- (079) سورة النازعات
- /
- (079) سورة النازعات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات .
الموازنة بين صنعة الإنسان و صنعة الواحد الدّيان :
أعزائي المشاهدين ؛ أخوتي المؤمنين ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ولازلنا في تفسير سورة النازعات ، وصلنا إلى قوله تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
السماء بناء ، ومن مسلمات علم الفلك أن هناك آلاف ملايين المجرات ، ومجرتنا التي نحن فيها اسمها درب التبابنة ، وفي هذه المجرة نقطة ، شكل هذا المجرة على شكل إهليلجي فيها نقطة ، هذه النقطة هي المجموعة الشمسية ، والأرض كوكب من المجموعة الشمسية ، هذا هو الكون ، هذا هو الكون الذي فيما يبدو لا نهاية له ، وكلما ازددت في هذا الكون دراسة ازددت تعظيماً لخالق هذا الكون ، قال تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
الإنسان لا يخلق ، لكن حينما قال الله عز وجل :
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
تجاوزاً سمينا الصانع خالقاً ، ووازنا بين صنع الصانع البشري وبين خلق الخالق الأزلي ، فرق كبير ، مثلاً الله عز وجل خلق كل شيء من لا شيء ، والإنسان يصنع شيئاً من كل شيء ، المسافة كبيرة جداً ، أنت لو وازنت مثلاً الكلية الطبيعية التي لا يزيد حجمها عن قبضة اليد ، تعمل ليلاً نهاراً بعشرة أمثال حاجة الإنسان ، والكليتان بعشرين ضعفاً عن حاجة الإنسان ، بلا صوت ولا جلوس على سرير ، بينما الذي يضطر إلى أن يغسل كليتيه في المستشفى جهاز غسل الكلية يزيد عن حجم هذه الطاولة ، ويجب أن تستلقي على السرير ثماني ساعات حتى تنظف ثمانين بالمئة من حمض البول في الدم ، والباقي يسبب للإنسان متاعب كثيرة جداً ، جسمية ونفسية ، فكأن الله عز وجل بهذه الآية يرد أن نوازن بين صنعة الإنسان وبين صنعة الواحد الديان ، قال تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
هناك موسوعة للطيران اقتنيتها مرة ، أول عبارة في هذه الموسوعة : إن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر ، الطائر يقطع ستاً وثمانين ساعة بلا توقف ، وحتى هذه الساعة لا أحد يعلم كيف يهتدي الطائر إلى مكانه ؟ يقطع رحلة تقدر بسبعة عشر ألف كيلو متر ، لو فرضنا طائراً في عمان ، في بيت من بيوت عمان ، انتقل إلى جنوب الكرة الأرضية ، سبعة عشر ألف كيلو متر ، الآن كيف سيعود ؟ دقق لو أخطأ بدرجة واحدة ، يأتي في الدار البيضاء ، إذا أخطأ بدرجة واحدة ، فكيف يعود إلى مكان انطلاقه ؟ مدينة فيها حي ، فيها بيت ، بسقف البيت مكان لهذا الطائر ، حتى هذه الساعة لا أحد يعلم كيف يهتدي الطائر إلى هدفه ، بل إن أناساً جاؤوا ببيوض طيور وضعوها في أستراليا وهاجرت إلى بريطانيا ، هي تهاجر من بريطانيا إلى جنوب إفريقيا وضعوها في أستراليا حتى هذه الساعة لا أحد يعلم كيف يهتدي الطائر ؟ ظنوا أنه يهتدي بتضاريس الأرض ، بالليل ؟ طنوا أنه يهتدي بإشعاع المغناطيس ، فوضعوه بإشعاع آخر اهتدى إلى هدفه ، موضوع طويل لكن عظمة خلق الله عز وجل يجب أن تكون واضحة عند المؤمن ، المؤمن مأخوذ بآيات الله ، مأخوذ بصنعة الله ، بينما غير المؤمن مأخوذ بأحدث سيارة ، سرعتها ستمئة ، مأخوذ بصناعة الإنسان ، فكأن الله يريدنا أن نؤخذ بصنعة الله ، أن نعظم الله عز وجل .
