- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الأمل أن تعيش الدنيا وتنسى الآخرة وهو مرضٌ خطير يصيب المسلمين :
أيها الأخوة الكرام، مع موضوعٍ جديد من موضوعات تتصل أشد الاتصال بـ: "سبل الوصول وعلامات القبول"، هذا الموضوع: هو الأمل، الأمل أن تعيش الدنيا وتنسى الآخرة، لذلك قال تعالى:
﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾
هذا الموضوع سلبي، بمعنى أن الأمل متصلٌ بسبل الوصول اتصالاً سلبياً، هو يعيق الوصول إلى الله، هو من علامات عدم القبول، فالأمل أن تعيش الدنيا وأن تنسى الآخرة، وهذا مرضٌ خطير يصيب المسلمين، قال تعالى:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
تناقض الأمل مع الوصول إلى الله عز وجل :
عندما قال:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ ﴾
أي المال والبنون من الزائلات، فالذي يتعلق بالزائل وينسى الأبد خاسرٌ لا محالة، لعل الموضوعات السابقة تتصل بعنوان هذه السلسلة من الدروس اتصالاً إيجابياً، لكن هذا الموضوع بالذات يتصل بعنوان هذه السلسلة من الدروس اتصالاً سلبياً، فالأمل يتناقض مع الوصول إلى الله عز وجل
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
كلمة
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
وصفت المال والبنين بأنها قضايا زائلة:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
الأمل يمكن أن يكون عائقاً أمام الوصول إلى الله كما يمكن أن يكون دافعاً :
دخلنا في موضوع جديد، يمكن أن تعقد الأمل على الآخرة، يمكن أن يكون أملك في الدار الآخرة، يمكن أن ترجو الله والدار الآخرة، فكما أن هذا الموضوع إذا تعلق بالدنيا كان عقبةً كؤوداً أمام الوصول، إن جعلت هذا الأمل مرتبطاً في الآخرة، كان هذا الموضوع إيجابياً، إذاً يمكن أن يكون الأمل عائقاً أمام وصولك إلى الله، كما أنه يمكن أن يكون الأمل إن ارتبط بالآخرة أكبر دافعٍ لك إلى الله، الآن الله عز وجل يبين ذلك بموازنةٍ رائعة قال:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ ﴾
قطعاً، وصدقاً، ويقيناً:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
وازن، ما دمنا قد وازنا من خلال هذه الآية، هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم فيها موازنة:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً ﴾
لعل الموازنة بين المؤمن وبين غير المؤمن، لكن الله عز وجل استبدل غير المؤمن بالفاسق، أو استبدل الفاسق بغير المؤمن، بمعنى أن الذي ينحرف عن منهج الله لابد من أن يفسق:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
الذي لم يسلم وجهه لله لابد من أن يتبع شهواته، واتباع الشهوة يعني العدوان على ما عند الآخرين.
الأمل المنعقد على الدار الآخرة ينسي المؤمن كل متاعب الحياة الدنيا :
أيها الأخوة، مرة أخ اعترض وقال: كيف تقول المؤمن سعيد هو مثله مثل أي إنسان آخر؟ هكذا قال، قلت له كمثل بسيط: لو أن إنساناً دخله قليل جداً، وأولاده كثر، وبيته بالإيجار، وعليه دعوى إخلاء، ويعاني ما يعاني، مشكلات لا تعد ولا تحصى، هذا الإنسان له عم لم ينجب أولاداً، معه خمسمئة مليون، توفي بحادث، هذه الثروة الطائلة بسبب وفاة العم المفاجئة انتقلت إليه لأنه وريثه الوحيد، إلى أن يصل إلى هذه الثروة لابد من إجراءات، ومن عقبات، ومن براءات ذمة، ومن معاملات معينة، هذه الفترة بين قبض المبلغ وبين وفاة العم قد تكون أشهراً، لماذا هو أسعد إنسان مع أنه لم يمسك بيده أي مبلغ؟ لأن هذا الوعد بالمبلغ الكبير الفلكي يمتص كل متاعبه.
بمعنى أن الله عز وجل حينما يعد المؤمن الصادق المستقيم بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، هذا الوعد بالجنة ينسي المؤمن كل متاعب الدنيا، أي أحد أسباب سعادة المؤمن أن الله وعده بالجنة
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
إذاً هذا الوعد الإلهي:
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾
دقق:
﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
لا تخافوا مما سيأتي، ولا تحزنوا على ما مضى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
هذا الوعد الإلهي، أو إن شئت فقل: هذا الأمل المنعقد على الدار الآخرة، هذا ينسي المؤمن كل متاعب الحياة الدنيا.
الدنيا تضر وتغر وتمر :
لذلك هؤلاء الذين شردوا عن الله شرود البعير، هؤلاء الذين نسوا الدار الآخرة، هؤلاء الذين داسوا على القيم بأقدامهم، وصفهم الله عز وجل فقال:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
لم يقل باباً، قال:
﴿ أَبْوَابَ ﴾
لم يقل: شيئاً، قال:
﴿ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
دنيا عريضة، أموال طائلة، مكانة كبيرة، قوة مخيفة، تصدر على الشاشات، تصريحات فيها غطرسة، فيها كبر:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
أيها الأخوة، الإنسان أحياناً يعقد الأمل على أن يعيش عمراً مديداً، يحلم بأموال طائلة، بشهوات، بمباهج في الدنيا، ببيوت، بقصور، بمركبات، بنساء جميلات، يحلم بالدنيا وينسى الآخرة، هذا يقامر ويغامر، كل آماله، وكل أحلامه، متوقفةٌ على ضربات قلبه، فإذا وقف القلب توقفت كل آماله، كل آماله وأحلامه متوقفةٌ على سيولة دمه، فإذا تجمد الدم في أحد فروع الأوعية الدموية، في الدماغ أصيب بالشلل، أو بفقد الذاكرة، أو بالعمى، أو بما شاكل ذلك، كل آماله وكل أحلامه متوقفةٌ على نمو خلاياه، فإذا نمت خلاياه نمواً عشوائياً انقطعت كل آماله، لذلك قالوا عن الدنيا: إنها تضر، وتغر، وتمر.
أعظم شيءٍ في حياة المؤمن أنه عقد الأمل على الدار الآخرة وعلى عطاء الله:
لذلك أخطر شيءٍ في حياة الإنسان أن يعقد الأمل على الدنيا، وأن ينسى ربه والدار الآخرة، وأعظم شيءٍ في حياة المؤمن أنه عقد الأمل على الدار الآخرة، وعلى عطاء الله عز وجل.
هناك طرفة لكن لها معنى ، إنسان من شدة الفقر، من شدة الضنك، أراد أن ينتحر، فجاءه ملك الموت، قال له: اجعل من حرفتك أن تكون طبيباً، وأعطاه أشياء وسوائل ملونة، وقال له: إذا رأيتني على رأس المريض فإياك أن تعالجه لأنه سيموت، وإن رأيتني أمام رجليه فعالجه، لابد من أن يعيش، فإذا رآه أمام رأسه انسحب معتذراً عن معالجته، وإن رآه أمام قدميه فيعالجه، نجحت معالجاته، ونمت شهرته، وتألق في سماء المدينة، وأصبح الطبيب الأول ـ قصة رمزية ـ فمرضت ابنة الملك، فالطبيب أراد أن الذي يعالجها ليتزوجها ويصبح ولي العهد، فجاء إليها، فرأى ملك الموت عند قدميها، فعالجها فشفيت، وأصبح هذا الطبيب زوجاً لبنت الملك، وكان ولي العهد، يوم التتويج جاء ملك الموت قال له: تفضل، قال له: الآن؟ قال له: الآن، قال له: ليتك جئت قبل هذا.
المغزى أحياناً إنسان يجمع أموالاً طائلة، يصل إلى درجة عالية من التألق، نجاح في التجارة، في الصناعة، يتسلم منصباً رفيعاً جداً، بعد أن تأتيه الدنيا وهي راغمة يأتيه ملك الموت، فالبطولة ألا تفاجأ بالموت، تعلمنا في الجامعة أن الذكاء من تعريفاته الجامعة المانعة، أن الذكاء هو التكيف والتكيف مع ماذا؟ مع أخطر حدثٍ مستقبلي إنه مغادرة الدنيا.
الذكاء هو التكيف مع أخطر حدثٍ مستقبلي وهو مغادرة الدنيا :
لذلك ورد في بعض برامج البرمجة العصبية اللغوية: ابدأ من النهاية، دقق أيها الأخ الكريم، أنت حينما تنطلق من الموت تستقيم على أمر الله، التفكر بالموت لا يعني ألا تعمل، يعني أن تعمل، أن تؤسس عملاً، أن تنال دكتوراه، تؤسس شركة، ولكن إذا أدخلت الموت في حساباتك اليومية تبقى مستقيماً على أمر الله، تسمو أعمالك إلى مرضاة الله، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( أكثروا من ذكر هادم اللذات ـ مفرق الأحباب ـ مشتت الجماعات ))
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
التفكر بالموت له نتائج إيجابية، إنه يسرع الخطا إلى الله، و التفكر بالموت يضبط السلوك، وهذا من السنة، لذلك ورد في بعض الآثار النبوية:
(( أكيس المؤمنين أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً ))
ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور، فكل مخلوق يموت ولا يبقَ إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حمــلت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها مــحمول
***
التفكر بالموت والعمل للآخرة لا يتناقض مع العمل في الدنيا لكن يضبطه :
البطولة ألا تفاجأ بالموت، البطولة أن تدخل الموت في حساباتك اليومية، وهذا الإدخال لا يعني ألا تعمل، لا يعني أن تكون كلاً على الناس.
سأل النبي الكريم شاباً لا يعمل، قال له: من يطعمك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك، أمسك بيد عبد الله بن مسعود، وكانت خشنة من العمل، رفعها بين أصحابه وقال: إن هذه اليد يحبها الله ورسوله.
إذاً التفكر بالموت، والتعلق بالآخرة، والعمل للآخرة لا يتناقض مع العمل في الدنيا، لكن يضبطه.
لذلك قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الكدح من خصائص الدنيا و الإكرام من خصائص الآخرة :
أيها الأخوة، الله عز وجل يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
أي جهدك في العبادة، جهدك في معرفة الله، جهدك في الاستقامة، جهدك في العمل الصالح، هذا محفوظٌ عند الله، وسوف يسعدك إلى أبد الآبدين
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
الدنيا من خصائصها الكدح، أما الآخرة من خصائصها الإكرام، في الآخرة:
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
أيها الأخوة، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطّاً مُربَّعاً، وخطَّ خطّاً في الوسط خارجاً منه ـ رسم مربعاً على الرمل بقضيب، ومدّ خطاً من داخله إلى خارجه، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطاً صغيراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه ـ وقال: هذا الإنسان، والمربع أجله، والخط الذي تجاوز المربع إلى مسافاتٍ طويلة أمله"
هناك مربع هو أجله، و خط يبدأ ضمن المربع ويتجاوز حدود المربع هذا أمله.
أغبى إنسان من لم يدخل الله عز وجل والموت في حساباته :
أنا لا أنسى قصة، جلست مع إنسان يعمل مدير ثانوية، حدثني عن طموحاته ـ القصة من أندر القصص ـ قال لي: أنا قدمت طلباً لأُعار إلى الجزائر كمدرس، وقد وافقوا على طلبي ـ الإعارة كانت متبعةً في بلدنا ـ مدرس يعار إلى بلد عربي، يعطى راتباً في بلده، وراتباً آخر هناك، أي يضاعف دخله، قال لي: وافقوا لي على هذا الانتقال، ثم قال لي: سأبقى هناك خمس سنوات، خلال هذه الفترة في العطلة الصيفية لن آتي إلى دمشق، قلت له: لِمَ؟ قال لي: سأمضي كل صيفٍ في بلد أوروبي، فذكر البلاد كما يلي: الصيف الأول في فرنسا، والصيف الثاني في إيطاليا، والصيف الثالث في إسبانيا، والصيف الرابع في بريطانيا، قال لي: سأذهب إلى هذه البلاد في الصيف، أرى معالمها، أرى حضارتها، أرى ريفها، أرى متاحفها، و بعد خمسة أعوام تنتهي الإعارة وأعود إلى بلدي، وأقدم استقالتي، وأُحال على المعاش، قال لي: هذا المال الذي سأجمعه، وهذه التعويضات التي سآخذها، سأؤسس بها محلاً تجارياً أبيع التحف، لأن التحف ليس لها علاقة بالتموين والمتاعب مع الدولة، قال لي: هذا المحل أجعله منتدى فكرياً ـ هو أستاذ فلسفة ـ ثم قال لي: أنا آتي بعد الظهر أحياناً، أو صباحاً، وأولادي يكونون قد كبروا فيتسلمون هذا العمل، والله الذي لا إله إلا هو، حدثني عن عشرين سنة قادمة وأنا أستمع له، وقدم لي ضيافة، وانتهى اللقاء، وغادرت المدرسة إلى بيتي، وتناولت طعام الغداء، وبعد الظهر نزلت إلى مركز المدينة، لي عمل هناك، وعدت إلى البيت ماشياً، فإذا نعوته على الجدران في اليوم نفسه.
لذلك: كل مخلوق يموت ولا يبقَ إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حمــلت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها مــحمول
***
ما لم تبدأ من النهاية، ما لم تضع مغادرة الدنيا نصب عينيك، ما لم تسأل في كل عملٍ ما جوابك عند الله، لو سألك لماذا طلقتها؟ لماذا شاركت فلاناً؟ لماذا اشتريت هذه البضاعة المحرمة؟ لماذا بنيت مجدك على أنقاض الناس؟ لماذا ظلمت هذا الإنسان؟.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
والله الذي لا إله إلا هو لن تجد على وجه الأرض إنساناً أغبى ممن لم يدخل الله عز وجل والموت في حساباته.
المؤمن الصادق يسعى لمرضاة الله و يدخل الآخرة في حساباته :
أيها الأخوة، علامة المؤمن الصادق أنه يريد الله، والدار الآخرة، وعلامة المؤمن الصادق أنه وضع في حساباته مغادرة الدنيا، أدخلها في حساباته، علامة المؤمن الصادق أنه يسعى لمرضاة الله عز وجل.
أخواننا الكرام، دخلت مرة إلى بيت، صاحب البيت ـ سامحه الله ـ قال لي: هذا البيت مساحته أربعمئة متر، قلت له: بارك الله لك به، هنيئاً لك، قال لي: هذه القطع من الأثاث أتيت بها من إيطاليا، أي بالغ في وصف بيته، وكسوة بيته، وأثاث بيته، والطنافس، والمناظر، واللوحات، فالإنسان من حقه أن يكون عنده بيت فخم، لكن أخذ كل عقله، أنا أردت أن أُعلم نفسي درساً، قلت له: ما قولك ببيت بأحد أحياء دمشق الفقيرة جداً؟ أي تحت الأرض، بلا كسوة، هناك بيوت لا تحتمل، قال لي: والله يوجد فرق كبير، قلت له: الفرق بين جندي وبين رئيس أركان؟ بين ممرض وبين جراح قلب؟ بين معلم ابتدائي بقرية وبين أستاذ جامعة؟ جئت بتناقضات عجيبة، رئيس غرفة تجارة وبائع متجول؟ قلت له: اسمع قوله تعالى:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾
مراتب الدنيا مؤقتة.
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
مراتب الدنيا تنتهي بالموت، أي الموت ينهي قوة القوي، سبحان من قهر عباده بالموت، الموت ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير، ينهي ضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، ينهي ذكاء الذكي، ينهي محدودية المحدود، الموت ينهي كل شيء.
أمراض الجسم تنتهي عند الموت لكن أمراض النفس تهلك صاحبها إلى أبد الآبدين :
بل يا أخوان جميع أمراض الجسم تنتهي عند الموت، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت، وتهلك صاحبها إلى أبد الآبدين، جميع أمراض الجسم مهما كانت عضالة تنتهي عند الموت، ورم خبيث، مات انتهى المرض، احتشاء بالقلب مات انتهى المرض، تشمع بالكبد مات انتهى المرض، خثرة بالدماغ مات انتهى المرض، فشل كلوي مات انتهى المرض، أمراض الجسم تنتهي عند الموت، لكن أمراض النفس، الكبر، العدوان، الاحتيال، الكيد، هذه الأمراض تهلك صاحبها إلى أبد الآبدين، القلب السليم أكبر عطاء إلهي، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوةً لا ترضي الله، ولا يقبل خبراً يتناقض مع وحي الله، القلب السليم هو القلب الذي لا يحتكم إلا لشرع الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يعبد إلا الله
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
بطولة الإنسان أن يسعى لنيل الآخرة لا لنيل المراتب الدنيوية :
أيها الأخوة الكرام، مرةً ثانية، مراتب الدنيا لا تعني شيئاً لأنها زائلة، أما مراتب الآخرة تعني كل شيء:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
فطوبى لمن له
﴿ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير، والمؤمن له عند الله مكانة كبيرة، هذا أكبر إنجاز يحققه الإنسان في الدنيا.