- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
زيارته لضعفاء المسلمين عامة ولأهل الصفة خاصة.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الحادي عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وصلنا إلى زياراته صلى الله عليه وسلَّم لضعفاء المسلمين عامةً ، ولأهل الصُفَّةِ خاصَّةً ، أُذكِّركم بآيةٍ كريمة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾
إلى مَن ؟ إلى الكبراء ، الأقوياء ، الأغنياء
﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
معنى ذلك أن الإنسان إذا أحبَّ أن يجلس مع الأقوياء ، مع الأغنياء، مع الكبراء هذا من زينة الحياة الدنيا ؛ أما إذا جلس مع الفقراء ، مع المساكين ، مع الضِعاف ، مع البُسطاء ، جلس بينهم ، أحسن إليهم ، استمع إلى شكواهُم ، وجَّههم فهذا من العمل الصالح ، فالجلوس مع الفقراء، والمساكين ، والمتواضعين قربةٌ إلى الله ؛ والجلوس مع الأقوياء ، والأغنياء ، والكبراء ، حظُّ نفسٍ
﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
لذلك فإن الإنسان يرقى عند الله إذا زار أخاه الفقير ، إذا زار أخاه المسكين ، إذا دُعي إلى طعامٍ في مكانٍ بعيد ، والطعام خشنٌ متواضع ، هذا من العمل الصالح ، هذا من العمل الذي ترقى به عند الله ؛ أما إذا دُعيت إلى وليمةً فاخرة عند أناسٍ أقوياء ، أو كبراء هذا من الدنيا ، هنا دنيا ، وهناك آخرة
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
لهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :
((اللهمَّ احشرني مع المساكين))
فكأن المساكين المقصود بهم المفتقرون إلى الله عزَّ وجل ، أما الذين ضيَّعوا الآخرة والدنيا معاً فأولئك فقراء اليهود ، لا دين ولا دنيا .
أقصد بالمسكين : الفقير المؤمن ، المؤمن المحب لله عزَّ وجل ، فماذا يعنينا من هذا الكلام ؟ أي إذا كان لك أخت ، وزوجها فقير ، تسكن في حي المخيَّم ـ مثلاً ـ ولك أخت ثانية تسكن في حي المالكي ، أنت كل يوم عند الأخت الثانية ، ابنها مريض ، أو زوجها مسافر فأنت عندها ، لمَ كل هذا الاهتمام ؟ والتي في المخيم يتركها شهراً ، اثنين ، ثلاثة ، أربعة ، و قد ينساها نهائياً ، هذا التصرف من الدنيا .
فالشيء الذي يلفت النظر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور ضعفاء المسلمين ، ويلاطفهم ، ويؤانسهم ، ويجلس معهم ، ويعود مرضاهم ، ويحضر جنائزهم وفي هذا تكريمٌ لهم .
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلَا آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِا ))
امرأةٌ فقيرةٌ جداً كانت تقُمُّ المسجد - تكنس المسجد - ولا أعتقد في الدرجات الاجتماعية عمل أقل شأناً من هذا العمل ، امرأةٌ فقيرةٌ جداً تقم المسجد توفيت ، أصحاب النبي عليهم رضوان الله رأوا أن النبي عليه الصلاة والسلام أعظم وأجل من أن يُبلَّغ خبر موتها ، فلم يبلِّغوه ، فلما تفقَّد حالها بعد أيام قالوا :
(( ماتت ))
قال :
(( أَفَلَا آذَنْتُمُونِي ؟))
يا رسول الله ما شأنك بها ؟ امرأة فقيرة تقم المسجد وماتت ، لماذا نعلمك ؟
(( فغضب عليه الصلاة والسلام ، وذهب إلى قبرها ، واستغفر لها ، وقرأ القرآن على قبرها ))
هكذا علَّمنا النبي.
الأنبياء شيء ، والطغاة شيءٌ آخر ، الأنبياء شيء ، والملوك شيء آخر .
فعندما تزور الفقير ، تكرمه ، تواسيه ، تستمع إليه ، تؤنسه ، ترفع من قيمته ، معنى هذا أنك من أهل الآخرة ، وضعت مقاييس الدنيا تحت قدمك ، وكرَّمت في الفقير إيمانه ، وكرَّمت في الفقير استقامته ، و كرَّمت في الفقير محبَّته لله عزَّ وجل ، فأن تزوره ، وأن تهتم به ، وأن تعطف عليه ، وأن تحترمه ، وأن تثني عليه ، وأن تؤانسَهُ هذا تكريمٌ لإيمانه ، معنى ذلك أن قيَم الدنيا تحت قدمك ، وقيَم الآخرة ملء سمعك وبصرك .
(( فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يأتي ضعفاء المسلمين ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم))
(( وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال : جلست في عصابةٍ ))
- عصابة أي جماعة ، لكن هذه الكلمة لها معنى هامشي حديث ، عصابة قُطَّاع طُرُق، عصابة لصوص ، أما العصابة في أصل اللغة تعني الجماعة ، لا شيء عليها عند الاستعمال - قال عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض))
أي إن تهلك هذه الجماعة فلن تعبد بعد اليوم ، الكلمة تأخذ معاني بحسب العصور ، ما قولكم أن أحد الشعراء مدح خليفةً عظيماً هو المعتصم ، وصفه بأنه جرثومة فقال له :
أنت جرثومة الدين والإسلام والحسبِ .
الجرثومة أصل الشيء ، وحينما رأينا أمراضاً كثيرة ، ثم عرفنا أصلها ، كائنات صغيرة مجهريَّة ، فسمينا هذه الأصول جراثيم ، أما إذا قلت لإنسان الآن : أنت جرثومة الصف - لطالب - أو أنت جرثومة العائلة . معنى ذلك أنه شيء مهين جداً ، فالكلمات تأخذ معاني عبر التاريخ ، فكلمة عصابة قديماً لا تعني إلا الجماعة - مطلق الجماعة - .
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إِنَّ بَعْضَنَا لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنْ الْعُرْيِ - فقر شديد - وَقَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَنَحْنُ نَسْمَعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ وَقَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدَ فِينَا لِيَعُدَّ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فَكَفَّ الْقَارِئُ فَقَالَ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَحَلَّقَ بِهَا يُومِئُ إِلَيْهِمْ أَنْ تَحَلَّقُوا فَاسْتَدَارَتْ الْحَلْقَةُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي قَالَ فَقَالَ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الصَّعَالِيكِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ))
ألم يقل الله عزَّ وجل :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
قال :
(( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أصبر نفسي معهم ))
أي أن هذا الإنسان أتاح لك أن تطيع الله عزَّ وجل .
إخواننا الكرام ؛ هل تصدِّقوني أنك إذا ساعدت إنساناً وقَبِلَ هذه المساعدة ، أنه تفضَّل عليك ؟ لأنك لو أردت أن تعمل صالحاً ولم يقبل أحدٌ أن يأخذ منك شيئاً ، فقد منعك من المعروف، لذلك الصالحون ، الأتقياء ، المؤمنون يرون أن الذي يقبل منهم تفضَّل عليهم ، أي سمح لهم أن يرقوا عند الله .
فقد كان الإنسان في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز يمشي مسافات شاسعة ولا يجد رجلاً يأخذ زكاة ماله ، سيدنا عمر ضاق ذرعاً ، إذْ لم يجد أحداً في عهده من يأخذ زكاة الأموال ، فأعطى أمراً أن توزَّع الزكاة على الغارمين ، الغارمون انتهوا ، أعطى أمراً أن يزوَّج الشباب من بيت مال المسلمين ـ من أموال الزكاة ـ طبعاً لو طبقنا الإسلام لكنا في حال آخر غير هذا الحال ، قال :
(( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم . قال : فجلس عليه الصلاة والسلام وسطنا ، ليعدل نفسه فينا ...))
أي جلس في الوسط ، والإنسان أحياناً إذا ذهب مع إخوانه فهو للجميع لا لواحدٍ أو لِاثنين، الأكمل أن تكون مع الجميع .
أحياناً بجلسة تجد اثنين أو ثلاثة يتكلَّمون - فهو مهمين - بمعزل عن البقية ، هذا مجلس لا يرضي الله عزَّ وجل ، المجلس الذي يرضي الله عزَّ وجل هو الذي يتكلَّم فيه واحد ويستمع الباقون ، أما بعض الأقطاب مع بعضهم يتحادثون والباقون في معزل !! هذا ليس من آداب الإسلام في شيء
(( ... ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - أي أشار إليهم - فتحلَّقوا حوله ، وبرزت وجوههم له ، فقال : أبشروا يا فقراء بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بخمسين سنة ))
فالفقر لا يقدح في قيمة الإنسان أبداً ، الذي يقدح في قيمة الإنسان أن يعصي الله عزَّ وجل ، والمجتمع الذي يقيِّم الناس بحجم أموالهم هذا مجتمعٌ فاسد ، وهذا مجتمعٌ هالك ، ينبغي أن يُقيَّم الإنسان بعلمه وبعمله ، وأي مجتمعٍ يقيِّم الإنسان بماله فهو مجتمعٌ مادي في طريقه إلى الهلاك .
