بسيطاً متواضعاً، زاره شخص قال له: أريد أربع قطع ألبسة داخلية، هو يبيع بالجملة، قال لي: أنا أبيع أربعمئة دزينة، هل أبيع أربع قطع؟! قال له: أنا لا أبيع مفرَّقاً، قال له: لا تؤاخذني، أقسم لي أنه خلال ثلاثة وثلاثين يوماً ما دخل محله مشتر، أدَّبه الله، الآن يبيع قطعة واحدة، هذا تأديب نفسي، عن طريق تأمين الطعام والشراب، أو تقليل الطعام والشراب، الآن الناس تشكو قلة المطر، تشكو شحّ المياه، تشكو الآبار نشفت، قال لي أخ: أنا حفرت بئراً منذ عشر سنوات على طريق المطار، ستة أمتار وجدت الماء، قال لي: حفرت ستين متراً احتياطاً، وأنزلت المضخة خمسين متراً، قال لي: بعد حين جفت كلياً، حفرت مئة وثلاثين متراً، حفر من ستة أمتار إلى مئة وثلاثين متراً، أي منسوب المياه الجوفية غار، أي إذا ما أنزل الله عزَّ وجل أمطاراً فإن هذه البلاد ستجف، الله عزَّ وجل حرَّك الأمطار، وحرَّك الأرزاق كي يؤدبنا، الله عز وجل إذا قنَّن فهو تقنين تأديب لا تقنين عجز، تقنين تربية لا تقنين بُخل:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
قرأت مقالة علميَّة: اكتشف علماء في أوروبا من خلال مراصد عملاقة تعمل بالأشعَّة تحت الحمراء، اكتشفوا سُحُباً في الفضاء الخارجي، إحدى هذه السحب –دقِّقوا-تملأ محيطات الأرض كلَّها ستين مرَّة باليوم بالمياه العذبة، يقول لك: حرب مياه، أزمة مياه في العالَم، تقنين تأديب لا تقنين عجز، سحابةٌ واحدة يمكن أن تملأ محيطات الأرض ستين مرَّة في اليوم الواحد: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ .
ليس في الكون فساد إلا من قِبَل الإنس والجِن:
لذلك قال العلماء: لا يجوز أن تقول: الله ضار، مع أن الضار من أسمائه الحسنى، ماذا أقول؟ تقول: ضارّ نافع، إنه يضرُّ لينفع، لا يجوز أن تقول: الله قابض، مع أنه قابض، والقابض من أسماء الله الحسنى، يجب أن تقول: قابضٌ وباسط، يقبض ليبسط، لا ينبغي أن تقول: الله خافض، مع أن خافضاً من أسماء الله الحسنى، يجب أن تقول: خافضٌ رافع، يخفض ليرفع، يضرّ لينفع، يُذِلّ ليعز، يضعك في موقف صعب فتبكي من شدة القهر، حينما تبكي ترجع إلى الله وتصطلح معه فيعزَّك، أذلَّك ليعزَّك، منعك ليعطيك، خفضك ليرفعك، ضرَّك لينفعك، هكذا، هذا فعل الله عزَّ وجل.
شيءٌ آخر: هناك الآن فساد في البر والبحر وفي الجو أيضاً يوجد فساد، تُدار الخمور في الطائرات، وتُعرَض أفلامٌ لا ترضي الله في الطائرات، فظهر الفساد في البر والبحر، فساد في البواخر، فساد في البر، اصعد إلى جبل قاسيون، وانظر ما على السطوح، تعلم حجم الفساد في بلدنا:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾
هناك من يقول: لكي يشاهد الصلاة بمكَّة فقط، الله أعلم، من الممكن أن يظهر الفساد في البر والبحر ولا يحدث شيء، ممكن: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ ليس في الكون فساد إلا من قِبَل الإنس والجِن.
ما هو الفساد؟ الفساد كائن مخيَّر فيه شهوات، وهناك منهج، تحرَّك بدافع من شهواته بلا منهج لأنه حر، هذه كل القصة، السكر مادة مهمة جداً، والملح مادة مهمة جداً، والمساحيق البيضاء المنظِّفات مهمَّة جداً، اطبخ طبخةً غالية جداً وضَعْ لها مسحوق غسيل، هل تؤكل؟ انتهت، المواد كلها مفيدة، سوء استخدام، ضَعِ السكر مع الطبخ لا تأكله، ضَعِ الملح في الحلويات لا تأكلها، كيلو سكر بمحرّك يكلِّف إصلاحه ثلاثين ألفاً، ما هو الشر؟ الشر سوء استخدام، ما هو المنهج؟ ضع السكر في الشاي، والملح في الطبخ، ومسحوق الغسيل لتنظيف الصحون، هذا التوجيه، كل شيء له استعمال، فالإنسان إذا كان أعمى يضع شيئاً مكان شيء، يضع السكر في الطبخ، والملح في الحلويات، فيُفسد الطعام والحلويات معاً: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ هذه الباء باء السبب، أي بسبب الناس ظهر الفساد، ما هو الفساد؟ أن تُخْرِج الشيء عن طبيعته، هذا الماء لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة، هذا الماء، إفساده أن يكون ملوثاً، أو أن يكون كريه الرائحة، أو أن يكون عكراً، هذا هو الفساد، إخراج الشيء عن طبيعته: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ كان من الممكن أن يذيقهم ومن الممكن ألا يذيقهم: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ السبب أن يرجعوا إلى الله عزَّ وجل.
مطلق المصائب سببها أن نعود إلى منهج الله سبحانه:
إذاً إنسان أُودعت فيه الشهوات، أُعطِي حرية الاختيار، أُعطِي منهجاً، فتحرَّك وفق شهوته بلا منهج، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
الفساد هو اتباع الهوى بغير هدىً من الله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ كل المصائب، مُطلق المصائب، مُطلق الألم، كل شيء سلبي في الحياة: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ .
أحدهم أحبَّ أن يداعبني قال لي: ما ملخَّص دعوتك في هذا المسجد التي عمرها ثلاثون سنة؟ قلت له كلمتين سأذكرها باللغة الدارجة: إما أن تأتي لله عز وجل ركضاً، أو أن يأتي بك ركضاً، هو يعرف كيف يأتي بك، فانتبه، يمكن أن يُقِبل الإنسان على الله باختياره، فإن لم يفعل هناك مصائب تسوقه إلى باب الله عزَّ وجل.
موسم طيِّب، أرباح طائلة، أخذ خمسمئة ألف، وسافر إلى بلد غربي لكي يتمتع، هكذا قال لي من فمه، ذهب، شعر بآلام في ظهره، زار الطبيب قال له: سرطان في النخاع الشوكي، أصيب بانهيار، ورجع، لم يكمل، كانت لديه خطة طويلة، رجع، صار يتردد من جامع إلى جامع حتى تاب، الله توّبه، ثم ظهر أن التشخيص خطأ، أي يمكن أن يبعث الله عزَّ وجل مصيبة وهميَّة أو حقيقيَّة، كل شيء بيده.
يسوق الله لك من الشدائد ما يردعك عن موقف غير جيد لأن الله يحبك:
هذا الدرس عن حكمة المصيبة، يجب ألا تنزعج من المصيبة، المصيبة باب إلى الله، سوقُ الله عزَّ وجل إليك، هناك آية واضحة جداً:
﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾
أي إذا أخذت موقفاً غير جيد، لم تكن مع رسول الله، الله عزَّ وجل يحبك، يسوق الله لك من الشدائد ما يردعك عن هذا الموقف لأن الله يحبك: ﴿إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ﴾ أول الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾
وإذا أصررتم: ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ هذه سنة الله في خلقه، إذا ارتكب الإنسان موقفاً غلطاً، الله يسوق له الشدائد، إما أن يرتدع، وإما أن يتمادى في غيِّه، عندئذٍ: ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾ .
آخر شيء بالمصيبة والله أعلم، نحن عندنا مصائب الكفار، ومصائب المؤمنين، ومصائب الأنبياء.
1 ـ مصائب الأنبياء مصائب كشف:
مصائب المعصومين كشف، يوجد من نفسه كمال لا يبدو إلا بحالات نادرة جداً، إذا شخص مثلاً -لا سمح الله ولا قدَّر-قال لزوجته: أحبك حبّاً لا حدود له، فمرضت، تغيرت أخلاقه، تبرَّم، تكلَّم كلاماً قاسياً، غاب عن البيت، معنى هذا أنه لا يحبها، هو كان يحب نفسه، فلما كانت في خدمته عبَّر لها عن محبته، فلما أصبحت عبئاً عليه تبرَّم منها، لو أنها مرضت مرضاً شديداً، وقام بخدمتها أياماً طويلة دون أن يتكلَّم كلمةً قاسية، هذا المرض الذي أصاب زوجته كشف عن كماله، معنى هذا أنه كان صادقاً في كلامه.
سيارة قوة محركها سبعون حصاناً، لا تبدو لك قيمتها في طريق سوي، لابد من طريق صاعد ومحمَّلة بالركاب والمتاع، وتنطلق بسرعة مئة وثمانين، لأن قوة محركها سبعون حصاناً، فالأنبياء مصائبهم مصائب كشف، سيد الخلق وحبيب الحق يذهب إلى الطائف مشياً على قدميه ثمانين كيلو متراً إلى أن وصل إليهم، دعاهم إلى الله بالحسنى فكذَّبوه، وسخروا منه، وأغروا صبيانهم أن يؤذوه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ))
[ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]
مصائب كشف، عندك إمكانيات عالية جداً لا تبدو إلا بظرف استثنائي، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن سعد بن أبي وقاص: أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسَبِ دينِه، فإنَّ كان في دينِه صُلْبًا، اشْتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينِه رقةٌ ابْتُليَ على قدْرِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَه يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ. ))
[ صحيح الترمذي : صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
2 ـ مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع:
أما مصائب المؤمنين، هؤلاء مؤمنون، مصائب دفع، السرعة بطيئة، لاح له شبح مصيبة فركض، السرعة بطيئة، تسريع، دفع، وإذا كان مسرعاً رفع، مثلاً: سيارة تسير على الخمسين، وبإمكانها أن تسير على المئة، وبذلك توفر الوقت، ويمكن استثمارها لطلب ثان، فأول نوع من المصائب دفع، رفع سرعة، الآن تحمل طناً واحداً، وبإمكانها حمل خمسة أطنان، وأجرة حمل كل طن أجرة كبيرة جداً، فحملناها بدلاً من الطن خمسة أطنان، هذه مصائب رفع، دفع ورفع، تسريع ورفع الأجرة، وصلت بوقت مبكر وكسبت أجراً أكبراً، مصائب دفعٍ ورفعٍ.
3 ـ مصائب العصاة والمذنبين مصائب قصم وردع:
مصائب الأنبياء مصائب كشفٍ، مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع، مصائب العصاة والمذنبين قصمٌ وردعٌ، إذا كان فيه بقية خير يُرْدع بها، إذا لم يكن فيه خيرٌ يقصم:
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾
حياة المؤمن لا تخلو من تأديبٍ وابتلاءٍ وتكريم، هناك مرحلة تؤدَّب فيها إذا كان هناك تقصير، وفي مرحلة مع الاستقامة التامة تُمتَحن، وفي مرحلة تُكرَّم، ويغلب على الظن أن حياة المؤمن تستقر على التكريم، يعتورها تأديب، ويعتورها ابتلاء، ولكنها تستقر على التكريم.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ تكلمت في الدرس الماضي عن أن الابتلاء هو الامتحان، والامتحان حيادي، لا خير ولا شر، الشر الرسوب في الامتحان، والخير النجاح في الامتحان، وبيَّنت لكم لو أن إنساناً حقَّق شهادة عُليا وأغدقت عليه أموالاً طائلة، ساعات الامتحان الصعبة ذكريات طيبة أم سيئة؟ طيبة، بعد هذا الدخل الكبير بسبب الشهادة، والشهادة بسبب الامتحان، والامتحان كان صعباً، لكنه نجح به، فلما نجح انقلب هذا الامتحان الصعب إلى خبرة مُسعدة لأنه نجح، فلو رسب انقلب إلى خبرةٍ مؤلمة، فالابتلاء لا هو خير ولا هو شر، هو حيادي، النجاح بالابتلاء خير، والرسوب شر، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ سمَّاها الله عزَّ وجل مصيبة.
إذا كانت كلية الإنسان متوقفة عن العمل، والطبيب فتح البطن، واستأصل الكلية الواقفة، يكون قد أصاب، أما إذا استأصل التي تعمل وترك الواقفة، يكون ما أصاب، أخطأ الهدف، فالله عزَّ وجل سمَّى هذه الشدة التي يسوقها لنا مصيبةً، لأنها تصيب الهدف.
المتكبر يحتاج إلى عذاب مهين، والمسرف يحتاج إلى نقص مال، هذا يحتاج إلى مرض، هذا يحتاج إلى ولد عاق، هذا يحتاج إلى زوجة لا تَرحم، هذا يحتاج إلى إنسان أعلى منه يسومه سوء العذاب، كل إنسان له مفتاح، هناك إنسان يُقبل على الله بالفقر، هناك إنسان يقبل بالإهانة، فكل واحد له مفتاح، وأينما ذهبت في العالَم قد يتوهم الإنسان أن المشاكل سببها أنه يعيش في دولة من دول العالم الثالث فقط، لا، ممكن أن تكون بأرقى دولة من حيث الحياة العامة، ومع ذلك فإن الله عنده هناك أدوية لكن من نوع ثان، حوادث سير، ينقطع عموده الفقري فيصير مشلولاً، له كرامة عالية جداً، وله حقوق، ولكن ماذا فعل فيه الحادث؟ يعطونه تأميناً لكنه عُطِب، يوجد عند الله صيدلية في أي مكان في العالم، بكل مكان عند الله أدوية فعَّالة، أينما ذهبت.
قال لي شخص: كنت أركب مع صديق ببلد غربي، نزلت السيارة في حفرة منخفضة تحوي سنتيمترين فقط من الماء، أصاب رذاذُ هذا الماء إنساناً فنظر نظرة باشمئزاز، فقدَّم السائق شكوى للبلدية، فحواها أن هناك حفرة عمقها حوالي سنتيمترين، فيها ماء، والماء أصاب ماراً، فهذا الراكب قال لصديقه: ماذا تستفيد من هذه الشكوى؟ فقال: غداً ترى، جاء اعتذار من البلدية، وصيانة للسيارة كاملة على حساب البلديَّة، ورمَّموا الحفرة، فإذا أنت كنت ببلد حقوق الإنسان إلى هذه الدرجة، والإنسان استحق التأديب، يوجد عند الله دواء هناك، أدوية مخيفة، أساساً هذه الأمراض الوبيلة ليس لها حلّ، الذين يموتون في العالم بأمراض الأورام الخبيثة، أمراض القلب عدد فلكي، فالإنسان مهما كان في مَنَعَة لابد من أن يغادر الدنيا، الله عنده أدوية، أدوية بالصحَّة، أدوية بالمال، أدوية بالزوجة، أدوية بالأولاد، أحياناً مرض عضال بطفل يجعلك تنفق كل ما تملك من أجله ولا تستفيد، إذاً المصائب في أي مكان يوجد مصائب.
على الإنسان أن يؤمن بقضاء الله وقدره:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ انظر كلمة (شيء) فيها لطف إلهي، هناك مع المصيبة لطف، ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ أي نقص في الأموال: ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ الإنسان من الممكن أن يفقد ابنه، ممكن، لكن يفقد الإنسان ابنه إذا كان مؤمناً بالله يعلم علم اليقين أن له أجلاً لا يزيد ولا ينقص، يرى أن هذا قضاء وقدر، وهو راضٍ عن الله عزَّ وجل، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ أحياناً تأتي جوائح على الثمرات، ذبابة بيضاء، يذهب المحصول كله، لحكمةٍ يريدها الله عزَّ وجل.
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ إذا قنط الناس من رحمة الله تأتي أمطار غزيرة جداً، تغلب على الناس تفسيرات سوداوية أن خطوط المطر انتقلت، ونحن منطقة جافة، ولن تعود الأيام إلى ما كانت عليه، والجفاف مستمر، ومتنامٍ، الناس بعد أن يئسوا تأتي أمطارٌ لا يعلمها إلا الله.
الله عزَّ وجل يحرَّك الأمطار والأرزاق تأديباً للعباد:
والله ذكر لي مرَّة أحد أصدقائي-وهو عضو بلجنة حوض دمشق-معلومات عن انخفاض المياه في حوض دمشق، شيء مخيف، والله لم أستطع أن أقف من شدة المعلومات المزعجة، أي أن الشام انتهت، لابد من أن نغادرها جميعاً، لا يوجد ماء، في العام الثاني -أذكر هذا ولا أنساه والله-نسبة الأمطار كانت ثلاثمئة وخمسين ميليمتراً في دمشق، زيادة عن المعدل السنوي تقريباً بمئة وأربعين ميليمتراً، مياه عين منين وصلت إلى الشام، مياه عين الصاحب تفجَّرت، ثلاثون نبعاً في الغوطة تفجَّر بعد أن غاب عنا ثلاثين سنة، الله عزَّ وجل قادر بكل لحظة أن يرسل أمطاراً غزيرة.
مرَّة قرأت خبراً أن في إمارة رأس الخيمة هطلت أمطار في ليلة واحدة تساوي أمطار دمشق في العام كله، في ليلة واحدة، الله إذا أعطى أدهش، لا يوجد قاعدة، القاعدة أن الله عزَّ وجل حرَّك الأمطار وحرَّك الأرزاق تأديباً للعباد:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾
الله تعالى إذا أعطى أدهش:
يوجد في منطقة من مناطق دمشق تقريباً ثلاثين مزرعة، كل مزرعة فيها بئر، هناك رجل صالح عنده مزرعة وفيها ماء، كلما دخل أصحاب الأغنام –الرعاة-إلى مزرعة ليسقوا الغنم طُرِدوا منها، هذا الرجل الصالح بنى للغنم مسرباً ليشربوا منه براحة تامة، بنى مسرباً طويلاً، صار الرعاة يدخلون مع أغنامهم ويشربون، يقسم لي بالله العظيم أن ثلاثاً وثلاثين مزرعةً حوله جفَّت آبارها إلا بئره، ما نضب أبداً، أي الله عزَّ وجل إذا أعطى أدهش، وهذا كله بمقياس: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ و الْأَرْضِ﴾ فـ: ﴿الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ الصابر إنسان يعرف الله، الصابر إنسان يشبه مريضاً عند طبيب أسنان، قال له: والله لا أستطيع أن أعطيك مخدراً لأن قلبك لا يتحمل، يجب أن تتحمَّل الألم، فطبيب محترم، وشهادته عالية، وخبير ونصحه، فلما أراد أن يقلع السن تمسَّك المريض بالكرسي تماماً، وتحمَّل الألم وشكر الطبيب، أما لو كان طفلاً لشتم الطبيب، أما كون هذا الإنسان راشداً فصبر، فكل إنسان يعرف الله تجده صابراً، يعرف أن هناك حكمة بالغة، والله عزَّ وجل ساقها له برحمته، فالصابر يعرف الله، والذي لا يصبر لا يعرف الله، أنت بين يدي طبيبٍ ماهرٍ رحيم يجب أن تتحمَّل بعض الألم، إن كنت تعرفه طبيباً ناجحاً.
لذلك:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)﴾
نحن مِلْكُ الله عزَّ وجل، يعطينا أو يمنعنا، يرفعنا أو يخفضنا، يُعِزُّنا أو يذلُّنا، أنا عليَّ أن أطيعه وعليه الباقي، أنا كعبد عليّ أن أطيعه.
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
ليس عليَّ أيُّ شيءٍ آخر، هو بحكمته يعطيني أو يمنعني، يرفعني أو يخفضني، يقرِّبني أو يُبَعدني، هو يفعل ما يشاء، أنا عليَّ أن أطيعه وكفى، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ إذا باع الإنسان بيته -كلام دقيق-بالسعر المُقابل تماماً، وقبض ثمنه عدّاً ونقداً، ورغب الذي اشتراه أن يزيل جداراً بين غرفتين، هل يحق للبائع أن يتدخَّل؟ ألم تبعه أنت؟ هل لك علاقة؟ إذا أراد أن يُنشِئ غرفة إضافية هل للبائع علاقة؟ هل يستطيع أن يتدخَّل؟ لا، يقول له: هذا صار مالي، بيتي، ألم تقبض ثمنه كاملاً؟ اسمع الآية:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
أنت ألم تبع؟ بعد ما بعت الله عزَّ وجل نفسك ومالك هو حر، يقربك، يبعدك، يُغنيك، يجعل دخلك محدوداً لا يكفيك أربعة أيام بالشهر، وأنت تتلوى من الضائقة المالية، أو يجعلك ذا دخل غير محدود، هو يعرف، إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه، مستقيم على دخل محدود، إذا كثر دخله يُغَير، الله عزَّ وجل يعرفه -العوام لهم كلمة: عارفه وناتفه- هناك إنسان على الفقر يلج فيعطيه، فهناك حكمة إلهيَّة.
من لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ بمكانها الصحيح، بحجمها المُناسب، بالوقت المناسب، بالقدر المناسب، بالعيار المناسب، عيارات دقيقة جداً عند الله عزَّ وجل، ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ نحن لله، ما دمتَ بعت وفوَّضت عليك أن تصبر، إلا إذا نقضت البيع ﴿اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ قبضك الثمن، لك الجنة دعني أفعل بنفسك ما أشاء، فأنت عليك أن تستسلم لله عزَّ وجلّ، قالوا: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ بهذه المصيبة، لذلك قالوا: من لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر.
الإنسان حينما لا يتَّعظ بالمصيبة صار هو المصيبة، هو نفسه مصيبة، المصيبة من أجل أن يرتدع، أن يتَّعظ، فإن لم يتعظ، ولم يرتدع صار هو مصيبة.
الرضا بالمصيبة والصبر عليها:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ نحن مِلْكٌ لله، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا في التعزية أن نقول: "إن لله ما أعطى وله ما أخذ" ، أنت ليس لك شيء، مرَّة سألوا أعرابياً معه قطيع إبل: لمن هذه الإبل؟ قال: لله في يدي، هي لله بيدي، الله وكلني بها، أما هي لله، الله عزَّ وجل رزقه ابناً، مَرِض، هذا فعل الله عزَّ وجل، هو الحكيم، هو الخبير، أنا ليس لي شيء، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ﴾ بهذه المصيبة ﴿رَاجِعُونَ﴾ :
﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾
هؤلاء الذين يصابون بمصيبةٍ ويرونها من الله عزَّ وجل، ويرضون عن الله بها، هؤلاء: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ .
من كان سروره بالنقمة كسروره بالنعمة فقد رضي عن الله:
البطولة بالصعود وليست بالنزول، كل إنسان على الرخاء يقول لك: الله مفوضها، نحن شاكرون لله، لكن إذا ضيّق الله عليك ماذا ستفعل؟ يا رب لك الحمد، لذلك هناك آية قرآنية إذا قرأتها يقشعر جلدك:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾
الله ناظر، إذا ساق لك مصيبة وصبرت: يا رب لك الحمد، يا رب أنا راضٍ عن فعلك، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ هذه الآية تتحدَّث عن مصائب المؤمنين، مصائب الدفع والرفع، والمصيبة لها حكمةٌ بالغة، ولها هدفٌ نبيل، وتنتهي بالمؤمن إلى الله عزَّ وجل، فنرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون عند حسن ظنّ ربنا بنا، فإذا ساق لنا مصيبةً أن نتقبَّلها بالرضا، والقبول، والتسليم، والتفويض.
الملف مدقق