وضع داكن
08-11-2024
Logo
سبل الوصول - الدرس : 24 - إطلاق الأمل وتقييده
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الأمل في الدنيا :

أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوعٍ متعلقٍ بـ :"سبل الوصول وعلامات القبول" ألا وهو موضوع الأمل، ولا شك أن بعض الموضوعات علاقتها بهذه السلسلة من الدروس علاقة إيجابية، وبعض الموضوعات علاقتها سلبية، وبعض الموضوعات بين بين.
فالأمل إذا أُطلق انصرف إلى الدنيا، أما إذا قُيد انصرف إلى الآخرة، كالأخلاق تماماً، تقول: فلان ذو أخلاق، أي راقية، أما إذا أردت أن تعني الأخلاق السيئة فلابد من أن تصف الأخلاق بأنها سيئة، فلانٌ ذو أخلاقٍ سيئة، فهذه الكلمة إذا أُطلقت انصرفت إلى الدنيا، أما إذا قُيدت انصرفت إلى الآخرة.
بالمصطلحات شيء لطيف، مثلاً: الفقراء والمساكين، هاتان الكلمتان إذا اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا، إذا قلت: فقراء أي الفقراء والمساكين، إذا قلت: مساكين فتعني الفقراء والمساكين، إذا قلت: الفقراء والمساكين، الفقراء شيء، والمساكين شيء، الفقير هو الذي لا يجد حاجته، له دخل لكن أقل من حاجته فهذا فقير، أما المسكين عاجز عن أن يعمل، الفقير بإمكانه أن يعيش لكن بصعوبة بالغة.
لذلك الآن نبدأ بالأمل في الدنيا، ورد في الأحاديث الشريفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ ))

[ أخرجه ابن ماجه، عن زيد بن ثابت ]

أي إذا أصبح وأكبر همه الدنيا.

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ))

[ أخرجه ابن ماجه، عن زيد بن ثابت ]

لا يوجد توفيق، الطرق كلها غير سالكة، يطرق هذا الباب مغلق، هذا الباب مغلق، هناك تعسير.

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

من تعريفات الفقر: لا أن تكون فقيراً، أنت من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض.

 

المؤمن الصادق المستقيم يتمتع بنعمة ينفرد بها إنها نعمة الأمن :

الآن هناك أمراض قلب سببها الخوف من أمراض القلب، أنت من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها، لذلك المؤمن وحده أعني ما أقول: المؤمن وحده يتمتع بالأمن، الدليل:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

[ سورة الأنعام الآية: 81-82 ]

هو يتوقع من الله الخير دائماً، يشعر أن له حقاً عند الله، سيدنا رسول الله أردف معاذ بن جبل وراءه ـ الحديث طويل ـ آخر فقرة قال له يا معاذ:

(( ما حقُّ العباد على الله إذا هم عبدوه؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: حقُّ العباد على الله: أن لا يعذِّبهم ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن معاذ بن جبل ]

أنشأ الله لك حقاً عليه، تؤكد هذا المعنى آيةٌ كريمة:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾

[ سورة التوبة الآية: 51 ]

﴿ لَنَا ﴾

الفرق باللغة كبير بين كتب علينا وكتب لنا، لنا الخير،

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾

فالمؤمن الصادق، المستقيم، المخلص، يتمتع بنعمة ينفرد بها، إنها نعمة الأمن.

 

على الإنسان أن تعظم عنده النعمة مهما دقت :

لذلك:

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

لا يوجد توفيق، لا يوجد إنجاز، لا يوجد راحة نفسية.

(( وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ))

يكون معه ملايين مملينة، يقول لك: لا يوجد بيع هذه السنة، أي ربحه قال: خمسة ملايين، يعد نفسه صار فقيراً:

﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة ]

هناك نموذج والعياذ بالله، نموذج التشكي، يتشكى دائماً، بيت أربعمئة متر، أربع سيارات، دخل فلكي، ويتشكى، اشكر الله، كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت، أنت إذا شربت كأس ماءٍ ينبغي أن تحمد الله عليه، قال:

(( وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

الكسب و الرزق :

الحقيقة الخطيرة أن الرزق هو الذي تستهلكه فقط، أي هذا الثوب، هذا البيت، هذا الطعام، هذه المركبة، هذا رزقك، وما سوى ذلك كسبك، والفرق كبير بين رزقك وكسبك، الرزق ما انتفعت به،

والكسب ما حصلته ولم تنتفع به وستحاسب عليه، هذا هو الكسب، أما الرزق ما حصلته وانتفعت به، والرزق له معان واسعة جداً:

﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾

[ سورة الواقعة ]

فالصلة بالله رزق، والمعرفة بالله رزق، والعمل الصالح رزق، والسمعة الطيبة رزق:

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ))

[ أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

ومن أراد الآخرة أرادها، وسعى لها سعيها، وهو مؤمن:

﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾

[ سورة الإسراء ]

(( جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

هناك توفيق:

(( وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))

[ أخرجه ابن ماجه، عن زيد بن ثابت ]

والله أيها الأخوة، يتمتع المؤمن بغنى نفسي لو وزع على أهل بلدٍ لكفاهم، ثقته بالله كبيرة.

((أَن تكون بما في يَدِ الله تعالى أَوثَقَ منك بما في يَدَيْكَ ))

[أخرجه الترمذي عن أبي ذر الغفاري]

تجد إنساناً معه أموال منقولة وغير منقولة، أرصدة في البنوك، وهو غير مطمئن، وإنساناً لا يملك غير المعاش، لا يملك غيره وهو مطمئن، نعمة الأمن نعمةٌ يخلقها الله في الإنسان.

 

من أشرك بالله عز وجل ألقى الله في قلبه الخوف :

بالمناسبة هذا قانون لمجرد أن تشرك يقذف الله في القلب الخوف.

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا ﴾

[ سورة آل عمران الآية: 151]

لمجرد أن يشرك الإنسان يقذف الله في قلبه الخوف.

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ* وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ* وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴾

[ سورة الشعراء ]

أحياناً تشدُّ الأمور، والأمل يضعف، فالمؤمن بهذه الحالة واثق من الله عز وجل، ثقته بالله كبيرة جداً، وهذه الثقة تعطيه التوازن، إذاً:

(( جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ ))

وفّق:

(( وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))

الدنيا دار التواء لا دار استواء :

أخواننا الكرام، لحكمةٍ بالغةٍ بالغةٍ بالغة أراد الله أن تكون الدنيا هكذا، كما ورد في بعض الخطب النبوية:

(( إن هذه الدنيا دار التواء ))

[كنز العمال عن ابن عمر]

مال وفير لا يوجد أولاد، أولاد كثر لا يوجد مال، أولاد وأموال لا يوجد صحة، هناك صحة لكن لا يوجد دخل، أي شاءت حكمة الله ألا تكون الدنيا كما نتمنى، كي نحب لقاء الله، لذلك إذا جاءت كما نتمنى يكره الإنسان لقاء الله.
أنا أحياناً كدعابة، إذا وجدت إنساناً ينظم أموره تنظيماً يفوق حدّ الخيال، أقول له: والله الموت صعب، شيء صعب، أما إذا تعلقت آمال الإنسان برحمة الله، فمرحباً بلقاء الله.

(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ـ هذا كلام النبي ـ وأن من عرفها لم يفرح لرخاء ـ مؤقتة ـ ولم يحزن لشقاء ـ مؤقتة ـ قد جعلها الله دار بلوى ))

[كنز العمال عن ابن عمر]

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون ]

(( وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجلي ))

ربما أعطاك فمنعك، أي هناك بلاد تنعم برفاهية تفوق حدّ الخيال، تجد فيها بعداً عن الله يفوق حدّ الخيال، وبلاد تحت ضغوط لا تحتمل، مع هذه الضغوط التي لا تحتمل هناك قرب من الله، ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء.

 

الإنسان عندما يوطن نفسه على أن هذه الدنيا دار ابتلاء يقبلها ويسعد بها :

من الأحاديث الدقيقة التي تلتصق أشد الالتصاق بهذا الموضوع: عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال:

(( خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطّا مُربَّعاً ))

[ أخرجه البخاري والترمذي عن عبد الله بن مسعود ]

أي رسم مربعاً على الرمل بقضيب:

(( خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطّا مُربَّعاً ، وخطَّ خطّا في الوسط ))

أخذ نقطة داخل المربع ورسم خطاً، ومدد الخط حتى خرج خارج المربع:

(( وخطَّ خطّا في الوسط خارجاً منه ))

مربع، وخط يبدأ من داخل المربع، وقد مدد إلى أن وصل خارج المربع:

(( وخطَّ خُطاً صغاراً، إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به ))

[ أخرجه البخاري والترمذي عن عبد الله بن مسعود ]

المربع أجله، له عند الله ثلاث وسبعون سنة، وسبعة أشهر، وثلاثة أسابيع، وأربعة أيام، وخمس ساعات، وسبع دقائق، وثمان ثواني، هذا أجله، والمرض ليس له علاقة بالأجل إطلاقاً، يموت الإنسان حينما ينتهي أجله.