وكانت صُفّةُ المسجد النبوي ـ إذا أحدكم زار مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، خلف القبر الشريف في مكان مرتفع كالجامع الأموي ، ترى منصَّة خلف المحراب ، يجلس عليها كبار المدعوِّين ، مثل هذه المنصَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يجلس بها في عهده فقراء المسلمين ، اسمهم أهل الصُفَّة ، يجلسون في هذا المكان ـ وكانت الصفة في المسجد النبوي مدرسةً للقُرَّاء ، يأوي إليها فقراء الصحابة ممن لا أهل لهم ، فيتدارسون القرآن ، ويتعلَّمون أمور الدين وأحكامه ، ثم يذهبون إلى نواحي البلاد ومختلف الآفاق كي يعلِّموا الناس .
تفقده لأصحابه في الليل واستماعه إلى قراءاتهم.
و بعد فإلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام ، تفقُّده صلى الله عليه وسلَّم أصحابه في الليل واستماعه إلى قراءاتهم .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾
روى الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الْخَيْلَ أَوْ قَالَ الْعَدُوَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ))
أي أنه إذا مرَّ أمام بيت أحد ، فمن صلاته بالليل ، و من جهره بالقراءة ، يعرف من هو ، كان عليه الصلاة والسلام لا يعرف أين منازلهم في النهار، أما إذا مرَّ في أسواق المدينة ، أو مر في أَزِقَّة المدينة ، واستمع إلى قراءات أصحابه في الليل عرف من هم من قراءاتهم .
وروى أبو داود والترمذي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ .
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ قَالَ وَمَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ قَالَ فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ قَالَ قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَقَالَ لِعُمَرَ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ قَالَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ زَادَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا وَقَالَ لِعُمَرَ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا))
أي أنت ارفع قليلاً ، وأنت اخفض قليلاً .
وفي روايةٍ لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لَمْ يَذْكُرْ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ :
(( ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا وَلِعُمَرَ اخْفِضْ شَيْئًا زَادَ وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ))
هكذا كان أصحابه رهباناً في الليل فرساناً في النهار .
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ :
((اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ))
أحياناً يكون مجلس علم في المسجد فيدخل أخ يصلي ، يقتدي به بعض الإخوان فيرفع صوته : الله أكبر ، نحن في مجلس علم ، فاقرأ بصوت خفيض ، أسمع من حولك فقط ، أسمع الذين وراءك ، أما بأعلى صوت و يجهر على مجلس علم ، و يشوَّش على الحاضرين سماعهم للدرس ، وهو يقرأ ويرفع صوته بلا مبرِّر ، فليس هذا من الذوق في شيء ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ))
هكذا شأن المؤمن عنده حساسية ، أحياناً يصلي مع الجماعة ، هو شافعي فيرفع صوته بالقراءة : الحمد لله رب العالمين ، مالك يوم الدين اهدنا الصراط المستقيم ... يعمل موجات في أثناء الصلاة ، ألا فليخفض صوته ، وليعلم أنّ قراءة الإمام قراءةٌ للمؤتَم .
(( وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا قَالَ رَجُلٌ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ قَالَ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ))
الأكمل ألاّ تشوش على أحدٍ صلاته ، أو عبادته ، أو تلاوته .
الآن إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم :
ملاطفته صلى الله عليه وسلَّم لجفاة الأعراب لئلا يفتتنوا.
فالناس أجناس ، والناس درجات ، والناس معادن ، هناك أشخاص عندهم غلظة ، عندهم فظاظة ، عندهم شدَّة ، عندهم قسوة ، فكيف عامل النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء ؟ كان عليه الصلاة والسلام يتحمَّل جفوة الأعرابي ويلاطفه ، فعَن الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ بَدَا جَفَا))
الإنسان قد يعيش في الريف ، ليس له مجلس علم ، ليس له مَنْ يهذِّبه، و لا مَنْ يوجِّهه ، لا يحضر مجلس علم ، لا يصغي إلى خطيب ، لا يقرأ ، لا يهتم بفهم و لا بعلم ، يعيش بأعماله ، هذا إذا أراد أن يحتكَّ بالناس ربّما كان فظّاً ، ولذلك فالعلم يهذِّب .
فكان عليه الصلاة والسلام يتحمل جفوة الأعرابي ، ويلاطفه ، ويقابل غلظته بلطيف المقال والحال ، وذلك لتثبيته أو من أجل ألاّ يُفتن ، ويسلك به مسالك الرحمة ، واللين ، والتؤدة لئلا ينفر ويشرُد .