التفكر في خلق السموات و الأرض :
قال تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾
هذه المسافات بين النجوم ما أطوالها ؟ مثل بسيط جداً ، بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، في الدقيقة ضرب ستين ، بالساعة ضرب ستين ، باليوم ضرب أربع وعشرين ، بالسنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، أربع سنوات ضرب أربع ، هذه المسافة التي تبعد عنا هذا النجم الملتهب الذي هو أقرب نجم لنا ، نصل إليها بسيارة أرضية ، كم من الوقت نحتاج ؟ إلى خمسين مليون عام ، خمسون مليون عام من أجل أن نقطع أربع سنوات ضوئية لنصل إلى أقرب نجم ملتهب .
بعد الأرض عن نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية ، بعد الأرض عن مجرة المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية ، بعد الأرض عن أحدث مجرة مكتشفة ثلاثة عشر ألف مليون سنة ضوئية ، فإذا قرأت القرآن ، قال تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
لذلك قال تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
ألا ينبغي أن نتفكر في خلق السموات والأرض ؟ ألم يقل الله جل جلاله :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
أخواننا الكرام ؛ كلمة :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
أي يجب أن نتفكر في خلق السموات والأرض ، هذه العبادة اسمها عبادة التفكر، هذه العبادة هي أقصر طريق إلى معرفة الله ، و أوسع باب ندخل منه على الله ، لماذا ؟ قال: لأن هذه العبادة عبادة التفكر تضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله ، قال تعالى :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾
إذاً كم هي المسافة بين النجوم ؟ أربع سنوات ضوئية لو كان هناك طريق إلى هذا النجم ، لاحتجنا إلى خمسين مليون عام ، خمسون مليون عام من أجل أن نقطع أربع سنوات ضوئية إلى أقرب نجم ملتهب .
بعد الأرض عن نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية ، بعد الأرض عن مجرة المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية ، بعد الأرض عن أحدث مجرة مكتشفة ثلاثة عشر ألف مليون سنة ضوئية ، لذلك أخواننا الكرام ؛ التفكر في خلق السموات والأرض فريضة إيمانية ، لأن هذا التفكر يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله ، فإذا عرفت الله ثم عرفت أمره تفانيت في طاعته ، أما إذا عرفت أمره ولم تعرفه تفننت في معصيته .
تسوية الله عز وجل لكلّ شيء :
رفع سمكها المسافات بين النجوم ، قال تعالى :
﴿ فَسَوَّاهَا ﴾
ما معنى التسوية ؟ شيء دقيق جداً ، للتقريب أنت بحاجة إلى أن تبني في حديقة البيت غرفة لمبيت السيارة ، سويت هذه الغرفة وفق السيارة ، ما معنى سويت ؟ أي يجب أن يكون ارتفاع الغرفة أعلى من ارتفاع السيارة ، وأن يكون عرض الغرفة أعرض من السيارة مع فتح بابيها ، وأن يكون عمق الغرفة أطول من طول السيارة ، هذه التسوية أن تأتي الأشياء متوافقة مع شيء ، الله عز وجل سوى لنا كل شيء ، أي هذه الفاكهة تنضج تباعاً ، لو نضجت في يوم واحد ماذا نفعل بها ؟ هذه الفواكه تنضج تباعاً فنبدأ ببعض الفاكهة الثانية الثالثة حتى نصل في الخريف إلى العنب ، أما لو جاءت كلها في يوم واحد لفسدت ، تسوية أي تصميم إله عظيم ، قال تعالى :
﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾
التسوية عامة ، الله سوّى الإنسان مع حاجاته ، التفاحة حجمها معقول ، تماسكها معقول ، قشرتها جميلة ، طعمها طيب ، لو أنها مرة لا نأكلها ، لو أنها كبيرة جداً لا ننتفع بها ، الثمار الثقيلة جداً على الأرض ، والخفيفة على الشجر ، لو فكرت ، لو أردت أن تفكر في هذا الطعام والتفكر أمر ، قال تعالى :
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾
إذاً التفكر في خلق السماوات والأرض جزء من الإيمان ، قال تعالى :
﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾
هناك ليل ونهار ، لولا الليل والنهار كيف نعد السنين ؟ قال تعالى :
﴿ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾
الليل سكن وراحة ، والنهار نشاط وعمل ، قال تعالى :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
آيات أخرى من آيات الله الدالة على عظمته :
أخواننا الكرام ؛
﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾
جعل الليل مظلماً ، وجعله سكناً ، وجعله راحة ، وجعل النهار معاشاً ، وأخرج الضحى فجعله مضيئاً ، تتحرك بطمأنينة ، الحركة بالليل يوجد غابة مخيف ، في النهار ممتعة، فالليل له وظيفة ، والنهار له وظيفة ، قال تعالى :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾
هذه الينابيع ينابيع الأنهار ، البحر مالح ، بخار الماء يصعد من البحر إلى السماء، هذه الغيوم هي بخار ماء كثيفة تتحرك فإن واجهت طبقة باردة أصبحت مطراً ، هذا المطر من آيات الله الدالة على عظمته ، المطر هو الغيث ، قال تعالى :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾
الآن سنبلة القمح ، القمح مادة أساسية تماماً لحياة الإنسان ، هل تصدقون أن ساق السنبلة مادة أساسية تماماً للحيوان ، قال تعالى :
﴿ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
السنبلة مادة أساسية وغذاء كامل وهو القمح للإنسان ، وساق السنبلة مادة أساسية وكاملة للحيوان .
