- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
رعاية الأسباب :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوعٍ دقيقٍ جداً متعلقٍ بـ :"سبل الوصول وعلامات القبول"، إنه موضوع "رعاية الأسباب" كما سمَّى هذا الاسم العالم الجليل ابن القيم الجوزية، الآن نقرأ بعض هذه الآيات، قال تعالى:
﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾
والآية الثانية:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾
والآية الثالثة:
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾
إذاً آياتٌ كثيرة، كثيرةٌ جداً، أنا اخترت هذه الآيات، كلها بقدر، بقدرٍ دقيق، أي خُلق بنظام وترتيب، خُلق وفق سُنةٍ ثابتة، هناك أسباب، هناك نتائج، هناك أسباب، هناك مسببات، هناك مقدمات، هناك نتائج، فإذا كان تصميم الكون بكل تفاصيله وفق مقدماتٍ ونتائج، وفق أسبابٍ ومسببات، فهل يليق بالمؤمن أن يتجاهل هذا؟.
الأخذ بالأسباب يكون بدءاً من الفرد وانتهاءً بالأمة :
من أقرب الأشياء إليك صحتك، إذا قال الطبيب لك: دع الملح فرضاً، هناك نظام دقيق، الملح يحبس السوائل، والسوائل إذا حُبست ارتفع الضغط، والضغط هو القاتل الصامت، فتقول لي: أنا مؤمن لا يحصل لي شيء، هذا جهل، قال لك الطبيب الذي مكنه الله من معرفة خصائص هذا الجسم: دع الملح، أي دع الملح.
أنا أسوق بعض الأمثلة كي يتضح أن المسلم يأكل تفاحة دون أن يغسلها ويقول: سمِّ بالله، هذا كلام غير علمي، وغير ديني، وغير إيماني، ورد في بعض الأحاديث:
(( من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه ))
طبعاً لا زلنا في موضوعٍ دقيق "رعاية الأسباب"، إذا كان هذا الكون وفق نظامٍ دقيق، وفق أسبابٍ ومسببات، وفق مقدماتٍ ونتائج، لا ينبغي أيها المؤمن أن تتجاهل هذا النظام، من علامات تأدبك مع الله، من علامات طاعتك لله، أن تخضع لنظامه، هذه نقطةٌ نفتقدها كثيراً على مستوى أشخاص، وعلى مستوى جماعات، لابد من أن نستعد لأعدائنا تقول لي: عدوان غاشم، طبعاً غاشم، عدوان غادر، طبعاً غادر، العدو لن يخبرك إن أراد أن يعتدي عليك، فلابد من أن تأخذ بالأسباب بدءاً من الفرد وانتهاءً بالأمة.
المعجزة و الكرامة :
لكن هناك نقطة دقيقة جداً وهي أن الله سبحانه وتعالى يخرق النواميس للأنبياء، لأن الله عز وجل حينما يرسل إنساناً ويقول للناس: أنا رسول الله، معه منهج، معه افعل ولا تفعل، هناك أشياء محرمة، فالذي أَلِف الحرام يرفض هذه الدعوة، ويتهمه بالكذب، وقال:
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾
الآن كيف يشهد الله لرسولِه أنه رسوله؟ لابد من أن يجري على يديه خرقاً للنواميس، وخرق النواميس هو المعجزة، وقد كُلف النبي عليه الصلاة والسلام أن يتحدى بها الآخرين، هذا وضعٌ خاص بالأنبياء والمرسلين، القوانين والنواميس لن تُخرق لك، تُخرق لنبي كشهادة من شهادات الله أنه رسوله، أما مؤمن عادي الله عز وجل يخصك بكرامة، هذه الكرامة ليست قابلة للتداول، الوليُّ يستحي بكرامته كما تستحي المرأة بدم حيضها، هكذا قال بعض العلماء، الكرامة لك وحدك، لأن الله عز وجل من كماله أنه شكور.
أعظم كرامةٍ هي كرامة العلم :
أنت حينما تخطب وده، أنت حينما تتقرب إليه، أنت حينما تؤثره على هوى نفسك، أنت حينما تخدم عباده، لابد من أن يقابلك بود، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾
قال علماء التفسير:
﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾
فيما بينهم وبينه، المؤمن الصادق يشعر أن الله يحبه، يشعر أنه قريبٌ من الله عز وجل، فلذلك أنت حينما تخطب ود الله لك كرامة، هذه الكرامة ممنوعٌ أن تجهر بها، بينك وبينه، لأنك لست معصوماً، لو جهرت بها لكذبك الناس، أنت لست معصوماً، لكن أنا أؤكد لكم مستحيل وألفُ ألف مستحيل أن تكون صادقاً، أميناً، عفيفاً، تخطب ود الله كل يوم بطاعته، وخدمة عباده، والنصح لهم، دون أن يريك شيئاً يؤكد لك أنه يحبك هي الكرامة، فالوليُّ له كرامة، والنبي له معجزة، النبي مسموحٌ له أن يتحدى الكفار بالمعجزات، لأنها شهادة الله له أنه رسوله، أما أنت أحياناً قد تأتي بأشياء ليست صدفة و:
﴿ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾
هناك توفيق إلهي، هناك انشراح بالصدر، أحياناً أمام عقبة كبيرة، تُذلل أمام مشكلة تُحل، أمام قضية شائكة لها حل عند الله عز وجل، هذه كرامة المؤمن، وأنا أطالبكم أن تطلبوا من الله الكرامة، لكن أجمل كلمة سمعتها: أن أعظم كرامةٍ هي كرامة العلم، هي كرامة لا تحتاج إلى خرقٍ للعادات، ولا إلى تعطيل للنواميس، لذلك قال تعالى:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
الكرامة طريقة يُشعر الله بها الإنسان أنه يحبه :
لذلك النبي له معجزة، وقد أمر أن يتحدى بها قومه، والولي له كرامة، والكرامة طريقة يشعرك الله بها أنه يحبك، وقد وردت في القرآن الكريم تحت اسمٍ آخر هذا الاسم أيام الله، قال تعالى:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
يوم كنت مضطراً فدعوته فأجابك:
وجدناك مضطراً فقلنا لك ادعُنـا نُجبك، فهل أنت حقاً دعوتنـــا؟
دعوناك للـخيرات أعرضت نائياً فهل تلقى من يحسن لمثلك مثلنـا؟
فيا خجلي منه إذا هــو قال لي أيا عبدنــا ما قرأت كتابنـــا ؟
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا ؟
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جـاء وعدنـــا ؟
* * *
على الإنسان أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء :
أيها الأخوة، إذاً أنا حينما أخطب ود الله لابد من باب كمال الله المطلق، من باب أن الله شكور، أن يشعرني بطريقةٍ أو بأخرى من دون تفاصيل أنه يحبني، هذه كرامة تمسك بها، وابحث عنها، ولا تذكرها للناس، إلا لمن تحبه حباً شديداً وهو يثق بك، ليس ممنوع كلياً لكن الأصل أنه لا يتحدى بها الآخرين، لأن المؤمن غير معصوم، إذا لم يكن عنده عصمة وتكلم عن كرامة له، هناك من يتهمه أنه كاذب، الآن الذي أنا أراه وأرجو أن أكون على صواب أن المؤمن الذي يستخف بالأسباب، ولا يبالي بها، ولا يأخذ بها، ويدّعي أنه متوكل فهو كاذب، هذا ليس توكلاً، التوكل محله القلب، أما الأعضاء محل الأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أوضح الأمثلة: الابن مرض، آخذه إلى أفضل طبيب، أشرف بنفسي على الدواء، وأتصدق، وفي أعماق أعماق قلبي أقول: يارب أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، فهنا تستطيع أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا ما ينقص المسلمين اليوم، لا يأخذون بالأسباب أبداً، العالم الغربي أخذ بها، واعتمد عليها، وألّهها ، فوقع في وادي الشرك، والعالم الشرقي لم يأخذ بها أصلاً فوقع في وادي المعصية، أي الطريق القويم طريق على يمينه وادٍ سحيق، وعلى يساره وادٍ سحيق، على يمينه وادي الشرك إن أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها، ونسيت الله عز وجل وقعت في وادي الشرك، وإن لم تأخذ بها أصلاً وقعت في وادي المعصية، والموقف الكامل أن تأخذ بها كأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
الله عز وجل رحمة بالإنسان كلفه أن يأخذ بالأسباب المتاحة لا المطلقة :
الآن النقطة الثانية: الله عز وجل رحمةً بنا ما كلفنا أن نأخذ بالأسباب المطلقة بالأسباب المتاحة، ساكن بقرية وهناك طبيب، طبيب أي لم يتخصص، والابن مريض، إن أخذته إلى هذا الطبيب يكفي، أنت أخذت بالأسباب، قد لا يكون بالإمكان أن تصل للمدينة، هناك أطباء كبار اختصاصيون، فالوقت قصير، والمرض داهم الطفل، فرحمةً بنا الله عز وجل ما كلفنا أن نأخذ بالأسباب المطلقة، كلفنا أن نأخذ بالأسباب المتاحة، أي بالنهاية آمن بالله إيماناً يحملك على طاعته، وخذ بالأسباب المتاحة لك، هذا الذي عليك قد أديته، وبقي لك أن ينصرك الله على أي قضية.
طبعاً هذا كلام عام يصلح في الدراسة، في العمل، في التجارة، في الزواج، خذ الأسباب وكأنها كل شيء، خذ الأسباب المتاحة، ما كلفك الله فوق ما تطيق، قال:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
وعلى الله الباقي، أحياناً تجد أن أناساً مؤمنين صنعوا سلاحاً متواضعاً جداً هذه إمكانيته، وجابهوا بها أقوى جيش، والله أيدهم، فمعنى ذلك يمكن أن تأخذ بالأسباب المتاحة فقط، وما كلفك الله أن تأخذ بالأسباب المطلقة.
بطولة الإنسان لا أن يتجاهل القوانين بل يأخذ بها :
النقطة الثالثة في هذا الموضوع دقيقة جداً: هذه القوانين الدقيقة آمنت بها أو لم تؤمن، عرفتها أو لم تعرف، عظمتها أو لم تعظمها، صدقتها أو لم تصدقها، نافذةٌ فيك شئت أم أبيت، لا يوجد علاقة بين نفوذها بك وبين إيمانك بها.
مثلاً إنسان راكب طائرة استخف بقانون السقوط، فقفز من دون مظلة، ينزل ميتاً، لأنه لك يصدق هذا القانون، لم يعبأ به، استخف به، احتقره، آمنت به أو لم تؤمن، عظمّته أو لم تعظمّه، نافذٌ فيك، فالبطولة لا أن تتجاهل القوانين، هي نافذة فيك، البطولة أن تأخذ بها.
فلذلك المؤمن الصادق يتأدب مع الله عز وجل، بدءاً من صحته وانتهاءً بالقضايا الكبيرة، يشتري صفقة من دون دراسة، ويوجد بالسوق أسعار للنصف من مصدر آخر، لم يدرس الأوضاع، اشترى صفقة لم تُباع، يا أخي الله لم يكتب لي النجاح! لا أنت قصرت، دراسة هذه الصفقة غير جيدة، لا يوجد معها دراسة شمولية الأسعار، المصادر، بيع هذه المادة، عليها طلب أم ليس عليها أي طلب، عندما تقصر بالدراسة تدفع الثمن، أنا أتمنى دائماً أن تفرق بين القضاء والقدر وبين جزاء التقصير، مثلاً إنسان تارك مأخذاً كهربائياً مكشوفاً بالحمام، والتيار مائتان وعشرون، وإذا دخل الابن إلى الحمام بلا وقاية في رجله مع الماء يموت فوراً، فإذا مات ابنه لا يقل: هكذا كتب الله لي، ليقل: أنا قصرت، طبيب الإسعاف إذا أهمل مريضاً مرضه خطير، كان يدير حديثاً مع ممرضة، بعد دقائق مات المريض، كان من الممكن أن يسعفه، يقول: مات بأجله هذا موضوع ثان.
التوحيد لا يعفي من المسؤولية :
لذلك النقطة الدقيقة جداً أن التوحيد لا يعفي من المسؤولية، والدليل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ﴾
بعد قليل:
﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
قبل آية قال الله عز وجل:
﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ﴾
ومع ذلك الذي تولى كبر هذا الموضوع
﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
هذه قاعدة مهمة جداً، التوحيد لا يعفي من المسؤولية، لذلك نصل إلى أن عدم الأخذ بالأسباب هو سبب تخلف المسلمين، عدم الأخذ بالأسباب هو سبب ضعفهم، عدم الأخذ بالأسباب هو سبب تخلي الله عنهم.
مدير مدرسة وضع نظاماً دقيقاً، الدوام الساعة الثامنة، من يتأخر لا يدخل، له صديق حميم جاء ابنه الساعة التاسعة، أنا أرى أن هذا الصديق الحميم عندما سمح لابنه أن يتأخر اعتماداً على صداقته مع المدير، هو لا يعبأ بهذه الصداقة، فأحرجه كثيراً.
فلذلك مرة ثانية: أنت حينما تعتد وتأخذ بالأسباب أنت تعظم الله عز وجل، فإن لم تأخذ بها لا تتخيل أن الله سوف يخرق لك القوانين من أجلك، تحاسب وأنت تحت القوانين التي قننها الله عز وجل.
أيها الأخوة، أعداء المسلمين يتهمون المسلمين بأنهم متواكلون، بأنهم حالمون، بأنهم عاطفيون، بأنهم يثارون لأتفه الأسباب، تضعف همتهم لأتفه الأسباب، هذا الوضع هو الذي ضعضع مكانة المسلمين في العالم، الطرف الآخر يعمل بعقله، يأخذ بالأسباب، لا يثور ولا يهوج، نحن نهوج ولا نفعل شيئاً بالنهاية، لكن العالم الآخر يستغل هذا الهياج وهذه الانفلاتات ويتهمنا بالتخلف، فلذلك آن الأوان أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
كلّ شيءٍ له سبب :
أخواننا الكرام، الآن هناك موضوع عقدي دقيق، الله عز وجل حينما يقول:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ ﴾
السحاب أنزل الله به الماء:
﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
إذاً كان هناك سحاب، ومطر، ونبات، وكل واحد سبب الثاني، الآية الثانية:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
ماذا تعني هذه الآيات؟ تعني أن كل شيءٍ له سبب.
الله عز وجل أراد أن تكون أنظمة الكون وفق نظام السببية :
الآن سؤال عقدي، الله عز وجل هل يليق بمقام الألوهية أن الشيء لا يكون إلا بسبب عند الله؟ عند الله:
﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
أنت لن تستطيع أن تلتقي بابنك في أمريكا إلا إذا سافرت إليه، فأنت مقهور بالأسباب، لن تستطيع أن تشرب الماء إلا إذا استخرجته من البئر، لن تستطيع أن تأكل شيئاً إلا إذا زرعته، الإنسان مقهور بالأسباب، أما الله عز وجل لا يليق بمقام الألوهية أن يكون فعله وفق الأسباب، الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
من أجل أن تأكل رغيف خبز، هناك شيء اسمه زراعة، وسقي، وتسميد، وجني، ودراسة، وطحن، وخبز، مراحل طويلة مقرونة جميعاً بها، لكن الله عز وجل للتقريب قادر مباشرةً:
﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
خبز جاهز من دون أي أسباب، كيف نوفق بين هذه الآيات التي تبين أن لكل شيءٍ سبباً وبين أن الله عز وجل لا يليق بمقامه أن تحكمه الأسباب؟ الجواب، الله عز وجل أراد أن تكون أنظمة الكون وفق السببية، هو قادر على كل شيء، قادر
﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
لكن لو جعل الخلق بلا أسباب لم نؤمن به، أنت تقول: هذه الدجاجة من البيضة، والبيضة من دجاجة، تمشي مع التسلسل إلى أن تصل إلى دجاجة خلقها الله بادئ ذي بدء، فلو أن هذا الكون ليس وفق نظام السببية لما عرفت الله، فليس هناك من تناقض بين أن الله عز وجل جعل لكل شيءٍ سبباً، وبين أن الله يقول:
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
إذاً هذا الذي يمكن أن يكون واضحاً من خلال هذه الآيات وتلك الحقيقة.
توافق مبادئ العقل مع نظام الكون يجعل من العقل أداةً لمعرفة الله عز وجل :
أيها الأخوة، عقل البشر في مبادئ ثلاث: مبدأ السببية، والغائية، وعدم التناقض، هذه المبادئ الثلاث تتوافق توافقاً تاماً مع أنظمة الكون، بعالم المادة كل شيء له سبب، وفي عقلك لا تفهم شيئاً بلا سبب، بعالم المادة كل شيء له غاية، وبعقلك لا تفهم شيئاً بلا غاية، بعالم المادة التناقض مستحيل، وبعقلك التناقض مرفوض، إذاً توافق مبادئ العقل مع نظام الكون هو الذي يجعل من العقل أداةً لمعرفة الله عز وجل، الآن للتقريب، لو فرضنا مدير مستشفى قال: كل واحد من الموظفين يداوم سنة لا يتأخر يأخذ كتاب شكر، سنة ثانية لم يأخذ تقريراً طبياً كتاب شكر ثان، سنة ثالثة ليس عليه شكوى كتاب شكر ثالث، سنة رابعة لا يوجد بحقه أي مخالفة كتاب شكر رابع، وكل واحد معه أربع كتب شكر يترفع، ويزيد معاشه عشرين بالمئة، التعامل مع مثل هؤلاء المدراء مريح جداً، كل الموظفين عنده سواء، لا يوجد تفرقة، عمل مقاييس موضوعية، أما هناك مدير هذا ابن عمه، هذا ابن خالته، وهذا قدم له هدية، يتعامل مع الموظفين بمقاييس إنتمائية أو نفعية، إما ابن عمه، أو قدم له هدية، فكل إدارة أساس التعامل مع الموظفين أساس نفعي أو انتمائي هذه إدارة متخلفة، وكل إدارة تتعامل مع الموظفين وفق مقاييس موضوعية إدارة راقية جداً، هذا للتقريب.
تعامل الله عز وجل مع كل عباده بمقياس واحد :
اعتقد يقيناً أن الله سبحانه وتعالى يتعامل مع كل عباده بمقياس واحد:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
سيدنا سعد بن أبي وقاص فداه النبي بأمه وأبيه:
(( ارْمِ فداك أبي وأمِّي ))
وكان يقول:
(( هذا خالي فليُرِني امْرؤ خَالَهُ ))
سيدنا عمر قال له بعد وفاة النبي: "يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينهم وبينه قرابة إلا طاعتهم له"، هذا شيء مريح، كن ابن من شئت، غني، فقير، ذكي، محدود، وسيم الصورة، غير وسيم، هناك مقياس واحد تعامل به من قبل الله:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
أيها الأخوة، أنا أتمنى مرة ثانية أن قيمة هذا الدرس ليس في معلوماته، في أن يترجم إلى سلوك، حتى يقوى المسلمون، حتى يقفوا أمام أعدائهم، لأن الأخذ بالأسباب مع الإيمان بالله أساس النجاح، سنلخص الدرس بهذه المقولة التي أرددها كثيراً، ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.