فسيد الخلق ، زعيم أمة ، قائد أمة ، نبي ، رسول ، يمسكه أعرابي من ثوبه ويشده إلى أن يؤثِّر في صفحة عنقه ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ))
التعليم لنا ، فصاحب الحاجة أرعن ، صاحب الحاجة أعمى ، أنت موظَّف مرتاح ، مكتب فخم ، مدير مكتب ، موظَّفين ، أُذَّان ، أجراس ، هواتف ، الغرفة مكيَّفة ، أنت مرتاح جداً ، ويكون الشخص صاحب حاجة ، تقول له : لطلبك ما في موافقة ، لعلَّه ينفجر أمامك ، انتظر ، صاحب الحاجة أرعن ، لعلَّه مقهور ، لعله مظلوم ، لعله مصاب ، لعله مُبتلى ، فهناك من يطرده شر طردٍ ، ويمزق معاملته تمزيقاً كلياً ويطرده لأنه تجاوز الحد .
مع سيد الرسل أمسكه من ردائه وجذبه حتى أثَّر في عنقه ، وقال : "يا محمد ـ باسمه ـ أعطني من مال الله فهذا ليس مالك ولا مال أبيك " . تبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
(( صدق إنه مال الله أعطوه ما يريد))
هكذا كان عليه الصلاة والسلام يعامل جفاة الأعراب .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إِن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم يستعينه في شيء ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلَّم شيئاً ثم قال له :
(( أأحسنت إليك ؟ ))
قال الأعرابي : لا ولا أجملت . فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار النبي الكريم إليهم أن كفوا ، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام ، وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال :
(( إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت ))
فزاده النبي الكريم شيئاً وقال :
(( أأحسنت إليك ؟ ))
قال : نعم - يعني الآن العطيّة معقولة - فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا . فقال النبي الكريم :
(( إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم - الذي قلته لي قل لهم إياه - فلما جاء الأعرابي قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال ـ و لم يعد قوله ))
أحياناً شخص يقول لك : قال فلان عنك : لا تفهم . لا تعدْها ، إذا كانت كلمة سيئة فلا تعدها ، له انتقادات ، مزعوج ، تكلَّم كلمة لا تليق ، يعيد له نفس الكلمة حتى يهزَّه ، النبي ما ذكر مقالته ـ بل قال :
(( إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال ، وإنَّا قد دعوناه فأعطيناه ، فزعم أنه قد رضي ، كذلك يا أعرابي - أصحيح - ؟ فقال الأعرابي : نعم جزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً ))
اسمعوا التعليق : فقال عليه الصلاة والسلام :
(( إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجلٍ له ناقة ، فشردت عليه ، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فقال لهم صاحب الناقة : خَلُّوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها منكم ، وأنا أعلم بها ، فتوجَّه إليها صاحبها ، وأخذ لها من قُمام الأرض - أي حشيش ، أي من نبات الأرض - ودعاها حتى جاءت واستجابت وشدَّ عليها رحلها ، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار))
تعليق دقيق جداً ..
((إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجلٍ له ناقة فشردت عليه ، فاتّبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها منكم ، وأنا أعلم بها ، فتوجَّه إليها صاحبها وأخذ لها من قمام الأرض - أي من نبات الأرض - ودعاها حتى جاءت واستجابت وشدَّ عليها رحلها ، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار))
قال له : لا أحسنت ولا أجملت ، النبي زاده عطاء فقال : أحسنت وأجملت وجزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً ، هذه القصَّة دقيقة جداً ، إنسان غير مصقول ، محدود التفكير ، صاحب حاجة ، أرعن ، تكلَّم كلمة ، فأنت امتصَّها ، احتَوِهِ ، امتصَّ هذه الكلمة ، تجاوْز عنها تأخذ بيده ، أما لو انتقمت منه أهلكته .
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم وهو :
عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلَّم مع أصحابه .
قال الله تعالى :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
أمَرَ اللُه النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم أن يتواضع للمؤمنين ، لكن هناك آيتان ، الآية الأولى :
﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
والآية الثانية :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
ماذا يستنبط من الآيتين ؟ فأنت لك مسجد ، لك مرشد ، التقيت مع أخ من جامع آخر ، يجب أن تُرَحِّب به ، وأن تحبه ، فهو مؤمن مثلك ، هذا التحزُّب ، وهذه النظرة الضيقة ممقوتتان ، و هذه الآية تسدد الخطأ ، وتحدد التوجه :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
لكن الآية الثانية :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
للمؤمنين عامةً ، أيّ مؤمن ، فأي إنسان مؤمن يعتقد ما تعتقد ، يصلي ويصوم ، يقيم أمر الله عزَّ وجل ، يتَّجه للقبلة - لا نكفِّر أحداً من أهل القبلة - يصلي معك في اتجاه الكعبة ، فالمؤمن الصادق المخلص لا يفرِّق بين جماعةٍ وأُخرى ، كل من عرف الله وسار على منهجه على العين والرأس ، أبداً من دون تفرقة ، وليس من صالح المسلمين هذه التفرقة ، ولا هذا التمايُز ، ولا هذا التحزُّب الأعمى ، ولا هذا الانحياز البغيض .
فقد كان عليه الصلاة والسلام المثل الأكمل في التواضع مع علو مقامه . و هناك شيء يلفت النظر ..
((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))
لماذا الكبر. فمهما كان قليلاً يفسد العمل ؟ و عندنا مثل يوضِّح هذه الحقيقة ، فلو عندك مئة كيلو حليب كامل الدسم ، نقطة نفط واحدة تفسده ، كذلك العبودية لله عزَّ وجل ماذا يفسدها ؟ الكبر ، الكبر يتناقض مع العبوديَّة ، فلذلك من علامات المؤمنين التواضع ، فكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في التواضع .
كيف كان متواضعاً ؟ كان من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم أن يخدم نفسه بنفسه ..
((مَن حمل بضاعته فقد برئ مِن الكبر))
شخص يحمل طعام أولاده ، فاشترى خضاراً وفواكه ، وحملها بنفسه ، يزداد عند الله رفعة
((مَن حمل بضاعته فقد برئ مِن الكبر))
فمن علامة تواضعه صلى الله عليه وسلَّم أنه يخدم نفسه بنفسه ، قالت عائشة رضي الله عنها :
((كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
أي إذا غسل الإنسان في بيته صحناً ، رتّب غرفة ، نقل حاجة من مكان إلى مكان ، هذا لا ينتقص من قدره أبداً ، هكذا كان عليه الصلاة والسلام .
في رواية أخرى :
((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ))
في رواية ثالثة :
((كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ))
أي إذا كانت الزوجة مريضة ، وأنت هيَّأت طعام الفطور لأولادك ، فهذا الشيء يرفع من قدرك عند الله عزَّ وجل ، إذاً كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً ، ومن تواضعه أنه كان يخدم نفسه ،
((مَن حمل بضاعته فقد برئ من الكبر))
((من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق))
((ثلاث من كن فيه فقد برئ من الشح ؛ من أدى زكاة ماله ، وقرى الضيف ، وأعطى في النوائب))
قاعدة .. قالت عائشة :
((كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
في رواية :
((يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ))
ومن تواضعه أنه كان يركب الحمار أحياناً ، ولا يخصُّ نفسه بركوب الخيل . أحياناً ترى إنساناً يقود سيارة ، قد تكون ( بيك أب ) ، فيدعو صديقهُ أو شخصاً لركوبها : تفضَّل ، فيقول : لا أركب ، يا أخي اركبْ ، وما المانع ؟ فمن الكبر أن تختار مركبة معيَّنة ، إن لم تكن في مستواك لا تركبها ، فاعلم أن هذا كبر ، فكان عليه الصلاة والسلام ـ في زمانه كانت تعد الخيل مركبة فخمة ، والأقل فخامة منها الحمار ـ فكان عليه الصلاة والسلام يركب الحمار ، ولا يخصُّ نفسه بركوب الخيل كما هي عادة الملوك والأمراء .
وروى أحمد عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطبَ فَقَالَ :
((إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِنَّ نَاسًا يُعْلِمُونِي بِهِ عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمْ رَآهُ قَطُّ))
والله يا إخوان مهما قلت لكم عن أثر عيادة المريض فربما لا أكون مبالغاً ، فإذا كان لك أخ أقل منك شأناً ، ومرض ، وذهبت بنفسك وعدَّته ، ومعك هديَّة لطيفة ، فهذه الزيارة وهذه العيادة تترك في نفسه أعظم الأثر ، كما قلت في بداية الدرس : هناك زيارات من عمل الدنيا وزيارات من عمل الآخرة ؛ أن تزور ضعيفاً ، مسكيناً ، فقيراً ، متواضعاً ، إنساناً مغموراً أن تزوره ، و أن تعوده ، أن تلبِّي دعوته ، أن تجلس معه ، أن تلاطفه ، أن تؤانسه ، أن تتواضع له ، أن تأخذ بيده هذا من عمل الآخرة .
أما أن تزور الأقوياء ، والأغنياء ، والكبراء ، وأن تستأنس بهم ، أنت مع الفقير آنسته ، أما هنا أنت تستأنس بهم ، وقد يزوَّرُّون عنك ، وقد يقيِّمونك تقيماً لا يرضيك ، وقد يترفَّعون عنك ، القاعدة الأساسيَّة : " لا تجالس من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له " ، أي إذا أعطاك إنسان جنبه فأنت أعطه ظهرك ، فأنت مؤمن كريم عزيز النفس ، أما الذي يعطيك وجهه فأعطه روحك ، أوضح كلامي ؟ الذي يعطيك وجهه أعطه روحك ، والذي يعطيك جنبه أعطه ظهرك .." المتكبِّر على المتكبِّر صدقة " .
الإيمان فيه عزَّة ، الدين عظيم ، و الإنسان لا يخضع لغير مؤمن ! المؤمن إذا خضعت له فهذا من كرامتك عند الله ، لأن الله عزَّ وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
وبالمناسبة : الإنسان لا يشكو همَّه لكافر - من شكا مصيبته لمؤمن فكأنما اشتكى إلى الله ، لكن من شكا مصيبته إلى كافر فكأنما اشتكى على الله - .
ماذا سيقول لك الكافر ؟ سيشمت بك ، والأكمل من هذا وذاك أن تشكو همك وحزنك إلى الله ..
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾
هذا الأكمل .
وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَازَةَ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ))
هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم .
كما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال :
(( أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من خيْبر ، وإني لرديف أبي طلحة ، وكان عليه الصلاة والسلام يُردف خلفه بعض أصحابه - على الدابَّة ، دابَّة صغيرة يركب هو ويركب خلفه صحابيٌ آخر ، من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم - وصبيان أصحابه ، ولا يستنكف من ذلك كما تأنف الكُبراء والأمراء ))
وفي الصحيحين ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :
(( كنت وراء النبي صلى الله عليه وسلَّم - على الدابة - ليس بيني وبينه إلا مؤخِّرة الرحل . فقال : يا معاذ بن جبل ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ... ))
هذه ملاحظة مهمة جداً : أنت تجلس مع الكبراء ، تؤخذ ببيوتهم ، بمكاتبهم ، بمركباتهم ، لكن أن تجلس مع إنسان متواضع وتراه أنه أعظم الخلق ، فهذا شيء عظيم جداً ، المتكبرون حولهم رِياش ، وأثاث ، ومرفَّهون ببيوت واسعة ، بمركبات فارهة ، بأجهزة دقيقة جداً ، فهذه تعطيهم هالة كبيرة جداً و لكنها زائفة ، أما أن تجلس مع نبيٍ عظيم يركب دابةً ، يردف خلفه صحابياً، يخصف نعله بيده ، يخدم نفسه ، يحمل حاجته ، يقوم في خدمة أهله ، وتراه أعظم إنسان ، فهذا هو النظر الحكيم .
معنى ذلك أن الصحابة على مستوى رفيع جداً ، نحن أحياناً نؤخذ بالمظاهر ، فالذي يحيط نفسه بمظاهر كبيرة جداً نعظِّمه ، أما إذا دخلنا إلى بيت صغير ؛ قبو ، دهانه وسط ، و الأثاث درجة خامسة ، فقد يصغر بعينك، من ضعف إيماننا ، من النظرة الماديَّة ، من تأثُّرنا بقيَم الكفَّار إذا دخلت إلى بيت متواضع ، وفرشه متواضع ، وصاحبه فقير فقد يكون ولياً من أولياء الله ، فأصحاب النبي كذلك و هو في أعلى درجات التواضع ، والتقشُّف، والخشونة ومع ذلك قال له :
(( يا معاذ بن جبل . قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ... ))
فقط قال له :
(( يا معاذ بن جبل ))
اللهمَّ صلِّ عليه له أسلوب تربوي ..
(( ... ثم سار ساعةً ثم قال : يا معاذ بن جبل . قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ـ فلم يقل شيئاً ـ ثم سار ساعةً ثم قال : يا معاذ بن جبل . قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك ))
إخواننا الكرام ؛ فأنا أعلِّق أهميَّة كبرى على هذا القول ، والله الذي لا إله إلا هو هذا القول قرأته قبل شهر تأثَّرت به بالغ الأثر .
(( قال : يا معاذ بن جبل ؟ قلت : لبيك رسول الله وسعديك . قال : هل تدري ما حقًّ الله على العباد ؟ قال معاذ : الله ورسوله أعلم ... ))
فالكلام كلمتين حق الله على العباد وحق العباد على الله ، وهذا القول يعنينا جميعاً ، فأقرب قول لحياتنا هذا القول .
(( يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال معاذ : الله ورسوله أعلم . قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به ... ))
إنّ حق الله عزَّ وجل عليك أن تطيعه ، هذا كتابه وهذه سنة نبيِّه ، افعل ولا تفعل ، كل موضوع بحياتك حُكمه إما أنه فرض ، أو واجب ، أو مندوب ، أو مستحب ، أو مباح ، أو مكروه تنزيهاً ، أو مكروه تحريماً ، أو حرام ، كل شيء في الحياة الدنيا لابدَّ له من حكمٍ شرعيٍ متعلِّقٍ به ، فأنت كمؤمنٍ ، إذا كنت مؤمناً صادقاً فأي عمل ، و أي موقف اسأل عن حكمه الشرعي ، هل يجوز أن أفعل كذا وكذا ؟ .
البارحة كنا على مائدة ، و معنا أُناس ليسوا متفقِّهين ، انتهى من الطعام مبكراً ، فقام يريد أن يغسل يديه ، السنة ليست هكذا ، إذا انتهيت من الطعام يجب أن تبقى في مكانك حتى ينتهي آخر واحد ، عندما انسحبت أنت ، وفلان انسحب ، وفلان انسحب وهناك واحد مازال جائعاً ، استحيا بحاله فانسحب وهو جائع ، لا تقم من مكانك وأنت على الطعام حتى ينتهي آخر من على المائدة ، فأنت لك أن تأكل حاجتك ، و لك أن تتوقف عن الطعام ، لا أن تنسحب من المائدة ، لا تنسحب إلا إذا انتهى جميع من على المائدة من الطعام ، فما من موقف إلا وله حكم شرعي ؛ فرض ، واجب ، مندوب ، مستحب ، مباح ، مكروه تنزيهاً ، مكروه تحريماً ، حرام .
(( قال له : يا معاذ بن جبل ، قال : لبيك رسول الله وسعديك ، قال : هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال معاذ : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به ، وسكت النبي عليه الصلاة والسلام ثم سار ساعةً قال : يا معاذ بن جبل - فالمؤانسة ، يقول له كلمة ويريحه - قال : يا معاذ بن جبل . قلت : لبيك رسول الله وسعديك . قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ألاَّ يعذِّبهم ))
لك عند الله حق ألاَّ يعذِّبك لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إذا أطعته، بربكم ألا تكفينا هذه العبارة ؟ له عليك حق أن تطيعه ، ولك عليه حق ألا يعذِّبك لا في الدنيا ولا في الآخرة . هذا الحديث يكفينا :
(( يا معاذ بن جبل ، لبيك رسول الله وسعديك ، ما حق الله على العباد ؟ حق الله على العباد أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا . يا معاذ بن جبل ، قلت : لبيك رسول الله وسعديك ، قال : ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ألاَّ يعذِّبهم ))
هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا وحي غير متلو ، لا ينطق عن الهوى ، أتريد ألاّ تعذَّب في الدنيا ولا في الآخرة ؟ عليك بطاعة الله .
والله أحياناً التقي بإنسان سنة تقارب الثمانين ، أو الخامسة والثمانين لا يشكو شيئاً ، هذا من طاعة الله . يا سيدي ما هذه الصحَّة ؟ ـ ست وتسعون سنة ؛ قامته منتصبة ، بصره حاد ، سمعه مرهف ، أسنانه في فمه ، ذاكرته قوية ، زوجته معه ، أكرمه الله بأن أمدَّ في عمرها وبقيت معه ، يا سيدي ما هذه الصحة ؟ ـ قال : " يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً ، هل هناك أحد لا يتمنى أن يعيش حياة كلها صحة ، وما يشكو من مشكلة ؟ الصحَّة تحتاج إلى طاعة ، هذا الحديث والله يكفينا ..
(( ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ألاَّ يعذِّبهم ))
مطلقة ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
من تواضعه صلى الله عليه وسالَّم مشيته مع الأرملة ، والمسكين ، والأمة .
(( روى مسلم وغيره عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا))
مع أنه في عقلها شيء ، أحياناً يكون واحد محدود ، مختل ، يأتي يسلِّم عليك ، يصافحك ، يعانقك ، طوِّل بالك عليه ، كيف لو كنت مكانه ؟
حدَّثني أخ كريم : رجل تبرَّع ببيت لعمل خيري ، أي مشغل لتعليم الخياطة للفتيات الفقيرات ، البيت بثمانية ملايين ليرة قدَّمه هديَّة ، جزاه الله خيراً ، توفي الآن ، فالجمعية التي قبلت هذا البيت ، والتي عملت على تجهيزه بالوسائل المناسبة ، أقامت لهذا المحسن حفل تكريم ، تكريماً له على هذا التبرُّع السخي ، ألقى الخطباء كلمات أثنوا بها على هذا المحسن ، إلا أحد الإخوة الكرام ألقى كلمة تكلَّم فيها كلاماً آخر ، خاطب المحسن قائلاً: أنت يا أيها الأخ الكريم لولا فضل الله عليك لكنت أحد المنتفعين بجمعيتنا ، الله أعطاك فقدَّمت لنا هذا البيت ، لو أراد لكنت أحد المنتفعين بهذه الجمعيَّة. فإذا الله أعطى إنساناً فهذا من فضل الله عزَّ وجل ، و المؤمن يرى دائماً فضل الله عليه ، كان من الممكن أن تكون مكان هذا المختل الذي عانقك ، وقبَّلك ، وتبرَّك بك ، فالنبي على عظم شأنه أوقفته امرأةٌ في عقلها شيء فَقَالَتْ :
((يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا))
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ - الطفلة الصغيرة - مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
وفي رواية أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
قد يطول بك العمر فتصير جَداً ، ولك ابن بنت أو ابن ابن ، يمسك يدك ويمشي بك في أرجاء البيت ، فامْشِ معه ـ سايره ـ يريد منك سُكّرة، هو يعرف مكان السكر ، يسحبك للمكان ، أعطني من هذه ، فأنت كلَّما كنت متواضعاً كلَّما كنت عظيماً عند الله عزَّ وجل .
زرت مرَّة بلداً إسلامياً عندهم زعيم ديني له مكانة كبيرة جداً ، مرسوم بلوحة وبنت صغيرة تمسكه من يده ، وتمشي أمامه ، قلت : هو يقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المشهد ..
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
وفي رواية أحمد :
((فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
أي ليقضي لها حاجتها بنفسه الكريمة .
الصغار كلَّما تواضعت لهم أحبوك و استمعوا لك ..
((من كان له صبي فليتصابَ له))
فهذا دليل على عظمة الإنسان ، والله سمعت اليوم قصَّة وقعت في الشام ، طبعاً الذي حدَّثني بها من كَتَبَ التقرير ـ تقرير الحادثة ـ طفل بكى ، أخٌ له أختٌ ، ولهذه الأخت هذا الطفل ، بكى فتضايق منه ، قال لها : والله في نفسي أن ألقيه من النافذة ، قالت له : ألقه ، وهي تمزح معه ، أمسكه ، وألقاه من الطابق السابع ، وبالطبع نزل ميّتاً ، وهو الآن في السجن ، قلوب بعض الناس كقلوب الوحوش .
وسمعت قصَّة وقعت في مدينة أبو كمال إنسان ذبح ستة أولاد ـ من أولادِهِ ـ ذبحهم واحداً واحداً . انظر ...
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
أو
((فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
أي ليقضي لها حاجتها بنفسه الكريمة ، هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم .
وروى النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ :
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ))
مرَّة عدي بن حاتم أتى المدينة ليلقى النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان يتوقَّع أن النبي ملك وليس نبياً ، فلما رحَّب به النبي ، أخذه إلى بيته، يقول عدي بن حاتم : " في الطريق استوقفته امرأةٌ فوقف معها طويلاً تكلِّمه في حاجتها ، قلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، إنه نبي .
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلَّم تكريمه لعباد الله المسلمين . فقد روى الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما في حجة النبي ، أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أتى السقاية ـ أي أتى أناس يعملون في السقاية ، سقاية الحجاج ـ فقال :
(( أنا عطش اسقوني فقالوا : إن هذا يخوضه الناس ، ولكن نأتيك به في البيت ، قال : لا حاجة لي فيه اسقوني مما يشرب منه المسلمون ))
أحياناً يخص الإنسان بشراب خاص ، بإناء خاص ، بكأس خاص ، بشيء مختوم ، شيء فخم ، قال لهم : اسقوني مما يشرب منه الناس ، قد تكون في الطواف ، في الحج ، في العمرة ، تجد مستودعات الماء، والصنابير ، والحجاج يشربون ، اشرب معهم ، أنت من الناس ، هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم ، قال : من تواضعه لم يقبل أن يؤتى بشرابٍ خاص ، وأبى إلا أن يشرب مما يشرب منه الناس ، ولو خاضت فيه أيديهم .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلَّم .
(( كان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين))
لأن المسلم طاهر .
سيدنا عمر استأذن النبي في العمرة فقال :
((لا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ))
النبي عليه الصلاة والسلام يطلب من سيدنا عمر أن يدعو له ، هذا من تواضعه.
وآخر شيء في موضوعنا هذا ما رواه الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((... وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
البغي : العدوان ، أي لا عدوان مادي ، ولا عدوان معنوي ، العدوان المعنوي الكِبْر ، والمادي أن تأخذ ماله ، أو أن تسلبه شيئاً من حاجاته ..
((وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع تواضعه ، وكيف أنه اختار أن يكون نبياً عبداً لا نبياً ملكاً .