الحكمة من جعل الجبال رواسي في الأرض :
قال تعالى :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾
أحياناً العجلة بالسيارة يوضع لها قطعة رصاص ، لولا هذه القطعة لاضطربت السيارة ، هناك ميزان توزن به العجلة ، حيث يضعون خمسة غرامات قطعة رصاص ، وكأن الجبال جعلها الله رواسي لئلا تضطرب دورة الأرض .
هناك معنى آخر ؛ الطبقات في الأرض متباينة تأتي الجبال ، والجبل ثلثاه تحت الأرض ، فيمسك هذه الطبقات ، لذلك البيضة المسلوقة تدور أما غير المسلوقة فلا تدور ، وفيها طبقات متباينة فيها بياض وفيها صفار ، إذا سلقت أصبحت متجانسة ، فيها أشياء دقيقة جداً ، قال تعالى :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
الآيات الكونية هي دروس لمعرفة الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام ؛ كل ما أريده في هذا اللقاء الطيب أن ينطلق الفكر ، أنت على الطعام يوجد كأس ماء ، هل تصدق أن في هذا الماء خاصة لولاها لما عاش إنسان ، ولما كانت حياة ، كيف ؟ جميع عناصر الأرض بالتسخين تتمدد ، وبالتبريد تنكمش ، هذا قانون عام، جميع الأجسام الصلبة والسائلة والغازية تتمدد بالحرارة ، وتنكمش بالبرودة ، إلا الماء ينفرد بخاصة لولاها لما كان هذا الدرس ، ولما كانت عمان ، ولما كان إنسان يحيا على سطح الأرض، ما هذه الخاصة ؟ أن الماء إذا كان درجته ثلاثين بردته للخمس والعشرين ، للعشرين ، للخمس عشرة ، للعشر ، للخمس ، للأربع تنعكس الآية يتمدد ، املأ قارورة ماء حتى القمة وأحكم الغطاء ، ضعها في الثلاجة تنكسر الزجاجة ، الماء تمدد عند التبريد ، هذه الخاصة لولاها لما وجدت حياة ، لو أن مياه البحار تبرد فتتجمد فتزيد كثافتها فتغوص بالأعماق ، بعد حين تتجمد جميع البحار فتنقطع الأمطار ، ويموت النبات ، ويموت الحيوان ، ويموت الإنسان ، هل تصدق أن حياة البشر كلهم على هذه الخاصة ؟ قال تعالى :
﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
لذلك أخواننا الكرام ؛ وأنت تأكل ، وأنت تشرب ، وأنت ترى هذه الشجرة العملاقة ، ترى هذا النهر ، هذا النبع العذب الفرات ، هذه البحار ، هذه الجبال ، هذه كلها آيات كونية ، وكأن هذه الآيات الكونية هي دروس لمعرفة الله عز وجل ، هذا الكون يشف عن حقائق ثلاث ، يشف عن وجود الله ، وعن وحدانيته ، وعن كماله ، والإنسان ماذا يحب ؟ يحب النوال والكمال والجمال ، النوال العطاء ، والكمال الموقف الكامل السلوكي ، والجمال الشيء الجميل ، والنوال والكمال والجمال عند الله ، فإذا أردت أن تصل إلى كل شيء ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
أيها الأخوة الكرام ؛
﴿ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾
هذه الآيات في سورة النازعات تدعونا إلى التفكر في خلق الأرض والسموات ، والتفكر أرقى عبادة ، والتفكر أقصر طريق بينك وبين الله عز وجل ، وأوسع باب تدخل منه على الله ، والتفكر يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله .