- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
المؤمن عزيز لا يتضعضع أمام قوي أو غني :
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوع متصلٍ أشد الاتصال مع :"سبل الوصول وعلامات القبول"، هذا الموضوع هو التعظيم، فالمؤمن يعظم الله من خلال آياته الكونية، يعظم رسول الله، يعظم أصحابه الكرام، يعظم التابعين، العلماء العاملين، الدعاة الصادقين، يعظم المساجد، يعظم كتاب الله، يعظم الأمر، يعظم النهي
من شأن المؤمن أنه يعظم الله، ويعظم من يعظم الله، يروى أن أحد العلماء الكبار كان في الحرم المكي، فلقيه أمير المؤمنين، قال: سلني حاجتك؟ قال: والله إني أستحي أن أسأل في بيت الله غير الله، فالتقى به خارج الحرم قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ فلما ألح عليه، قال: نجني من النار وأدخلني الجنة، قال: هذه ليست لي، قال له: إذاً ليس لي عندك حاجة.
أنت حينما تؤمن بالله لا تتضعضع أمام قوي، ولا أمام غني:
(( من دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
أبو جعفر المنصور لقي أبا حنيفة النعمان، قال: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا، قال له: ولِمَ أتغشاكم وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني، وإنك إن أبعدتني أزريت بي.
الملخص أن المؤمن عزيز، ولا يتضعضع لا أمام قوي ولا أمام غني.
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبتُ فإذا اعتززت بمن يموت فإنك عزك ميتُ
* * *
أهل الدنيا يُعظمون أهل الدنيا :
لكن أهل الدنيا يعظمون أهل الدنيا، يعظمون الأغنياء، يعظمون الأقوياء، يعظمون الأذكياء، يعظمون من أتاه الله من حظوظ الدنيا ما أتاه.
بالمقابل سيدنا الصديق ذهب إلى أمية بن خلف ليشتري منه سيدنا بلالاً، أمية بن خلف أراد أن يبالغ في ازدراء بلال، قال له: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهمٍ لأعطيتكها، فلما اشتراه وضع يده تحت إبطه وقال: هذا أخي حقاً، طبعاً بالمقاييس الاجتماعية سيدنا الصديق من أعرق أسر قريش، وبلال كان عبداً، المقاييس الاجتماعية وُضعت تحت الأقدام، قال: هذا أخي حقاً، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا الصديق قالوا: هو سيدنا وأعتق سيدنا أي بلالاً.
وسيدنا عمر ـ عملاق الإسلام ـ كان يخرج إلى ظاهر المدينة لاستقبال بلال، هذا هو الدين، الدين ألغى الفروق الطبقية، ألغى كل المعطيات الاجتماعية التي أساسها الانتماء، أو أساسها المال، أو أساسها القوة.
اعتماد القرآن الكريم على قيمتي العلم و العمل للترجيح بين البشر :
لذلك القرآن الكريم اعتمد قيمتين مرجحتين، اعتمد قيمة العلم، واعتمد قيمة العمل، ففي القيمة الأولى قال تعالى:
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
وقال:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
واعتمد قيمة العمل فقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
وأية أمة لا تنهض، ولا تقوى، ولا تتألق، ولا تنتقل من رعاية الغنم إلى قيادة الأمم، إلا إذا اعتمدت قيمة العلم وقيمة العمل وهذه قيم موضوعية، أما الدول النامية الضعيفة كانت ضعيفةً لأنها اعتمدت قيم إنتمائية، قيم المال، أو القوة، أو قيم الانتماء.
المؤمن يُعظّم كل ما يتصل بالله عز وجل :
أيها الأخوة، لذلك المؤمن يُعظّم ربه، يُعظّم دينه، يُعظّم قرآنه، يُعظّم المؤمنين، هؤلاء أتقياء، أخفياء، يُعظّم كل ما يتصل بالله عز وجل، الحقيقة الأولى: على قدر المعرفة تُعظّم، بقدر معرفتك لله تُعظّم الله، والشيء الدقيق جداً أنه ما لم تُعظّم ربك فلن تكون مؤمناً ناجياً:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ* إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
طبعاً آمن بالله، لكن ما آمن به عظيماً، آمن لأنه خالق، قال له إبليس:
﴿ خَلَقْتَنِي ﴾
قال له: ربي
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
قال له:
﴿ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
لكن ما آمن به عظيماً، وتأكد أن أي خطأ لا سمح الله ولا قدر تقترفه، وأي طاعة تقصر فيها، وأي عملٍ صالحٍ تضن به، تأكد أنه من ضعف تعظيمك لله عز وجل.
الآية التالية هي الآية الأصل في تعظيم الله عز وجل :
الآية الأصل في هذا الموضوع قال تعالى:
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾
النطفة لا تُرى بالعين، لا تُرى إطلاقاً، إلا أن البويضة تشبه ذرة الملح، أحياناً إنسان يضع على طرف إصبعه بعض لعابه، ويمس كميةً من ملحٍ مساً رقيقاً، يجد على سطح إصبعه طبقة من ذرات الملح، البويضة أحد هذه الذرات، الحوين لا يرى والبويضة هكذا، بعد تسعة أشهر يولد طفل، بدماغه مئة وأربعون مليار خلية استنادية سمراء، بشبكية العين مئة وثلاثون مليون عصي ومخروط، هناك عشرون مليون عصب شمي، هناك معدة، و أمعاء، و أمعاء دقيقة، وأمعاء غليظة، و قلب، و رئتان، و عضلات، و أنسجة، ودم في أوعية، و كليتان، في تسعة أشهر يكون طفلاً سوياً، لذلك:
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾
(( يا ربي أي عبادٍك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا ربي إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي))
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾
قال ابن عباس ومجاهد: "ما لكم لا ترجون لله عظمةً؟" وقال ابن جبير: "ما لكم لا تعظمون الله حق التعظيم"؟
روح العبادة الإجلال والمحبة :
دقق:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ ﴾
قال بعضهم: "ما لكم لا تخافون الله حق الخوف منه"، وقال بعض العلماء أيضاً: "ما لكم لا ترجون في عبادة الله ـ أي يثيبكم على توقيركم إياه ـ خيراً؟".
﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
إله عظيم، لأنك أطعته تفتقر؟! لأنك أطعته تخطف؟! تذهب دنياك؟!.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
قال بعض العلماء: روح العبادة، العبادة لها شكل، تصلي، تصوم، تحج، ولها روح، روح العبادة الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر، أي إجلال بلا محبة، أو محبة بلا إجلال فسدت.
العبادة غاية الخضوع لله عز وجل مع غاية الحب له :
لذلك:
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
بقدر ما تُعظمه، هناك إنسان تعظمه ولا تحبه، قد يكون أستاذاً في الجامعة، قد يكون قاسياً جداً، ومستعلياً جداً، ومستكبراً جداً، لكن باختصاصه ليس له مثيل، فتعظمه ولا تحبه، وقد يحب إنسان أمه حباً لا حدود له، لكن غير متعلمة، أي هو بلغ درجة من الثقافة لا يمكن أن يقبل أفكارها، يحبها ولا يُعظمها، وقد تُعظم ولا تحب، لكن عظمة هذا الدين أن الله سبحانه وتعالى بقدر ما تعظمه تحبه،
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
فروح العبادة الإجلال والمحبة، لذلك قالوا: العبادة غاية الخضوع لله عز وجل مع غاية الحب، العبادة طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، فما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، كما أنه ما عبد الله من أحبه ولم يطعه، طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية.
كرامة العلم أعظم كرامةٍ للولي :
لذلك قالوا: ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، وليس الولي الذي يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أي أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.
بالمناسبة: هناك تعريفات لا تعد ولا تحصى، ومعظمها ما أنزل الله بها من سلطان للولي، أما التعريف القرآني يجب أن يكون كل واحدٍ منكم ولياً، الدليل:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾
أما أعظم كرامةٍ للولي، طبعاً من الثابت أن الأنبياء لهم معجزات، وقد أمروا أن يتحدوا الناس بها، أما الأولياء لهم كرامات، أعظم كرامةٍ للولي كرامة العلم، قال تعالى:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
أول أنواع التعظيم بعد تعظيم الله عز وجل تعظيم الأمر والنهي :
الآن دخلنا في صلب الموضوع، أول أنواع التعظيم بعد تعظيم الله عز وجل:
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾
أول أنواع التعظيم، وأخطر أنواع التعظيم، تعظيم الأمر والنهي، الفرق بين المؤمن الصادق والمؤمن غير الصادق ضعيف الإيمان ذنب المؤمن الصادق كجبلٍ جاثمٍ على صدره، وذنب المؤمن ضعيف الإيمان كذبابة وقعت على خده فدفعها، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
أمر الصلاة أمر مُعظم، الصيام مُعظم، الحج مُعظم، الصدق مُعظم، الأمانة مُعظمة، العفة مُعظمة، تعظيم الأمر والنهي.
مظاهر تعظيم الأمر و النهي :
إذاً ما مظاهر هذا التعظيم؟ مظاهر هذا التعظيم ألا يشوب الأمر والنهي ترخُصٌ جافٍٍ، أو تشددٌ غالٍ، من دون ترخُص يبعدك عن طاعة الله، من دون تشدد ينفر الناس من الدين، تعظيم الأمر والنهي أي ألا تكون متشدداً بحيث تبغض الدين للناس، وألا تكون متساهلاً بحيث تخرج عن طاعة الله عز وجل، وضع وسطي معتدل سليم، إذا تساهلت أي أنك لا تعظم الله عز وجل، وإذا غاليت أي أنك لا تعظم الله عز وجل، الغلو يقابله التفريط، والعبادة الحقة بين الإفراط والتفريط.
لذلك قال بعض العلماء: هناك أمران ينافيان تعظيم الأمر والنهي، أحدهما الترخص، التساهل الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، يصلي كنقر الديك، يصوم ويغتاب، يصوم ويطلق بصره في الحرام، يحج بيت الله الحرام وهو ساهٍ ولاهٍ، لا يعنيه إقباله على الله عز وجل بقدر ما يعنيه أداء المناسك فقط، هذا من عدم تعظيم أمر الله عز وجل.
إنسان قال لي بالحرف الواحد: أنا أصلي العصر في جدة، وأركب مركبتي وأتوجه بها إلى مكة يوم عرفة، الطريق فارغ، قال لي: أطوف بأقل من عشر دقائق، الحرم فارغ كلياً، الناس كلهم في عرفات، أتوجه إلى عرفات، الطريق فارغ كلياً، أصل إلى حدود عرفة، ما إن تغيب الشمس حتى أرجع إلى منى، الطريق فارغ، أجمعُ المغرب مع العشاء جمع تقديم، وأرجم الجمرة الكبرى، وأتوجه إلى مكة، وأطوف حول البيت كذلك بدقائق، وأُوكل بالرجم في الأيام الثلاث غيري، والحج كله ما زاد عن ثماني ساعات، أنا كان تعليقي على هذا الكلام، قلت له: إنسان دعي إلى طعام نفيس جداً، بمدخل البيت موضوع سِجل للحضور، فكتب اسمه ووقع، لكن ما أكل شيئاً، كتب اسمه ووقع أنه حضر، رفع عنه الملامة، لكن لم يأكل الطعام.
أخواننا الكرام، هناك من يترخص، يبحث عن الرخص في كل المذاهب، هذا سماه العلماء رقةٍ في الدين، مثلاً يقول لك: بأي مذهب لا يوجد زكاة على الحلي؟ بأي مذهب يمكن أن أفعل كذا وكذا؟ هذا الذي يتتبع الرخص في كل المذاهب ليجمعها، هذا سمي تلفيقاً ورقةً في الدين.
التساهل و التشدد ينفران الإنسان من الدين :
أيها الأخوة، الشيء الدقيق الذي أتمنى أن يكون واضحاً إذا تساهلنا في العبادة فهذا من عدم تعظيم الله عز وجل، وإذا تشددنا فهذا من عدم تعظيم الله عز وجل، هناك من يقول ـ طبعاً أناس ضالون ـ: أنه إذا لبست حذاء زوجتك خطأً تشبهت بها، وإذا تشبهت بها ينطبق عليك الحديث الشريف:
(( لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المتَشَبِّهِينَ من الرجال بالنِّساء ))
وإذا لعن الإنسان فقد كفر، وإذا كفر طُلقت زوجته، أي إذا لبست حاجة لزوجتك في رجلك خطأً طُلقت زوجتك، والله هناك فتاوى لا يحتملها إنسان من التشدد، التشدد لا يقل عن التفريط، المتشدد ينفّر الناس من الدين.
أوضح مثل: إنسان كان شارداً عن الله، عمل مغنياً في فندق، معه مليون ليرة فرضاً، جمعهم من الغناء، يسأل إنساناً ممن يعمل في الحقل الديني، يقول له: كل مالك حرام، لكن غاب عنه أن توبة المؤمن النصوح تُطهر ماله، ماذا تعني التوبة عند هذا الإنسان؟ تعني أن يكون فقيراً فلا يتوب، لا يتوب أبداً، وكم من إنسان أفتى لإنسان:
﴿ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾
وجمع مالاً ليكون زاداً له في العمل التجاري، أُفتي له أنه مال حرام، فأنفقه فأصبح فقيراً، أحياناً الإنسان يبعد الناس عن التوبة، لكن بعض العلماء الكبار قال: توبة التائب تطهر ماله، هناك فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، بهذه الفتوى لا تعني التوبة له إلا أن يفتقر، إلا أن يموت من الجوع، توبة التائب تطهر ماله ما لم يتعلق بالمال حق الغير.
أمثلة عن التشدد في الدين :
أنا آتي ببعض الأمثلة، هناك تشدد غير معقول، فرضاً أنا شهدت هذه القصة امرأة من أرياف دمشق ذهبت لحج بيت الله الحرام مع فوج، وهي فقيرةٌ جداً، وأنا أعتقد أنها جمعت نفقات الحج خلال عمر مديد، جاءها العذر قبل طواف الإفاضة، وطواف الإفاضة أحد أركان الحج، فسألت إنساناً متشدداً في مذهبه الفقهي أمامي فقال لها: عليك بدنة، أي جمل، ثمنه مئتا ألف ليرة، فبركت كالجمل، لا يوجد حل أبداً عنده، عليك بدنة، عند الأحناف عليها بدنة، لكن ماذا قال السادة الشافعية؟ قال: تغدو أميرة الحج، ينتظرها قومها إلى أن تطهر، أي لو أن هذه المرأة لها ابن مقيم في جدة، تذهب إلى بيت ابنها في جدة، تقيم سبعة أيام إلى أن تطهر، ثم تطوف وتعود إلى بلدها، لكن ليس عندها ابن مقيم في جدة، ولا معها ثمن فندق لسبعة أيام، والفوج لا ينتظرها، نقول لها: أنت على مذهب الإمام مالك، تطوفين البيت ولا شيء عليك، الغنية نقول لها: عليك بدنة، أطعمي الجياع، ادفعي مئتي ألف، والتي عندها إمكان أن تنتظر سبعة أيام، نقول لها: على المذهب الشافعي انتظري سبعة أيام ثم تطهرين، وتطوفين في البيت، أما الفقير الذي لا يستطيع أن يتأخر، ولا أن يدفع ثمن بدنة، وليس معه مال يقيم سبعة أيام في مكة، نقول: أنتِ على مذهب الإمام مالك، تطوفين البيت ولا شيء عليكِ، ولولا مالك لكان الدين هالكاً كما قال بعضهم.
أنا أقول دائماً: عند الشدة لك أن تقلد أي مذهب، وفي الرخاء يجب أن تأخذ الأحوط.
ما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريط أو إلى إفراطٍ :
أيها الأخوة، قضية التشدد يستطيعها كل إنسان، حتى الجاهل بإمكانه أن يتشدد، يقول لك: حرام، حرام، حرام، قضية سهلة، التشدد يحسنه أي إنسان، أما أن تعطي فتوى مؤصلة بالدليل القطعي مع الرخصة هذا هو العلم، لذلك الذي يفتي بشيء يصعب على الناس أو يستحيل فهذا متشدد، هذا لا يعظم أمر الله عز وجل، والذي يفتي بالتساهل أيضاً لا يعظم أمر الله عز وجل.
أحياناً درس طويل جداً، أنا أقول: المتكلم لا يشعر بالحر، ولا بالقر، ولا بالتعب، ولا بالعطش، ولا بالجوع، ولا بالملل، هناك نشاط، أما الذي يجلس على الأرض ويستمع الوقت ثقيل عليه، فكان عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة، أي:
(( أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا ))
تكلم ثم انهِ الكلام، تكلم والناس متشوقون إلى كلامك، فلأن تلام على قصر الدرس أفضل ألف مرة من أن تلام على طوله.
لذلك قالوا: ما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وإضاعة، أو إلى إفراطٍ وغلو.
أيها الأخوة الكرام، قل:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾
نعوذ بالله من الغلو في الدين.