إن الطبيبَ له علمٌ يدلُّ بــه ما دامَ في أجلِ الإِنسانِ تأخيرُ
حتى إِذا ما انقضتْ أيامُ مهلتهِ حارَ الطبيبُ وخانَتـهْ العقاقيرُ
* * *

فهناك خطوط صغيرة حول هذا الخط الذي في الوسط:

(( فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به ـ أو قد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارجٌ أمَلُهُ، وهذه الخططُ الصغارُ الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشَهُ هذا ))

[ أخرجه البخاري والترمذي عن عبد الله بن مسعود ]

هناك مرض، هناك فقر، هناك مشاكل زوجية، هناك مشاكل أسرية، هناك مشاكل متعلقة بالعمل، هناك مشاكل متعلقة بالصحة،

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

الإمام الشافعي سُئل أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تمكن قبل أن تبتلى

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت ]

فالإنسان عندما يوطن نفسه على أن هذه الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، دار عمل، يقبلها ويسعد بها.

 

استعاذة النبي الكريم من أربعة أشياء :

سيدنا أنس بن مالك يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم هذا الحديث، قال:

(( أربعة من الشقاء: جمود العين ))

[ أخرجه البزار عن أنس بن مالك ]

لا يبكي أبداً، لا بتلاوة قرآن، ولا بمشهد جنازة، ولا بصلاة، ولا بذكر.

(( جمود العين ))

النبي الكريم استعاذ فقال:

((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع))

[مسلم عن زيد بن أرقم]

إذاً:

(( أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل ))

[ أخرجه البزار عن أنس بن مالك ]

موضوعنا طول الأمل، قصة ذكرتها عشرات المرات حدثني عن عشرين سنة قادمة وقرأت نعوته في اليوم نفسه، عن عشرين سنة قادمة، عن خططه، وسفرياته، وعودته، وإنشاء محل تجاري، وقرأت نعوته مساءً في اليوم نفسه:

(( أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا ))

[ أخرجه البزار، عن أنس بن مالك ]

المؤمن أكثر محبة للتفوق من غير المؤمن لكنه نقل اهتماماته إلى الآخرة :

أخواننا الكرام، المؤمن نقل اهتماماته إلى الآخرة، المؤمن أكثر محبة للتفوق من غير المؤمن لكنه نقل اهتماماته إلى الدار الآخرة:

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾

[ سورة الإسراء الآية: 19 ]

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

(( أن عمر أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمر فيها قال: إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ ))

[ أخرجه البخاري وابن خزيمة عن ابن عمر بن الخطاب ]

الآن هذه أصل الوقف:

(( قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر))

أي أوقفها للمسلمين:

(( أن لا تباع ـ أصولها لا تباع ـ ولا توهب، ولا تورث، فتصدق بها على الفقراء))

هناك من يقول: أرض الشام كلها وقف، هذا عمل طيب، نحن الآن لا نعرف ما الوقف، في الحقيقة الوقف من أعظم الأعمال الصالحة، هذه الأرض حبست عينها أي أصلها، وتصدقت بمنفعتها.
مرة حضرت مؤتمراً للوقف، أحد مندوبي الدول العربية ذكر إجراءات عندهم تفوق حدّ الخيال، هناك وقف لتحبيب الصغار بالمطالعة، توزع كتب رائعة جداً، قصص إسلامية على البيوت مجاناً، فهذا الصغير يقرأ قصة ملونة، رائعة، ممتعة، يحب المطالعة، هناك وقف للتوفيق بين الزوجين، مؤسسة لها خبراء، وبعض الدعاة، و سيارات، فأي إنسان بلغه أن هناك شقاقاً زوجياً، يخبر المؤسسة، يأتي شخص إلى عند أهل الزوجة، و شخص إلى عند أهل الزوج، هناك وقف لتعليم الفقراء الكمبيوتر، وبعض الأشياء الحديثة الأساسية في حياتنا، استمعت من هذا المندوب عن عشرة صناديق للوقف تقريباً ، كل صندوق يحل مشكلة كبيرة جداً، حتى هناك وقف للصغار، طفل صغير دفع مئة ليرة للوقف، يُشترى بهذا المبلغ مثلاً بناء للصغار، دار أيتام، الطفل إلى أن يموت، 

وبعد أن يموت إلى يوم القيامة له أجر بهذا الوقف

لكن أحياناً تكون الأوقاف عندنا بتأجير بيوت بالسعر القديم، فهذه التجارة يسمونها تجارة الكسالى، أي هناك مؤسسات وقفية تولت شركات عملاقة إدارة الوقف، وتولت جمعيات خيرية توزيع الوقف، والدولة أشرفت على هذه المؤسسة بكسب أموالها، وإنفاق أموالها، وضبط أعمالها، هذا الوقف، فإذا إنسان أمله بالآخرة، يضع شيئاً للآخرة.

(( قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر: أن لا تباع، أصولها لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، فتصدق بها على الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل، والضعيف، لا جناح على من وليها ))

هذا ناظر الوقف:

(( أن يأكل منها بالمعروف ))

نعطيه دخلاً يعيش منه:

(( أو يطعم صديقاً غير متمول فيها ))

[ أخرجه البخاري وابن خزيمة عن عمر بن الخطاب ]

فإذا نقل الإنسان أهدافه إلى الآخرة يعمل وقفاً، وأبواب الخير لا تعد ولا تحصى.

 

الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :

أخواننا الكرام، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، قيل: يا رسول الله:

(( أَيُّ الصدقة خير أو أفضل ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمُل الغِنى وتخشَى الفقر، ولا تُمهِلْ حتى إِذا بلغتِ الحُلْقومَ، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ))

[ أخرجه البخاري، عن أبي هريرة ]

أي الإنسان عند الموت يصبح خيراً، البطولة أن تنفق وأنت شاب، وأنت غني المال له معنى عندك، أما على فراش الموت المال ليس له معنى إطلاقاً.
أخواننا الكرام، صدقوا ولا أبالغ، عندي عشرات الوصايا لم تنفذ واحدة، لا تكن تحت رحمة الورثة، لأن الأهل يضنون على أبيهم المتوفى بتنفيذ وصيته، يرون أن هذا المال لهم، لذلك تصدق وأنت في حياتك، لا تجعل هذا العمل الصالح تحت رحمة الورثة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( ألا يا رُب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة ))

دنياه عريضة، لكن هذا البيت إلى أبد الآبدين؟ لا، مثوى مؤقت، والدليل النعوات وسيشيع فلان إلى مثواه الأخير، هذا مثوى مؤقت.

(( ألا يا رُب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رُب نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا، طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة))

[ السيوطي عن أبي البحير]

الموت ينهي كل شيء لكن مراتب الآخرة أبدية :

دقق الآن:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

[ سورة الإسراء الآية: 21 ]

أي ممرض كجراح قلب؟ لا، جندي يقوم بتأدية خدمة إلزامية، في خط النار الأول، في الشتاء، البرد، والصقيع، والأمطار، كرئيس أركان؟ لا، رئيس غرفة تجارة كبائع صحون في الحميدية؟ لا، معلم بقرية كأستاذ جامعي؟ لا.

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء ]

درجات الدنيا تنتهي بالموت، الموت ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وذكاء الذكي، ومحدودية المحدود، وصحة الصحيح، ومرض المريض، الموت ينهي كل شيء، لكن مراتب الآخرة أبدية.

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾

[ سورة القمر ]

من هو الذكي؟ من هو العاقل؟ من هو الموفق؟ الذي يحتل مرتبةً في الآخرة.

(( ألا يا رُب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رُب نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا، طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة))

[ السيوطي عن أبي البحير]

خيارات العمل الصالح أمام الغني و القوي لا تعد و لا تحصى :

طبعاً أنا أقول لكم كلمة دقيقة:

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

إذا كان طريق الغنى، أو طريق القوة سالكاً وفق منهج الله، ينبغي أن تكون قوياً أو غنياً لماذا؟ لأن الغني أو القوي خياراته في العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، الغني يحل مليون مشكلة، يزوج شاباً، يفتح ميتماً، يعمل مستوصفاً، يعمل مشروعاً لخدمة الفقراء، عنده إمكانيات للعمل الصالح لا تعد ولا تحصى، والقوي كذلك، بجرة قلمٍ يحق حقاً ويبطل باطلاً، أما إذا كان طريق الغنى والقوة على حساب دينك وقيمك، فأن تبقى فقيراً وضعيفاً وسام شرفٍ لك.

 

على الإنسان أن يبتغي الرفعة عند الله عز وجل :

الآن:

(( ألا يا رب مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين ))

[ السيوطي عن أبي البحير]

مرة شيعنا طبيباً، وهذا الطبيب أستاذ في الجامعة، وكان هناك رئيس جامعة، لم يصلِّ بقي واقفاً، إنسان بالخامسة والستين ماذا ينتظر؟ أي هل أنت أكبر من أن تصلي؟ هذه المشكلة.

(( ألا يا رب مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم ))

النبي الكريم قال:

(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))

[ أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]

(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))

[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ]

(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))

[رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعاً وهو عند ابن لال عن أبي أمامة. وفي لفظ بضاعته بدل سلعته]

قال:

(( ألا يا رب متخوضٍ و متنعم ما له عند الله من خَلاق))

[ السيوطي عن أبي البحير]

دنياه عريضة، لكن ليس له وزن عند الله عز وجل، ودخل صحابي فقير، فقال له النبي الكريم:

(( أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه، قال: أومثلي؟ قال: نعم يا أخي، خاملٌ في الأرض، علمٌ في السماء ))

لذلك ورد: ابتغوا الرفعة عند الله.

 

قيمة الإنسان عند الله بقدر ما يعطي :

حديث آخر:

(( ألا إن عمل الآخرة حزن بربوة ))

[ أخرجه إسحاق بن راهوية، عن عبد الله بن عباس ]

الجنة فيها جهد، صعود القمة فيه تعب، فيه جهد، فيه حرارة، فيه عقبات، فيه أكمات، فيه وهاد، أما القمة فشيء رائع جداً، والطريق المنحرف الهابط وراءه حفرة ليس لها من قرار.
بشكل عام أنت تمشي بطريق مستوٍّ، تفاجأت أصبح طريقين، طريق هابط، وطريق صاعد، وأنت راكب دراجة، والطريق الهابط للدراجة شيء مريح جداً، الطريق الهابط معبد، فيه ورود، وأزهار، ورياحين، شيء رائع جداً، والطريق الصاعد صخور، وحفر، وأكمات، وغبار، وجهد كبير، وتصبب عرق، طبعاً كل شيء في هذا الطريق الهابط يدعوك أن تسير به، سهولته، لا يوجد جهد، معبد، فيه ورود، رياحين، وكل شيء بالطريق الصاعد ينفرك منه، مكتوب لوحة: هذا الطريق الصاعد ينتهي بقصرٍ هو لك، وهذا الطريق الهابط ينتهي بحفرةٍ فيها وحوشٌ كاسرة وجائعة تنتظرك، هذا البيان ألا يجب أن يعكس لك القرار؟ كمعطيات مادية الذكاء والراحة بالطريق الهابط، والصاعد متعب، لكن بعد البيان ينعكس قرارك.
وأنت إذا آمنت بالآخرة تنعكس كل مقاييسك، ترى البطولة أن تعطي لا أن تأخذ، البطولة أن تخدم الناس لا أن تستهلك خدماتهم، البطولة أن تكون معطاءً، قيمتك عند الله بقدر ما تعطي، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء عاشوا للناس والأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، فلذلك فإن:

(( ألا إن عمل الآخرة حزن بربوة، وإن عمل النار سهل بشهوة))

[ أخرجه إسحاق بن راهوية عن عبد الله بن عباس ]

استرخاء، كل ما تشاء، التقِ مع من تشاء، اكسب أي مالٍ تشاء، أي عمل جهنم سهل جداً، وعمل الجنة صعب جداً.
أيها الأخوة، هذا الموضوع من أدق الموضوعات المتعلقة بسبل الوصول وعلامات القبول. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور